البيان
البيان: وهو الدلالة على الشيء أو الحكم، ويراد به الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه، يعني کلّ ما کان بياناً للشئ فهو دليل علی ذلک الشئ، فالبيان بمعنی الدليل الواضح والمبيّن و في مقابله المجمل والمبهم. ولايخفی أنّ للبيان أقساماً متعددةً کالبيان القولي والفعلي، أو البيان التفصيلي والإجمالي، أو البيان المنطوقي والمفهومي و ما إلی ذلک، والآن نريد أن نذکرها في هذا المقال تفصيلاً.
تعريف البيان لغةً
يقول ابن منظور: والبيان ما بُيِّن به الشيء من الدلالة وغيرها. وبانَ الشيء بيانا: اتّضح، فهو بيِّن...[١].
البيان: إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو الفهم وذكاء القلب مع اللَّسَن، وأصله الكشف والظهور[٢].
بانَ الأمر (يبين) فهو (بيِّن)، وجاء (بائن) على الأصل و(أبان إبانة) و (بَيَّن) و (تبيَّن) و (استبان) كلّها بمعنى الوضوح والانكشاف، والاسم (البيان)[٣].
تعريف البيان اصطلاحاً
لايبدو أنّ الأصوليين استخدموا مفردة (البيان) بغير المعنى اللغوي، لكنّهم أضفوا إلى معناها تفاصيل، حيث قسّموا البيان إلى أقسام متعدّدة، من قبيل بيان التأكيد والنسخ والإشارة.
وقد وضع بعض الأصوليين[٤] البيان عنوانا لمجمل البحوث اللفظية الدارج دراستها في أصول الفقه، كما أنَّ بعضا آخر أدرج بحوث البيان تحت عنوان (المبين)[٥].
برغم هذا ورد عن بعض الأصوليين تعاريف للبيان:
منها: اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول متشعّبة الفروع. وهو وارد عن الشافعي[٦]، إلاّ أنَّه من الواضح كونه بدرجة شديدة من الإبهام، وهو ما أدّى بالبعض لئن يشكل عليه بالإبهام[٧].
ومنها: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلّي[٨].
ومنها: ما تحصل به المعرفة في ما يحتاج إلى معرفة (أي الاُمور غير الضرورية)[٩].
ومنها: نفس العلم، وهو تبيُّن الشيء[١٠]. أو العلم الحادث الذي به يتبيَّن الشيء. وإليه ذهب البصري[١١]. أو هو العلم الذي تبيَّن به المعلوم[١٢].
ومنها: الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه. وهو اختيار القاضي[١٣]. أو هو الدليل الذي يتوصّل بصحيح النظر إلى ما هو دليل عليه[١٤]. أو هو الدليل[١٥].
ومنها: هو الدلالة على اختلاف أحوالها. وإليه ذهب أبو علي وأبو هاشم[١٦]. قال قوم من المتكلّمين: [١٧].
ومنها: إظهار المعنى بلفظ غير ملتبس ولا مشتبه[١٨]. أو إظهار ما خفي على المخاطب[١٩].
ومنها: يُطلق على الدالّ على المراد بخطاب، ثُمّ يستقلّ بإفادته، ويُطلق ويراد به الدليل على المراد، ويُطلق على فعل المبيّن[٢٠]. أي أنّ له ثلاثة إطلاقات.
الألفاظ ذات الصلة
1 ـ خطاب
وهو الكلام الموجَّه من شخص إلى آخر، أو من المخاطِب إلى المخاطَب، وفرقه عن البيان في أنَّ الأخير أعمّ من الكلام، فيشمل الفعل والتقرير كذلك. وكثير من بحوثه تشترك مع البيان، مثل: النسخ و الحقيقة والمجاز، فبعض أدرج هذه البحوث تحت البيان، وآخر تحت الخطاب[٢١].
2 ـ دليل
من التعاريف الواردة فيه كونه ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا[٢٢].
