مخاوف الحوار
مخاوف الحوار ما يخاف من حصوله وحدوثه نتيجة الحوار وما يمكن أن يؤول إليه، كما يتصوّره بعضهم، حيث ذكروا: أنّ الحوار يمكن أن يستتبع بعض الإشكاليات والنتائج غير المرضية.
وما يمكن أن يكون منشأ لذلك أُمور:
مخاوف الحوار
قصور العقل البشري
الملحوظ في القوانين والسنن التي يدوّنها الإنسان وكذا معلوماته أنّها تتغيّر دائماً وتحال إلى الدراسة مرّة أُخرى بعدما يثبت نقصها أو خطأها، والأمر يرجع إلى قصور العقل البشري وعدم كماله المطلق، أو نقص في مصادر معرفته في كثير من الأحوال.
إنّ العقل البشري في حال تطوّر وتكامل دائم، وهذا يعني أنّ نتائج النقاش لأجل الحقيقة لا يعتمد عليها حتّى لو اتّفق عليها الأكثر، ولم تتأثّر بعوامل عاطفية وخارجية؛
لأنّها تعتمد العقل كمصدر للمعرفة وكوسيلة لبلوغ الهدف، وهو ناقص وفي طريقه نحو التكامل دائماً.
كثيراً ما يتأثّر العقل بالعواطف والإحساسات والإعلام وغيرها، وكثيراً ما يحكم العقل ويقطع بصحّة حكمه، لكن بعد فترة وبعد أن تزول آثار العوامل المؤثّرة والخارجة عنه، يدرك خطأ حكمه وتأثّره بعوامل غير عقلية بحتة. هذا فضلاً عن القضايا الغيبية التي لا سبيل للعقل إليها.
لكنّنا نرى أنّ حوار الحقيقة ممكن وخاصّ بقضايا يمكن أن يكون العقل سبيلاً إليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ سبل معرفة الإنسان واضحة ومحدّدة، وهي ما تشترك بها البشرية جمعاء، أمّا غير ذلك من سبل وطرائق للمعرفة فالإنسان غير مكلّف بها، وليس للإنسان إلّاما سعى، وإذا كان سعيه خطأً في مجال ما فيصحّحه متى ما انكشف له ذلك.
إنّ قضية الاعتماد على العقل أمر مفروغ منه، وترك العمل بما توصّل أو يتوصّل إليه بسبب ثبوت خطأه في موارد خاصّة، وكذا عدم قابليته للإدراك في قضايا خاصة، ليس تبريراً مقبولاً، ولا يرتضيه كلّ منّا، ولا يقرّه الشرع والفطرة؛ لأنّ ذلك يعني تحبيط جهود الإنسان، ودافعاً له نحو التكاسل وعدم السعي للكشف عن الحقائق والمجهولات.
تأثر الحوار بالضغوط السياسية والاقتصادية
المفروض بالحوار أن يكون عقلي المبنى ولا يبتني على أُسس أُخرى فاسدة، إلّاأنّه رغم ذلك لا يمكن إنكار الواقع في تأثّر الحوارات التي جرّبتها الإنسانية بقضايا ومؤثرات خارجية تابعة للزمان والمكان، وهي عبارة عن ممارسة ضغوط سياسية تارة واقتصادية وغير ذلك تارة أُخرى.
إنّ ما أثبتته التجربة في مجال الحوارات غير الدينية هو أنّ حضور ممثّلين عن قوى عظمى وجهات ذات نفوذ ووجهة سياسية يعني خضوع الحوار بعض الشيء لأفكار وآراء هؤلاء الممثّلين، ومن دون ذلك فإنّ الحوار يتعكّر ولا يخرج بنتيجة مرضية.
إنّ هذا الأمر لا يختصّ بحوار في قضايا وأزمات سياسية أو اقتصادية، بل يعمّ كلّ
حوار حضره هؤلاء الممثّلون، كما أنّه لا يختصّ بآلية خاصّة من الحوار، بل يعمّ جميع الآليات من وسائل إعلام ومؤتمرات ودراسات وأُمور من هذا القبيل، فكلّها يمكن أن تخضع لمؤثّرات من هذا النوع، والأمر مشهود بوضوح في وسائل الإعلام الحالية أكثر ممّا في غيرها من آليات.
كما أنّ الممثّلين عن الجهات المموّلة للحوار على مستوى مؤتمر أو مركز للدراسة مثلاً لهم نفس التأثير الثابت للممثّلين عن قوى سياسية أو اقتصادية عظمى، فإنّ حضورهم نيابة عن الجهات المموّلة يعني طروّ مؤثّرات خارجية على الحوار وانعطاف مسار الحوار بما يتناسب مع رؤى ونظريات وأُطروحات الجهات المموّلة، وكلّما زاد التمويل والدعم زاد التأثير.
وعليه فالأطراف التي لا تسندها ولا تدعمها قوى سياسية ولا اقتصادية تتخوّف من خطوات كهذه؛ لأنّ ذلك يعني عدم الاعتناء والاعتداد بما تذهب إليه وتطرحه على طاولة الحديث والمباحثة، فتفقد الآلية الكفيلة لمواجهة ضغوط الأطراف الأُخرى المدعومة والمموّلة.
