الجعل
الجعل: وهو الإيجاد أي الإيجاد الاعتباري لـ الأحكام الشرعية بتنزيلها منزلة البعث والزجر. ولايخفی أنّ قوام تحقّق الاُمور الاعتبارية الجعل، وبعد جعلها واعتبارها تكون من قبيل الاُمور الواقعية. ولا فرق في ذلک بين جعل الأحکام کالوجوب والحرمة وبين جعل الموضوعات کالصلاة والحج.
تعريف الجعل لغةً
وضع شيء على شيء أو تصييره من حالة إلى اُخرى[١]، ومنه قوله تعالى: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا»[٢].
تعريف الجعل اصطلاحاً
هو الإيجاد الاعتباري للأحكام الشرعية بتنزيلها منزلة البعث والزجر الخارجيين الحاصلين بالوسائل المادية كاليد ونحوها[٣].
وكما يطلق الجعل على الإيجاد الاعتباري للأحكام، كذلك يطلق على الإيجاد الاعتباري للموضوعات كالصلاة ونحوها.
ويكون قوام تحقّق الاُمور الاعتبارية الجعل، وبعد جعلها واعتبارها تكون من قبيل الاُمور الواقعية[٤].
لم يتعرّض جمهور أهل السنّة لهذا الاصطلاح، وإنّما توسع في البحث عنه ودخل في مسائله الشيعة الامامية فقط، كما يتّضح ذلك خلال البحوث المقبلة.
الجعل في مراتب الحكم
ذكر المحقّق الخراساني: بأنّ الجعل يمثل المرتبة الثانية من مراتب الحكم الأربعة، وهي كمايلي:
1 ـ مرتبة المصلحة المقتضية للحكم.
2 ـ مرتبة الجعل والإنشاء المجردة عن البعث والزجر.
3 ـ مرتبة فعلية التكليف والبعث والزجر، ويعبّر عن الحكم في هذه المرتبة «بالمجعول» في مقابل «الجعل» الذي يمثل المرتبة الثانية من مراتب الحكم[٥].
4 ـ مرتبة التنجيز والمحاسبة بعد وصول الحكم إلى المكلّفين واطّلاعهم عليه وهي المرتبة الأخيرة من مراتب الحكم[٦].
ورغم مناقشة البعض في أكثر هذه المراتب لخروجها عن ماهية الحكم إلاّ أنّهم لم يناقشوا في مرتبة الجعل والإنشاء وهي المرتبة الثانية من مراتب الحكم.
بل اعتبرها المحقّق الإصفهاني المرتبة الوحيدة التي تتجلى بها ماهية الحكم وتبرز بها حقيقته؛ لأنّ المرتبة الاُولى ليست إلاّ مقدّمة لوجوده، والرابعة من لوازم ترك العمل به، والثالثة إمّا أن تدخل في مرتبة الإنشاء والجعل بلحاظ عدم ترتّب العقاب على مخالفة الحكم فيها، وإمّا أن تدخل في مرتبة التنجيز إذا فرض ترتّب العقاب على ترك الحكم فيها، فلا وجود إذا إلاّ لرتبة واحدة من مراتب الحكم[٧].
هذا من الناحية النظرية، وأمّا من الناحية العملية التطبيقية فقد يحصل الخلط أحيانا بين المرتبة الثانية والثالثة في بعض البحوث العلمية، كما في مسألة الشرط المتأخر حيث وقع البحث في أنّ مقتضى شرطية الشرط تقدّمه على المشروط، تقدّم العلّة على معلولها، فكيف يعقل تأخّره عنه هنا؟
وقد حاول الآخوند الخراساني التخلّص من هذا الإشكال بإرجاع الشروط بصورة عامّة إلى لحاظها حين الجعل؛ لأنّ الحكم بما هو فعل اختياري للحاكم لايحتاج إلاّ إلى لحاظ أطرافه المتقدّمة والمقارنة واللاحقة له، لكونه كافٍ لحدوث الإرادة وتعلّقها بالحكم، فيمكن للجاعل ملاحظة الشرط المتأخّر حين الجعل، ثُمّ يصدر حكمه بعدها، وحينئذٍ ينتفي إشكال عدم معقولية الشرط المتأخّر[٨].
