الوقف: وهو تحبيس المال وتسبيل المنفعة، وهذا التعريف مأخوذ من قول النبي لعمر بن الخطاب عند سهام خيبر: «حَبِّسِ الأصلَ وسَبِّلِ الثمرةَ»؛ وله شروط و أحكام سنذکرها تطبیقاً علی فقه الإمامية و الشافعية و الحنفية.

شرائط صحة الوقف

تفتقر صحة الوقف إلى شروط :
منها : أن يكون الواقف مختارا مالكا للتبرع ، فلو وقف وهو محجور عليه لفلس ، لم يصح .
ومنها : أن يكون متلفظا بصريحه ، قاصدا به التقرب إلى الله تعالى .

ألفاظ الوقف

والصريح من ألفاظه : وقفت وحبست وسبلت ، فأما قوله : تصدقت ، فإنه يحتمل الوقف وغيره ، وكذا حرمت وأبدت مع أنه لم يرد بهما عرف الشرع ، فلا يحمل على الوقف إلا بدليل ، ومن أصحابنا من اختار القول بأنه لا صريح في الوقف إلا قوله وقفت . ولو قال : تصدقت ، ونوى الوقف ، صح فيما بينه وبين الله تعالى ، لكن لا يصح في الحكم لما ذكرناه من الاحتمال. [١]
وقال الشافعي : ألفاظ الوقف ستة : وقفت ، وتصدقت ، وسبلت ، وحبست ، وحرمت ، وأبدت على أحد الوجهين صريحان والآخر : أنهما كنايتان .
لنا أن ما قلناه أن ذلك صريح الوقف مجمع عليه ولا دلالة على ما ذكروه أنه من صريح الوقف. [٢]
ومنها أن يكون الموقوف معلوما مقدورا على تسليمه ، ويصح الانتفاع به ، مع بقاء عينه في يد الموقوف عليه ، وسواء في ذلك المنقول وغيره ، والمشاع والمقسوم [٣] ، وبه قال الشافعي .
وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا في الأراضي ، والدور ، والكراع ، والسلاح ، والغلمان تبع للضيعة الموقوفة ، فأما على الانفراد فلا يجوز .

وقف المشاع

ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف . وقال محمد : لا يجوز .
لنا عموم الأخبار في جواز الوقف ، وما رووه أن أم معقل[٤] جاءت إلى النبي ( عليه السلام ) فقالت : يا رسول الله إن أبا معقل[٥] جعل ناضحه في سبيل الله ، وإني أريد الحج أفأركبه ؟ فقال النبي ( عليه السلام ) : اركبيه ، فإن الحج والعمرة في سبيل الله ، وفي الوقف المشاع قوله ( عليه السلام ) لعمر في سهام خيبر : حَبِّسِ الأصلَ وسَبِّلِ الثمرةَ ، والسهام كانت مشاعة لأن النبي ( عليه السلام ) ما قسم خيبر وإنما عدل السهام. [٦]

وقف الدراهم والدنانير


ولا يجوز وقف الدراهم والدنانير بلا خلاف ، لأن الموقوف عليه لا ينتفع بها مع بقاء عينها في يده .

الاا يكون الموقوف عليه غير الواقف


ومنها : أن يكون الموقوف عليه غير الواقف ، فلو وقف على نفسه لا يصح وفي ذلك خلاف[٧]، وبه قال الشافعي . وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى وابن شبرمة والزهري وابن سريج : يصح وقفه على نفسه .
لنا أن الوقف تمليك ، ولا يصح أن يملك الإنسان نفسه ما هو ملك له. [٨]

