حكم أفعال النبي(ص)

من ویکي‌وحدت

حكم أفعال النبي (ص): المراد من هذا العنوان دلالة أفعال النبي(ص) علی الأحکام التکليفية والوضعية، وأنّ جميع الأدلَّة القرآنية والعقلية وغيرها من الأدلَّة الدالَّة على حجّية السنَّة دالٌّ على حجّية أفعال الرسول بالتبع كذلك؛ لأنَّ أفعاله(ص) من السنّة وليست أمرا خارجا عنها.

حكم أفعال النبي(ص)

دلالة الأفعال على الأحكام التكليفية والوضعية

لا شكَّ في دلالة بعض الأفعال على الأحكام التكليفية كالوجوب و الاستحباب، أمَّا دلالتها على الأحكام الوضعية، كالشرطية والمانعية والصحّة والفساد، فهي ممكنة مع اقترانها بقول يوضّح دلالتها على الحكم الوضعي، من قبيل ما ورد في أ نّه (ص) قاء فتوضَّأ[١]، فاستفاد منه البعض سببية القيء للوضوء، أو من قبيل ما ورد من أنَّه كان لايقيم الجمعة في السفر[٢]، فيستفاد منه شرطية الإقامة لـ صلاة الجمعة، أو من قبيل إجرائه البيع دون إشهاد فيه، فيعلم منه عدم شرطية الإشهاد في البيع[٣].

توقُّف قضيَّة أفعال الرسول(ص) على عصمته

رغم أنَّ قضيَّة عصمة الرسول قضيَّة كلامية إلاَّ أنَّ بعض الأصوليين قدَّمها على بحث أفعال الرسول، وتناول عصمة الرسل عموما والنبي خصوصا[٤]، ومن المعروف لدى الشيعة أنَّ الأنبياء معصومون عن الذنوب مطلقا صغيرها وكبيرها قبل البعثة وبعدها بل حتَّى المكروهات، لكنَّ أهل السنَّة يختلفون في ذلك ويجيز بعضهم الذنوب الصغيرة للأنبياء[٥]، إلاَّ أنَّ بعضا منهم منع حتَّى فعل المكروه على الرسول، خلافا للحنفية الَّذين حملوا توضّؤ الرسول بسؤر الهر على الكراهة لأجل بيان جواز هذا الفعل[٦].
تقديم هذا الموضوع على موضوع أفعال الرسول في محلّه؛ باعتبار أنَّا لو احتملنا معصية الرسول في أفعاله ما أمكن التأسّي بأيٍّ منها؛ لاحتمال كونها من المعاصي التي ارتكبها الرسول، فوجوب التأسّي مبني على ثبوت عصمته كما صرَّح بذلك الزركشي[٧].

حجّية أفعال الرسول(ص)

حجيَّة الأفعال ودلالتها على الأحكام على نحو الإجمال ممَّا ذهب إليه جلّ الأصوليين[٨]؛ وذلك لأنَّ تجويز البيان بالفعل يلزم منه القول بحجيَّته وإلاَّ كان عبثا، ولذلك نقل البعض الاتّفاق على ذلك[٩]، لكنَّ الآمدي ينقل مخالفة البعض لهذا الأمر ولم ينسبه إلى أحد، ويَنسب إلى أبي علي الخلاَّد التفصيل، فجوّز التأسّي في العبادات دون غيرها[١٠].
إنَّ جميع الأدلَّة القرآنية والعقلية وغيرها من الأدلَّة الدالَّة على حجّية السنَّة دالٌّ على حجّية أفعال الرسول بالتبع كذلك؛ لأنَّ الأفعال من السنّة وليست أمرا خارجا عنها، وكلّ ما يمكن أن يثبت أو لايثبت بالسنَّة يثبت أو لايثبت بالفعل كذلك، والبحث في كلا الموضعين واحد.
إلاَّ أنَّ بعض المعاصرين يعارض الاستدلال المزبور بدليلين:
الأوّل: لم تثبت كون الأفعال حجَّة، وثبوت كونها سنَّة متوقِّف على ثبوت حجّيتها.
الثاني: أنَّ الثابت حجّيته من السنَّة بدلالة الكتاب هو القوليَّة فقط دون الفعليَّة وتعديتها إلى الفعلية فيه خفاء وبحاجة إلى دليل. رغم ذلك فهو يرى حجّية الأفعال بأدلَّة قرآنية وأحاديث نبويَّة والإجماع[١١].
لكنَّ هناك تفصيلاً بين الأصوليين في دلالة الأفعال على الأحكام وفقا لتقسيمها إلى ما ورد فيه قرينة وإلى ما لم يرد فيه قرينة، ونوعية الفعل وما إذا كان من خواصّه أو لم يكن وغير ذلك من التقسيمات التي ورد ذكرها في بحث الأقسام، وهناك نقاش أساسي في هذا المجال خاصّ بالأفعال التي لم تقترن بقرينة تثبت اشتراك حكمها بين الرسول واُمَّته، ترد تحت جهتين: ما عرف وجهه وما لم يعرف وجهه.