تختلف النسبة بين الدليل والبيان باختلاف التعاريف الواردة للبيان، فقد يكونان مترادفين، بناءً على تعريف البيان بالدليل، ومن المسلم وجود تداخل في مفاهيمهما، فإن البيان نوع دليل، فالآية دليل على الحكم.
أقسام البيان
للبيان أصناف وأنواع مختلفة يصعب حصرها جميعا؛ وذلك باعتبار تنوّع كيفيات البيان الواردة عن الشرع وعن العرف، فهي مختلفة باختلاف الظروف والملابسات التي تحوم حول المتكلّم أو المخاطَب والظروف الزمانية والمكانية التي يعيشها أحدهما، فقد يكون بنحو جملة خبرية أو إنشائية، وقد تكون بنحو سؤال استنكاري أو تقريري، وقد يكون بنحو جملة اسمية أو فعلية، وقد يكون باستعمال ألفاظ مشتركة أو مترادفة، وقد يكون بالنصّ أو بالظاهر، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وقد يكون بالأقوال أو الأفعال، وقد يكون بنحو القضية الحقيقيّة أو الخارجية، ونحو ذلك من أصناف البيان.
وعليه يكون البيان شاملاً لكلٍّ من القول والفعل والإشارة والكتابة، بل يراه البعض شاملاً للقياس كذلك[٢٣]. فهو عنوان شامل لكثير من البحوث وبخاصّة بحوث الألفاظ، لدى قدماء الأصوليين ومتقدّميهم وقليل من متأخّريهم.
قسَّم أبو الوفاء الظفري البيان في موضع إلى وجوه خمسة، هي: لفظ وخطّ وعقد (أي اعتقاد) وإشارة وحالة[٢٤]، لكنّه في موضع آخر ذكر وجوها اُخرى للبيان[٢٥].
وقسَّمه البزدوي إلى خمسة أوجه، هي: بيان تقرير، وبيان تفسير، وبيان تغيير، وبيان تبديل، وبيان ضرورة[٢٦].
وقسَّمه المحقّق الحلّي إلى قول وكتابة وإشارة وفعل وترك[٢٧]. وقد ورد عن البعض السكوت بدلاً عن الترك[٢٨].
و الشهيد الصدر بعد ما يذهب إلى أنّ الوسيلتين الرئيسيتين لاثبات العناصر المشتركة في أصول الفقه هي البيان الشرعي والإدراك العقلي، يقسّم البيان الشرعي قسمين، هما: القرآن الكريم، والسنّة[٢٩].
لكن مجمل الأقسام التي يمكن ذكرها هنا، والتي ورد تقسيمها باعتبارات مختلفة، عبارة عمّا يلي:
البيان القولي
وهو البيان الذي يتمُّ من خلال الكلام، ويتمثَّل بـ القرآن الكريم و السنّة النبوية اللفظية[٣٠]. ويسمّى بيان الخطاب كذلك[٣١]. وهذا البيان يقسَّمتقسيمات كثيرة، وجلّ التقسيمات التالي ذكرها تنصبُّ على هذا المقسم.
البيان الفعلي
وهو فعل الرسول(ص) أو الإمام عليهالسلام الكاشف عن حكم شرعي. ويقسَّم هذا إلى أقسام، من قبيل التقرير والكتابة[٣٢].
التقرير
وهو نوع بيان يتمُّ من خلال سكوت المعصوم وعدم اعتراضه على ما بدر من أصحابه ومعاصريه من سلوكيات، فإنّ السكوت نوع بيان[٣٣].
البيان الإجمالي
هو البيان الذي لايبتُّ بتفاصيل وجزئيات الأمر المراد بيانه، من قبيل إطلاق الأمر بالصلاة دون تحديد زمانها وكميتها وكيفيتها.
البيان التفصيلي
البيان الذي يتكفَّل بإيضاح جميع جزئيات الأمر المبيَّن، من قبيل بيان القيود. فهو يقابل البيان الإجمالي. وقد مثِّل له ببيان مواصفات البقرة التي طالب بنو إسرائيل النبي موسى عليهالسلام بتوصيفها لهم[٣٤].
