التآخي
التآخي: أُلفة القلوب وانسجام المشاعر والعواطف واتّحاد المسيرة، ومبدأ التآخي الإسلامي من المبادئ الممتازة لدين الإسلام، فهو يوحّد بين الذين آمنوا أيّاً كانوا وأينما كانوا.
مدخل
رابطة الأخوّة الإسلاميّة رابطةٌ لا مثيل لها، ذات أثرٍ عميقٍ، بخِلاف غيرها من الروابط والعلاقات. وقد جعل الله سبحانه رابطة الأخوّة الإسلاميّة بين كلّ أفراد الأمّة، فتفوّقتْ على كلّ الروابط الأخرى، وصهرتْ العصبيّات الأخرى في بَوْتَقتِها، كما صرّح بذلك أيضاً النبيّ (عليه الصلاة والسلام) بقوله: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ".. وبذلك فإنّ الأخوّة الإسلاميّة تُعدّ من أبرز مظاهر القوّة والعزّة والمَنَعة للمسلمين.
التآخي لغةً واصطلاحاً
التآخي: صِلَةُ التضامُن والمَودَّة، يُقال: بينهما علاقة أُخُوَّة، أي: رابطةٌ بين الأخ وأخيه، وهي أيضاً علاقة تضامن وصداقة مبنيَّة على المَودَّة والتعاون بين أعضاء جماعة.
أمّا في الاصطلاح فتُعرَّف بأنّها: علاقةٌ قويّةٌ مُتبادلةٌ قائمةٌ على تقوى الله سبحانه والإيمان به، وهي تُؤدّي بأطرافها إلى المَحبّة في الله تعالى، بالإضافة إلى الحُبّ، والإخلاص، والوفاء، والثقة، والصدق، بعيداً عن السعي إلى تحقيق أيّ غرضٍ أو هدفٍ دُنيويٍّ.
مفهوم التآخي ودلالته الأخلاقية والمعرفية
الحاجة إلى التآخي والتآلف والوئام ليست وليدة الساعة، وإنّما هي تمتدّ إلى فجر التاريخ، إذ لا يمكن تخيّل إنسان- مهما كان تاريخه- من دون عائلة تحميه، أو ينتسب إليها، فالإنسان نتاج طبيعي لأب وأمّ، وبهذه الرابطة الفطرية التي جُبلت عليها الإنسانية منذ آدم (عليه السلام) وحتّى نهاية الدنيا، نجد أنّه من الفطري تشكًل التجمّعات البشرية، ونزوع الإنسان إلى الإنسان غريزياً.
كانت بدايات أولى مراحل التآخي الإنساني بين البشر، من الأسرة ثمّ العشيرة، ثمّ القبيلة. وتجمعهم غالباً لغة واحدة، أو ديانة واحدة، أو نسب واحد. وللسعي إلى كسب قوّتها تقاطعت مصالح القبيلة مع قبائل أخرى، فإمّا التآخي معها والتعاون والتعاضد، وإمّا التصادم ونشوب الحروب.
ومن دون شكّ فإنّ التآخي هو المعيار الأمثل لتحقيق السلام والوئام بين بني الإنسان، كما أنّ عقلاء العالم اليوم ينشدون التآخي؛ لأنّه يُحقِّق المصالح المشتركة بين الناس وينمّيها، فالناس شركاء مع بعضهم في الأصل الآدمي، والأرض التي يعيشون عليها، والفطرة، والحياة، والبيئة، وهم بذلك ينتمون إلى الإنسانية المشتركة قبل تمايز الثقافات بين الأمم والشعوب.
تأصيل التآخي
لقد أضحى العالم اليوم شبكة مركّبة ومتداخلة لا يمكن فصمها أو تجاهلها، والتركيز على التآخي يتمثّل بالتكامل والتعاضد بين بني الإنسان، ورفض العودة إلى المعارك والحروب الطاحنة التي لا منتصر فيها. فالتآخي يقود المجتمعات إلى البحث عن نقاط الاتّفاق والتفاهم بينها، وإمكانية التعاون والتكامل والتنافس، وبالتالي احترام الآخرين والإحسان إليهم.
إنّ تأصيل مبدأ التآخي بين الأمم والشعوب جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ﴾، فالقرآن الكريم أثبت هذا التآخي، وبيّن ذلك بعض المفسّرين فقال: إنّ هوداً كان أخاهم في البشرية والإنسانية، ومفادها أنّ الأخوّة هنا هي الأخوّة العامّة بين البشر، وقد تطلق ويراد بها الأخوّة في السُكنى وغير ذلك، ولا شكّ أنّنا جميعاً خلقنا الله تعالى من أبينا آدم وأمِّنا حواء (عليهما السلام)، والله تعالى خاطب الناس جميعاً فقال: ﴿يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَاكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾.
