الحوار العلمي

هو النظام الذي يسلكه الحوار وفقاً لمجموعة من القواعد العامّة. ومن بديهيات الحوار العلمي أن يكون منهجه واضحاً ومرسوماً سلفاً، ويفترض بأطراف الحوار أن تكون متّفقة على قواعده؛ لكي يكون ملزماً لها جميعاً، كما تذكر الآية الكريمة: (أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اَللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (سورة الأعراف: 71)، فهذه الأسماء أراد المشركون أن يفرضوها جزءاً من منهج الحوار، ولكنّها لا يمكن أن تكون ملزمة لمن لا يؤمن بهذا الجزء من المنهج.
وأهمّ معايير منهج الحوار العلمي في إطار الرؤية الثقافية الإسلامية ما يلي:
1 - التعارف والتوعية. والمقصود منه: تعرّف كلّ طرف على حدود معيّنة من حقائق الطرف المقابل ومعتقداته وآرائه، من مصادرها نفسها، وليس من مصادر غيره، ولا سيّما من كان عدوّاً له، بهدف التمكّن في إلزامه بما ألزم به نفسه الاحتجاج عليه بمصادره نفسها. وكذلك مبادرة أطراف الحوار إلى التعريف بمعتقداتها ووجهات نظرها.
ويدخل في هذا الإطار مبدأ التوعية، فالإسلام دين التوعية والتربية، وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرّر لزوم القيام بتوعية أيّ إنسان يراد له أن ينظمّ إلى معسكره، وأيّ مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلى عمقه. إنّه يعرض جوهرته الثمينة؛ لأنّه يعلم أنّ قيمتها سستنكشف بكلّ وضوح للجميع، ولذا فهو يرفض التقليد في العقيدة، ويرفض عملية الإكراء العقائدي، ويدعو أتباعه إلى أن يكونوا أقوياء في البصر والبصيرة، ويأمر في مجال التعامل مع
الآخرين بالدعوة الواضحة قبل كلّ شيء: (وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اَللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ) (سورة فصّلت: 33)، (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي) (سورة يوسف: 108).
وبالنسبة إلى الحوار مع غير المسلمين، فإنّ البداية تكون بحقائق الرسالة ومعالمها الرئيسية، معزّزة بالحجج والبراهين، وفي إطار النقاش المنطقي السليم.
وتنقل كتب الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حين بعث الإمام علي عليه السلام إلى اليمن قال له: «يا علي، لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام، وأيم اللّه لأن يهدي اللّه عزّ وجلّ على يديك رجلاً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت».
2 - الوضوح، أي: استخدام المنهج الصحيح بصورة واضحة دون لبس أو تورية أو التواء، وعدم الخلط بين الحقّ والباطل، حتّى من أجل الوصول إلى الحقّ كغاية تبرّرها الوسيلة!
يقول الإمام الصادق عليه السلام: «لا تمزج الحقّ بالباطل، وقليل من الحقّ يكفي من كثير من الباطل».
ومن أساليب الإبهام في الحوار كما يقول الإمام الجويني: الاحتيال على المحاور حتّى يخرجه عن محلّ تساؤله، وتوجيه كلامه إلى وجوده محتملة. إضافة إلى استخدام المغالطات والسفسطة في المنهج.
3 - الموضوعية. ومن أبرز عناصرها: التجرّد، ونبذ التعصّب، والابتعاد عن القناعات السابقة والمواقف المبيّتة والأحكام المعدّة سلفاً خلال تنفيذ الحوار، حتّى لو كانت أطراف الحوار على يقين مطلق بمعتقداتها ووجهات نظرها، فهذا التجرّد يخلق جوّاً من الصدق في الوصول إلى الحقيقة كهدف نهائي للحوار، مهما كانت هذه الحقيقة، على النحو الذي يدعو فيه النبيّ صلى الله عليه و آله الآخرين: (وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سورة سبأ: 24). وهذه الدعوة هي قمّة التجرّد والاستعداد لتقبّل نتائج الحوار مهما كانت وأينما كانت، رغم اليقين المطلق للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بصحّة معتقداته.
يذكر الفيض الكاشاني في حديثه عن شروط الحوار: أن يقصد بها إصابة الحقّ وطلب ظهوره كيف اتّفق، لظهور صوابه وغزارة علمه وصحّة نظره، فإنّ ذلك مراء منهي بالنهي الأكيد. وأن يكون في طلب الحقّ كمنشد ضالّة، يكون شاكراً متى وجدها،
ولا يفرق بين أن تظهر على يده أو يدي غيره، فيرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر الحقّ.
وهذا يعني: أنّ الموضوعية لا تلتقي مع هدف استعراض القابليات العلمية خلال الحوار، أو القدرة على امتلاك أدوات الجدل، أو التنكيل بالخصم.
ومن شروط الموضوعية في منهج الحوار: تقديم الدليل على الرأي والفكرة برهاناً على صحّتها وصدقها: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (سورة البقرة: 111)، والتقيّد بالحقائق والأفكار التي يعتقدها الطرف الآخر، والاحتجاج بها، وفقاً لقاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، وعدم الاحتجاج بما يفهم المحاور من حقائق الآخر، أو الاعتماد على ما ينقله الخصوم والأعداء، وهذا الشرط هو تتمّة لمعيار التعارف.
4 - اعتماد المشتركات،
فلا بدّ ابتداءً من اكتشاف الحقائق والمرتكزات المشتركة بين الطرفين؛ لتكون قاعدة رصينة يقف عليها المتحاورون، ومقدّمات واقعية ينطلقون منها للوصول إلى حقائق كلّية: (قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ) (سورة آل عمران: 64).
ويذكر القرآن الكريم معالم رائعة لهذا المنهج:
منها: مسألة المرونة وعدم الجمود في الأُسلوب واختيار أحسن السبل، يقول تعالى: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (سورة النحل: 125)، (وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة الإسراء: 53)، (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة العنكبوت: 46).
ومنها: المنطقية والاستدلال الصحيح بحيث يسير البحث من المقدّمات إلى النتائج
بشكل طبيعي دونما تحايل أو جدال عقيم. والنصوص التي تنهى عن الجدال والمراء كثيرة، كقوله تعالى: (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (سورة الزخرف: 58)، في حين يدعو إلى البرهنة، كما في قوله تعالى: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (سورة البقرة: 111)، ويعلن النفور من حالات العناد ويضرب لها مثلاً في قوله: (وَ إِذْ قالُوا اَللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (سورة الأنفال: 32)، وقوله تعالى: (وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ) (سورة آل عمران: 78).
ومنها: حذف العناصر التي لا دخل لها في النتيجة وإنّما تثير التشنّج فقط، يقول تعالى: (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ) (سورة سبأ: 25).