بيان التأسيسي
وهو بيان ابتدائي غير مسبوق ببيان آخر.
البيان التأكيدي
وهو البيان القاطع للاحتمال، من قبيل بيان المعنى الحقيقي بنحو لايحتمل المجاز أو بيان العموم بنحو لايحتمل التخصيص، من قبيل: «فَسَجدَ الملائِكةُ كُلُّهُم أجْمَعونَ»[٣٥]. فإنّ كلّهم وأجمعون تأكيد وقاطع لاحتمال سجود بعض الملائكة دون بعض. وقد يكون التأكيد ـ عموما ـ بأنحاء مختلفة أخرى. ويُدعى بيان التقرير كذلك[٣٦].
بيان التأويلي
وهو نوع بيان يسعى موجِده لنصب قرائن تصرف الكلام عن المعنى الظاهر منه إلى معنى آخر، من قبيل قوله تعالى: «يَد اللّه فَوْقَ أيْديهِم»[٣٧]. فهو بيان تأويلي عن السلطة[٣٨].
الحقيقة والمجاز
وهذا التقسيم ورد باعتبار أنّ استعمال الألفاظ والمفردات تارة يكون استعمالاً بمعانيها الحقيقية الموضوع لها الألفاظ، فيكون حقيقة، وتارة أخرى يكون استعمال الألفاظ والمفردات في غير معانيها الموضوع لها، الألفاظ فيكون مجازيا[٣٩].
بيان الحال
البيان الذي يستشفُّ من القرائن غير اللفظية التي تحفُّ بالكلام أو المتكلّم، من قبيل ما يستفاد من بيان الضرورة التالي ذكره.
بيان التبديل
ويراد منه النسخ،[٤٠] وهو تبديل حكم بحكم آخر، من قبيل تبديل آية بآية أخرى[٤١].
بيان التغيير
وهو البيان الذي يتكفّل بتغيير موجب الكلام، وقد يكون بنحو التعليق على الشرط من قبيل: «فَإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فآتُوهُنَّ أُجورَهُنَّ» أو بنحو الاستثناء، من قبيل: «لاتكرم النحاة إلاّ الثقات منهم».
بيان التفسير
وهو البيان الذي يتكفّل بإيضاح اللفظ المشترك أو المجمل، من قبيل: «أقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتوا الزَكاَةَ»[٤٢] فتكفّلت السنّة ببيان الصلاة بالتفصيل[٤٣].
بيان الضرورة
وهو نوع بيان يحصل بغير ما وضع له اللفظ، وهو على أربعة أوجه:
الأوّل: ما ينزل منزلة المنصوص عليه، من قبيل قوله تعالى: «وَوَرثَهُ أبَواهُ فَلاُمِّهِ الثُلُثُ»[٤٤]، فإنّه لمّا أضاف الميراث للأبوين في صدر الكلام، ثُمَّ بيَّن نصيب الاُم كان ذلك بيانا بأنَّ ما بقي هو للأب، فالبيان هنا حاصل بدلالة صدر الكلام، ونصيب الأب بمثابة المنصوص عليه هنا.
الثاني: ما يكون بدلالة حال المتكلّم، مثل: سكوت صاحب الشرع عمّا يصدر من الصحابة من سلوك دون السعي في تغييره، فهو دليل على صحّته.
الثالث: بيان بضرورة دفع الغرور، وهو دلالة السكوت بيانا لدفع الضرر، من قبيل: رؤية المولى عبده يتاجر دون النهي عنه؛ دفعا للإضرار بمن يتعامل مع العبد، ولا داعي لاستطلاع رأي المولى في المعاملة مع معاينته لعبده؛ وذلك دفعا للضرر.
الرابع: بيان بدلالة الكلام، وهو ما يثبت بضرورة اختصار الكلام حسب العادة والعرف، من قبيل قول أحدهم: لفلان: (عليَّ مئة ودينار) فإنّ الضرورة العرفية قاضية بكون المئة من جنس المعطوف ، أي مدينار[٤٥].
