اطّراد العلة
اطّراد العلة: الاطّراد هو التتابع، ويبحث في الاطّراد بهذا المعنى في كونه مسلكا من مسالك استكشاف العلّة في القياس أو أنّه ليس بمسلک. مثلاً وصف الإسکار ثابت للخمر فنحکم فيها بالحرمة، فهل هذا الحکم يطّرد لکل شئ مسکر أو لا؟
تعريف اطّراد العلّة لغةً
الاطّراد: هو التتابع، ويقال: اطّرد الشيء، أي تبع بعضه بعضا وجرى، ويقال: اطّرد الأمر، أي استقام، واطرد الكلام إذا تتابع، وإطرد الماء إذا تتابع سيلانه، والأنهار تطّرد أي تجري. [١]
تعريف اطّراد العلّة اصطلاحاً
لاطّراد العلّة معنيان:
المعنی الأول
استمرار حكمها في جميع محالها. [٢]
ويمثّل له بوصف الإسكار لحرمة الخمر، فإنَّ مقتضى الاطّراد ثبوت حرمة الخمر متى ما وجد وصف الإسكار. [٣]
ويبحث في الاطّراد بهذا المعنى في كونه شرطا في علّة القياس أو ليس بشرط، ويأتي بحثه في المقام الأوّل.
المعنی الثاني
وهو الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلاً مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحلّ النزاع، وهذا التعريف ذكره الرازي[٤]، وقريب منه تعريف العلاّمة الحلّي له. [٥]
كما لو اقترن وصف البطلان بسبب الحدث بحكم اشتراط النية في الصلاة، فقد يقال: إنّ الاقتران المذكور دليل علّية وصف البطلان بالحدث لحكم اشتراط النية، ويمكن إجراء ذلك لمحلّ النزاع كالوضوء مثلاً، فيقال: إنّه كما يبطل بالحدث كالصلاة يمكن أن يثبت له حكم اشتراط النية. [٦]
ويبحث في الاطّراد بهذا المعنى في كونه مسلكا من مسالك استكشاف العلّة في القياس أو أنّه ليس بمسلك، ويأتي بحثه في المقام الثاني.
الألفاظ ذات الصلة
دوران
وهو اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف، وعدمه مع عدمه[٧] الفرق بين الاطّراد والدوران، أنّ الاطّراد عبارة عن اقتران العلّة بالحكم وجودا لا عدما، أمّا الدوران فهو اقتران العلّة بالحكم وجودا وعدما. [٨]
حكم اطّراد العلة وفيه مقامان
البحث في «اطّراد العلّة» من البحوث المتعلّقة بـ القياس الفقهي وقد وقع الكلام فيه في مقامين:
المقام الأوّل: اشتراط الاطّراد في العلّة وعدمه
ويتصوّر هذا البحث فيما إذا ثبت لدينا كون وصف ما علّة لحكم واستكشف ذلك بأحد المسالك المعتبرة في استكشاف العلل في القياس، فهل أنّ الاطّراد شرط في تلك العلّة التي ثبت كونها علّة بحيث يكون كلّما وجدت العلة وجد الحكم تبعا لها، فإذا تخلف الحكم عن العلّة ولم يطّرد كان معنى ذلك أنّ ما كان يتراءى منه أنّه علّة مستنبطة لم يكن بعلّة، وما كان يتراءى منه أنّه علّة منصوصة لم يكن بعلّة تامّة بل جزء علّة أم أنّ الاطّراد ليس بشرط؟ ففي المسألة قولان:
القول الأوّل: اشتراط الاطّراد
وهو الذي اختاره أبو يعلى[٩]، وأبو الوليد الباجي[١٠]، و أبو إسحاق الشيرازي[١١]، وأبو المظفر السمعاني[١٢]، والسمرقندي[١٣]، والنسفي[١٤]، وعلاء الدين البخاري[١٥]، والزركشي[١٦]، والشوكاني. [١٧]
فبمجرّد تخلّف الحكم عن الوصف الموجود تنخرم العلّية ولايمكن اعتبار الوصف علّة له. ويبتني هذا القول على القول بعدم جواز تخصيص العلّة.