الجهة الأولى: حكم ما عرف وجهه

تشارك الاُمَّة الرسول(ص) في الأفعال التي عُرف وجهها من الوجوب والندب والإباحة[١٢]. لكنَّ بعض الأشعريَّة، مثل: أبو بكر الدقّاق خالف في ذلك، وقال: بعدم المشاركة، وأنَّ الفعل الصادر عن الرسول لايكون تشريعا لنا إلاَّ بدليل[١٣].

أدلَّة اشتراك أفعال النبي(ص)

1 ـ الآية الكريمة: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة»[١٤]. ومقتضى الأسوة اشتراك الأفعال ولزوم تطابقها مع بعضها الآخر.
2 ـ الآية الكريمة: «فَاتَّبِعُوهُ»[١٥]. وهي تدلّ على لزوم متابعة الرسول مطلقا حتّى في الأفعال.
3 ـ الآية الكريمة: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ وطرا زوَّجنَاكَهَا لِكَيْلا يَكُون عَلَى المُؤْمِنينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذَا قَضوا مِنهنَّ وطْرا»[١٦]. فالآية صريحة في أنَّ فعله هنا لرفع الحرج والمانع عن المؤمنين للزواج من امرأة مَن تبنّوه.
4 ـ ما روي من أنَّ رجلاً سأل اُم سلمة رضي اللّه‏ عنها عمَّن قبَّل امرأته وهو صائم، فقال لها النبي(ص): «ألا أخبرتِه أنّي أفعل ذلك؟»[١٧]. وهذا الحديث يعكس أنَّ ما يكون مباحا له يكون مباحا لاُمَّته كذلك.
5 ـ رجوع الصحابة عند الاستدلال إلى أفعال الرسول[١٨].

أدلَّة عدم اشتراك أفعال النبي

الَّذين خالفوا اشتراك الاُمَّة معه في أفعاله استدلّوا بدليلين:
1 ـ من المحتمل أن يكون فعله خاصّا به ولا مصلحة في الإتيان به لغيره. ورُدَّ بأنَّ الشرع أمر باتِّباع الرسول والتأسّي والاقتداء به، ولو كانت هناك مصلحة من هذا القبيل لما دعا الشارع للتأسّي والاقتداء.
2 ـ أنَّ الفعل لم يصدر من غيره، وما اُمر به لايشمل غيره، فلا مشاركة. ورُدَّ بأنَّ الأدلَّة الواردة على وجوب الاتّباع تعني التسوية بينه وبين الاُمَّة[١٩].

الجهة الثانية: حكم ما لم يُعرف وجهه

في هذا الصنف من الأفعال، حيث لا تكون هناك قرائن تحدِّد وجه الفعل وردت عدَّة آراء:

الرأي الأوّل: التوقُّف

أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى ضرورة التوقُّف حتَّى يقوم دليل، وهو لأكثر المتكلِّمين وأبي بكر الدقّاق[٢٠]، واعتبره الزركشي رأي جمهور الشافعية[٢١]، واختاره الرازي وحكاه عن الصيرفي وأكثر المعتزلة[٢٢].
والقائلون بالتوقُّف اختلفوا في تفسيره، فقد فسَّروه بنحوين:
الأوّل: الوقف في تعدية حكم الفعل إلى الاُمة.
الثاني: الوقف في تعيين جهة الفعل من كونه مستحبّا أو واجبا[٢٣].
استدلَّ على التوقُّف بالاُمور التالية:
1 ـ صورة الفعل في الجميع واحدة، والفعل يحتمل الوجوب والاستحباب والإباحة، وحمله على بعضها دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجِّح، فوجب التوقُّف[٢٤]. وهذا الدليل ينسجم مع المعنى الثاني للتوقّف.
2 ـ الَّذين قالوا بعدم عصمة الرسول عن الخطأ يحتملون أن يكون فعله ذنبا من ذنوبه، فيكون ذنبا بالنسبة إلينا كذلك، فلايجوز فعله[٢٥]. وهذا الدليل ينسجم مع المعنى الأوّل والثاني.

