الفرق بين المراجعتين لصفحة: «اجتماع الأمر والنهي»

لا يوجد ملخص تحرير
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
سطر ٤١: سطر ٤١:
===الثاني: الاجتماع الحقيقي===
===الثاني: الاجتماع الحقيقي===
وهو اجتماع عنوانين في فعل واحد، أحدهما متعلّق الأمر والآخر متعلق النهي، مثل الصلاة في المكان المغصوب، فاجتمع الغصب والصلاة في فعل واحد. وهو محلّ النزاع في  مسألتنا.
وهو اجتماع عنوانين في فعل واحد، أحدهما متعلّق الأمر والآخر متعلق النهي، مثل الصلاة في المكان المغصوب، فاجتمع الغصب والصلاة في فعل واحد. وهو محلّ النزاع في  مسألتنا.
والمراد بالجواز هو الإمكان العقلي لا الجواز المقابل للقبح. <ref></ref> .
والمراد بالجواز هو الإمكان العقلي لا الجواز المقابل للقبح. <ref> غاية المسؤول في علم الأصول : 295.</ref>


==اشتراط قيد المندوحة==
==اشتراط قيد المندوحة==
معنى المندوحة السعة، وقد وقع البحث في أخذ [[قيد المندوحة]] في محلّ النزاع وعدمه، فهل يشترط في جريان النزاع كون المكلّف قادرا على امتثال الأمر خارج المكان المغصوب، أم أنّ النزاع يعمّ حتى مورد عدم تمكن المكلّف من امتثال الأمر خارجا؟
معنى المندوحة السعة، وقد وقع البحث في أخذ [[قيد المندوحة]] في محلّ النزاع وعدمه، فهل يشترط في جريان النزاع كون المكلّف قادرا على امتثال الأمر خارج المكان المغصوب، أم أنّ النزاع يعمّ حتى مورد عدم تمكن المكلّف من امتثال الأمر خارجا؟
فذهب إلى اشتراط قيد المندوحة كلٌّ من الأصفهاني<ref></ref> والحائري<ref></ref> والمظفر<ref></ref> ، وعليه تحمل كلمات القدماء وتعبيرهم بكون (الاتحاد باختيار المكلّف) <ref></ref> ، أو عبارة: «إنّما جاء الاتحاد من جهة اختيار المكلّف»<ref></ref> ؛ لأ نّه مع عدم وجود المندوحة والسعة لايكون التكليف فعليّا في حق المكلّف، ويلزم منه التكليف بغير المقدور؛ لعدم إمكان امتثال كلٍّ من الأمر والنهيّ معا، وفي مثله يجري عليه أحكام التزاحم. <ref></ref> .
فذهب إلى اشتراط قيد المندوحة كلٌّ من الأصفهاني<ref>الفصول الغروية : 124.</ref> والحائري<ref> درر الفوائد 1 ـ 2 : 148.</ref> والمظفر<ref>أصول الفقه 1 ـ 2 : 383 ـ 384.</ref>، وعليه تحمل كلمات القدماء وتعبيرهم بكون (الاتحاد باختيار المكلّف) <ref> انظر : شرح مختصر المنتهى 2 : 212، تيسير التحرير 2 : 222.</ref>، أو عبارة: «إنّما جاء الاتحاد من جهة اختيار المكلّف»<ref> البحر المحيط 1 : 268.</ref>؛ لأ نّه مع عدم وجود المندوحة والسعة لايكون التكليف فعليّا في حق المكلّف، ويلزم منه التكليف بغير المقدور؛ لعدم إمكان امتثال كلٍّ من الأمر والنهيّ معا، وفي مثله يجري عليه أحكام التزاحم. <ref> أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 384.</ref>
بينما ذهب كلّ من الشهرستاني<ref></ref> والآخوند الخراساني<ref></ref> والنائيني<ref></ref> والخميني<ref></ref> والخوئي<ref></ref> إلى عدم اشتراط قيد المندوحة، باعتبار أنّ قيد المندوحة إنّما يتعلّق بعالم الامتثال وقدرة المكلّف على الإتيان بكلا التكليفين، بينما البحث في مسألة «اجتماع الأمر والنهي وعدمه» في عالم المبادئ، وبقطع النظر عن عالم الامتثال، والبحث في إمكان أن يتعلّق الأمر والنهي بشيء واحد مع تعدّد الجهة والعنوان، ولا علاقة لهذا بقيد المندوحة. <ref></ref> .
بينما ذهب كلّ من الشهرستاني<ref>غاية المسؤول في علم الأصول : 297.</ref> والآخوند الخراساني<ref>كفاية الأصول : 153.</ref> والنائيني<ref>أجود التقريرات 2 : 127.</ref> والخميني<ref> مناهج الوصول 2 : 113 ـ 114.</ref> والخوئي<ref> مصباح الأصول 1 ق2: 172.</ref> إلى عدم اشتراط قيد المندوحة، باعتبار أنّ قيد المندوحة إنّما يتعلّق بعالم الامتثال وقدرة المكلّف على الإتيان بكلا التكليفين، بينما البحث في مسألة «اجتماع الأمر والنهي وعدمه» في عالم المبادئ، وبقطع النظر عن عالم الامتثال، والبحث في إمكان أن يتعلّق الأمر والنهي بشيء واحد مع تعدّد الجهة والعنوان، ولا علاقة لهذا بقيد المندوحة. <ref> كفاية الأصول : 153، وانظر : منتهى الدراية 3 : 121 ـ 122.</ref>
 
