الفقه في القرآن والقرآن في الفقه
للقرآن جانبين من البحث إما كونه ملحوظا بما هو المصدر الأول للأحكام الشرعية؛ أو هو نفسه موضع له أحكام تختصه
الفقه في القرآن والقرآن في الفقه
الفقه في القرآن
الفقه في القرآن والقرآن في الفقه بات مطروحا منذ البدء و في الساحة اليوم كثير من الأسئلة في حياة الإنسان المسلم يلتمس الجواب تنظيما لحياته الفردية والإجتماعية، والقرآن بما أنّه شفاء لما في الصدور ورحمة للمومنين، على تلاوته وحفظه ومدارسته والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ إيمانا؛ وتوفيق حياته المادية والمعنوية وفق التعاليم الوحيانية. لنبني لحركاتنا الفردية والإجتماعية فقهاً أصيلا ومبادئ أساسية متينة مدعومة بنصوص قرآنية وتجربة نبوية واقعية من خلال سيرته العطرة المبينة لکتاب ربه.
وممّا جدير بالشكر و اللإمتنان أنّ القرآن الكريم لم يخلُ من هذا الشأن أبدا، كيف لا وهو كتاب الله، به يوجه العباد ويرقيهم وينقيهم ويزكيهم وينظم لهم دنياهم ليسعدوا في أخراهم، يوجههم كيف يعبدون ربهم، وكيف يتصافون مع إخوانهم، وكيف يتعايشون مع غيرهم، وكيف ينظمون حياتهم الاجتماعية والأخلاقية والعلمية والاقتصادية وظروف الحرب والسلم وما إلى ذلك. فرسم لنا القرآن الكريم الخريطة الفكرية التي يتوجب أن نتعامل بموجبها مع القضايا التي طرحها، ووضع لنا الميزان الذي يجب أن نزن الأمور الدينية من خلاله، فما عظّمه القرآن نعظّمه، وما ركّز عليه نركّز عليه، وما وضعه على الهامش نضعه على الهامش، فشكل بذلك كلمة الحسم التي جاءت لتضع الموازين لما يهم مجتمعنا ويصنع لنا واقعًا أفضل.
لما أنزل الله سبحانه وتعالی القرآن يوضّح ما نحتاج إليه فعلاً في الحاضر وفى المستقبل، فالقرآن ما فرط في شيء نحتاج إليه. لذا يرتبط البيان في القرآن بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين، كما قال تعالی: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ». فبيان القرآن هدى للباحث عن الهدى وسط ركامات من الغموض والحيرة؛ وبيان القرآن رحمة به حين يبين له ما خفى ويصل به إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية؛ وهناك البشرى بعد الهدى والرحمة.
و من بين هذه الهدى والرحمة والبشرى يخرج اللإنسان ببرنامج مصلحة و منجية لحياته الدنيوية والأخروية المتجسدة في الفقه.
القرآن في الفقه
القرآن بما أنّه كتاب أنزل من سبع سماوات على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، هو النور الذي به تمتلئ القلوب إيمانا. أمر المؤمنون بالعكوف على تلاوته ومدارسته وحفظه، ونُهوا عن الغفلة عنه. وتلقى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) مع الآيات نورانيَّتها فانصبغ بالقرآن، وتجسد فيه القرآن، فكان خلقه القرآن؛ ولايكون هذا إلاَّ بمعرفة ما يجب علينا من احكام، وبکثرة التعامل مع هذا الکتاب الناصح المنجي.
ونحن في هذه الموسوعة نسعی البحث عن أحکام المکلفين تجاه هذا الكتاب العظيم من جوانب شتي: من قرائته وکتابته وبيعه وشرائه وما إليها مما له تاثر إعجازي في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية. فمثلا قراءة القرآن تعود بالإنسان إلى أصله، إلى نقائه،
يلتقي نور القرآن مع نور الفطرة، فيتضاعف النور. أخرج الدارمي عن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ستكون فتنٌ قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا»؛ هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجِر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم».
القرآن هو لأهل العدل والإحسان دستور سلوك، ومنهاج حياة. ولهذا وجب الإكثار من تلاوته وحفظه، والانجماع عليه لدراسته، وإجادة قراءته، والاستماع إلى تجويد المجيدين من قرائه. كان لصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليقين في أن هذا القرآن الذي أنزل من سبع سماوات إنما أنزل لأمر عظيم وشأن، وأي شأن، فما كان منهم إلاَّ أن عكفوا عليه تالين متأملين، أحلُّوا حلاله وحرُّموا حرامه،
فكان لهم السراج المنير والزاجر والمانع، فأحسنوا التعامل معه. قرؤوه فحفظوه، وتدبروا معانيه وعملوا بمقتضاه، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من عزٍّ وسؤدد.
قال علي (عليه السلام): «وإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُه أَنِيقٌ؛ وبَاطِنُه عَمِيقٌ؛ لَا تَفْنَى عَجَائِبُه؛ ولَا تَنْقَضِي غَرَائِبُه؛ ولَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِه». وقال: «إنْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللَّه؛ واتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّه؛ واقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّه؛ فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ ِالْجَلِيَّةِ؛ واتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ؛ وبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّه مِنَ الأَعْمَالِ؛ ومَكَارِهَه مِنْهَا؛ لِتَتَّبِعُوا هَذِه وتَجْتَنِبُوا هَذِه».
واليوم أصبحنا نرى أعداء الدين يحاولون بشتى الوسائل منع المسلمين من الإقبال على كتاب ربهم، بل يسعون جاهدين إلى زعزعة ثقتهم به. من هنا ضرورة إحياء حبّ القرآن في نفوس المسلمين، والتركيز على حسن التعامل مع كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من عزيز حميد. فحذرنا علي (عليه السلام) عن التغافل عن هذه المأدبة الإلاهية بقوله: «وتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّه أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. وتَفَقَّهُوا فِيه؛ فَإِنَّه رَبِيعُ الْقُلُوبِ. واسْتَشْفُوا بِنُورِه؛ فَإِنَّه شِفَاءُ الصُّدُورِ. وأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه؛ فَإِنَّه أَنْفَعُ الْقَصَصِ. وإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِه كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِه؛ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْه أَعْظَمُ والْحَسْرَةُ لَه أَلْزَمُ؛ وهُوَ عِنْدَ اللَّه أَلْوَمُ».
وهو في الحقيقة تأكيد علي ما قاله سبحانه وتعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ». وهذا لايمكن إلا بمعرفة احکام القرآن ممّا يجب علی کلّ مسلم، ثمّ بمجالسته، والتعامل معه کما يليق بشأنه العظيم، کما قال علي (عليه السلام):
«واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ؛ والْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ؛ والْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ؛ ومَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى».