التکفيری
تيار السلفي التكفيري هو حالياً أحد العوامل الرئيسية للفتنة في المنطقة، إذ يسير عملياً في مسار مصالح الغربيين تحت ستار الدفاع عن السنة. وجود هؤلاء الأفراد في المحافل والمجتمعات ونشر آثارهم ومنتجاتهم الثقافية في بعض المراكز أدى إلى جذب انتباه بعض الشباب الحماسيين الذين ضاقوا ذرعاً من إجراءات القمع التي يمارسها المحتلون.
مسار التطور
يأخذ السلفيون رواياتهم مباشرة من أحمد بن حنبل (مواليد 241هـ)، وأحمد بن تيمية (مواليد 728هـ)، وابن القيم الجوزية (مواليد 751هـ) ومحمد بن عبدالوهاب التميمي النجدي (مواليد 1115-1206هـ). بعد محمد بن عبدالوهاب، تحولت السلفية إلى شكل وهيكل سياسي، وسرّع تحالفه مع محمد بن سعود في تأسيس حكم آل سعود في السعودية هذا المسار. رغم أن العلاقة بين العلماء والحكام السعوديين شهدت تغيرات، وفقد شيوخ الوهابية بعض صلاحياتهم مثل الاعتقال والقضاء، إلا أنهم لا يزالون يحتفظون بمكانة جيدة في النظام السياسي السعودي. بالإضافة إلى منطقة الحجاز، لم تخلُ مصر من التحولات العقائدية، حيث شهد السلفيون هناك، من خلال نشاطات حسن البناء وحركة الإخوان المسلمين، تجربة جديدة في التعاليم العقائدية لأهل السنة، وفتحت أبواباً جديدة لهذه الجماعة لتوسيع نطاق الاجتهاد المحدود. لكن بعد وفاة حسن البناء المبكرة، تأثرت حركة الإخوان بفكريْن هما أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، اللذان رسّخا منهج الالتزام بالنصوص الدينية بناءً على آراء فقهية خاصة، وأرسيا مبدأ التكفير.
كان سيد قطب، المتأثر بأفكار ابن القيم الجوزي حول التعامل مع أهل الكتاب، يرى أن أهل الكتاب يمكنهم العيش بسلام في الأراضي الإسلامية ما داموا يدفعون الجزية، وإلا وجب على المسلمين الجهاد معهم. دعم السعودية ودول الخليج أدى إلى تنسيق كبير بين السلفيين التقليديين وحركة الإخوان المسلمين. من جهة أخرى، لقيت وجهة النظر المناهضة للاشتراكية لدى السلفيين الجدد اهتمام شيوخ الوهابية خاصة خلال حروب المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي.
نمو التيار التكفيري
في النهاية، أعلن السلفيون تشكيل الجبهة العالمية للإسلام للجهاد ضد اليهود والصليبيين بقيادة بن لادن السعودي والظواهري المصري، مما زاد من تركيزهم على الاتجاهات القتالية. لا شك أن حادثة 11 سبتمبر كانت نقطة تحول في تاريخ التطورات المعاصرة. التيار الإسلامي السلفي، الذي ظهر بعد السعودية في صورة مجاهدي طالبان، هدد مصالح العديد من دول المنطقة.
أدى التفسير المتشدد والمتزمت للسنة النبوية والقراءات الظاهرية لآيات القرآن إلى دفع طالبان لتحديد مصير خصومهم الفكريين والسياسيين، واعتبار رسالتهم أكبر من حجمهم. لم يقتصر هذا التيار الفكري على الجغرافيا الأفغانية، بل اعتبر نفسه مسؤولاً عن نشر تعاليم الإسلام وفق القراءة السلفية في بقية دول المنطقة. وبالرغم من خلافه مع الجماعات السنية الأخرى، كان يتسم بعداء شديد للشيعة، مما دفعه لممارسة سياسة قاسية تجاههم. أدت أحداث 11 سبتمبر إلى تعزيز مكانة الجماعات العسكرية وشبه العسكرية وتركيز الفكر على تنظيم القاعدة. هذا الظاهرة، التي دعمتها الاستراتيجية الأمريكية في البداية، تحولت إلى صراع عميق مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، مما أدى في النهاية إلى الغزو الأمريكي لأفغانستان.