==الأقوال فی مسألة اجتماع الأمر والنهي==
لا خلاف بين أكثر الأصوليين في تضاد الأحكام وتمانعها، وعدم جواز اجتماعها في شيء واحد، فلا يجوز أن يكون شيء واحد موردا للأمر والنهي  معا ، ولا يجوز أن يكون واجبا وحراما في آنٍ  واحد. <ref></ref> .
وعلى هذا الأساس، وقع البحث فيما إذا اختلف متعلقا الأمر والنهي بالعنوان وأمكن انفكاك جهتيهما، فهل أنّ ذلك يوجب دفع محذور التضاد ، أم أنّ ذلك لا يدفعه؟
 
===المقام الاول من البحث: فرض وجود المندوحة===
ويفرض البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي في مقامين:
المقام الأول: فرض وجود المندوحة والسعة، فلو قدّر أنّ المكلّف كان قادرا على امتثال الأمر بالصلاة في المكان المباح، لكنه لم يعمل بذلك وأتى بالصلاة في المكان المغصوب، فقد وقع البحث في هذا الفرض في جواز اجتماع الأمر والنهي ، وذكرت له  أقوال:
 
====القول الأول: جواز الاجتماع====
وهو مذهب الأكثر عند أهل السنّة، كالجويني<ref></ref> ، والسرخسي<ref></ref> ، وأبي المظفر السمعاني<ref></ref> ، والغزالي<ref></ref> ، والأسمندي<ref></ref> ، والآمدي<ref></ref> ، وابن الحاجب<ref></ref> ، والنسفي<ref></ref> ، والطوفي<ref></ref> ، وعلاء الدين البخاري<ref></ref> ، والعضدي<ref></ref> ، والشاطبي<ref></ref> ، وابن عبدالشكور. <ref></ref> .
وهو اختيار جماعة من الإمامية، كالميرزا القمي<ref></ref> ، وصدر الدين<ref></ref> ، والنائيني<ref></ref> ، والبروجردي<ref></ref> ، والمظفر<ref></ref>  ، و الخميني<ref></ref>  ، و نسب الى جماعة آخرين. <ref></ref> .
 