الرأي الثاني: الحمل على الندب

نسب الرازي هذا القول إلى الشافعي[٢٦]، وحكاه أبو اسحاق عن أبي بكر الصيرفي والقفّال والقاضي أبي حامد[٢٧]، ونسبه الزركشي إلى أكثر الحنفية و المعتزلة[٢٨].
استدلَّ على هذا الرأي بالموارد التالية:
1 ـ قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللّه‏ِ أُسْوَةٌ حَسَنةٌ»[٢٩] وحسن التأسّي يقتضي الندب و الاستحباب، وهذا هو الظاهر من «لَكُمْ» ولو كان الإيجاب هو المراد لقال: (عليكم) [٣٠].
رُدَّ هذا بأنَّ التأسّي مطابقة الفعل، والمورد هنا لايعلم منه صورة الفعل، أي استحبابه أو وجوبه، وعليه فيدلّ على التوقُّف[٣١].
2 ـ لايخلو فعل الرسول من أن يكون راجح العدم (مكروها أو محرما) أو مباحا أو مرجوح العدم (مستحبّا أو واجبا)، والكراهة والحرمة منفيان عن الرسول، والفعل المباح عبث، وهو منفي عنه أيضا، فيبقى الوجوب والندب، والندب هو القدر المتيقن؛ لكونه أقلّ أحوال القرب، فأفعاله لاتخلو إمَّا أن تكون مندوبة أو واجبة، وعدم الوجوب بالنسبة إلينا ثابت بمقتضى الأصل، فيثبت الآخر؛ باعتباره القدر المشترك للعمل[٣٢].
رُدَّ بأنَّ الاحتياط هنا يقتضي الحمل على الواجب لا الندب، مع أنَّا لا نسلِّم كون فعل المباح عبثا، فقد يكون فيه غرضٌ ما ينفي العبثيَّة[٣٣].
3 ـ أطبق أهل الأعصار على الاقتداء بأفعال الرسول(ص) وهو يدلُّ على الإجماع على إفادته الندب[٣٤].
رُدَّ بأنَّا لا نعلم بالضبط أنَّ إطباقهم ناشئ عن الفعل بمجرّده، فمن المحتمل أنَّ عملهم قد استند إلى قرائن اُخرى[٣٥].

الرأي الثالث: الحمل على الوجوب وأدلته

وهو لابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وأبي علي بن خيزران[٣٦]، ونسبه أبو إسحاق الشيرازي لمالك[٣٧].
استُدلَّ على هذا الرأي باُمور كثيرة منها:

