شبهة اختيار الإنسان

شبهة اختيار الإنسان من المباحث التي وقعت مسار الإختلاف و الجدل هو هل الإنسان مسيَّرٌ أم مخيَّرٌ؟

هل الإنسان مسيَّرٌ أم مخيَّرٌ

فإنَّ كلَّ ما يجري في هذا الكون مهما صغر أو عظم هو بقضاء الله تعالى وقدره وسبق علمه به في سابق أزله، كما قال تعالى: >إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ<. وقال تعالى: >مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ<. ويدخل في عموم شيء أفعال العباد، وهي تشمل حركاتهم وأفكارهم واختيارهم فكل ما يعمله الإنسان أو يحصل من خير أو شر فهو مقدر قبل ميلاده. ومع ذلك فقد جعل الله تبارك وتعالى للعبد إختيارا ومشيئة وإرادة بها يختار طريق الخير أو الشر، وبها يفعل ما يريد، وعلى أساسها يحاسب على أفعاله التي اختارها لنفسه لأنها أفعاله حقيقة، ولذلك فالاختيار مع وجود العقل وعدم الإكراه هو مناط التكليف إذا فقد إرتفع التكليف. ومن رحمة الله تعالى بعباده أنَّه إذا سلب ما وهب أسقط ما أوجب. وممَّا يدل على خلق الله لأفعال العباد قوله تعالى: >وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ<. وقوله تعالى: >وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ<. فقد أثبت في الآيتين أنَّ لهم عملا ومشيئة وأسندهما إليهم وأثبت أنَّهما من خلق الله. وعلى هذه المشيئة والعمل الذي يفعله العبد بإختياره يحاسب العبد ويجازى ويسامح فيما فعله من دون قصد أو كان مضطرا إليه، وذلك أنَّ الله خلق الإنسان وأعطاه إرادة ومشيئة وقدرة واستطاعة واختيارا، وجعل فيه قابلية الخير والشر. قال تعالى: >وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا<. وقد كلَّف الله الإنسان وألزمه الأحكام باعتبار ما أعطاه من العقل والطاقات والإرادة، فإذا فقد هذه الأشياء فعجز أو أكره أو حبس لم يعد مكلفا. فالإنسان مخير؛ لأنَّ الله تعالى أعطاه عقلاً وسمعاً و إدراكاً وإرادةً فهو يعرف الخير من الشر والضار من النافع وما يلائمه وما لا يلائمه، فيختار لنفسه المناسب ويدع غيره، وبذلك تعلقت التكاليف الشرعية به من الأمر والنهي، واستحق العبد الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية.
قال تعالى: >إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أمَّا شَاكِرًا وَأمَّا كَفُورًا<. ولكن مع ذالك لايخرج بشيء من أعماله كلّها عن قدرة الله تعالى ومشيئته، وهذا لاينافي إختياره. فما يفعله العبد من الأفعال يفعله بمحض إختياره وإرادته، وكلُّ إنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختيار وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار. نعم الإنسان مسيَّر في أمور القضاء والقدر بحيث لايستطيع تغيير شيء فيها؛ كالأب والأم والجنس والطول، والأمور الجبليَّة كالبلادة والذكاء وقوّة الجسم وضعفه. الإنسان مخلوقٌ حرُّ الإرادة، وحرَّ الفعل وإنْ كان تحت المشيئة الإلهية، والإنسان وحده هو المخلوق المتفرِّد بهذه الحريَّة. وعلى أساس الحريَّة والإختيار يتمُّ الحساب والجزاء، والثواب والعقاب للإنسان. وطبقًا لهذه الحريَّة، كان هناك إرادتين: إرادة خير وإرادة شر؛ وسبيلين: سبيل حق وسبيل باطل؛ وإعتقادين: الإيمان والكفر: >إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيراً * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ أمَّا شاکِراً وَ أمَّا کَفُوراً<. وحيث