====الدلیل علی جواز الإجتماع====
واستدلّ له بعدّة أدلة:
'''الدليل الأول:''' أنّ تعدّد العنوان والجهة كافٍ في تعدّد الحكم وجواز الاجتماع، فإنّ الفعل بعنوان أ نّه صلاة مأمور به وبعنوان أ نّه غصب منهيّ عنه، كالحكم على زيد مثلاً بكونه مذموما لفسقه وممدوحا لكرمه. <ref></ref> .
وقد صاغ المظفّر هذا الدليل بوجهين: <ref></ref> :
الوجه الأول: أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف، ولا يسري الحكم إلى المعنون فيكون تعدّد العنوان كافٍ في جواز الاجتماع، ولا يوجد محذور اجتماع الحكمين في شيء واحد؛ لأنّ المدار على العنوان وهو متعدّد.
الوجه الثاني: أنّ العنوان وإن لم يكن بنفسه هو متعلّق التكليف بل متعلّقه هو المعنون، إلاّ أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، فيكون متعلّق الحكم متعدّدا بتبع تعدّد العنوان، فيكون هناك فعلان لا فعل واحد، كما في النظر إلى الأجنبية أثناء الصلاة.
'''الدليل الثاني:''' حكم العرف بحصول الإطاعة والعصيان فيما إذا قال المولى لعبده: (خط لي ثوبا، ولا تجلس في المكان المعيّن) فلو خالف النهي وامتثل الأمر في المكان المنهيّ عنه يكون ممتثلاً للأمر وإن كان عاصيا للنهي. <ref></ref> .
'''الدليل الثالث:''' أنّ وقوع اجتماع الأمر والنهي في أحكام الشارع دليل على جوازه؛ لأ نّه لو لم يكن جائزا لما وقع، واجتماع الأمر والنهي كثير في أحكام  الشارع، كالعبادات المكروهة مثل كراهة صوم  يوم عاشوراء، والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات، وغيرها، فإنّ التضاد في أحكام الشارع لايختص بالوجوب والحرمة، بل يشمل جميع أحكامه حتى الاستحباب والكراهة. <ref></ref> .
 
====القول الثاني: عدم جواز الاجتماع====
وهو مختار أكثر الإمامية، كالعلاّمة الحلّي<ref></ref> ، وجمال الدين العاملي<ref></ref> ، والفاضل التوني<ref></ref> ، والبهبهاني<ref></ref> ، والنراقي<ref></ref> ، والأصفهاني<ref></ref> ، والأنصاري<ref></ref> ، والآخوند الخراساني<ref></ref> ، وهو مختار جمهور المعتزلة<ref></ref> ، والرازي من أهل السنّة<ref></ref> ، وأحمد بن يحيى المرتضى من الزيدية. <ref></ref> .
 
====الدلیل علی عدم جواز الإجتماع====
واستدلّ له بعدّة أدلّة:
'''الدليل الأول:''' أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد معناه أ نّه مأمور به ويراد تحقيقه، ومنهيٌّ عنه ويراد تركه، وهو ممتنع لا يصح إلاّ على القول بتكليف ما لا يطاق، وتعدّد الوجه والعنوان لا يكفي في الجواز ما دام أنّ المتعلّق فيهما واحد، فيكون من اجتماع المتنافيين في شيء واحد. <ref></ref> .
'''الدليل الثاني:''' تعلّق الأمر والنهي بفعل المكلّف وهما متلازمان، لأنّ الواجب متوقّف على الحرام وهو التصرّف في أرض الغير، ومقدمة الواجب واجبة فيكون الحرام واجبا من باب المقدّمية، فاتّصف بالوجوب والحرمة في آنٍ واحد، وهو تكليف بالمحال. <ref></ref> .
 
====القول الثالث: التفصيل بين العقل والعرف====
ومفاد هذا القول هو جواز الاجتماع عقلاً وعدم جوازه عرفاً، حيث انّه عقلاً لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في محلٍّ واحد، ما دام أنّ الأمر متعلّق بطبيعة والنهيّ متعلّق بطبيعة أخرى وإن اتّحدا خارجا، غاية الأمر أنّ العرف يراهما شيئا واحداً. <ref></ref> .
وينسب هذا القول إلى جماعة<ref></ref> ، وإليه أشار الأردبيلي بقوله: «لأ نّه لم يأتِ بالمأمور عرفا... نعم العقل يجوّز الصحة لو صرّح...» <ref></ref> ، وذكره الميرزا القمي. <ref></ref> .
 