مراتب البيان
تطرّق بعض الأصوليين إلى موضوع الترتيب الذي ينبغي أن يكون عليه البيان، من حيث تقدُّم وأولوية بعضه على الآخر، فوردت عنهم ترتيبات مختلفة. رتّب الشافعي البيان بالنحو التالي:
المرتبة الاُولى
النصّ الذي لايختصّ الخواص بإدراك فحواه، وفيه تأكيد يدفع الخيال، كقوله تعالى: «وَسَبْعَة إذَا رَجعْتُم تِلْكَ عَشرَةٌ كَامِلَة»[٤٦].
المرتبة الثانية
النصّ الذي لايدركه إلاَّ بعض الناس، كقوله تعالى: «إذَا قُمْتُم إلى الصَّلاَةِ فاغْسِلوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرؤوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ وَإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا»[٤٧]. من حيث إنَّه لابدَّ من معرفة (إلى) و (الواو) في الآية.
المرتبة الثالثة
ما أجمله القرآن وأُحيل تفصيله إلى الرسول(ص)، من قبيل قوله تعالى: «وأقِيمُوا الصَّلاَةَ»[٤٨]، وقوله تعالى: «وَآتُوا حقَّه يَوْمَ حَصادِهِ»[٤٩].
المرتبة الرابعة
ما يتلقّى أصله وتفصيله من الرسول.
المرتبة الخامسة
ما لا مستند له سوى القياس[٥٠].
وترتيب آخر:
المرتبة الاُولى: نصوص الكتاب والسنّة.
المرتبة الثانية: ظواهر الكتاب والسنّة.
المرتبة الثالثة: المضمرات، كقوله تعالى: «فعِدَّة مِنْ أيَّامٍ أُخَر»[٥١].
المرتبة الرابعة: الألفاظ المشتركة، مثل: القرء.
المرتبة الخامسة: القياس المستنبط من موقع الإجماع[٥٢].
وترتيب آخر:
المرتبة الاُولى: أقوال صاحب الشرع(ص) في الكتاب والسنّة.
المرتبة الثانية: أفعال صاحب الشرع(ص) كصلاته ووضوئه.
المرتبة الثالثة: إشارات صاحب الشرع(ص) كقوله: «الشهر هكذا هكذا» وسكوته وتقريره.
المرتبة الرابعة: المفهوم وينقسم إلى مفهوم مخالفة وموافقة، كمفهوم تحريم الشتم من آية التأفُّف.
المرتبة الخامسة: الأقيسة[٥٣].
وترتيب آخر:
المرتبة الاُولى: النصّ.
المرتبة الثانية: الظاهر المحتمل التأويل.
المرتبة الثالثة: اللفظ المتردّد بين احتمالين، مثل: قرء[٥٤].
وترتيب آخر:
المرتبة الاُولى: لفظ الشارع(ص):.
المرتبة الثانية: فحوى فعل الشارع الواقع بيانا كصلاته مع قوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلي».
المرتبة الثالثة: إشارة الرسول(ص).
المرتبة الرابعة: الكتابة.
المرتبة الخامسة: المفهوم وينقسم إلى مفهوم مخالفة وموافقة.
المرتبة السادسة: القياس[٥٥].
وابن العربي بعد ما يذكر أنّ مراتب البيان كمراتب الأدلّة؛ باعتبار تعريفه البيان بالدليل، يذكر كتاب اللّه كأعلى المراتب، ثُمّ يرى تنوّع الأدلّة حسب ما تنشأ عنه، ومرتبتها حسب قربها من الكتاب، كقول الرسول وإجماع الصحابة وهكذا، كما أنّه يقسّم مراتب البيان في كتاب اللّه إلى نصٍّ وظاهر، ويقدّم النصّ على الظاهر[٥٦].