إنّ المفروض بالحوار نظرياً أن يكون مجرّداً من عوامل التأثير الخارجية، أمّا إذا كان الواقع يفرض هذه المؤثّرات فذلك شيء آخر، وما ينبغي هو الحيلولة دون تأثير هذه العوامل.
تأثير التعصّبات والنزعات النفسية
إنّ تعصّب كلّ تجاه دينه وثقافته أمر طبيعي وقلّما يخلو منه أحد، ومن الطبيعي أيضاً أن يتأثّر الحوار بهذا التعصّب، فكلّ يمثّل ثقافة وديانة خاصّة، وكلّ متعصّب تجاه ثقافته وديانته، وذلك أمر يعكّر صفو الحوار ومساره الطبيعي.
والمفروض بأطراف الحوار وشخصياته - إذا كان هدفهم البحث عن الحقيقة - التجرّد عن التعصّبات والنزعات النفسية الشبيهة بهذه النزعة، أو تبديلها بالتعصّب إلى الحقيقة والواقع. والمفروض كذلك أن لا يختصّ الحوار بهذه الشخصيات، بل ينبغي قبل الحوار
تربية أجيال وشخصيات مؤهّلة للدخول فيه والعيش تحت ظلّه.
عدم توفّر شخصيات مؤهّلة
هناك شروط عديدة ينبغي توافرها في الشخصيات لتتأهّل للحوار، فإنّ شروطاً مثل العلم والثقافة الواسعة والتحلّي بسعة الصدر والخلوّ من التعصّبات وغير ذلك ممّا ينبغي توافرها في شخصيات الحوار وأطرافه.
هذه الشروط إذا توفّرت في شخصيات تابعة لثقافات وديانات كبيرة وواسعة، فقد لا تتوفّر لثقافات وديانات صغيرة لا تتمتّع بقاعدة كبيرة، ولا تمتلك ما يمكّنها من تأهيل شخصيات من هذا القبيل، الأمر الذي يترك مخاوف لهذه الثقافات ويجعلها تتصرّف بحيطة وحذر تجاه هذه الظاهرة المستقبلية.
قد تمتاز بعض الثقافات عن غيرها باحتواء شخصيات لها قدرة فائقة على المناظرة والبرهنة والاستدلال، وهذا الامتياز يعدّ من نقاط قوّة الثقافة، قبال الثقافات التي لا تضمّ هكذا شخصيات.
إثارة تعصّبات ونزاعات دينية جديدة
من لوازم الحوار إتاحة الفرصة للإعلام والتبليغ لجميع الثقافات والديانات والمذاهب مهما كانت، وهذا أمر قد يسبّب إثارة الناس وإشعال نار فتنة تعصّبهم المذهبي والعقائدي.
إنّ أكثر الناس هم ممّن تلقّوا ثقافتهم تقليداً وآثروها عن أجدادهم ويعتبرونها في عداد المسلّمات، فلم يكتسبوها بعد دراسة وإمعان نظر، فإذا ما كان هناك إعلام أو تيّار ينادي بما يخالف معتقداتهم وما ألفوه وورثوه عن آبائهم، فإنّ ذلك يعني إعلان حرب معهم وجعلهم في مأزق لا مفرّ منه غير معاداة هذا الإعلان والتيّار وجعله في زمرة أعدائهم.
وباعتبار أنّ كثيراً من الشعوب بهذا المستوى من الثقافة والتعصّب، فطبيعي أن يتخوّف أرباب ثقافات هذه الشعوب من الولوج في هذا الحوار لأجل ذلك.
إنّ ما يؤمّل من الحوار هو إحلاله السلام في العالم وإعانته على تحكيم هذه الظاهرة
فيه، رغم ذلك قد يكون سبباً جديداً لإثارة نزاعات غير مألوفة إلى الآن.
استغلال الثقافات اللادينية
الظروف التي يوفّرها الحوار ظروف مساعدة لنموّ أيّ ثقافة ولو لم تتمتّع بالعقلائية والقابليات الثقافية الرفيعة، وهذا أحد الأسباب الذي جعل بعضهم يتخوّف من الحوار والمناخ المساعد فيه للانتهاز.
هناك ثقافات غير دينية تحكم بقعة كبيرة من العالم وتهيمن عليها، وقد سادت هذه الثقافة مساحة كبيرة من الكرة الأرضية، لا لاحتوائها على نقاط قوّة ثقافية أكثر من غيرها، ولا لكونها عقلانية أكثر من غيرها، ولا لكونها موضوعية ومنطقية، بل لأنّها تمتلك الإعلام الممتاز والمدّ والدعم السياسي والاقتصادي، وأمثال ذلك هو الذي ساعدها لتسود العالم.
إنّ حرية الإعلام وإبداء الرأي الذي يشكّل المقوّمات الأساسية للحوار يوفّر الفرصة لا للثقافات الدينية والنبيلة فحسب، بل لجميع الثقافات ولو كانت بدرجة كبيرة من الانحطاط، الأمر الذي يجعل البعض يتّخذ موقفاً حذراً تجاهه، أو يرفضه بالكامل.
غير أنّ دخول الثقافات غير الدينية في الحوار مع الثقافات الدينية أمر لا مفرّ منه، واستثناؤها عن الحوار أمر غير ممكن تقريباً، لذا يمكن القول: إنّ الثقافات غير الدينية هي في صلب الحوار رغم ما تحمل عنها الأديان من رؤى وأفكار.