=الدليل الأول: الآيات القرآنية=

وردت عدَّة آيات يبدو منها وجوب المتابعة:
منها: قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوهُ»[٣٨]. رُدَّ هذا الدليل بأنَّ الاتّباع يقتضي مثل فعل الرسول تماما، حتَّى في الوجه، بحيث لو جئنا بالفعل على وجه الندب وكان الفعل على وجه الوجوب ما كان الاتّباع حاصلاً، والاتّباع يتوقَّف على معرفة وجه الفعل، ودون هذه المعرفة لايحصل[٣٩]. ورُدَّ كذلك بأنَّه على فرض دلالته على العموم فإنَّه يدلُّ على وجوب الإتّباع إن كان الفعل واجبا عليه وعلينا، ووجب أن يعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد، بينما الحكم بالوجوب ممّا يراد إثباته هنا[٤٠].
ومنها: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَر الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ»[٤١] والأمر شامل للقول والفعل، بدليل قوله تعالى: «وَأمْرهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»[٤٢]، وقوله تعالى: «يُدبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ»[٤٣] فالأمر في الآيات هنا يُراد منه الفعل[٤٤].
رُدَّ هذا بأنَّ الأمر لايحمل على الفعل إلاَّ بدليل وقرينة، مع أنَّه اُجمع على حمل الأمر هنا على القول، كما أنَّ الضمير في «أمْرِهِ» يعود إلى اللّه‏؛ باعتبار أنَّ الكلام هنا كناية، وهي ترجع إلى أقرب مذكور، وهو اللّه‏ تعالى، فقد سبق الآية قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَم اللّه‏ُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلونَ مِنْكُمْ لَواذا...» [٤٥] [٤٦].
ومنها: قوله تعالى: «أطِيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرَّسولَ»[٤٧] والآية لم تفرّق بين القول والفعل[٤٨].
ورُدَّ بأنَّ ذلك فيما إذا عُلم وجه الفعل، والكلام هنا فيما إذا لم نعلم وجه الفعل[٤٩].
ومنها: قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللّه‏ِ اُسْوَة حَسَنَة»[٥٠] ومجرى الآية مجرى الوعيد بالنسبة إلى تارك التأسّي[٥١].
رُدَّ الاستدلال بأنَّ مطلق الإتيان بفعل الغير لايكون تأسّيا، والتأسّي يحصل عندما تحصل المماثلة في صورة الفعل وفي الكيفية كذلك، ولهذا لايكون مطلق فعل الرسول سببا للوجوب في حقّنا؛ لأنَّ فعله قد لايكون واجبا بل قد يكون مستحبّا، وإتياننا بمثله يكون تأسّيا كذلك[٥٢].
ومنها: قوله تعالى: «قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه‏َ فَاتَّبِعُونِى»[٥٣] وهي تدلُّ على أنَّ محبَّة اللّه‏ مستلزمة للمتابعة ، والمحبَّة واجبة بالإجماع ، ولازم الواجب واجب[٥٤].
ويُردُّ هذا الاستدلال بنفس النحو الذي ورد في الآية 153 من سورة الأنعام[٥٥].
ومنها: قوله تعالى : «فَلَمَّا قَضَى مِنْهَا وَطْرا زَوَّجْنَاكَهَا»[٥٦] وهي قد بيَّنت أنَّ فعله تشريع واجب الاتّباع وإلاَّ لما كان التزويج رافعا الحرج عن المؤمنين[٥٧]، أو أنَّ اللّه‏ تعالى إنَّما زوَّجه بها؛ ليكون حكم أمّته مساويا لحكمه في ذلك[٥٨].
ويُردُّ بأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الآية هو تساوي حكمه مع حكمهم في الوجوب والندب، وهذا لايعني كون أفعاله جميعا واجبة لتكون واجبة على الاُمَّة أيضا[٥٩].
ومنها: قوله تعالى: «مَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»[٦٠] ويصدق عنوان (ما آتانا) على ما فعله[٦١].
رُدَّ الاستدلال بأنَّ هناك قرينتين يدلاَّن على كون المراد القول لا الفعل:
الاُوّلى: قوله تعالى: «وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» يُراد منه القول؛ لأنَّ النهي لايصدق على الفعل، فكذلك قوله: «مَا آتَاكُمُ».
الثانية: مفردة الإتيان ومفهومها يتأتَّى في القول؛ لأنَّنا نحفظه، وبامتثاله نكون قد أخذناه، فكأنَّ هناك أخذا وعطاءً، وهو صادق في القول دون الفعل[٦٢].

=الدليل الثاني: ما روي من السنّة=

روي في السنَّة ما يبدو منه وجوب المتابعة:
منها: روي أنَّ النبي(ص) خلع نعله في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، ثُمَّ قالوا: رأيناك خلعت نعلك فخلعنا نعالنا[٦٣]. فدلَّ على وجوب متابعته في فعله[٦٤].
رُدَّ هذا باُمور:
أوّلها: أنَّ هناك أمرا مسبقا من الرسول بوجوب متابعته في الصلاة «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»[٦٥] فظنّوا أنَّ الخلع ممَّا شرِّع في الصلاة.
ثانيها: من غير المعلوم كون فعلهم عن وجوب، ومن المحتمل أنَّه بعد خلع الرسول ظنّوا وجوب الخلع باعتبار الآية: «خُذُوا زِينتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»[٦٦] فسألهم عن سبب الخلع فقالوا: لأنَّك خلعت. فقال: «إنَّ جبرئيل أخبرني أنَّ فيها أذى» فبيَّن لهم وجه الفعل[٦٧].
ثالثها: من المحتمل أنَّهم أرادوا المبالغة في المتابعة لا عن وجوب[٦٨].
ومنها: روي أنَّ اُمّ سلمة قالت للنبي(ص) عام الحديبيَّة: «فانحر هديك واحلق وأحل، فإنّ الناس سيحلّون» فتبعوه، فدلَّ على أنَّ فعله يقتضي الوجوب[٦٩].
رُدَّ هذا بأنَّ الاتّباع هنا من حيث وجود الدليل اللفظي[٧٠]، وهو قوله: «انحروا واحلقوا»[٧١].
كما أنَّ هناك ردودا واردة على عموم الأخبار الثابتة في المجال:
الأوّل: أنَّ الأخبار عمومها أخبار آحاد ولا تفيد إلاَّ الظنّ[٧٢].
الثاني: الأخبار المزبورة وردت في الحجّ والصلاة فقط، ولعلَّ هناك دليلاً دلَّ على أنَّ شرع الرسول وشرع الاُمَّة واحد في هذين الأمرين فقط، كما هو الواقع، فقد وردت رواية «صلّوا كما رأيتموني أُصلي»[٧٣] و«خذوا عنّي مناسككم»[٧٤] و[٧٥].