====القول الرابع: التفصيل بين الأوامر النفسية والأوامر الغيرية====
مفاد هذا القول هو التفصيل بين الأوامر النفسية فلا يجوز الاجتماع فيها، وبين الأوامر الغيرية فيجوز فيها  الاجتماع.
وهذا القول ذكره النائيني ولم ينسبه إلى أحد.<ref></ref> .
 
====القول الخامس: التفصيل بين عدّة أمور====
إنّ العنوانين المجتمعين على شيء واحد يمكن أن يكونا على عدّة أنحاء:<ref></ref>
'''النحو الأول:''' أن يكونا من الماهيات المتأصّلة، مثل الحلاوة والبياض، ومثل العلم والعدالة، فإنّ اجتماعهما في شيء واحد يوجب كون التركيب بينهما انضماميّا لا اتّحاديا، وفي مثله تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي.
'''النحو الثاني:''' أن يكونا من الماهيات المنتزعة، فلو اجتمع أمران منتزعان من شيئين مجتمعين في شيء واحد، مثل الإفطار في نهار شهر رمضان في مكان مغصوب، فإنّ كلاًّ من الإفطار والغصب منتزع من ماهية ومقولة تختلف عن الأخرى، فتعدّد العنوان في مثله يوجب تعدّد المعنون، فيجوز الاجتماع.
نعم، إذا كانا منتزعين من شيء واحد باعتبارين، فهنا تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، مثل الإفطار في نهار شهر رمضان بطعام مغصوب، فإنّ الأكل ماهية واحدة انتزع منها الإفطار تارةً والغصب أخرى، فهنا تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ لأ نّه ماهية واحدة، فلا يجوز اجتماع الأمر والنهي في  مثله.
'''النحو الثالث:''' أن يكونا مختلفين، بأن يكون أحدهما من الأمور المتأصّلة، والآخر من الأمور الانتزاعية.
وهذا يمكن أن يتصور بصورتين:
الصورة الأولى: ما إذا كان الأمر الانتزاعي منتزعا من نفس الأمر المتأصّل، مثل شرب ماء الغير بغير إذنه، فانّ الشرب شيء متأصّل والغصب عنوان منتزع منه، فهنا تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ لأ نّه ماهية واحدة، وفي مثله لا يجوز الاجتماع.
الصورة الثانية: ما إذا كان الأمر الانتزاعي منتزعا من شيء آخر غير الأمر المتأصّل، كالتكلّم في الدار المغصوبة، فإنّه منتزع من ماهية تختلف عن ماهية الغصب، وتعدّد العنوان مع اختلاف الماهية يوجب تعدّد المعنون، فيجوز اجتماع الأمر والنهي في مثله.
 
==ثمرة المسألة==
ذكرت عدّة ثمرات للبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي:
 
