التقوی
التقوى كأهم فضيلة دينيّة وإنسانيّة نوقشت وحللت في العديد من الكتب الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وقد تناولها كبار العلماء من جوانب مختلفة وبيّنوها. وما يهمّ ليس فقط معرفة هذه الفضيلة الإنسانية والدينية، بل تحقيقها والاستفادة من آثارها ونتائجها الإيجابية في الدنيا والآخرة.
ما هي التقوى؟
التقوى تعني حفظ النفس مما يخاف الإنسان منه. هذه الكلمة مأخوذة من الجذر «وقى» وتعني الحافظ والدرع. والتقوى في الاصطلاح الشرعي تعني حفظ النفس عن كل ما يؤدي إلى خطيئة ويجلب غضب الله تعالى. ولا سبيل للوصول إلى مقام التقوى والنجاة من غضب الله إلا بالسير على الصراط المستقيم، وهذا الطريق يشمل كل ما نسميه بالدين. لذلك يمكن تعريف التقوى في الثقافة القرآنية بأنها الالتزام بالدين، أو أن نذهب أبعد من ذلك ونعرف التقوى بأنها التدين في الإيمان والعمل.
آثار ووظائف التقوى الاجتماعية
إذا عرفنا التقوى على أنها التدين، فيمكننا أن نذكر لها نفس الآثار والوظائف التي تنسب إلى التدين في جميع المجالات. ومن هنا نرى في كتاب «ثقافة القرآن» للآية الله هاشمي رفسنجاني وبعض الباحثين في مركز ثقافة ومعارف القرآن أكثر من 119 أثرًا ووظيفة للتقوى، وهي نفسها آثار الدين في كل المجالات المذكورة سابقًا. هذا التعامل مع موضوع التقوى يدل على أمور عدة منها قيمة وأهمية التقوى، وكذلك معناها العام والشامل الذي يمكن اعتباره مرادفًا للتدين. هنا نذكر فقط الوظائف التي تتركها التقوى في مجال العمل الاجتماعي والمعياري، والتي تظهر آثارها مباشرة.
الوحدة، ثمرة التقوى
من بين الوظائف التي يذكرها القرآن للتقوى هي الوحدة والتآلف بين المسلمين، لأن التقوى تمهّد للتمسك بـحبل الله والوصول إلى الوحدة والتآلف الاجتماعي في المجتمع الإسلامي والأمة القرآنية.
يقول الله تعالى في الآيتين 102 و103 من سورة آل عمران عن وظيفة التقوى في هذا المجال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ... وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله حق تقاته... واعتصموا جميعًا بحبل الله ولا تفرقوا.»
في الحقيقة، التقوى في كمالها هي التمسك بحبل الله الذي ورد في الأحاديث أنه القرآن والعترة والسنة. وبناءً على هذا التفسير لحبل الله، يجب على المسلم المتقي أن يتمسك بحبل الله وهو الدين. لذلك يُقال إن التقوى يجب أن تعمل وتتحرك في إطار الدين (القرآن، السنة، والعترة)، وبما أن الوحدة ليست إلا توحيد في الرؤية والمنهج، فإن الوحدة بحد ذاتها تظهر وتختفي الخلافات.
المجتمع الذي يقوم على التقوى يصل إلى الوحدة والتآلف ويجني آثاره. لذلك يقول الله تعالى: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»[١]
في هاتين الآيتين يتضح أن الناس لما لم يتقوا الله واتبع كل منهم جزءًا من الدين وتركوا جزءًا آخر، وافتخروا بما يعملون به واعتبروه صحيحًا وكاملاً، أدى ذلك إلى انقسامهم وتفرقهم وفقدان الوحدة في الدين والمنهج.
لذلك، العمل بالدين بمعنى التقوى هو أساس الوحدة والتآلف في الهدف والمنهج، والانفصال عن التقوى يعني ترك جزء من الدين والعمل بجزء منه فقط، مما يجعل كل فريق يعتقد فقط بما يعمل به ويفرح به وينكر الآخرين، وهكذا يحدث التفرق والشتات في المجتمع. أما لو تمسكوا بحبل الله والقرآن والسنة والعترة، لما وصلوا إلى هذه الحالة.
التقوى والابتعاد عن الانفصال
الذين يؤمنون بجزء من الدين ويعملون به فقط، هم في الحقيقة بعيدون عن الدين الكامل، وهذا يجعلهم في بعض مسائل حياتهم يلجؤون إلى أمور خارج الدين ويقعون في الفكر والممارسة الانفصالية. ولهذا يشير الله إلى دور التقوى في الابتعاد عن الانفصال ويبين كيف أن غياب التقوى يؤدي إلى انقسام الذين لا يعملون بالدين الكامل واستخدامهم لأفكار جاهلية وغيرها، والابتعاد عن الدين الكامل.[٢]
في الواقع الاجتماعي، فإن الشخص غير المتقي بسبب عدم التزامه بالدين الكامل، يصاب بالانحرافات التي منها الإفساد في المجتمع والطبيعة[٣]، التطفل على شؤون الآخرين (الحجرات/ 12)، التعدي على حقوق الآخرين (المائدة/ 2)، وإطلاق الأسماء القبيحة (المصدر نفسه)، حيث تتأثر هذه التصرفات بقلة التقوى، لأن المتقي والمتدين يتجنبون دائماً السلوكيات غير اللائقة في المجال الاجتماعي، لأن الدين يمنعهم أو يطالبهم بالعمل وفق القواعد والسلوكيات المحمودة، ويسعى الشخص المتدين والمتقي للعمل بناءً عليها. ولهذا فإن المجتمع المتدين والمتقي هو مجتمع لا تظهر فيه الانحرافات أو لا تتجلى كظاهرة اجتماعية.
مكاسب المجتمع المتقي
المجتمع الذي تنمو فيه التقوى ويتزدهر، يتحرر من الطغاة والعبودية والحكومات الفاسدة والباطلة، ولا يقع فيها أبداً[٤]، ولا توجد فيه الظلم والظلم الاجتماعي[٥]، وينجو أهله من الغرور والكبر[٦]، ويتطهرون من عيب لوم الآخرين[٧]، ولا يبحثون عن عيوب الآخرين أو يغتابونهم[٨]، ولا يقع فيهم الغش في المعاملات الاقتصادية[٩]، ولا يأكلون الحرام والباطل ولا يتعدون على حقوق الآخرين[١٠].
هذه بعض من الوظائف الاجتماعية للتقوى في الآيات والتعليمات القرآنية، ويمكن اختصارها بالقول: وفقًا للآيات القرآنية، المجتمع المتقي هو مجتمع أفضل ونموذجي يجب البحث عنه والسعي لتحقيقه.
التقوى تبدأ من الداخل والباطن ومن المجال الفكري، ثم تمتد إلى الخارج وإلى العمل الاجتماعي والمعياري. في النظرة القرآنية، التقوى هي الطريق والمنهج، والرؤية والعمل معًا. للتقوى درجات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمستويات الإيمان، فكلما كان إيمان الشخص أقوى، تجلّت التقوى فيه أكثر. لذلك يمكن القول: التقوى هي انعكاس خارجي للإيمان يظهر في المجالات الأخلاقية والفقهية والمعيارية.