اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل

اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل: يعني اشتراک العالم والجاهل في الأحکام الشرعية ولا تختصّ بمن هو عالم بها. کوجوب الصلاة والصوم الذي يشترک فيهما العالم والجاهل.

تعريف اشتراک الأحکام

المراد باشتراك الأحكام هو كون أحكامه تعالى تعمُّ العالمين والجاهلين بها واقعا وعدم اختصاصها بمن بلغته أو علم بها، فالصلاة مثلاً واجبة على الجميع سواء في ذلك العالم والجاهل وعدم اختصاص وجوبها بالعالم بها. [١]

الأقوال في المسألة

وقع البحث بين علماء الأصول في أنّ أحكامه تعالى وما يجعله في عهدة المكلّفين، هل هي مشتركة وتعمُّ العالمين والجاهلين بها أم أنّها مختصّة بالعالمين بها ولا حكم واقعا في حقّ الجاهلين بها؟ في المسألة أقوال:

القول الأول: ثبوت اشتراک الأحکام بين العالم والجاهل

اُدعي إجماع الإمامية على أنّ أحكامه تعالى مشتركة بين العالمين والجاهلين بها مطلقا في الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية، وأنّه لا دخل للعلم والجهل في ثبوت الأحكام واقعا، غاية الأمر أن تنجّز تلك الأحكام موقوف على العلم بها؛ لأ نّه مع عدم العلم بشيء من أحكامه تعالى لا معنى لئن يكلفنا أو يعاقبنا على ما لا نعلم لقبح العقاب بلا بيان عقلاً، لكن هذا لايعني عدم ثبوت أحكامه تعالى واقعا وثبوت الجعل الشرعي في حقّنا سواء كنّا عالمين أو جاهلين بها. [٢] وقد دفع ما يتوهّم من التنافي بين أخذ العلم شرطا في التكليف فلاتكليف في حقّ الجاهل، وبين تعلّق التكليف بالجاهل وعدم معذوريته إلاّ في مواضع مخصوصة؛ بأنّ سقوط التكليف في صورة الجهل إنّما يكون في صورة فقدان العلم أساسا وعدم التمكن من تحصيله فإن التكليف والحال هذه من التكليف بما لايطاق، أمّا وجه تعلّق التكليف بالجاهل فهو باعتبار أ نّه مكلّف بالفحص عن الأحكام المجعولة في حقّه من قبل الشارع فهو يعلم بوجود تلك التكاليف بنحو الإجمال وعليه أن يخرج من حالة الإجمال إلى حالة التفصيل بتلك التكاليف الثابتة في حقّه والخروج من عهدتها. [٣] ويبدو أنّ هذا القول هو اختيار أكثر أهل السنّة أيضا، قال كلٌّ من ابن الهمام وأمير بادشاه: «والمختار عند المحقّقين من أهل الحقّ أنّ حكم الواقعة المجتهد فيها قبل الاجتهاد حكم معيّن أوجب اللّه‏ تعالى طلبه على من له أهلية الاجتهاد، فمن أصابه أي ذلك المعين فهو المصيب لإصابته إيّاه، ومن لايصيب فهو المخطئ لعدم إصابته إيّاه ونقل عن الأئمة الأربعة هذا المختار».[٤] وهو اختيار مصوبة المعتزلة أيضا، فقد ذهب جماعة من محقّقيهم إلى ما يطلق عليه: بـ«التصويب المعتزلي»، ومفاده أنّ أحكامه تعالى مشتركة بين العالم والجاهل واقعا، إلاّ أ نّه في مقام التنجيز عند قيام الدليل أو الأمارة على خلاف الحكم الواقعي تحدث مصلحة في متعلّق الدليل أو الأمارة توازي مصلحة الحكم الواقعي الذي لم يصبه المكلّف، ويكون الحكم الفعلي في حقّه هو ما أدّى إليه الدليل أو الأمارة. [٥] وهذا ما أشار إليه الغزالي بقوله: «ذهب قوم من المصوبة إلى أنّ فيه [ أي الواقع] حكما معينا يتوجّه إليه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب لكن لم يكلّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أ نّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه».[٦]

الدليل الأول علی ثبوت الاشتراک بين العالم والجاهل

واستدلّ لاشتراك الأحكام بعدّة وجوه: دعوى الإجماع والضرورة على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين بها. [٧]

الدليل الثاني علی ثبوت الاشتراک بين العالم والجاهل

الأخبار والتي اُدّعي تواترها على أنّ أحكامه تعالى تعمّ العالمين والجاهلين بها. [٨]. وهذه الأخبار وإن لم تدل على الاشتراك صراحة، لكنها تدلّ عليه بالإيحاء، من قبيل الأخبار التي تدلّ على أنّ لكلّ واقعة حكما أنزله اللّه‏ تعالى في كتابه أوبيَّنه في سنة نبيّه، كقوله عليه‏السلام: «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنة»[٩]، وقوله عليه‏السلام: «ما خلق اللّه‏ حلالاً ولا حراما إلاّ وله حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة»[١٠]، وقوله عليه‏السلام: «بل كلّ شيء في كتاب اللّه‏ وسنة نبيه»[١١]، وقوله عليه‏السلام: «وما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه‏ عزّ وجلّ، ولكن لاتبلغه عقول الرجال»[١٢]. وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ للّه‏ أحكاما في واقع الأمر جعلها في عهدة المكلّفين سواء علموا بها وأصابوها أم لم يعلموا بها ولم يصيبوها.