===الثمرة الاُولى===
صحة الصلاة في المكان المغصوب وعدمها؛ إذ يظهر من المتقدّمين بناء الثمرة على القول بالجواز وعدمه، فكلّ من يقول بجواز الاجتماع يقول بصحة 
الصلاة، وكلّ من يقول بالامتناع يقول بالبطلان، حتى أنّ أدلتهم التي استدلّ بها لصحة الصلاة كانت تحوم حول جواز الاجتماع، وأدلة من يقول بالبطلان كانت تحوم حول عدم جواز الاجتماع، ونجدهم في بعض الأحيان يستفتحون مسألة جواز الاجتماع وعدمه بالكلام عن صحة الصلاة وعدمها، ويفرّعون عليها القول بجواز الاجتماع وعدمه. <ref></ref> .
نعم، ذهب كلُّ من القاضي أبي بكر<ref></ref>  والرازي<ref></ref>  إلى أنّ الصلاة في المكان المغصوب يسقط الفرض عندها لا بها، مع قولهم بعدم جواز الاجتماع؛ للإجماع المنعقد على عدم وجوب إعادة الصلاة في المكان المغصوب مع عدم وقوعها على صفة الأمر، وطريق الجمع بينهما هو الحكم بسقوط الفرض عندها لا بها؛ لأ نّها غير مأمور بها.
ومع ذلك استدلّ القائلون بالصحة بعدّة أدلّة:
الأول: أنّ الإجماع منعقد على صحة الصلاة في المكان المغصوب، وهنا الإجماع مستفاد من إقرار الفقهاء للظلمة وعدم الإنكار عليهم، وعدم أمرهم بإعادة صلواتهم التى صلّوها في مكان مغصوب، مع كثرة تلك الموارد. <ref></ref> .
الثاني: أنّ إطلاقات أدلّة الصلاة شاملة لكلّ صلاة، حتى التى تقع في مكان مغصوب. <ref></ref> .
وقد انفرد الطوفي بذكر أدلة أخرى لتصحيح الصلاة في الأرض المغصوبة. <ref></ref> .
وأمّا القائلون بالفساد فقد استدلّوا بعدّة أدلّة:
الأول: اشتراط نيّة القربة في العبادة، ومع كونها غصبا ومنهيّا عنها لا يمكن التقرّب بها، فلا تقع صحيحة. <ref></ref> .
الثاني: أنّ شغل الحيّز داخل في مفهوم الصلاة وهو حرام، فتكون الصلاة مشتملة على جزء حرام، فلا تتصف بالوجوب، فلا تقع صحيحة. <ref></ref> .
الثالث: أنّ الصلاة في المكان المغصوب لو كانت صحيحة لصح صوم عيد الأضحى؛ لإمكان تعدّد الجهة فيه، وهو باطل باتفاق الكلّ، فتكون الصلاة باطلة أيضا. <ref></ref> .
وأمّا المتأخرون من الأصوليين، فإنّهم ذكروا للمسألة تفصيلات عدّة، ولم يبنوا المسألة على مطلق الجواز أو الامتناع، ولذلك ذكروا لها عدّة فروض:
الفرض الاول: بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي، سوف تقع الصلاة فاسدة مع العلم بالحرمة؛ لأ نّه لا أمر بالصلاة أصلاً حتى يقال بالصحة، وليس في المأتي به ما يصلح للتقرّب به مع تقديم جانب النهي وفعليّته. <ref></ref> .
ويلحق بهذا الفرض الجهل بالحرمة تقصيرا.
الفرض الثاني: بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي أيضا، لكن مع الجهل بالحرمة قصورا لا تقصيرا أو عن نسيان، فبالإمكان تصحيح العبادة إذا أُتي بها على وجه القربة، ولعلّ الوجه في صحتها هو اشتمالها على الملاك والمصلحة الذاتية ممّا يمكن التقرّب بها وإن لم يكن الأمر فعليّا. <ref></ref> .
وذهب جماعة إلى البطلان حتى في هذا الفرض<ref></ref> ؛ باعتبار أنّ دليل الأمر ودليل النهي يصبحان كالمتعارضين، فإذا قدّم جانب النهي معناه عدم وجود الأمر أصلاً ؛  للتكاذب بين المتعارضين، وإذا لم يوجد الامر في نفسه فلا معنى لوجود المصلحة الذاتية له حتى يصح التقرّب به. <ref></ref> .
الفرض الثالث: بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الأمر، فإنّ العبادة سوف تقع صحيحة؛ لأ نّه مع تقديم جانب الأمر لا نهي أصلاً حتى يمنع من صحتها. <ref></ref> .
الفرض الرابع: بناءً على جواز الاجتماع فإنّه لا كلام في صحة العبادة؛ لأ نّها بعنوان كونها عبادة عنوان للمأمور به، فتكون صحيحة ومجزئة. <ref></ref> .
 
===الثمرة الثانية===
ذكر أنّ من ثمرات البحث في اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، أنه بناءً على الامتناع يعامل الدليلان معاملة المتعارضين، وتجري عليهما أحكام باب التعارض، وبناءً على الجواز يتعامل مع الدليلين معاملة المتزاحمين إذا لم يكن للمكلّف مندوحة وسعة، وتجري عليهما أحكام باب التزاحم. <ref></ref> .
 