التيار التكفيري في لبنان
إلى جانب أفغانستان، كان لبنان من مراكز نمو السلفية. ظهر التيار السلفي الشامي في دمشق على يد ناصر الدين الألباني. دخل الفكر السلفي لبنان أواخر خمسينيات القرن الماضي عبر عدد من طلاب المراكز الدينية السعودية. من أبرزهم الشيخ سالم الشهال والشيخ عبد الرزاق الزغبي، اللذان حولا طرابلس إلى مركز نشر الفكر السلفي في لبنان. بدأت نشاطات السلفيين في لبنان من طرابلس، ومنذ عام 1977 أصبحوا نشطين بشكل ملحوظ بقيادة الشيخ سالم الشهال، وفي عام 1981 أسسوا تنظيم "نواة الجيش الإسلامي". هذا التنظيم، إلى جانب تنظيمات إسلامية سنية أخرى كالتيار التوحيدي والجماعة الإسلامية، كان له حضور محدود. بعد انهيار حركة التوحيد الإسلامي إثر أحداث طرابلس 1985، توسع السلفيون وتمكنوا من التعبير عن خصائصهم العقائدية كجماعة مستقلة. تتركز حضورهم بقوة في طرابلس وبعض مناطق الشمال مثل عكار والضنية. تحظى مناطق الشمال بأهمية خاصة للسلفيين اللبنانيين بسبب تمركز معظم شخصياتهم ومؤسساتهم هناك. كما أن الأحداث الأمنية الأخيرة في هذه المناطق، مثل أحداث الضنية، انفجارات الكنائس، والهجمات على المصالح الغربية، وتحركات الأجهزة الأمنية، حولت الشمال إلى قاعدة ومركز تجمع للسلفيين.
في منتصف التسعينيات، تعرضت حركة السلفية لأزمات وأحداث حاسمة أضعفت نشاطها، نتيجة الضغوط الأمنية اللبنانية بسبب التفجيرات والاغتيالات التي نفذها أتباعها. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، تصاعدت الضغوط الأمنية على الجماعات السلفية. من خلال دراسة انتشار المساجد والمدارس والمراكز الدينية السلفية، وبناء مساجد في القرى الفقيرة واستخدامها للترويج للسلفية، يمكن ملاحظة توسع ملحوظ للسلفيين في شمال لبنان. على سبيل المثال، من بين 70 مسجداً في طرابلس، 16 مسجداً تابعة للسلفيين، بينما دار الإفتاء يسيطر على 13 مسجداً فقط، وحركة التوحيد والجماعة الإسلامية على 7 مساجد لكل منهما. وفي عكار، هناك حوالي 210 مساجد موزعة في القرى والمدن الصغيرة، منها 27 مسجداً وهابياً تُقام فيها صلاة الجماعة والتعليم.
كان التيار المشبوه "فتح الإسلام" في لبنان وتحركاته العسكرية في مخيم نهر البارد نتيجة جهود التيارات السلفية المتطرفة للتأثير على تطورات المنطقة، خصوصاً لبنان. وتشير التقارير إلى أن قيادة هذا التيار كانت تحت شخص يُدعى "أبو خالد العلّامة"، الذي له سجل في العمليات الإرهابية في العراق وتعاون مع "أيمن الظواهري" و"الزرقاوي". تعرض للملاحقة بسبب أعمال تخريبية ضد الشيعة، وسُجن في سوريا لفترة.
بعد إطلاق سراحه، أسس مع الأردني الفلسطيني "شاكر العبيسي" جماعة فتح الإسلام. العبيسي، الذي انضم إلى منظمة فتح عام 1970، أصبح لاحقاً من المتمردين ضد عرفات وانضم إلى القاعدة عام 1990، وكان معتقلاً في سوريا لثلاث سنوات. بعد الإفراج عنه، التقى بالزرقاوي، وتم الاتفاق مع العلّامة لتشكيل فتح الإسلام. دخلت الجماعة لبنان ونفذت العديد من الأعمال الإرهابية مثل تفجير حافلة ركاب، تعطيل إضرابات مناهضة لسنيورة، وإثارة الفتنة بين الشيعة والسنة. انتهى ملف فتح الإسلام بتدخل حكومة سنيورة وضبط النفس من حزب الله، لكن الخبراء السياسيين رأوا أن هذه المحاولات كانت تهدف إلى تقليل نفوذ حزب الله. ووفقاً للمحللين، ما حدث في لبنان كان جزءاً من سيناريو أمريكي-إسرائيلي غير مكتمل، يُختبر بقوة أكبر منذ حرب الثلاثة والثلاثين يوماً.
