التفليس
التفليس: وهو من كان ديونه أكثر من رأس ماله يعني ماله لايفي بقضائها فهو محجور يجب علی الحاكم الحکم بالحجر عليه. وله شروط وأحكام سنذکرها تطبیقاً علی فقه الإمامية و الشافعية و الحنفية.
التفليس
المفلس في الشرع من ركبته الديون، وماله لا يفي بقضائها، فيجب على الحاكم الحجر عليه بشروط أربعة:
أحدها ثبوت إفلاسه، لأنه سبب الحجر عليه،[١] في الخلاصة بشرط أن يزيد قدر الدين على المال فلا يجوز قبل ثبوته. [٢]
والثاني: ثبوت الديون عليه لمثل ذلك.
والثالث: كونها حالة، لأن المؤجل لا يستحق المطالبة به قبل حلول الأجل.
والرابع: مسألة الغرماء الحجر عليه[٣]، وفاقا للشافعي فيها[٤]، لأن الحق لهم، فلا يجوز للحاكم الحجر عليه إلا بعد مسألتهم.
فإذا حجر عليه تعلق بحجره أحكام ثلاثة:
أولها: تعلق ديونهم بالمال الذي في يده.
وثانيها: منعه من التصرف في ماله بما يبطل حق الغرماء كالبيع، والهبة، والإعتاق. [٥]
وفي الإعتاق للشافعي قولان: أصحهما أنه باطل[٦] والمكاتبة، والوقف.
ولو تصرف لم ينفذ تصرفه لأن نفوذه يبطل فائدة الحجر عليه. [٧] وللشافعي فيه قولان: أحدهما ما قلناه وهو الصحيح عندهم. والثاني أن تصرفه موقوف، ويقسم ماله سوى ما يصرف فيه بين غرمائه، فإن وفى بهم نفذ تصرفه، وإن لم يف بطل تصرفه. [٨]
ويصح تصرفه فيما سوى ذلك، من خلع وطلاق، وعفو عن قصاص، ومطالبة به، وشراء بثمن في الذمة، ولو جنى جناية توجب الأرش، شارك المجني عليه الغرماء بمقدار حقه، لأن ذلك حق ثبت على المفلس بغير اختيار صاحبه، ولو أقر بدين، وذكر أنه كان عليه قبل الحجر، قبل إقراره، وشارك المقر له سائر الغرماء، لأن إقراره صحيح، وإذا كان كذلك، فظاهر الخبر في قسمة ماله بين غرمائه يقتضي ما ذكرناه فمن خصصه فعليه الدليل.[٩] وهو اختيار الشافعي. وله قول آخر: وهو أن يكون في ذمته يقضي من الفاضل من دين غرمائه. [١٠]
وثالثها: أن كل من وجد عين ماله من غرمائه كان أحق بها من غيره. [١١]
وقد روي أنه يكون أسوة للغرماء، ويتعلق دينه بذمته. والصحيح هو الأول. [١٢]
وكل من وجد عين ماله من غرمائه كان أحق بها إذا كان خلف وفاء للباقين، وإذا لم يخلف كانوا سواء فيها ولم يكن واحد منهم أحق من غيره.
وقال أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي: كل من وجد عين ماله من غرمائه كان أحق بها سواء خلف وفاء أو لم يخلف. وقال الباقون: إذا خلف وفاء للديون، لم يكن لأحد أن يأخذ عين ماله، وإنما له ذلك إذا لم يخلف غيره، عكس ما قلناه. [١٣]
وإن مات هذا المديون قبل أن يحجر الحاكم عليه، فهو بمنزلة ما لو حجر عليه في حال الحياة لقوله ( عليه السلام ) أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، ويتعلق بماله الأحكام الثلاثة وبه قال علي ( عليه السلام )، وعثمان بن عفان وأبو هريرة، وفي الفقهاء أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز للغرماء أن يسألوا الحاكم الحجر عليه، فإن سألوه أو أدى اجتهاده إلى الحجر عليه، فإن ديونهم لا تتعلق بعين ماله، بل تكون في ذمته، ويمنع من التصرف في ماله لأن حجر الحاكم عنده صحيح ولا يجوز لمن وجد من الغرماء عين ماله أن يفسخ البيع، بل يكون أسوة منهم كما روي في بعض الروايات وكذلك الحكم إذا مات. وقال مالك مثل قولنا إذا حجر الحاكم عليه، فأما بعد الموت فإنه قال: يكون أسوة للغرماء، ولا يكون صاحب العين أحق بها من غيره. [١٤]
وإن وجد العين وقد تغيرت عن حالها، أو تعلق بها حق لغيره برهن أو كتابة لم يخل تغيرها إما أن يكون بزيادة أو نقصان، فإن كان بنقصان كان الخيار بين أن يترك ويضرب بالثمن مع باقي الغرماء، وبين أن يأخذ، فإن أخذ وكان نقصان جزء ينقسم الثمن عليه كعبدين تلف أحدهما أخذ الموجود، وضارب الغرماء بثمن المفقود بمقدار النقص وإن كان نقصان جزء لا ينقسم الثمن عليه، كذهاب عضو من أعضائه، فإن كان لا أرش له، لكونه بفعل المشتري، أو بآفة سماوية، أخذ العين ناقصة، من غير أن يضرب مع الغرماء بمقدار النقص، وإن كان له أرش، لكونه بفعل أجنبي أخذه وضرب بقسط ما نقص بالجناية مع الغرماء.