===المقام الثاني: فرض عدم وجود المندوحة===
ويقع البحث في هذا المقام، فيما إذا لم يكن للمكلّف سعة من الغصب وعدم إمكان التخلّص منه، أمّا أصوليو أهل السنّة فلم يتطرقوا في هذا المقام إلاّ إلى مقدار حكم الخروج من الأرض المغصوبة. ولكن فصّل الشيعة الإمامية البحث إلى نحوين:
 
====النحو الأول: الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار====
فإذا ابتلي المكلّف بالغصب وهو غير مختار فيه، كالمحبوس في مكان مغصوب، فهنا ذهبوا إلى صحة الصلاة وسقوط قيد لزوم إيقاعها في المكان المباح، وهذا لا فرق فيه بين جواز الاجتماع وعدمه. <ref></ref> . والسرّ في ذلك هو إجراء أحكام باب التزاحم في المقام؛ لأ نّه مع فرض عدم المندوحة لا يتمكّن المكلّف من امتثال الخطابين معا، فيقدّم الملاك الأقوى ويكون فعليّا، مع سقوط الملاك الآخر عن الفعلية، وبما أنّ الصلاة لا تترك بحال يقدّم ملاك الأمر على ملاك النهي. <ref></ref> .
 
====النحو الثاني: الاضطرار إلى الغصب بسوء الاختيار====
كمن توسط أرض الغير بغير إذنه وهو مختار في ذلك. فهنا يقع البحث في عدّة جهات:
'''الجهة الأولى:''' في الحكم التكليفي من ناحية وجوب الخروج أو عدمه.
وفي حكم الخروج ذكرت عدّة أقوال:
القول الأول: أنّ الخروج واجب فقط، ولايوصف بغير الوجوب. وهو اختيار الغزالي<ref></ref> ، وأبي الثناء الأصفهاني<ref></ref> ، 
والعضدي<ref></ref> ، وابن الهمام<ref></ref> ، ونسب إلى الحنابلة والشافعية<ref></ref> ، وهو اختيار جماعة من الإمامية كالأنصاري<ref></ref>  والنائيني. <ref></ref> .
ودليل هذا القول هو أنّ الخروج مأمور به لأجل التخلّص من الغصب فيكون واجبا، ومع اتّصافه بالوجوب لايمكن اتّصافه بالحرمة.
القول الثاني: أنّ الخروج واجب وحرام معا. وهو ما ينسب إلى أبي هاشم<ref></ref> ، واختاره الميرزا القمي ناسبا إيّاه إلى الأكثر من متأخري الإمامية. <ref></ref> .
وقد استدلّ الميرزا القمي لهذا القول بوجود الإطلاق في كلٍّ من الأمر والنهي، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاق كلٍّ منهما، والمانع المتصور هو إمّا اجتماع الضدين أو التكليف بما لايطاق، وكلٌّ منهما لايصلح أن يكون مانعا؛ أمّا اجتماع الضدين فلتعدّد العنوان وانفكاك الجهة، وأمّا التكليف بما لا يطاق فلأنّ المكلّف هو السبب في ذلك، والامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار. <ref></ref> .
القول الثالث: أنّ الخروج مأمور به ويجري عليه حكم المعصية للنهي السابق. وهو اختيار الجويني<ref></ref>  والرازي<ref></ref>  والأصفهاني. <ref></ref> .
ودليل هذا القول هو أنّ الخروج مأمور به عقلاً وشرعا، والنهي وإن سقط بالاضطرار إلى الغصب إلاّ أنّ حكم المعصية ثابت في حقه؛ لأ نّه هو الذي تسبب في ارتكاب الغصب.
القول الرابع: أنّ الخروج غير مأمور به ولا منهيّ عنه فعلاً، مع حكم العقل بلزوم الخروج وثبوت حكم المعصية في حقه. وهو اختيار الآخوند الخراساني<ref></ref>  والحائري<ref></ref>  والخوئي. <ref></ref> .
ويستند هذا القول إلى دعويين: <ref></ref> :