الدليل الثالث علی ثبوت الاشتراک بين العالم والجاهل

إنّ القول باختصاص الأحكام بالعالمين بها معناه أنّ العلم مأخوذ قيدا فيها وهو محال؛ بيان ذلك: أنّ الحكم لايتّصف بكونه حكما إلاّ إذا علم به المكلّف؛ لأ نّه مأخوذ قيدا فيه، وما لم يوجد القيد وهو العلم به لايتّصف بكونه حكما، فقبل العلم لا حكم أصلاً حتّى يعلم به المكلّف، والذي يجب أن يعلم به المكلّف هو ما يتّصف بكونه معلوما وهو خلف، وإذا استحال تقييد الأحكام بالعالمين بها لزم من ذلك إطلاقها وشمولها للجاهلين بها. [١٣] واُشكل على هذا الوجه أ نّه إذا استحال التقييد بالعالمين استحال الإطلاق أيضا؛ لأن التقابل بينهما من قبيل التقابل بين العدم والملكة، فالإطلاق لايكون في مورد إلاّ إذا أمكن فيه التقييد، فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا فلا يمكن استفادة التعميم ببيان استحالة التقييد في المقام. [١٤] ورجّح الشيخ المظفر في المقام أن يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل السلب والإيجاب، وإذا ثبت امتناع التقييد ثبت الإطلاق بالضرورة، فإذا ثبت امتناع تقييد الأحكام بالعالمين بها ثبت إطلاقها للجاهلين بها؛ لأ نّه إذا امتنع السلب ثبت الإيجاب بالضرورة. [١٥]

الدليل الرابع علی ثبوت الاشتراک بين العالم والجاهل

ما ذكره المحقق النائيني من أنّ استفادة الاشتراك بين العالمين والجاهلين في الأحكام الشرعية إنّما تكون بواسطة متمم الجعل الذي ينتج نتيجة الإطلاق بعد استحالة نفس الإطلاق لاستحالة التقييد فيها وكون التقابل بينهما من قبيل التقابل بين الملكة والعدم، فلابدّ من استفادة الإطلاق وشمول الأحكام للعالمين والجاهلين بها من دليل آخر غير أدلّة نفس الأحكام، وهذا الدليل هو الإجماع أو الضرورة أو الروايات المتقدّمة الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين بها. [١٦]

القول الثاني

ما ذهب إليه إليه بعض المصوّبة كـ الأشعري والقاضي و الغزالي إلى «أنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ، وحكم اللّه‏ على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه»[١٧]. فلا يوجد للّه‏ حكم في الواقع، بل الحكم ما توصّلت إليه استنباطات المجتهدين وإن كانت متناقضة في نفسها، فيجعل اللّه‏ تعالى حكمه على ضوء ما توصّل إليه كلّ مجتهد بظنّه واستنباطاته ولايوجد حكم في الواقع يقاس عليه الأمر بالإصابة وعدم الإصابة، بل المجتهد دائما مصيب؛ لأنّ حكم اللّه‏ تعالى في حقّهما ما غلب عليه ظنّه، وإذا لم يكن للّه‏ تعالى حكم في الواقع، لا معنى لاشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين بها عندهم.

القول الثالث

ما ذهب إليه الأخباريون من التفصيل بين الأحكام الكلّية وبين الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية، فذهبوا إلى الاشتراك في الأحكام الكلية وإلى اختصاص الأحكام بالعالمين بها في الأحكام الجزئية، بحيث إنَّ واقع تلك الأحكام لاتثبت إلاّ في صورة العلم بها ولاتثبت في حالة الجهل. [١٨] قال المحقّق البحراني: «إنّ الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة أمرا منوطا بالواقع ونفس الأمر وإنّما رتَّبها على الظاهر في نظر المكلّف، فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر، أي ما لايعلم بملاقاة النجاسة له وإن لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة، ولا نقول: إنّه طاهر ظاهرا نجس واقعا، فإنّ النجس هو ما علم المكلّف بملاقاة النجاسة له لا ما لاقته النجاسة مطلقا».[١٩] وقال المحدّث الجزائري: «الذي يظهر من أخبار الأئمة الهادين عليهم‏السلام التسامح في أمر الطهارات، وأنّ الطاهر والنجس هو ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته لا ما باشرته النجاسة والطهارة، فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر، بل هو ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس».[٢٠]