يمكن أن يُستدلّ للقول بالاشتراط بدليلين:
الدليل الأوّل
أنّ انتفاء الحكم بسبب انتفاء علّته موافق للأصل، وانتفاء الحكم مع وجود علّته خلاف الأصل، والأمور تؤخذ بما هو الموافق للأصل لا بما هو المخالف، وهو معنى اشتراط الاطّراد بحيث متى ما وجد الوصف وجد الحكم. [١٨]
الدليل الثاني
الوصف المفروض أنّه علّة، إمّا أن يكون مستلزما لوجود الحكم بوجوده في جميع صوره فيكون مطردا، أو لايكون مستلزما له حتّى يضاف له وصف آخر فيكون ليس بعلّة تامّة، بل جزء علّة، وهو باطل؛ لأنّ المفروض أنّه علّة تامّة. [١٩]
القول الثاني: عدم اشتراط الاطّراد
وهو اختيار أبي الخطّاب وبعض الشافعية و الحنفية[٢٠]، وذكر القرافي[٢١] بأنّه مشهور مذهب المالكية. فلايكون تخلّف الحكم عن الوصف في مورد ما موجبا لانخرام العلّية بينهما.
وهو مذهب القائلين بجواز تخصيص العلّة كالجصّاص[٢٢] وأبي زيد الدبوسي[٢٣]، وابن الهمام. [٢٤]
واستدلّ على هذا القول بأنَّ العلل الشرعية أمارات لا مؤثرات في وجود الأحكام الشرعية، والأمارة لايشترط فيها الاطّراد والدوام؛ لأنّه يكفي وجود حكمها في الأعم الأغلب لا دائما، كما في الغيم فإنّه أمارة المطر في الأعم الأغلب لا دائما. [٢٥]
ونوقش في ذلك بأنّه لما ثبت كون وصف ما علّة لحكم فعدم ثبوت الحكم مع وجود الوصف المذكور قد يكون لوجود مانع أو لفقد شرط، لا لعدم كون الوصف المذكور علّة، وهذا الاحتمال أولى من نفي علّية الوصف المذكور. [٢٦]
وهناك أقوال وتفصيلات أخرى يذكرها الأصوليون في باب الاعتراض على القياس بانتقاض العلّة.
المقام الثاني: في مسلكية الاطّراد وعدمها
والاطّراد في هذا المقام فُسّر بتفسيرين:
التفسير الأوّل
تفسيره بما ورد في تعريف فخر الرازي المتقدّم وهو التفسير المشهور، فوقع البحث فيه من حيث كون الاطّراد هل هو مسلك من مسالك استكشاف العلّة، بحيث يمكن من خلال اطّراد وتوالي اقتران وصف ما بحكم ما، الحكم بعلّية الوصف المذكور للحكم الذي اقترن به. أو أنّه ليس بمسلك صحيح؟ قولان في ذلك:
القول الأوّل: مسلكية الاطّراد
وهو اختيار الرازي[٢٧]، والبيضاوي[٢٨]، ونسبه أبو إسحاق الشيرازي إلى أبي بكر الصيرفي. [٢٩]
اُستدل للقول بمسلكية الإطراد بعدّة أدلّة:
الأوّل: الملاحظ من استقراء أحكام الشرع إلحاق النادر بالغالب، فإذا رأينا وصفا مقارنا لحكم في عدّة صور أمكن إثبات هذا الحكم في محلّ النزاع ـ وهو فيما لو وجد الوصف وشككنا في ثبوت الحكم له ـ إلحاقا له بتلك الصور التي كان الوصف مقارنا للحكم فيها. [٣٠]
الثاني: أنّ الاقتران بين الوصف والحكم في عدّة صور يُوجب الظنّ بكون الوصف المذكور علّة للحكم، فيمكن إثبات الحكم بسبب وجود الوصف في الصورة المتنازع فيها بسبب هذا الاقتران الموجب للظنّ بالعليّة. [٣١]
الثالث: أدلّة القياس تدلّ على جواز التعليل بكلّ وصف اقترن بالحكم إلاّ الذي قام الدليل على المنع من التعليل به، فإذا اقترن الحكم بوصف وكان مطردا جاز إثبات هذا الحكم متى ما وجد الوصف المذكور. [٣٢]