الأولى: أنّ الخروج غير منهيّ عنه فعلاً، بل بالنهي السابق.
الثانية: أنّ الخروج غير مأمور به.
ومستند الدعوى الأولى هو أنّ الاضطرار يوجب سقوط الخطاب، فلا يكون منهيّا عنه فعلاً، لكنه لا يوجب سقوط العقاب، فالذي يضطر إلى ارتكاب الحرام بسوء اختياره يحكم العقل عليه بثبوت العقاب.
ومستند الدعوى الثانية هو بطلان ما يدّعى من تصوير كون الخروج مقدمة للخلاص من الحرام، ومقدمة الواجب واجبة، فيكون الخروج مأمور به،  لكن هذا التصوير لا مجال له؛ بسبب أنّ الاضطرار  الناشئ من سوء الاختيار لايرفع مبغوضية الفعل وهو الخروج، ومثله لايصلح للمقدّمية والمحبوبية.
نعم، الخروج واجب عقلاً من باب دفع الأفسد بالفاسد وارتكاب أخفّ المحذورين. <ref></ref> .
القول الخامس: أنّ الخروج منهيّ عنه فعلاً لا غير.
وهو اختيار العلاّمة الحلّي<ref></ref>  والمظفر. <ref></ref> .
'''الجهة الثانية:''' في الحكم الوضعي بالنسبة إلى صحة الصلاة وعدمها أثناء الخروج.
لم يتطرّق أهل السنّة إلى بحث هذه الجهة؛ لأنّ الأكثر منهم ذهب إلى جواز الاجتماع، وبالتالي فالصلاة صحيحة على كلّ حال، أمّا الشيعة الإمامية الذين اختلفوا في جواز الاجتماع وعدمه، فقد وقع البحث عندهم في هذه الجهة في عدّة فروض:
الفرض الأول: ما إذا كان المكلّف متمكنا من الإتيان بالصلاة تامة الأجزاء والشرائط من الركوع والسجود والطمأنينة، أي الصلاة الاختيارية خارج الأرض المغصوبة، فهنا لا مجال للكلام عن حكم الصلاة حال الخروج؛ لأ نّها حينئذٍ سوف تكون فاقدة للركوع والسجود والطمأنينة، فتكون باطلة من جهة أ نّه مع إمكان الصلاة الاختيارية لايجوز الانتقال إلى الصلاة الاضطرارية بالإيماء إلى الركوع والسجود أثناء الخروج. <ref></ref> .
الفرض الثاني: ما إذا لم يكن المكلّف متمكنا من الصلاة تامة الأجزاء والشرائط خارج الأرض المغصوبة لأي سبب كان، ففي هذا الفرض يقع الكلام في عدّة صور:
الصورة الأولى: إذا بني على أنّ الخروج لا يكون إلاّ مبغوضا وحراما للنهي السابق، فإن قيل بجواز  اجتماع الأمر والنهي تكون الصلاة صحيحة ، وإن قيل بعدم جواز الاجتماع سوف تكون الصلاة باطلة. <ref></ref> .
والكلام في هذه الصورة فيما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا عن الغصب، وإلاّ سوف تقع باطلة على كلّ حال. <ref></ref> .
الصورة الثانية: إذا بني على أنّ الخروج يكون مبغوضا معاقبا عليه للنهي الفعلي، فإنّه مع ضيق الوقت يقع التزاحم بين حرمة الغصب وبين وجوب الصلاة، والصلاة لاتترك بحال، فيجب أداؤها فيما إذا لم تستلزم تصرفا زائدا عن الغصب. <ref></ref> .
الصورة الثالثة: إذا بني على أنّ الخروج لايكون إلاّ واجبا، فإنّ الصلاة سوف تقع صحيحة من دون فرق بين جواز الاجتماع وعدمه، نعم بناءً على الامتناع يشترط أن لا تستلزم الصلاة حال الخروج تصرفا زائدا عن الغصب فيومئ للركوع والسجود. <ref></ref> .
الصورة الرابعة: إن بني على أنّ الخروج لا يكون واجبا ولا حراما معا، فهنا الصلاة سوف تقع صحيحة إذا لم تستلزم تصرفا زائدا عن الغصب. <ref></ref> .
 