حول مفهوم التآخي
مفهوم التآخي هو التفاهم والتعايش الأخوي المشترك، وهو ترسيخ قيم التعدّدية وتقبّل الآخر، فكرياً وثقافياً ودينياً، مع احتفاظ كلّ فئة بخصوصياتها الدينية، والتزامها بالتعايش مع الآخرين، ونبذ العنف والكراهية والتطرّف بين عناصر المجتمع. ويتكوّن التآخي من قيم كبرى، كالصدق والأمانة والأخوّة والتراحم والتبادل والسلم والتعاون.
إنّ مفهوم التآخي مرتبط بتعزيز قيم التعايش السلمي بين الجميع في المجتمعات البشرية بغضّ النظر عن الدين أو الجنس أو الخلفيات العرقية المتعدّدة، حيث إنّ نجاح مفهوم التآخي يقاس بمدى قدرة المجتمع على التعايش السلمي والتعاون والتعاضد، وبمقدار التزام جميع الأفراد بإنجاح هذه العلاقة لمصلحة الإنسانية جمعاء.
أقسام التآخي
التآخي قسمان:
التآخي الداخلي: هو اللحمة بين أهل العضد أو العرق والدم في العشيرة أو القبيلة الواحدة، ثمّ في ما بين العشائر أو القبائل.
التآخي الخارجي: هو اللحمة الرمزية بين المجتمعات والأمم، وأسّس لمفهوم قبول الآخر المختلف، وتكرَّس في أحلاف الحرب وأحلاف السلم على أنواعها.. الأمر الذي يجعل التآخي المرادف الموضوعي للتسامح، بل الشكل الأوّل للتسامح البشري. ونذكر عبر التاريخ قيام مواطني مكّة بتأسيس حلف الفضول في الجاهلية، وهو حلف تعاهدوا فيه على إعانة المظلوم، والتعاون على الخير والبرِّ؛ ليعيش المجتمع في سلام واطمئنان ووئام، وكان ذلك الحلف لردّ الحقوق إلى أصحابها والأمور إلى نصابها بعدما فشا فيهم الغش والخداع والغدر.
دلالة التآخي الأخلاقي
إنَّ الاعتماد على الأخلاق الدينية والعودة إلى أصول الديانات السماوية يُعدّ مرتكزاً لإرساء ثقافة التآخي في مختلف المجتمعات الإنسانية. وتبرز أهمّية دور الدين بكونه المرتكز الأساس لإرساء ثقافة التآخي في مختلف المجتمعات الإنسانية، ومواجهة مختلف أشكال الفتنة التي تظهر لتحقيق مآرب شخصية ضيّقة عبر تنمية الكبرياء داخل الإنسان حتّى يظنّ أنّه أفضل من الآخر فيعمل على إقصائه، مبيّناً ضرورة احترام الاختلاف والتنوّع والحرّية والمواطنة.
لقد حفلت الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة باستيعاب الروم والفرس والترك والمسيحيّين وغيرهم، حتّى صاروا مساهمين حقيقيّين في صناعة الحضارة والعمران؛ ذلك لأنّ مفهوم التآخي في الوعي الإسلامي لا يهدف إلى تنميط البشر أو حملهم على إنكار ما بينهم من اختلاف، فاختلافهم سنّة كونية، والأخوّة بين البشر تقوم في حقيقة الأمر على فضيلة التسامح. والتآخي يعزّز الروابط الإنسانية، ويعمل على نبذ ثقافة العنف والكراهية، فضلاً عن كونه دلالة على سموّ الإنسان وسعيه إلى الحوار والتلاقي مع إخوانه من البشر، وهو ما يشكّل علامة على التحضّر والرقي.
إنّ العالم اليوم يشهد الكثير من الصراعات السياسية والعرقية التي تتطلّب توحيد الصفوف وإعلاء قيم التآخي والتعايش عالمياً بهدف إرساء مبدأ السلام والمحبّة للجميع. ومواجهة العنف والتطرّف تُعدّ من المنطلقات الواقعية لتحقيق التآخي، بالإضافة إلى إعادة بناء جسور التواصل الإنساني الحقيقي والتعاون المثمر والمحبّة والاحترام المتبادل لعبور الإنسانية على اختلاف أطيافها وأعراقها إلى برّ الأمان والسلام، وفتح صفحة جديدة في العلاقات الإنسانية لمواجهة التطرّف الفكري ونتائجه السلبية التي عانت منها الإنسانية خلال العقود الماضية.
دلالة التسامح المعرفية
العالم بحضاراته المختلفة، وتنوّعاته الهائلة، وأعراقه وأجناسه، وأفكاره ولغاته، يمثَّل منظومة رائعة متكاملة، تعطي ثراءً لا نهاية له، وروعة لا حدّ لها، وعدوّ كلّ ذلك هو الجهل. نعم، هو الجهل المقيت، فالإنسان عدوّ ما يجهل، وتلك سطحية الإنسان، إذ يفترض به عدم معاداة ما يجهل، والوقوف منه موقف الحياد، فإن كان خيراً أقبل عليه وأخذ منه، وإن كان شرّاً رفضه وابتعد عنه.