وإن كان تغيير العين بزيادة لم يخل إما أن تكون متصلة أو منفصلة، فإن كانت متصلة لم يخل إما أن تكون بفعل المشتري أو بغير فعله، فإن كان بفعله كصبغ الثوب وقصارته، كان شريكا للبايع بمقدار الزيادة وإلا أدى إلى إبطال حقه، وذلك لا يجوز، وإن كانت بغير فعله كالسمن، والكبر، وتعليم الصنعة، أخذ العين بالزيادة، لأنها تبع، وإن كانت منفصلة كالثمرة والنتاج، أخذ العين دون الزيادة لأنها حصلت في ملك المشتري. [١٥]
وإذا اختار عين ماله وقال الغرماء: نحن نعطيك ثمنه ونسقط حقك من العين، لم يجب عليه قبوله وله أخذ العين، بدلالة عموم الأخبار في أنه أحق بعين ماله. وبه قال الشافعي.
وقال مالك: يجبر على قبض الثمن، وسقط حقه من العين. [١٦]
إذا باع رجل عبدين قيمتهما سواء بثمن، وأفلس المشتري بالثمن، وقد كان قد قبض منه قبل الإفلاس نصف ثمنها، فإن حقه يثبت في العين بدلالة قوله فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، وفاقا للشافعي في الجديد. وقال في القديم: إذا قبض بعض الثمن، لم يكن له فيها حق إذا وجدها وفاقا لمالك. [١٧]
ولو كانت العين زيتا، فخلطه بأجود منه، سقط حق بايعه من عينه، لأنها في حكم التالفة، بدلالة أنها ليست موجودة مشاهدة ولا من طريق الحكم، لأنه ليس له أن يطالبه بقسمته[١٨]، وإذا لم تكن موجودة من الوجهين، كانت بمنزلة التالفة، وسقط حقه من عينها.
وفاقا للشافعي[١٩]، لأنه غير واجد عين ماله في أصح القولين فله المضاربة، وفي القول الثاني واجد، ثم كيف يرجع إلى العين فعلى قولين أحدهما بالبيع وقسمة الثمن على القيمتين والثاني بقسمة عين الزيت على قدر القيمتين، وإن خلطه بمثله أو أردأ منه فالبايع واجد يعن ماله هكذا في خلاصة الغزالي.
وإذا باع ثوبا من رجل وكان خاما[٢٠]، فقصره أو قطعه قميصا وخاطه بخيوطه أو حنطة فطحنها، أو غزلا فنسجه، ثم أفلس بالثمن، ثم وجد البايع عين ماله، فالبايع أحق بعين ماله، ويشاركه المفلس فيها، كما قدمنا ويستحق أجرة المثل في العمل عليه، وفاقا للشافعي.
وقال المزني: لا يشاركه فيها ويختص البايع بها. لنا أن هذه الصنائع إذا كانت لها أجرة، والعمل غير منفصل من العين، فيجب أن يشاركه صاحب العين فيها بصنعته وإلا أدى إلى إبطال حقه كما... [٢١] الصبغ فهو عين مال المشتري فيباع ويقسم الثمن على القيمتين وأما القصارة فللشافعي فيه قولان أصحهما أنه أثر وليس بعين فلا شئ له وهو كسمن الجارية وارتياض الدابة فإنها آثار لا أعيان فلا حكم لها ولا يجب على المفلس بيع داره التي يسكنها، ولا عبده الذي يخدمه، ولا دابته التي يجاهد عليها[٢٢]، وعند الشافعية يؤخر القاضي بيع عقاره... يستغني عنه... لم يستغن لا عه ! ويباع مسكنه وغلامه وثيابه ولا يترك إلا دست ثوب... م[٢٣] بعد الفراغ له ولعياله لنا أنه لا دليل على وجوب بيع ما ذكرناه، فلا يكون واجبا ويلزمه بيع ما عدا ذلك، فإن امتنع باع الحاكم عليه، وقسم الثمن بين الغرماء[٢٤] وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس له بيعه، وإنما يجبره على بيعه، فإن باعه وإلا حبسه إلى أن يبيعه ولا يتولاه بنفسه من غير اختياره.
لنا بعد إجماع الإمامية ما روي من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حجر على معاذ وباع ماله في دينه وظاهر ذلك أنه باعه بغير اختياره. [٢٥]
وإذا ظهر غريم آخر بعد القسمة، نقضها الحاكم وقسم عليه[٢٦]، وبه قال الشافعي[٢٧]، ذكر في المهذب أنه وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه. [٢٨]
وفي خلاصة الغزالي: إذا قسم ماله فظهر غرماء رجعوا على الأولين بالحصص ولم ينقض القسمة، لنا أن حقه ثابت فيما كان في يد المفلس ولا دليل على سقوطه منه بقسمته على غيره[٢٩]، و عموم الأخبار التي جاءت في أن رأس المال يقسم بين الغرماء يدل على ذلك.