=الدليل الثالث: الإجماع=

أجمعت الاُمَّة على لزوم اتّباعه، كما يثبت ذلك ممّا ورد عن الصحابة من اتّباعهم إيَّاه في أفعاله[٧٦]. من قبيل رجوع الصحابة إلى فعله[٧٧]، فقد اختلفوا في التقاء الختانين ما إذا كان موجبا للغسل أم لا فرجعوا إلى فعل رسول اللّه‏ (ص)حيث روت اُم المؤمنين عائشة: «فعلته أنا ورسول اللّه‏ فاغتسلنا».
رُدَّ هذا بالاُمور التالية:
الأوَّل : أنَّ الرواية تختلف عمَّا ينقلها القائلون بالوجوب[٧٨]، وهي: «إذا التقى الختانان [فقد] وجب الغسل»[٧٩]. والوجوب مستنبط لا من الفعل الذي نقلته عائشة بل من هذا الحديث[٨٠].
الثاني: أنَّ الصحابة لم يجمعوا على وجوب كلّ فعل بلغهم عن الرسول، بل أجمعوا على الاقتداء بخصوص الفعل الذي فهموا منه الوجوب أو الندب أو نحوهما[٨١].

=الدليل الرابع: الأدلَّة العقليَّة=

هناك شواهد عقليَّة تثبت وجوب الاتّباع:
منها: البيان تارة يقع بالقول واُخرى بالفعل، وباعتبار أنَّ القول يدلُّ على الوجوب فكذلك الفعل[٨٢]، بل الفعل آكد في الدلالة على المطلوب[٨٣]. رُدَّ ذلك بأنَّ للقول صيغا، كالاستدعاء الذي يحمل عليه القول أحيانا، والفعل خالٍ من هكذا صيغ، والمقارنة بين الفعل والقول كالمقارنة بين الخبر وغيره[٨٤]. أمَّا كونه آكد ففي بيان صفة الفعل لا أنَّه يكشف عن الوجوب بالضرورة[٨٥].
ومنها: كونه لايفعل إلاَّ ما هو صواب وحقّ فوجب اتّباعه[٨٦]. رُدَّ بأنَّ فعل النبي وإن كان حقّا وصوابا بالنسبة إليه، لكنَّ ذلك لايستلزم أن يكون كذلك بالنسبة إلينا[٨٧]، مضافا إلى أنَّ الاتّباع يعني فعلنا وفق فعله حتَّى يكون فعلنا حقّا وصوابا، وذلك لايصدق فيما لا نعلم فيه حال الفعل، فوجب التوقُّف[٨٨].
ومنها: أنَّ الاحتياط يقتضي حمل الفعل على الوجوب؛ باعتبار كونه أعلى مراتب الفعل، فيجب الحمل عليه احتياطا[٨٩]. رُدَّ بأنَّ الاحتياط ليس مورده هنا؛ باعتبار احتمال حرمته[٩٠].
ومنها: لا إشكال في وجوب تعظيم الرسول(ص) في الجملة، والإتيان بمثل فعله يعدُّ تعظيما له، كما يشهد بذلك العرف[٩١].
رُدَّ هذا بأنَّه من غير المسلَّم كون الإتيان بمثل ما يفعله العظيم يكون تعظيما له، وأنَّ الترك إهانة له، بل أحيانا يكون الإتيان بمثل فعل العظيم حطّا لمنزلته، ومن ذلك القبيح جلوس العبد في سرير سيّده والركوب على مركبه، فيستحقُّ العبد هنا التوبيخ على المماثلة في الفعل[٩٢].