إنّ العلاج الناجع والدواء النافع للجهل هو التعارف، فالتعارف يرينا مشتركات كثيرة تجمعنا مع إخواننا في الإنسانية، وإذا تعارفنا تمكّنا من فهم غيرنا، واستفدنا من بعضنا، وتعاونّا لخدمة الإنسانية.. وأكثر من ذلك أنّنا سندرك كم نحن محتاجون لغيرنا من بني الإنسان، وبذلك نستطيع أن نقول بحتمية التعارف بين بني الإنسان.
والإسلام جاء بالدعوة إلى التعارف، قال تعالى: ﴿ياأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾، والتعارف والتآلف من المبادئ الأصيلة والأخلاق الراقية للتآخي، وهو من الغايات النبيلة والمقاصد السامية؛ لما له من أثر إيجابي وفائدة عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، وإشاعة الطمأنينة والمودّة بين أفراده ومكوّناته.. وبالتعارف يحصل التفاهم بين الناس، والتعاون على الخير ونشره، وتبادل الآراء والخبرات والنصح، وبهذا المعنى نستطيع أن نبني الحضارة ونشيّدها بما تَحمِله كلمة (الحضارة) من معاني التطوّر والتقدّم والازدهار. والإنسان في هذا العالم لا يستطيع أن يعيش بمنأى عن الآخرين، ولن تتحقّق مصالحه إلّا بالتعارف والتواصل والتفاعل معهم من أجل تحقيق التآخي والخير والنفع للإنسانية.
إنّ للتآخي بين أفراد المجتمع دوراً حاسماً في تطوّر وتقدّم المجتمعات البشرية، فقد آخى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المهاجرين والأنصار في المدينة؛ ليصبحوا إخوة، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وأصبح الجميع مجتمعاً واحداً، ويداً واحدةً، وقامت بفضل الله دولة العدل في الأرض، وعاش الجميع في كنفها بأمن وأمان.
خاتمة
إنّ اللَّه تعالى يحبّ لنا أن نعيش متماسكين، يساعد بعضنا بعضاً، وليس أشتاتاً متفرّقين قد ذهبت بنا المذاهب كلّ مذهب، فضاعت الأهداف ومعها فقدنا السبل والوسائل إليها، ولا يتصوّر مجتمع واحد يشترك أهله في تحمّل شؤونه وشجونه، وهو لا تحكمه روح المؤاخاة، بل لو سادت روحية الأخوّة فيه شكلاً لا مضموماً ومظهراً لا جوهراً كذلك لا يقدّر لهذا المجتمع النجاح، فحتّى يؤتي أكله ويتّجه إلى حيث أراد اللَّه تعالى له لا بدّ أن تكون الأعمال ترجمان الأقوال، والمواقف معربة عمّا تحويه الضمائر وتكنّه السرائر، فترى من يتغنّى بالصلة المميّزة مع فلان من الناس ويعتبره أخاه، هو لا يخذله في وقت الشدّة ولا يتركه للدهر، فيكون عوناً له على الدهر لا عوناً للدهر عليه، وكذلك من يكثر الثناء والمديح أو إبداء الإعجاب بشخص ما لما يتحلّى به من صفات، لا يترك زيارته إذا مرض ولا السؤال عن حاله، فيؤلمه ما آلمه، ويسعده ما أسعده.
وهنا يتجلّى الدور الفعّال للتآخي في الحياة الاجتماعية، إذا قام كلّ فرد بما توجبه عليه أخوّته الإيمانية تجاه الآخرين.. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإنّ روح المؤمن أشدّ اتّصالاً بروح اللَّه من اتّصال شعاع الشمس بها" (الكافي، ج2، ص133، ح4).
فالتآخي ممّا يكسب المجتمع قوّة في جوانب عديدة، منها:
1- القدرة العالية على تجاوز ما يعصف به من ملمّات صعبة وفتن ومحن.
2- الارتقاء إلى قمّة البذل والعطاء والإيثار.
3- توحيد المنطلق الإيماني في النظرية والتطبيق.
4- سيادة روحية الجماعة واضمحلال روحية الفرد والشخصانية.
5- الحصانة الأخلاقية في اتّجاهاتها الثلاثة مع: اللَّه تعالى، ومع الناس، ومع النفس.
حيث يحلّ السلام والتآخي يسود الأمن، وتنتشر المحبّة، وتقوى التنمية، وتتحقّق الإنجازات، وهي جميعها أهداف إنسانية ومطالب لجميع أمم وشعوب الأرض.
المصدر
المقال مقتبس مع تعديلات من الموقعين التاليين:
www.arabic.tebyan.net/www.peacems.com