يسأل عنه يوم القيامة دليل حريته واختياره، وإلاَّ لو كان مجبراً على الأفعال لما كان لثوابه وعقابه معنى: >وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ<. وبعث الله أنبيائه ليحرِّر الإرادة الإنسانية ذاتها ممَّا يمارسه الطُّغاة ومدِّعي الرُّبوبية، فيحرره من هذه الأغلال المادية، ومن الأثقال المعنوية التي يستجيب فيها الإنسان لغيره من البشر ويخضع لهم: >وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتي‏ کانَتْ عَلَيْهِمْ<. والمهم هو تحرير فكر الإنسان عن سيطرة القوى الفكرية الحاكمة الضالة: >قُلْ يَا أَيُّهَا الْکَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَکُمْ دِينُکُمْ وَلِيَ دِينِ<. فالحق يدعو الإنسان للاستقامة، ويحبب له طريق الخير، كما يفعل الباطل وهو يُزين القبيح؛ والإنسان حر في أن يختار الحق، أو يتركه، فحسابه على الله في الآخرة، ويحاسب على ما قدَّمت يداه. وتأصيل الحريَّة في الإسلام يبتدئ بالإقرار بوحدانية الله تعالى، لأنَّه تحرر لأول مرة بتوحيد الله تعالى حين علم أنه لا فاعل في الكون إلا الله تعالى. من جهة أخرى، فإن الإسلام يضبط كل المعاني التي يؤسسها ضبطا شرعيا، بحيث لا تؤدي هذه الحريَّة إلى نقيضها وإلى الإضرار بالآخر، وكذلك الشأن بالنسبة لكل القيم والمباديء الأخرى التي متى تحولت إلى الإساءة للآخرين تفقد مشروعيتها وتصبح في حاجة إلى تقييم وضبط. فلذلك نتحدث دائما عن الحريَّة داخل نطاق المجتمع؛ لأنَّ الإنسان يعيش ضمن مجتمعٍ ولابدَّ له أنْ يراعي حقوقه عليه وأنْ يأخذ بعين الاعتبار مكانته وحرمته، وهكذا أصبح من الواجب الحديث عن الحريَّة بمفهومها الجماعي، أمَّا الحريَّة بمفهومها الفردي فهي كل حريَّة لا تناقض حقوق الآخرين. فالمجتمع أيضاً مقدَّس لايجوز للإنسان أنْ يشيِّع فيه الباطل والفواحش؛ فمحاولة نشر الباطل والفواحش هو عدوان على حريَّة الإنسان في التماس طريق الخير. ولا يخلط بين الحريَّة الذاتية الفردية الخاصة للإنسان،
وبين حريَّة المجتمع؛ لأنَّه محضن الإنسان والأسرة، ويجب أنْ يبقى مطهَّراً نقيّاً على أحسن مظهر، وأجمل صورة: >وَ أَنْزَلْنا إِلَيْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْکُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لکِنْ لِيَبْلُوَکُمْ في‏ ما آتاکُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَي اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَميعاً فَيُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ<. ولكن أهل الباطل يريدون لهذا المجتمع أنْ يكون على الباطل، بحجة الحرية؛ فتراهم يرون في العري، والشذوذ، والإلحاد، والكفر؛ وذاك للخلط بين الحريَّة الذاتية: >وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ<. وحقوق الآخرين؛ فليس هناك لأحدٍ من البشر سلطانٌ على القلوب والضمائر، أو التَّدخل في حقوق الآخرين ظلماً: >وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا<. وأهل الباطل يريدون أنْ ينقلوا الباطل إلى داخل المجتمع ليكون له السيادة والقيادة والسياسة، وهنا تكون الكارثة، والخلط، والتدليس، كالعلمانية التي لها صولاتٌ وجولاتٌ حول مفردة الحريَّة، ليفتتنوا وليضلُّوا الإنسان فرديّاً وإجتماعيّاً عن طريقه الوسط، ودينهم الصحيح: >وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا<.