الرابع: أنّ العلل الشرعية أمارات على ثبوت الأحكام فمتى ما وجدت هذه الأمارات وكانت مطّردة وجدت تلك الأحكام. [٣٣]
الخامس: أنّ عدم الاطّراد دليل على فساد العلّة، فيكون الاطّراد دليل صحّة العلّة لعدم وجود واسطة بين الصحّة والفساد. [٣٤]
السادس: أنّ الاطّراد هو الاستمرار والجريان على الأصول الشرعية فتكون هذه الأصول شاهدة على الوصف بالصحّة وكونه علّة في ثبوت الحكم. [٣٥]
القول الثاني: عدم مسلكية الاطّراد
وهو اختيار أبي زيد الدبوسي [٣٦]، وأبي يُعلى [٣٧]، وأبي الوليد الباجي [٣٨]، وأبي إسحاق الشيرازي [٣٩] و الجويني [٤٠]، والبزدوي[٤١]، وأبي المظفر السمعاني[٤٢]، والسرخسي[٤٣]، والغزالي[٤٤]، والسمرقندي[٤٥]، وابن قدامة[٤٦]، والآمدي[٤٧]، وابن الحاجب[٤٨]، والنسفي[٤٩]، والطوفي[٥٠]، و العلاّمة الحلّي[٥١]، وابن الهمام[٥٢]، وابن النجيم[٥٣]، والنراقي[٥٤]، وابن بدران. [٥٥]
واُستدل للقول بعدم مسلكية الاطّراد بعدّة أدلّة:
الأوّل: أنّ الاطّراد أقصى ما يدلّ عليه هو عدم وجود مفسد ومانع يمنع من تأثير الوصف في الحكم، وعدم وجود المفسد لايصلح أن يكون حجّة في إثبات العلّية للحكم. [٥٦]
الثاني: أنّ الاطّراد وهو كون الوصف بحيث لايوجد إلاّ ويوجد معه الحكم ولايثبت إلاّ بثبوت الحكم في الفرع حتّى يصدق أنّه مطردٌ، وثبوت الحكم في الفرع متوقّف على سبق كون الوصف علّة في ثبوت الحكم، فتوقَّف الإطّراد على العلّية، وتوقفَت العلّية على الاطّراد وهو الدور. [٥٧]
الثالث: أنّ حاصل الاستدلال بالاطّراد هو اقتران الوصف بالعلّة، والاقتران وحده لايصلح دليلاً على العلّية، كما في اقتران الحد والمحدود، والجوهر والعرض، وذات اللّه تعالى وصفاته، فإنَّ الاقتران حاصل في كلّ ذلك مع عدم وجود علّية فيما بينها. [٥٨]
الرابع: أنّ الطرد فعل القايس، وفعل القايس لايدلّ على الأحكام الشرعية كسائر أفعاله. [٥٩]
الخامس: أنّ القول بأنّ الاطّراد دليل كون الوصف علّة مجرّد تصحيح دعوى بدعوى، ببيان أنّ كون الوصف في الأصل علّة دعوى، وكونه علّة في الفرع دعوى أخرى، فاستدلّ بدعوى كونه في الفرع علّة بدعوى كونه في الأصل علّة، وهو مصادرة. [٦٠]
السادس: الاستدلال بعمل الصحابة، حيث إنّه لم يستندوا إلى الاطّراد فيما لو أعوزهم الدليل. [٦١]
السابع: أنّ أحكام الشارع لابدّ من استنادها إلى مستند علمي أو ظنّي، والاطّراد لايفيد علما ولا ظنّا. [٦٢]
التفسير الثاني
وهو تفسيره بما إذا كان الوصف مقترنا بالحكم ولو في صورة واحدة مادام أنّه موجب للظنّ بالعلّية.
وذكر فيه الرازي[٦٣] و العلاّمة الحلّي[٦٤] بأنّه نوع من المبالغة، بل نعته فخر الرازي[٦٥] بالضعف.
ويمكن أن يورد عليه بإيرادين: [٦٦]
الأوّل: أنّه يفتح باب التخمين في استكشاف العلّية الشرعية.
الثاني: أنّ تعيين الوصف الذي اقترن به الحكم ولو مرّة واحدة واعتباره علّة، قول في الدين بمجرّد التشهي وبدون دليل.
المصادر
- ↑ العين 7: 410، الصحاح 2: 502، لسان العرب 3: 2368 مادة «طرد».
- ↑ روضة الناظر: 188.
- ↑ أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 323.