الرأي الرابع: الحمل على الإباحة

وهذا القول لمالك[٩٣]، واختاره الجويني[٩٤]، واعتبره الزركشي الراجح لدى الحنابلة[٩٥]،
استدلَّ على هذا الرأي باُمور:
منها: أنَّ الأصل في الأفعال كلّها هو الإباحة ورفع الحرج عن الفعل والترك إلاَّ ما دلَّ الدليل على غيره، ولا دليل هنا[٩٦].
رُدَّ هذا بأنَّه إن كان المراد بالإباحة كون الفعل هكذا كان قبل الشرع، فهو صحيح، وعليه فلا دلالة لأفعاله[٩٧]، مضافا إلى أنَّ ذلك يصدق فيما إذا لم يظهر من النبي(ص) قصد التقرُّب، ومع ظهور قصد التقرُّب يمتنع أن يكون مباحا بمعنى رفع الحرج عن الفعل أو الترك، فإنَّ المباح بهذا المعنى لايتقرَّب به، فينبغي حمله على ما يرجَّح فعله[٩٨].
ومنها: باعتبار عدم صدور ذنب منه فلايخلو فعله من أن يكون مباحا أو مندوبا أو واجبا، وإثبات الموردين الأخيرين (أي رجحان الفعل) بحاجة إلى دليل، وهو غير موجود، فلا بدَّ من ثبوت الثالث، وهو الإباحة، وإذا ثبتت إباحة أفعاله(ص) وجب ثبوت إباحتها بالنسبة إلينا كذلك، للآية الدالَّة على وجوب التأسّي، ويترك التأسّي والعمل بالآية في الموارد الخاصَّة بالرسول فتبقى الباقية على إباحتها[٩٩].
ويُردُّ بأ نّه على فرض ثبوت الإباحة في حقِّه فلا دليل على وجوب ثبوتها علينا كذلك[١٠٠].

الرأي الخامس: الحمل على الحظر

وهو قول منسوب إلى من جوَّز المعاصي على الأنبياء[١٠١]، وقد نسبه ابن حزم إلى الباقلاني أو صاحبه أبي جعفر السمناني، بناءً على احتمال المعصية بالنسبة إلى الرسول[١٠٢]. ويرى أبو حامد الغزالي أنَّ هذا رأي من رأى الأشياء قبل الشرع محظورة[١٠٣]، ويرى البعض أنَّه سوء فهم لكلام هؤلاء، فإنَّهم يقولون بحرمة اتّباع أفعال الرسول لا أنَّ ما وقع منه يكون حراما[١٠٤]. ولم يتعرَّض من كتب في أفعال الرسول إلى هذا القول إلاَّ القليل منهم، ممَّا يكشف عن عدم الاعتناء به أو ندرة القائلين به.