واُورد عليه: بأنّ في هذا الكلام خلطا بين مرتبة الجعل والمجعول للحكم؛ لأنّ الإشكال المتقدّم يتوجّه على الشرط المتأخّر في مرتبة المجعول، وما ذكره المحقّق الخراساني يتناسب مع مرتبة الجعل والتشريع الذي هو فعل للجاعل، ولا وعاء له سوى نفس الجاعل، فلا وجود لشروط الجعل خارج هذا الوعاء، بخلاف شروط المجعول، كشرط الاستطاعة لوجوب الحجّ، فإنّ وجودها لابدّ منه لتحقّق وجوب الحجّ، وحينئذٍ لايتم الجواب المذكور بافتراض اللحاظ الذهني للشرط المتأخّر، بل لابدّ من ذكر جواب آخر لدفع الإشكال، يأتي التعرّض له في محلّه[٩]، وإنّما أردنا الإشارة هنا إلى حدوث الخلط في الجانب التطبيقي بين مرتبة الجعل التي هي المرتبة الثانية من مراتب الحكم وبين مرتبة المجعول التي هي من المرتبة الثالثة من مراتبه.
متمم الجعل وتطبيقاته
وهو الجعل الذي يتمّ به تحصيل الملاك بعد عدم وفاء الجعل الأوّل في تحصيله[١٠]، وليس للجعلين إلاّ امتثال واحد وعصيان واحد[١١]
ولم يكن مصطلح متمم الجعل متداولاً قبل المحقّق النائيني وإنّما كان هو أوّل من روّج له واستعمله في بحوثه، وقد ذكر له تطبيقات أصولية متعددة نذكر فيمايلي بعضها توضيحا للفكرة:
التطبيق الأول: المقدمة المفوتة
وهي التي يؤدّي تركها إلى تفويت أداء الواجب في وقته كطي المسافة للحجّ قبل حلول موسمه، وكالغسل للصيام قبل حلول وقته[١٢]. ولأجل عدم تفويت العمل بالواجب لابدّ من تتميم الجعل بإلزام المكلّف بالإتيان بهذا النوع من المقدّمات، ولولا ذلك لما كان الإتيان بذي المقدّمة متيسرا في وقته[١٣].
التطبيق الثاني: اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل
لا خلاف بين الإمامية في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها وعدم اختصاصها بالعالم.
وقد أكّد المحقّق النائيني أنّ ذلك لايمكن إثباته بإطلاق أدلّة الأحكام الأولية، بل لابدّ من جعل آخر متمم لها يثبت من خلاله الاشتراك، وبه يلتقي من حيث النتيجة مع الإطلاق، ولذا سمّى النتيجة المترتبة على هذا الجعل بنتيجة الإطلاق[١٤].
ولأجل توضيح ذلك جيّدا نقول: إنّ من غير الممكن تعلّق حكم من الأحكام على العلم بنفس هذا الحكم كما في تعليق وجوب الصلاة على العلم بوجوبها؛ لاستلزام ذلك الخلف والمحال، إذ لو كان الحكم معلّقاً على العلم بوجوبها للزم عدم وجوبها؛ لتعلّق الوجوب بحسب الفرض بالصلاة بما هي معلومة الوجوب، مع أنّ العلم لم يتعلّق إلاّ بوجوب الصلاة مجردة عن أيّ قيد، فما فرض تعلّقه به لم يتعلّق به، فهو من هذه الناحية خلاف الفرض، بل يلزم منه المحال، لعدم إمكان تحصيل العلم بمتعلّق الحكم؛ إذ قبل حصول العلم بالحكم لم يكن هناك علم به، ومع عدمه يستحيل تعلّق العلم به؛ إذ كيف يتعلّق بأمر معدوم؟!
إلاّ أنّ استحالة التقييد بالعلم لايعني إطلاق الحكم و اشتراكه بين العالم والجاهل به؛ إذ لو استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا، بناءً على أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها، فما كان غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق أيضا[١٥]، ومن هنا أصرّ المحقّق النائيني على عدم إمكان التمسّك بإطلاق أدلّة الأحكام لإثبات اشتراكها بين العالم والجاهل، معتبرا أنّ إثبات ذلك يحتاج إلى دليل آخر يتمّ به الجعل، والنتيجة الحاصلة منه تشبه النتيجة الحاصلة من الإطلاق؛ ولذا سمّاها بنتيجة الإطلاق، كما أشرنا إلى ذلك آنفا[١٦].