وقال مالك: لا ينقض الحاكم القسمة، وإنما يكون دين هذا الغريم فيما يظهر للمفلس من المال بعد ذلك. [٣٠]
ولا تصير الديون المؤجلة على المفلس حالة بحجر الحاكم عليه[٣١]، وهو الصحيح من قولي الشافعي، وقوله الآخر: أنها تصير حالة وبه قال مالك، لنا أن الأصل كونها مؤجلة، وعلى من ادعى أنها تصير حالة الدليل. [٣٢]
ومن مات وعليه دين مؤجل حل عليه بموته، وفاقا لأبي حنيفة والشافعي ومالك وأكثر الفقهاء، وقال الحسن البصري لا تصير حالة، وأما إذا كانت له ديون مؤجلة، فلا تحل بموته بلا خلاف، إلا رواية شاذة رواها أصحابنا أنها تصير حالة. [٣٣]
وتسمع البينة على الإعسار[٣٤]، وفاقا للشافعي، وأبي حنيفة، وخلافا لمالك فإنه قال: لا تقبل. [٣٥] لنا أن هذه البينة ليست على مجرد النفي، وإنما تتضمن إثبات صفة في الحال وهي الإعسار، فوجب أن تكون مقبولة مثل ساير الحقوق والصفات، ولا يقف ذلك على حبس المعسر[٣٦]، وفي الخلاصة أنه يحبس المفلس ريث ما يستبان فقره يومين أو ثلاثة و... الشهادة على الإعدام في أول زمان الحبس.
وإذا قامت البينة على الإعسار وجب سماعها في الحال. وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يحبس شهرين، وقال الطحاوي[٣٧]: يحبس شهرا وروي أربعة أشهر ثم تسمع البينة. [٣٨]
وإذا ثبت إعساره بالبينة أو صدقه في دعوى ذلك الغرماء لم يجز للحاكم حبسه، ووجب عليه المنع من مطالبته وملازمته إلى أن يستفيد مالا[٣٩] وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز لهم ملازمته، فيمشون معه ولا يمنعونه من التكسب والتصرف، فإذا رجع إلى بيته فإن أذن لهم الدخول معه دخلوا وإن لم يأذن لهم منعوه من دخوله، وبيتوه برا معهم.
لنا قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } [٤٠]، وما رووه من قوله ( صلى الله عليه وآله ) لغرماء الرجل الذي أصيب بما ابتاعه من الثمار: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك، ولم يذكر الملازمة. [٤١]
وليس للغرماء مطالبة المعسر بأن يؤجر نفسه، ويكتسب لإيفائهم، بالدليل المقدم ذكره بل هو إذا علم من نفسه القدرة وارتفاع الموانع عنه فعليه أن يكتسب ليبرئ ذمته، وعلى الحاكم إشهار المفلس ليعرف فلا يعامله إلا من رضي بإسقاط دعواه عليه. [٤٢]
الهوامش
- ↑ الغنية: 247.
- ↑ الخلاصة.
- ↑ الغنية: 247.
- ↑ الوجيز: 1 / 70.
- ↑ الغنية: 247.
- ↑ الخلاف: 3 / 269 مسألة 11.
- ↑ الغنية: 247.
- ↑ الخلاف: 3 / 269 مسألة 11.
- ↑ الغنية: 247.
- ↑ الخلاف: 3 / 270 مسألة 12.
- ↑ الغنية: 248.
- ↑ الخلاف: 3 / 261 مسألة 1.
- ↑ الخلاف: 3 / 263 مسألة 2.
- ↑ الخلاف: 3 / 261 مسألة 1.
- ↑ الغنية: 248.
- ↑ الخلاف: 3 / 265 مسألة 4.
- ↑ الخلاف: 3 / 265 مسألة 5.
- ↑ الغنية: 248.
- ↑ الخلاف: 3 / 266 مسألة 6.
- ↑ كذا في الخلاف، وكأنه في النسخة: خلعا.
- ↑ كلمتان غير مقروءتان بسبب انتشار الدواة.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ موضع النقاط وهكذا بعض الكلمات لم نستطع قراءته بسبب تفشي الحبر.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ الخلاف: 3 / 268 مسألة 10.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ الخلاف: 3 / 267 مسألة 8.
- ↑ المجموع: 12 / 469.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ الخلاف: 3 / 267 مسألة 8.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ الخلاف: 3 / 271 مسألة 13.
- ↑ الخلاف: 3 / 271 مسألة 14.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ الخلاف: 3 / 274 مسألة 21.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ أبو جعفر، أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الفقيه الحنفي، انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر. ولد سنة ( 238 ) وتوفي سنة ( 321 ) بمصر ودفن بالقرافة. وفيات الأعيان: 1 / 71 رقم 25.
- ↑ الخلاف: 3 / 275 مسألة 22.
- ↑ الغنية: 249.
- ↑ البقرة: 280.
- ↑ الخلاف: 3 / 277 مسألة 24.
- ↑ الغنية: 250.