الهوامش

  1. سنن الترمذي 1: 143، أبواب الطهارة، باب 64 ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف ح87.
  2. المغني ابن قدامة 2:194.
  3. أفعال الرسول 1: 388 ـ 389.
  4. العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 563 ـ 567، المنخول: 223 ـ 227، البحر المحيط 4: 169 ـ 175.
  5. المحصول الرازي 1: 501، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 145 ـ 146، إرشاد الفحول 1: 161 ـ 165.
  6. أنظر: المسوّدة: 170، البحر المحيط 4: 176.
  7. البحر المحيط 4: 169.
  8. الإحكام الآمدي 3ـ4: 27 ـ 28، معارج الأصول: 120، البحر المحيط 4: 189.
  9. الذريعة 1: 339، العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 431.
  10. الإحكام 1 ـ 2: 159.
  11. أفعال الرسول 1: 188 ـ 210.
  12. التبصرة: 240.
  13. أنظر: اللمع: 144.
  14. الأحزاب: 21.
  15. الأنعام: 153.
  16. الأحزاب: 37.
  17. المسند الشافعي: 240، فتح الباري 4: 122.
  18. أنظر: التبصرة: 240 ـ 241.
  19. أنظر: التبصرة: 241.
  20. المصدر السابق: 242.
  21. أنظر: البحر المحيط 4: 183.
  22. المحصول 1: 503.
  23. البحر المحيط 4: 184.
  24. التبصرة: 243.
  25. المحصول الرازي 1: 503.
  26. المصدر السابق.
  27. أنظر: التبصرة: 242.
  28. البحر المحيط 4: 183.
  29. الأحزاب: 21.
  30. المحصول الرازي 1: 509.
  31. التبصرة: 243.
  32. المحصول الرازي 1: 510.
  33. التبصرة: 244.
  34. أنظر: المحصول الرازي 1: 509.
  35. المصدر السابق: 510.
  36. المصدر نفسه: 502.
  37. التبصرة: 243.
  38. الأنعام: 153.
  39. الفصول في الأصول 3: 220، التبصرة: 244.
  40. المحصول الرازي 1: 507.
  41. النور: 63.
  42. الشورى: 38.
  43. السجدة: 5.
  44. المعتمد 1: 349، المحصول 1: 503.
  45. النور: 62 ـ 63.
  46. المحصول 1: 505 ـ 506.
  47. التغابن: 12.
  48. التبصرة: 245.
  49. المحصول الرازي 1: 504.
  50. الأحزاب: 21.
  51. المحصول الرازي 1: 503.
  52. المصدر السابق: 507، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 156.
  53. آل عمران: 31.
  54. أنظر: المحصول الرازي 1: 504.
  55. المصدر السابق: 507.
  56. الأحزاب: 37.
  57. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 151.
  58. المحصول الرازي 1: 504.
  59. الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 156.
  60. الحشر: 7.
  61. المعتمد 1: 350.
  62. المحصول الرازي 1: 508.
  63. سنن أبي داود 1: 175، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل ح648، مسند أحمد 3: 398 ح10769.
  64. المعتمد 1: 351.
  65. السنن الكبرى البيهقي 2: 345 كتاب الصلاة، باب من سها فترك ركنا عاد إلى ما ترك، من حديث مالك بن الحويرث، صحيح مسلم بشرح النووي 4: 197، الذريعة 1: 342، العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 419، بحار الأنوار 82: 279.
  66. الأعراف: 31.
  67. المحصول الرازي 1: 509.
  68. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 156.
  69. المصنف ابن أبي شيبة 8: 508، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الحديبية، ح3.
  70. التبصرة: 246.
  71. مسند أحمد 5: 427 ح18431، كنز العمال 5: 262 ح12821، بحار الأنوار 20: 353.
  72. التبصرة: 245.
  73. السنن الكبرى البيهقي 2: 345 كتاب الصلاة، باب من سها فترك ركنا عاد إلى ما ترك، من حديث مالك بن الحويرث، صحيح مسلم بشرح النووي 4: 197، الذريعة 1: 342، العدّة في أصول الفقه (الطوسي) 2: 419، بحار الأنوار 82: 279.
  74. السنن الكبرى البيهقي 5: 125، صحيح مسلم بشرح النووي 8: 220، عوالي اللئالي 1: 215 و4: 34.
  75. المحصول الرازي 1: 508.
  76. إرشاد الفحول 1: 168.
  77. المحصول الرازي 1: 504.
  78. التبصرة: 246.
  79. سنن ابن ماجة 1: 199 كتاب الطهارة، باب 110 ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان ح608، سنن الترمذي 1: 183 أبواب الطهارة، باب (80) ما جاء فيما إذا التقى الختانان ح109.
  80. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 157.
  81. إرشاد الفحول 1: 170.
  82. التبصرة: 246.
  83. المعتمد 1: 348.
  84. التبصرة: 246.
  85. المعتمد 1: 348.
  86. التبصرة: 246.
  87. الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 158.
  88. التبصرة: 246.
  89. المعتمد 1: 348.
  90. المحصول الرازي 1: 509.
  91. المصدر السابق: 505.
  92. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 158.
  93. أنظر: المحصول الرازي 1: 503.
  94. البرهان في أصول الفقه 1: 185.
  95. البحر المحيط 4: 183.
  96. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 154.
  97. المستصفى 2: 98.
  98. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 158 ـ 159.
  99. المحصول الرازي 1: 510 ـ 511.
  100. المصدر السابق: 511، إرشاد الفحول 1: 172.
  101. البحر المحيط 4: 184.
  102. الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 2.
  103. المستصفى 2: 98.
  104. البحر المحيط 4: 184.