التيار التكفيري في العراق
من المناطق الأخرى التي يلعب فيها التيار التكفيري دوراً فعالاً في الأحداث السياسية هي العراق المحتل. هناك حكومة شيعية تدير شؤون العراق، لكن وجود عناصر شيعية يهدد مصالح بعض قادة المنطقة، البعثيين، والجماعات السنية المتطرفة. بسبب الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، ودعم قادة العرب لصدام حسين، ترسخت في أذهان السنة العراقيين والعرب صورة صدام كمدافع عن العروبة والمذهب السني ضد "الشيعة العجم". وعليه، اعتبروا وجود الإيرانيين في العراق وتقوية الروابط بين الشيعة تهديداً للحياة السياسية العربية ونفوذ أهل السنة. بعد تضعف حزب البعث، تشكل تحالف استراتيجي بين السنة المعارضين وأعضاء حزب البعث السابق. كما أتاح وجود القاعدة فرصة أكبر للعمل في المناطق السنية. تصاعد العنف في العراق أدى إلى توسع نشاط التكفيريين، الذين وجدوا أرضية مناسبة لأعمالهم. رغم أن الحروب الطائفية ليست جديدة في الشرق الأوسط، إلا أن تصاعدها في باكستان والعراق أصبح مصدر قلق كبير، ولم تسفر اللقاءات المشتركة بين الشيعة والسنة، مثل مؤتمر مكة عام 1385 هـ، عن نتائج ملموسة.
أحد العوامل المهمة للنزاعات الدموية في المنطقة هو موضوع تكفير الشيعة من قبل علماء ورجال دين متطرفين من الوهابية والسلفية، مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا الشيعة الأبرياء. من اللافت أن بدلاً من التعامل الحكيم والمنطقي مع هذه الظاهرة ورفض الأعمال العنيفة والقمعية، أصدر 38 من علماء السلفية في السعودية بياناً في ديسمبر 2006 معبرين عن أسفهم لسقوط بغداد، واعتبروه مؤامرة صليبية، رافضية وصفوية، هدفها حماية المحتلين وتقليل نفوذ أهل السنة وخلق هلال شيعي وتفكيك العراق إلى ثلاث مناطق: كردية، شيعية وسنية. في هذا التصنيف، "الرافضة" تعني الشيعة، والصفويون هم الإيرانيون، والمحتلون هم جنود الصليبيين. من الحجج التي يستخدمها علماء أهل السنة لتكفير الشيعة هو موضوع الغلو في الأئمة الأطهار. كما تشمل ادعاءات السنة ضد الحكم الشيعي في إيران إهانة الصحابة والزوجات، منع أهل السنة من المناصب السياسية، وعرقلة بناء المساجد في بعض المدن. الغرب أيضاً لم يغفل هذه الخلافات، بل استغلها لإثارة الفتنة بين الشيعة والسنة، ونشر الخوف من الإسلام.
القاعدة في العراق
الجماعات والتنظيمات التي تنشط حول تنظيم القاعدة في العراق تشمل:
- تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين
أخطر الجماعات الإرهابية في العراق، تشمل عملياتها تفجير السيارات، الاغتيالات، الخطف، قتل الأبرياء، قطع الرؤوس وتشويه الجثث. لها علاقات قوية مع تنظيمات عسكرية بعثية مثل "الجيش الإسلامي العراقي - كتائب ثورة العشرين"، وأيضاً مع التنظيمات الإرهابية العالمية. تعمل في مناطق مثل الأنبار، الموصل، تكريت، ديالى، وضواحي بغداد الجنوبية والشمالية والغربية. يتكون هيكلها العسكري من متطرفين داخليين وخارجيين، وكان أبو مصعب الزرقاوي قائدها منذ التأسيس.
- جيش أنصار السنة
يتألف من سنيين متطرفين عراقيين وغير عراقيين وبعض عناصر النظام السابق. ينشط في وسط وشمال العراق، وهو حليف لتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. من قادته البارزين محمد الجحيشي.
- الجيش الإسلامي في العراق
يتكون من إسلاميين متطرفين وعناصر من النظام السابق. ينشط في وسط العراق وله خلايا في الموصل والبصرة.
- حزب التحرير
هدفه إقامة خلافة في العراق وطرد الكفار. مرتبط بتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وينشط في ديالى وبعض مناطق بغداد.