- ↑ المحصول الرازي 2: 355.
- ↑ نهاية الوصول 4: 157.
- ↑ أنظر: البحر المحيط 5: 248.
- ↑ شرح مختصر الروضة 3: 412.
- ↑ أنظر: البحر المحيط 5: 248، تجريد الأصول: 105.
- ↑ العدّة في أصول الفقه 2: 364.
- ↑ إحكام الفصول: 649.
- ↑ التبصرة: 460.
- ↑ قواطع الأدلّة 4: 248.
- ↑ ميزان الأصول 2: 898.
- ↑ كشف الأسرار 2: 340.
- ↑ المصدر السابق 4: 63 ـ 64.
- ↑ البحر المحيط 5: 135.
- ↑ إرشاد الفحول 2: 139.
- ↑ أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 324.
- ↑ المصدر السابق.
- ↑ روضة الناظر: 172.
- ↑ شرح تنقيح الفصول: 400.
- ↑ الفصول في الأصول 4: 255.
- ↑ تقويم الأدلّة: 312 ـ 313.
- ↑ التحرير 3: 232.
- ↑ أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 324 ـ 325.
- ↑ شرح مختصر الروضة 3: 325.
- ↑ المحصول 2: 360.
- ↑ منهاج الوصول: 103.
- ↑ التبصرة: 460.
- ↑ أنظر: المحصول الرازي 2: 355، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 79.
- ↑ أنظر: المحصول الرازي 2: 356.
- ↑ أنظر: قواطع الأدلّة 4: 191، كشف الأسرار البخاري 3: 644 ـ 645.
- ↑ أنظر: قواطع الأدلّة 4: 191، كشف الأسرار البخاري 3: 645.
- ↑ أنظر: التبصرة: 462، قواطع الأدلّة 4: 191، إحكام الفصول: 650، كشف الأسرار البخاري 3: 645.
- ↑ أنظر: التبصرة: 463، إحكام الفصول: 650
- ↑ تقويم الأدلّة: 304 ـ 305.
- ↑ العدّة في أصول الفقه 2: 304 ـ 305.
- ↑ إحكام الفصول: 649.
- ↑ التبصرة: 460.
- ↑ البرهان في أصول الفقه 2: 44 ـ 47، كتاب التلخيص في أصول الفقه 3: 254 ـ 255.
- ↑ أصول البزدوي 3: 643 ـ 644.
- ↑ قواطع الأدلّة 4: 192.
- ↑ أصول السرخسي 2: 227.
- ↑ المستصفى 2: 157.
- ↑ ميزان الأصول 2: 861.
- ↑ روضة الناظر: 179.
- ↑ الإحكام 3 ـ 4: 263.
- ↑ منتهى الوصول: 185.
- ↑ كشف الأسرار 2: 262.
- ↑ شرح مختصر الروضة 3: 419.
- ↑ نهاية الوصول 4: 157، تهذيب الوصول: 257.
- ↑ التحرير 3: 265.
- ↑ فتح الغفار 3: 23.
- ↑ تجريد الأصول: 105 ـ 106.
- ↑ المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: 159.
- ↑ أنظر: التبصرة: 461، أصول السرخسي 2: 227، المستصفى 2: 157، روضة الناظر: 179، شرح مختصر الروضة 3: 419 ـ 420، كشف الأسرار البخاري 3: 647، مباحث العلّة في القياس: 498.
- ↑ أنظر: إحكام الفصول: 649، التبصرة: 461، كتاب التلخيص في أصول الفقه 3: 256، المحصول الرازي 2: 356، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي): 4: 157 ـ 158، مباحث العلّة في القياس: 496.
- ↑ أنظر: المحصول الرازي 2: 356، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي): 4: 157، مباحث العلّة في القياس: 497.
- ↑ أنظر: شرح اللمع 2: 865، مباحث العلّة في القياس: 497.
- ↑ أنظر: إحكام الفصول: 650، التبصرة: 461، مباحث العلّة في القياس: 498 ـ 499.
- ↑ أنظر: مباحث العلّة في القياس: 499.
- ↑ أنظر: قواطع الأدلّة 4: 192 ـ 193.
- ↑ المحصول 2: 355.
- ↑ نهاية الوصول 4: 157.
- ↑ المحصول 2: 356.
- ↑ المحصول الرازي 2: 357.