أحکام البيان
وقع البيان موضع بحث الأصوليين من عدّة جهات:
الاُولى: قبح العقاب بلا بيان
ناقش الأصوليون قاعدة تخصُّ مورد ما إذا احتملنا التكليف ولم يكن لدينا بيان فيه، فقال البعض: بأنَّ العقل يحكم بالبراءة في هذا المورد؛ لهذه القاعدة، باعتبار أنّا لو لم نقل بالبراءة لزم الظلم، وهو منفي عن الباري تعالى[٥٧]. فهي مبنية على القول بالتحسين والتقبيح العقليين[٥٨].
وفي القاعدة بحوث ومناقشات غير قليلة:
منها: جريانها بعد الفحص عن البيان لا قبله.
ومنها: هل المراد بالبيان هنا البيان التفصيلي أو يكفي البيان الإجمالي؟
وقد اعتبرت من المسلّمات بين العقلاء[٥٩]، لكنَّ الأخباريين يرون أدلّة الاحتياط نوع بيان، فلاتطبّق القاعدة في موارد الاحتياط، فيدّعون أنَّ موارد الشبهة تندرج تحت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، بدعوى وجود بيان على التكليف المشتبه من جهة العلم الإجمالي أو أخبار الاحتياط التي تصلح لئن تكون بيانا على التكليف الواقعي[٦٠].
ومنها: كون المراد من البيان هو البيان الواصل إلى العبد وليس البيان الواقعي وإن لم يصل إلى العبد[٦١].
ومنها: هل القاعدة تخصُّ الشبهات الحكمية أو تشمل الموضوعية كذلك؟[٦٢]
وخالف الشهيد الصدر جزئيا هذه القاعدة بإطلاقها؛ بناءً على مسلكه المسمّى مسلك حقّ الطاعة[٦٣].
الثانية: تأخير البيان عن وقت الحاجة
ناقش الأصوليون موضوع تأخير البيان عن وقت الخطاب ومجيئه في دليل منفصل، وذلك من قبيل صدور عام، ثُمّ صدور خاصّ، فهل يمكن القول بأنّ الثاني موجِّه للأوّل ومخصِّص له أو أنَّ الثاني ناسخ وليس مخصِّصا؟
كما ناقش بعض الأصوليين في المراد من وقت الحاجة، فهل هو وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه، فقبح التأخير مسلَّم؛ لأنَّه يستلزم نقض غرض المولى، وهو مستحيل في حقّ الحكيم؟
وإن اُريد بوقت الحاجة حاجة المكلَّف فقبح التأخير غير معلوم؛ لأنَّ من المحتمل أنّ المولى يرى المصلحة في إلقاء ظهور العام إلى المكلَّف ـ خلافا لمرامه الواقعي ـ ليأخذ به ويتّكل عليه حجّة وبيانا إلى أن تقتضي المصلحة في بيان المرام الواقعي، أي أنَّ فلسفة التدرُّج في البيان الشرعي تأتي هنا كذلك. فلابدَّ وأن يكون المراد من التأخير هو التأخير عن وقت حاجة المولى، وبناءً عليه يكون مستحيلاً[٦٤].
الأقوال في جواز تأخير البيان وعدمه
ويبدو إجماع الأصوليين أو عدم الخلاف بينهم في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنَّ تأخيره في هذه الحالة يستلزم التكليف بما لايطاق، لتعذُّر فعل ما كُلِّف به خارج وقت الحاجة، فهو غير جائز إلاَّ عند من يرى جواز التكليف بما لايُطاق[٦٥].
والخلاف في التأخير عن وقت الخطاب، وفي هذا المجال عدّة أقوال:
1 ـ جواز التأخير عن وقت الخطاب مطلقا. وهو لأبي إسحاق الشيرازي.
2 ـ جواز تأخير بيان التفسير، كما يصحّ موصولاً ومفصولاً. نسب إلى أبي العباس وأبي سعيد الاصطخري وأبي بكر القفّال.