- جيش الطائفة المنصورة
ظهر أواخر يوليو 2005. تبنى قصف الزائرين في كاظمية الإمام موسى الكاظم في 13 أغسطس 2005. أصدر أول بيان له في 26 يوليو 2005 عبر الإنترنت، مدعياً تأسيسه بعد سقوط نظام صدام. قائدهم "أبو عمر الأنصاري"، والمتحدث "أبو سامة". ينشط في مناطق الطارمية، التاجي، الطيفية، والعويريج.
- مجموعة أنصار أهل السنة (مناصروا وأهل السنة)
ظهرت في يونيو 2005، وأعلنت تأسيسها في 13 يونيو 2005. تنشط في وسط وجنوب العراق (البصرة)، ولها نشاطات في الدورة، بغداد، وأبو رشيد. تبنت تفجير مسجد شيعي على طريق بغداد-البصرة أودى بحياة 46 مدنياً، واختطاف وقتل رئيس اتحاد الكراتية في بابل، وهو شيعي. كما قتلت أعضاء من منظمة بدر في منطقة الطليعة بين بغداد وحلة. أعلنت مسؤوليتها عن مقتل عشرين شخصاً من منطقة الدورة في بغداد، عُثر على جثثهم في المعالف جنوب بغداد في 2 أغسطس 2005.
- لواء عمر
أعلن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين تأسيسه في 5 يوليو 2005، واتهمه بقتل عناصر منظمة بدر. يقوده جمال التكريتي المعروف بـ"أبو إسلام"، من عشيرة البوناصر في تكريت، وأحد معاوني الزرقاوي. نفذ أكثر من 200 عملية اغتيال حتى 29 أغسطس 2005، منها اغتيال منسق مكتب عادل عبد المهدي ومدير مكتب أحمد الجلبي. تبنى تفجير مبنى مؤسسة الشهيد محراب في تلعفر في 23 يوليو 2005.
- مجموعة الأنصار التابعة لكتيبة براء بن مالك الانتحارية
تبنت 11 عملية بين 9 و29 يونيو 2006، وعمليات أخرى بين 17 و20 يوليو 2006، منها سيارة مفخخة وتفجير حزام ناسف.
- جيش محمد (الحق)
يتألف من تكفيريين وبعثيين ومؤيدين للتمييز العشائري. يسعى لإعادة حزب البعث، وشعاره "الحكم للعرب السنة في العراق".
- مجموعة أبو أيمن
تنشط في الموصل والفلوجة، وتعتمد على خبرات تكفيريين كانوا في الجيش العراقي، وتعقد دورات في المدائن ببغداد.
- كتيبة زبير بن العوام
تنشط في أبو غريب، الرضوية، خان ضاري والزيدان. يقودها أبو زبيدة البابلي. أعلنت ولاءها لتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين في 26 سبتمبر 2005، وكانت سابقاً تابعة لكتيبات ثورة العشرين. تستخدم سيارات مفخخة، وتفجيرات، وإطلاق صواريخ.
- كتيبة حسن البصري
أعلنت ولاءها للقاعدة في العراق في 31 سبتمبر 2005، وتنشط في أبو الخطاب، الامتحية، والزبير. نفذت عمليات إرهابية ضد القوات البريطانية والعراقية والمدنيين الشيعة في البصرة، بأساليب التفجير والعمليات الانتحارية والاغتيالات. ظهرت بين أغسطس وسبتمبر 2004، وأعضاؤها من عشيرة غائم في البصرة. يقودها أبو حذيفة العراقي. بين سبتمبر 2004 ومارس 2005 نفذت 24 هجوماً، منها 16 تفجيراً وعمليات اغتيال.
النتيجة
أحد أهم عوامل الفتنة في المنطقة هو تيار السلفية التكفيرية، الذي يسير عملياً في خدمة مصالح الغربيين تحت ستار الدفاع عن السنة. وجود هؤلاء في المجتمعات ونشر منتجاتهم الثقافية جذب بعض الشباب المتحمس الذي ضاق ذرعاً من القمع، فوجد في هذا التيار ملاذاً للتحرر من الضغوط. من المهم استخدام جميع الإمكانات والقدرات في المنظمات التقريبية لمواجهة هذه التفسيرات الخاطئة للإسلام والسنة. كما يجب الأخذ في الاعتبار أن بعض التحركات المبالغ فيها من بعض الشيعة ساهمت في تعميق الكراهية والريبة بين أهل السنة، مما زاد من تعقيد المشكلة.