إفتاء غير المجتهد

إفتاء غير المجتهد: والمراد بالإفتاء بيان الأحكام الكلّية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها، أو المراد به بيان الأحكام الشرعية وتبليغها إلى العباد. والسؤال هو هل يجوز لغير المجتهد أن يصدر الفتوی أو لا؟

إفتاء غير المجتهد

ممّا لا خلاف فيه أنّ المجتهد الجامع لشرائط الفتوى يجوز له الإفتاء، ووقع الخلاف في العالم غير المجتهد، هل يجوز له أن يفتي على طبق مذهب المجتهد أم لا؟
والبحث في ذلك يقع في مقامين:

المقام الأوّل: الإفتاء تخريجا على مذهب المجتهد من غير حكاية

إذا سُئل غير المجتهد عن حكمٍ مّا فهل يجوز له الإفتاء تخريجا على مذهب إمامه من غير حكاية له أو لايجوز؟ أقوال عديدة في ذلك:

القول الأوّل: عدم جواز الإفتاء مطلقا

وهو اختيار أبي الحسين البصري، والمحقّق الحلّي، والميرزا القمّي، والطباطبائي، ونسب إلى الصيرفي، ونَقل ابن قيم الإجماع عليه.
ويمكن أن يُستدل لهذا القول بعدّة أدلّة:
الأوّل: أنّه إنّمّا سُئل عن فتواه هو لا فتوى غيره، فلايجوز له الإفتاء عن غيره من دون حكاية.
الثاني : أنّه لو جاز له الإفتاء على ضوء أصول مذهب إمامه لجاز للعامي أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء.
الثالث: العمومات الدالّة على حرمة العمل بغير علم من الكتاب والسنّة شاملة للمقام.

القول الثاني: جواز الإفتاء مطلقا

وذكر ابن الهمام في هذا القول بأنّه خليق بالنفي.

القول الثالث: التفصيل

بين ما إذا كان المفتي عارفا بأصول المذهب وقواعد المجتهد المطلق الذي يقلّده جاز له الافتاء تخريجا على تلك القواعد، وهو الذي يصطلح عليه بـ «المجتهد في المذهب»، وبين ما إذا لم يكن عارفا بتلك الأصول فلايجوز له الإفتاء. ونسب إلى الأكثر اختياره وصرّح به الآمدي وابن الحاجب والعضدي وابن الهمام وابن‏عبدالشكور.
ويمكن أن يُستدلّ لهذا القول بدليلين:
الأوّل: أنّ توقيف الفتوى على المجتهد يلزم منه العسر والحرج.
الثاني: انعقاد الإجماع على جواز النحو المذكور من الإفتاء.

القول الرابع: جواز الإفتاء بما شافهه

أي شافهه به المجتهد المطلق أو نقله إليه موثوق به أو وجده في كتاب معتمد، ولايجوز ذلك لمقلّد الميت إلاّ إذا كان عارفا بأدلّة الأحكام.
وهو اختيار الرازي والحلّي ونسبه السبكي إلى طائفة.

القول الخامس: التفصيل بين ما إذا عدم المجتهد فيجوز الإفتاء، وبين ما إذا لم يُعدم فلايجوز

ذكره كلٌّ من السبكي والزركشي ولم ينسباه إلى أحد بعينه.

المقام الثاني: الافتاء حكايةً عن المجتهد

يبدو عدم وجود خلاف في جواز نقل الفتوى عن المجتهد وإعلام المستفتين بها، ويقبل قول الناقل بشرائط قبول رواية الراوي من العدالة وغيرها.

إفتاء العامي

إذا عرف العامي حكم المسألة بدليلها، وقع الخلاف في أنّه هل يجوز له الافتاء بذلك أو لا؟ على أقوال:

القول الأوّل: جواز الإفتاء

باعتبار أنّه قد حصّل العلم بتلك المسألة وعرفها من دليلها، فلا فرق في ذلك بينه وبين المجتهد فيجوز له الإفتاء.

القول الثاني: عدم جواز الإفتاء

ونُسب إلى الماوردي والروياني اختياره، باعتبار أنّه ليس أهلاً للإفتاء؛ لأنّه قد يوجد دليل يعارض ما استدلّ به على الحكم المذكور وهو غير مطلع عليه، فلايصحّ منه الإفتاء.

القول الثالث: التفصيل

بين ما إذا كان الحكم نصّا من كتاب أو سنة، فيجوز الإفتاء به، وبين ما إذا كان الحكم يحتاج إلى استنباط ومقدّمات نظرية فلايجوز الإفتاء.

الإفتاء بواقعة ثُمّ تكررها

إذا أفتى المفتي بواقعة في زمان ما، ثُمّ تكررت تلك الواقعة، فهل يجب عليه استئناف الاجتهاد فيها أم يكفي الاجتهاد السابق والفتوى السابقة، أقوال في ذلك:

القول الأوّل: عدم وجوب الاستئناف مطلقا

وهو ما نسب إلى مشهور العامة والخاصّة، واختاره أبو المظفر السمعاني ونسبه إلى الشافعية إلاّ أنّه تراجع عنه، وهو اختيار ابن الحاجب والعضدي، وصريح الميرزا القمّي.
ويمكن أن يُستدلّ لهذا القول بعدّة أدلّة:
الأوّل: استصحاب الحكم والفتوى الثابتة بالاجتهاد الأوّل وبقاء ما كان على ما كان.
الثاني: لزوم العسر والحرج من لزوم تكرر الاجتهاد، وهو منفي في الشريعة.
الثالث: قيام السيرة على عدم وجوب الاستئناف.
الرابع: أنّ مجرد احتمال تغير الحكم لايوجب زوال الظنّ به.

القول الثاني: وجوب الاستئناف مطلقا.

وأطلق ابو اسحاق الشيرازي وجوب الاستئناف، ونُسب إلى ابن عقيل الجزم به.
ويمكن أن يُستدل لهذا القول بدليلين:
الأوّل: أنّه باستئناف الاجتهاد ثانية من الممكن أن يطَّلع على ما لم يكن قد اطَّلع عليه في الاجتهاد الأوّل، ويكون باعثا لتغيير فتواه.
الثاني: أنّه كما يجب الاجتهاد في القبلة فيما إذا اشتبهت لكلّ صلاة كذلك يجب الاجتهاد لكلّ حادثة متكررة.

القول الثالث: التفصيل الأول

بين ما إذا كان ذاكرا لدليل الحكم فلايجب الاستئناف، وبين ما إذا لم يكن ذاكرا فيجب الاستئناف، وإذا ظهر له ما يغير فتواه لزمه العدول.
وهو اختيار أبي الحسين البصري وأبي المظفر السمعاني والأسمندي والرازي والآمدي والمحقّق الحلّي و العلاّمة الحلّي والزركشي والشوكاني.

القول الرابع: التفصيل الثاني

بين ما إذا زادت ملكته في الاستنباط بسبب كثرة الممارسة والاطّلاع على مدارك الأحكام فيجب الاستئناف، وبين ما إذا لم تزدد في ذلك فلايجب الاستئناف.
وهو اختيار المقداد السيوري والبهائي، ونسب إلى الفاضل الجواد.