آثار الاشتراك في الأحكام

من آثار الاشتراك وشمول الأحكام للعالمين والجاهلين بها، استحقاق الجاهل المقصّر للعقاب، باعتبار أنّ الحكم ثابت في حقّه وجهله تقصيرا لايمنع من ثبوت العقاب في حقّه. ومن آثاره أيضا: «إنّه يجب على كلّ مكلّف تعلّم ما يجب عليه ويحرم عليه من الأحكام المتعلّقة بالعبادات والمعاملات بشرط التمكُّن، فلو لم يتمكَّن كالمستضعف وأمثاله ممَّن يستحيل عادة أن يفهمها ومع ذلك بذل مجهوده فهو معذور، وكذا الحكم في من لم يتمكَّن من الوصول إلى العلماء، ولو تمكَّن من أخذ بعضها يجب عليه أخذه دون البعض الآخر»[٢١]؛ لأنّ الأحكام ثابتة في حقّ الجاهل أيضا فهي فعلية في حقّه بمقدار وجوب الفحص عنها وعدم جواز الاعتذار عن ذلك بالجهل بها أو عدم وصولها إليه.

وجوه تقييد بعض الأحكام بالعلم بها

هناك بعض الأحكام الشرعية ذكر الفقهاء أ نّها مختصّة بالعالمين بها من قبيل الجهر والإخفات و القصر والتمام، ممّا يعني أنّ واقع هذه الأحكام لاتشمل غير العالمين بها، فكيف يتلاءم هذا مع القول باستحالة تقييد الأحكام بالعالمين بها؟ وقد ذكر في توجيه ذلك بيانان:

الوجه الأول

استفادة التقييد بواسطة متمّم الجعل؛ لأنّه لما كان تقييد الأحكام بالعالمين بها مستحيلاً، لابدّ من استفادة التقييد من دليل آخر غير نفس تلك الأدلّة الدالّة على وجوب الجهر والإخفات والقصر والتمام، فتقييد تلك الأحكام بصورة العلم بها يأخذ العلم فيها شرطا في ثبوت الحكم واقعا. [٢٢]

الوجه الثاني

ما ذكره الشيخ المظفر من الالتزام باشتراك وعموم الأحكام المذكورة حتّى للجاهلين بها واقعا، فتكون ثابتة في حقّهم أيضا كالعالمين بها، غاية الأمر أنّ الشارع أسقط تبعة تلك الأحكام عن الجاهلين بها، واستدلّ لذلك برواية وردت عن أبي جعفر عليه‏السلام تخصّ المقام عبّر فيها الإمام بسقوط الإعادة فيمن صلى في السفر أربعا حيث قال: «إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة»[٢٣]، فظاهر الرواية أنّ الحكم المذكور شامل للجاهل، غاية الأمر أنّ الشارع أسقط عنه تبعة هذا الحكم إرفاقا ومنّة عليه. [٢٤] ثُمّ إنّه هناك معنى آخر لاشتراك الأحكام، وهو اشتراك الأحكام بين المسلم والكافر، والرجل والمرأة، و المشافهين بالخطاب وغير المشافهين به، والموجودين حال الخطاب والمعدومين أثناءه، وقد وقع البحث في أنّ الكافر أو المرأة أو غير المشافهين بالخطاب أو المعدومين حال الخطاب هل يشملهم الخطاب الثابت في حقّ المسلم والرجل والمشافهين به والموجودين حاله أم لا؟

المصادر

  1. أنظر: أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 34 ـ 35.
  2. أنظر: فوائد الأصول 3: 12، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 34 ـ 35.
  3. أنيس المجتهدين 1: 179.
  4. تيسير التحرير 4: 202.
  5. أنظر: فوائد الأصول 1 ـ 2: 253، مصباح الأصول 1ق1: 382.
  6. المستصفى 2: 213.
  7. أنظر: فوائد الأصول 3: 12، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 34.
  8. أنظر: أنيس المجتهدين 2: 952، الفصول الغروية: 306 ـ 307، فرائد الأصول 1: 113، فوائد الأصول 3: 12.
  9. الكافي 1: 59 كتاب فضل العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة ح4.
  10. المصدر السابق ح3.
  11. المصدر نفسه: 62 كتاب فضل العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة ح 10 .
  12. المصدر نفسه: 60 كتاب فضل العلم، باب الرد إلى الكتاب والسنة ح 6.
  13. أنظر : أصول الفقه المظفر 3 ـ 4 : 36، دروس في علم الأصول 1 : 333.
  14. أنظر: أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 37.
  15. أصول الفقه 3 ـ 4: 38.
  16. فوائد الأصول 3: 12.
  17. المستصفى 2: 213.
  18. أنظر: محاضرات في أصول الفقه 2: 286.
  19. الدرر النجفية 1: 151.
  20. الدرر النجفية 1: 152 نقلاً عنه.
  21. أنيس المجتهدين 1: 180.
  22. فوائد الأصول 3: 12 ـ 13.
  23. من لايحضره الفقيه 1: 279 كتاب الصلاة، باب 59 الصلاة في السفر ح1266.
  24. أصول الفقه 3 ـ 4: 39 ـ 40.