==العبادات المكروهة==
هناك بعض العبادات حكم الشارع بكراهتها فاجتمع فيها الأمر والنهي، فهي مأمور بها لعباديتها ومنهيّ عنها لكراهتها.
وهذا النهي المتوجه إلى الأمر العبادي يمكن أن يقع على ثلاثة أنحاء: <ref></ref> :
'''النحو الأول:''' تعلّق النهي التنزيهي بالأمر العبادي بعنوانه وذاته مع عدم وجود بدل له، كصوم يوم عاشوراء، والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات.
'''النحو الثاني:''' تعلّق النهي التنزيهي بالأمر العبادي بعنوانه وذاته مع وجود بدل له، كالنهي عن الصلاة في الحمام.
'''النحو الثالث:''' تعلّق النهي التنزيهي بالأمر العبادي لا بذاته بل بما هو مجامع له وجودا أو ملازما له، كالصلاة في مواضع التهمة.
وقد وقع البحث في توجيه تعلق النهي التنزيهي بالأمر العبادي في أحكام الشارع:
أمّا بالنسبة للنحو الأول، فقد وجّه تعلّق التنزيهي به بكون مصلحة الترك أقوى من مصلحة الفعل، فكلٌّ من الترك والفعل يشتمل على مصلحة، إلاّ أنّ مصلحة الترك راجحة على مصلحة الفعل، وأرجحية الترك لاتوجب منقصة في الفعل، بل معناه أنّ مصلحة الترك أقوى وأهم من مصحلة الفعل بنظر الشارع، ولذلك حكم بكراهة مثل هذا الأمر العبادي. <ref></ref> .
وهناك توجيه آخر ذكره النائيني وهو: أنّ متعلق الأمر العبادي النهي التنزيهي، فإنّ متعلق الأمر هو نفس العمل وذاته، بينما متعلّق النهي هو التعبّد بالعمل والتقرّب به إليه تعالى، فيكون العمل في نفسه مستحبا والتعبّد به مكروها ولا مانع منه؛ لعدم لزوم التضاد. <ref></ref> .
أمّا بالنسبة للنحو الثاني، فيمكن أن يوجّه النهي بتوجيهين:
التوجيه الأول: أن تكون مصلحة الترك أقوى من مصلحة الفعل، مع عدم وجود منقصة في الفعل. <ref></ref> .
التوجيه الثاني: أن يكون النهي التنزيهي إرشاديا إلى وجود منقصة في الفعل؛ لاقترانه بما أوجب كراهته مع وجود المصلحة في الطبيعة، إلاّ أنّ إضافتها إلى عنوان ملائم يزيد من مصلحتها، وإضافتها إلى عنوان غير ملائم ينقص من مصلحتها. <ref></ref> .
أمّا بالنسبة للنحو الثالث، فإنّه بناءً على جواز الاجتماع يمكن أن يوجّه تعلّق النهي التنزيهي بالأمر العبادي بتوجيهين:
التوجيه الأول: أن يكون النهي مستندا إلى العنوان المتحد مع العبادة، أو الملازم لها، وهو الكون في مواضع التهمة في المثال، فالنهي متعلق حقيقة بالعنوان لا نفس العبادة، نعم هي منهيّ عنها بالعرض. <ref></ref> .
التوجيه الثاني: أن يكون النهي إرشادي إلى وجود  منقصة في الفعل؛ لاتصاف الأمر العبادي بعنوان غير ملائم. <ref></ref> .
وأمّا بناءً على الامتناع يمكن أن يوجّه تعلق النهي بالعبادة بنفس التوجيه الأول، وهو توجّه النهي إلى العنوان لا نفس العبادة في صورة كون العنوان ملازما للعبادة المنهي عنها، أمّا في صورة كونه متحدّا معها، فإنّه بناءً على ترجيح جانب الأمر كما هو المفروض للإجماع القائم على صحة العبادة المكروهة، فيكون حاله حال النهي المتوجّه إلى العبادة في النحو الثاني، والجواب المتقدّم فيه يأتي  هنا. <ref></ref> .
 
==المصادر==
 
[[تصنيف: الأوامر الشرعیة]][[تصنيف: النواهي الشرعیة]][[تصنيف: اصطلاحات اصول الفقه]][[تصنيف: امکان اجتماع الامر والنهي]]
confirmed
١٬٦٣٠

تعديل