وكما يؤدّي الدليل الآخر المتمم للجعل إلى نتيجة الاطلاق، يؤدّي أيضا في موارد اُخرى إلى نتيجة التقييد، كما في مسألة اشتراط قصد الامتثال في العبادات، حيث يمتنع أخذ هذا القصد شرطا في نفس الأمر، لاستلزامه الدور، فلابدّ من جعل ثانٍ يتم من خلاله الجعل الأوّل ويستكمل، وتكون نتيجته تقييد العبادات بقصد الامتثال[١٧]
التطبيق الثالث: وجوب الاحتياط
إذا حرّم الشارع عملاً معينا كقتل النفس المحترمة مثلاً، وكان لايرضى بارتكابه حتّى في صورة الشكّ في استحقاق القتل، فعليه أن يتمم جعله الأوّل بجعل آخر دالّ على وجوب الاحتياط والاجتناب عن القتل في صورة الشك؛ لعدم وفاء الدليل الأوّل للدلالة على ذلك، وعدم إمكان أخذ الشكّ فيه؛ لأنّه من الحالات الطارئة على التحريم بعد تحقّقه فلايعقل أخذه في موضوعه الذي هو سابق عليه، فلابدّ من جعل آخر يثبت به وجوب الاحتياط في حال الشكّ ليستكمل به الغرض وتتمّ المصلحة[١٨].
أقسام الجعل
هناك تقسيمات متعددة للجعل نتعرّض فيمايلي لأهمّها:
القسم الأول: الجعل الاستقلالي والتبعي
الجعل الاستقلالي: هو التشريع المباشر للأحكام كوجوب الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وغيرها من أحكام. ويقابله الجعل التبعي: وهو التشريع غير المباشر لها، كوجوب المقدّمة بتبع وجوب ذيها. وقد اختلفوا في استقلالية الأحكام الوضعية أو تبعيتها لـ الأحكام التكليفية[١٩].
ويعبّر عن الجعل الاستقلالي أيضا بالجعل الأصلي والنفسي، كما يعبّر عن الجعل التبعي بالجعل الغيري[٢٠].
القسم الثاني: الجعل التشريعي والتكويني
الجعل التشريعي: هو الجعل الصادر من المولى لتشريع بعض الأحكام. ويقابله الجعل التكويني الذي هو عبارة: عن خلق الأشياء أو التصرّف فيها، ومنه القوانين الطبيعية والكونية التي لاتخرج عن إرادة اللّه تعالى وقدرته[٢١].
القسم الثالث: الجعل البسيط والمركّب (التأليفي)
الجعل البسيط: هو الجعل الذي لا دلالة له إلاّ على حكم واحد كوجوب الصلاة والزكاة. ويقابله الجعل المركب أو التأليفي: وهو الجعل الدالّ على حكمين شرعيين في آن واحد، أحدهما بصورة مباشرة كجواز وطء المرأة، والآخر بصورة غير مباشرة، كثبوت حكم الزوجية المنتزعة من نفس جواز الوطء بناءً على انتزاعها منه، وبذلك يتركّب جعل واحد من جعلين[٢٢].
وهناك تقسيم آخر للجعل وهو تقسيمه إلى اعتباري وتنزيلي، وذلك بتنزيل الشيء منزلة الاُمور الخارجية، كتنزيل الأحكام الشرعية منزلة البعث والزجر الخارجيين[٢٣]، كما اتّضح المقصود منه خلال التعريف المتقدّم للجعل.
المصادر
- ↑ . لسان العرب 1: 616، مادّة: «جعل».
- ↑ . الأعراف: 143.
- ↑ . أُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 50.
- ↑ . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 100.
- ↑ . محاضرات في أصول الفقه 2: 312 ـ 313.
- ↑ . الفوائد: 36، كفاية الأصول: 258 و400.
- ↑ . نهاية الدراية الإصفهاني 3: 24، أنظر: أنوار الهداية (الخميني) 1: 39، حيث ذهب إلى خروج الاقتضاء والتنجيز فقط من مراتب الحكم.
- ↑ . كفاية الأصول: 104.
- ↑ . محاضرات في علم الأصول 2: 313 ـ 314.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 114، منتقى الأصول 4: 161.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 162.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 336.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 203، 228، 449.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 38.
- ↑ . المصدر السابق: 34 ـ 37.
- ↑ . فوائد الاُصول 1: 349.
- ↑ . المصدر السابق 1 ـ 2: 162.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 115، أجود التقريرات 3: 144.
- ↑ . حاشية على كفاية الأصول 2: 371.
- ↑ . أنظر: نهاية الأفكار 4 ق 1: 96، منتقى الأصول 6: 134، تسديد الأصول 1: 181، منتهى الأصول 1: 179.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 51، القواعد الفقهية (البجنوردي) 1: 257.
- ↑ . حاشية على كفاية الأصول 2: 375.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 51.