في البداية


وفي البداية : إذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه ، أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف .
وأما إذا وقف شئ على المسلمين عامة فإنه يجوز له الانتفاع به بلا خلاف لأنه يعود إلى أصل الإباحة فيكون هو وغيره فيه سواء. [٩]
ومنها : أن يكون معروفا متميزا يصح التقرب إلى الله تعالى به بالوقف وهو ممن يملك المنفعة حالة الوقف ، فلا يصح أن يقف على شئ من معابد أهل الضلال ، ولا على مخالف أهل الإسلام أو معاند للحق إلا أن يكون ذا رحم ، ولا على أولاده ولا ولد له ، ولا على الحمل قبل انفصاله ، ولا على عبد ، بلا خلاف .
ولو وقف على أولاده وفيهم موجود صح ، ودخل في الوقف من سيولد له على وجه التبع ، لأن الاعتبار باتصال الوقف في ابتدائه لمن هو من أهل الملك .
ويصح الوقف على المساجد والقناطر وغيرهما ، لأن المقصود بذلك مصالح المسلمين ، وهم يملكون الانتفاع .
ومنها أن يكون الوقوف مؤبدا غير منقطع ، فلو قال : وقفت كذا سنة لم يصح[١٠]، وللشافعي فيه قولان : أحدهما ما قلناه . والثاني أنه يصح ، فإذا مضت المدة صرف إلى الفقراء ويبدأ بقراباته لأنهم أو لي بصدقته. [١١]
وأما قبض الموقوف عليه أو من يقوم مقامه فشرط في اللزوم[١٢] وبه قال محمد بن الحسن ، خلافا للشافعي والباقين ، فإن عندهم ليس القبض من شرط لزومه. [١٣]
ويدل على صحة ما اعتبرناه من الشرط بعد إجماع الإمامية أنه لا خلاف في صحة الوقف ولزومه إذا تكاملت هذه الشروط وليس على صحته ولزومه إذا لم تتكامل دليل .
وإذا تكاملت هذه الشروط زال ملك الواقف ، ولم يجز الرجوع في الوقف له ، ولا تغييره عن وجوهه ولا سبيله إلا على وجه نذكره [١٤]، وعليه أكثر أصحاب الشافعي ، وخرج ابن سريج قولا آخر وهو أنه لا يزول ملكه ، لقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : حبس الأصل وسبل الثمرة ، وتحبيس الأصل يدل على بقاء الملك وليس ما ذكره بشئ لأن معنى التحبيس في الوقف هو أنها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث. [١٥]
في البداية قال أبو حنيفة : لا يزول ملك الواقف إلا أن يحكم به الحاكم . وقال أبو يوسف : يزول بمجرد القول . وقال محمد : لا يزول حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه ، وإذا صح الوقف على اختلافهم خرج من الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليهم. [١٦]
وفي الخلاصة إذا وقف على رجل شيئا ففي ملك الرقبة ثلاثة أقوال أحدها أنه للواقف بدليل اتباع شرطه والثاني أنه للموقوف عليه بدليل اختصاصه ، والثالث أنه لله .
لنا أنه لا خلاف في انقطاع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة ، وهذا هو معنى زوال الملك به ، وينتقل إلى الموقوف عليه ، لأنه يملك التصرف ، وقبض منافعه ، وهذا هو فائدة الملك .
وتعلق المخالف بالمنع من بيعه ، لا يدل على انتفاء الملك ، لأن الراهن ممنوع من بيع المرهون وإن كان مالكا ، والسيد ممنوع من بيع أم الولد - في حال عندنا ، وعندهم في كل حال - وهو مالك لها ، على أنه يجوز عندنا بيع الوقف للموقوف عليه ، إذا صار بحيث لا يجدي نفعا ، وخيف خرابه ، وكانت بأربابه حاجة شديدة دعتهم الضرورة إلى بيعه ، لأن غرض الواقف انتفاع الموقوف عليه ، فإذا لم تبق له منفعة إلا من الوجه الذي ذكرناه جاز .
ويتبع في الوقف ما شرطه الواقف من ترتيب الأعلى على الأدنى أو اشتراكهما ، أو تفضيل في المنافع ، أو مساواة فيها إلى غير ذلك بلا خلاف .
وإذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل فيهم أولاد البنات[١٧]، ويشتركون فيه مع أولاد البنين وبه قال الشافعي . وقال أصحاب أبي حنيفة : لا يدخل أولاد البنات فيه .
لنا إجماع المسلمين على أن عيسى ( عليه السلام ) من ولد آدم وهو ولد بنته ، وقوله ( عليه السلام ) : الحسن والحسين ابناي هما إمامان قاما أو قعدا ، وأبوهما خير منهما وقوله : لا تزرموا[١٨] ابني حين بال في حجره الحسين ، وهما ابنا بنته وأما استشهادهم بقول الشاعر : بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد، فإنه مخالف لقول النبي ( عليه السلام ) وإجماع الأمة ، والمعقول ، فوجب رده ، على أنه إنما أراد الشاعر بذلك الانتساب ، لأن أولاد البنت لا ينتسبون إلى أمهم وإنما وينتسبون إلى أبيهم وكلامنا في غير الأنساب. [١٩]

الوقف على النسل أو العترة


وإذا وقف على نسله أو على عقبه أو ذريته ، فهذا حكمه بدليل قوله تعالى : { ومن ذريته داود وسليمان } إلى قوله: { وعيسى وإلياس } [٢٠] فجعل عيسى من ذريته ، وهو ينسب إليه من جهة الأم .
وإن وقف على عترته فهم ذريته ، وقد نص على ذلك ثعلب وابن الأعرابي[٢١] من أهل اللغة ، وإذا وقف على عشيرته ، أو على قومه ، ولم يعينهم بصفة ، عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، وروي أنه إذا وقف على عشيرته ، كان ذلك على الخاص من قومه الذين هم أقرب الناس إليه في نسبه .
وإذا وقف على قومه ، كان ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث ، وإذا وقف على جيرانه ولم يسمهم ، كان ذلك على من يلي داره من جميع الجهات إلى أربعين ذراعا .
ومتى بطل رسم المصلحة التي وقف عليها ، أو انقرض أربابه جعل ذلك في وجوه البر ، وروي أنه يرجع إلى ورثة الواقف ، والأول أحوط [٢٢]، بالثاني قال أبو يوسف وبالأول قال الشافعي ، وقال الشيخ الطوسي في الخلاف : رجع إلى الواقف إن كان حيا وإلى ورثته إن كان ميتا ، قال : دليلنا أن عوده إلى البر بعد انقراض الموقوف عليه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه ، و الأصل بقاء الملك عليه أو على ولده. [٢٣]
وفي البداية : ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد ( رحمهما الله ) حتى يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا . وقال أبو يوسف : إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم. [٢٤]

المصادر

  1. الغنية 296 .
  2. الخلاف : 3 / 542 مسألة 8 .
  3. الغنية : 296 .
  4. الأسدية زوج أبي معقل ، ويقال أنها أشجعية . ويقال أنصارية روى حديثها أصحاب السنن الثلاثة . الإصابة : 8 / 309 رقم 12265 .
  5. الأسدي ويقال : الأنصاري . اسمه الهيثم بن نهيك بن أساف . يقال : أنه شهد أحدا وأنه مات في حجة الوداع يراجع ترجمته الإصابة : 7 / 377 رقم 10548 .
  6. الخلاف : 3 / 542 مسألة 6 و 7 والغنية : 296 .
  7. الغنية : 297 .
  8. الخلاف : 3 / 549 مسألة 18 .
  9. الهداية في شرح البداية : 3 / 19 .
  10. الغنية : 297 .
  11. الخلاف : 3 / 544 مسألة 11 .
  12. الغنية : 297 .
  13. الخلاف : 3 / 539 مسألة 2 .
  14. الغنية : 298 .
  15. الخلاف : 3 / 539 مسألة 3 .
  16. الهداية في شرح البداية : 3 / 21 .
  17. الغنية : 298 .
  18. لا تزرموا أي لا تقطعوا عليه بوله . يقال زرم الدمع والبول إذا انقطعا ( النهاية ) .
  19. الخلاف : 3 / 546 مسألة 15 .
  20. الأنعام : 84 - 85 .
  21. أبو عبد الله ، محمد بن زياد الكوفي ، كان أحد العالمين باللغة المشهورين بمعرفتها ، أخذ عن أبي معاوية الضرير ، والكسائي ، وأخذ عنه إبراهيم الحربي وثعلب ، وابن السكيت وغيرهم ولد في رجب سنة ( 150 ) وتوفي سنة ( 231 ) بسر من رأى . وفيات الأعيان : 4 / 306 رقم 633 .
  22. الغنية 299 .
  23. الخلاف : 3 / 543 مسألة 9 .
  24. الهداية في شرح البداية : 3 / 16 .