3 ـ عدم جواز تأخير البيان المجمل عن وقت الخطاب، وهو لأبي علي وأبي هاشم وأهل الظاهر.
4 ـ جواز تأخير البيان المجمل عن وقت الخطاب، وهو لأكثر الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة، و السيد المرتضى.
5 ـ جواز تأخير بيان المجمل وعدم جوازه في العموم وما جرى مجراه، وهو لجماعة من أصحاب الشافعي وأبي الحسن الكرخي.
6 ـ جواز تأخير بيان الأوامر وعدم جواز تأخير بيان الأخبار.
7 ـ ونُسب إلى ناس جواز التأخير في الأخبار دون الأمر والنهي[٦٦].
قسَّم الرازي الخطاب المحتاج إلى بيان إلى ضربين، أحدهما: ما له ظاهر استعمل خلافه. والثاني: ما لا ظاهر له، كالأسماء المتواطئة والمشتركة.
ثُمَّ قسَّم الأوّل إلى أربعة أقسام، هي:
الأوّل: تأخير بيان التخصيص.
الثاني: تأخير بيان النسخ.
الثالث: تأخير بيان الأسماء الشرعية.
الرابع: تأخير بيان اسم النكرة إذا أراد به شيئا معيّنا.
ثمّ ذهب إلى جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في جميع هذه الأقسام[٦٧].
أدلّة المجوزين
استدلَّ مجمل القائلين بجواز تأخير البيان عن الخطاب إلى وقت الحاجة باُمور:
الأوّل: كونه أمرا غير ممتنع، مع أنَّه قد تكون هناك مصلحة دينية تستدعي تأخير البيان.
الثاني: هناك موارد وردت في القرآن فيها تأخير بيان:
منها: قوله تعالى: «...إنَّ اللّه يَأمرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزوا قَالَ أعوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ قَالوا ادْعُ لَنَا ربَّكَ يُبِّنُ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنِّهَا بَقَرة لاَ فَارِض ولاَ بِكْر عَوان بَيْنَ ذَلِكَ...» [٦٨]. وهو صريح بجواز تأخير البيان؛ باعتبار وضوح التأخير في ذكر الخصيصة وبيانها.
ومنها: قوله تعالى: «إنَّ عَلَيْنَا جَمعَهُ وقُرآنَهُ فَإذَا قَرَأنَاه فاتّبع قُرآنَهُ ثُمَّ إنّ عَلَيْنَا بَيانَهُ»[٦٩].
وهي تدلُّ على تأخير البيان عن وقت الإنزال؛ لأنَّ (ثُمَّ) للمهلة والتراخي.
ومنها: قوله تعالى: «ألر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ»[٧٠]. و (ثُمَّ) هنا للتأخير أيضا.
ومنها: قوله تعالى: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْآن مِنْ قَبْل أنْ يقْضى إلَيْكَ وَحْيُهُ»[٧١].
ويراد من الآية عدم تعجيل الرسول(ص) ببيان المراد من القرآن للناس.
وآيات اُخرى استدلَّ بها على الموضوع[٧٢].
الثالث: وقوعه في العرف، فلايقبح أن يقول المولى لعبده: آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة، وتبتاع ما اُبيّنه لك يوم الجمعة.
الرابع: الإجماع على حسن تأخير اللّه تعالى بيان مدّة الفعل المأمور به، والوقت الذي ينسخ فيه، عن وقت الخطاب، وكما يجوز تأخير البيان في النسخ كذلك في بيان غير النسخ[٧٣].
أدلّة المانعين
واستدلَّ المانعون عن تأخير البيان باُمور:
الأوّل: الخطاب المجمل بمثابة خطاب العربي بالعجمية، والأخير غير جائز، فالأوّل كذلك.
الثاني: الخطاب للفائدة، وما لا فائدة فيه فوجوده كعدمه، فلايجوز قول: «أبجد هوز» وإرادة وجوب الصلاة منه.
الثالث: لا خلاف في عدم جواز قول: «في خمس من الإبل شاة» ويراد من الإبل الأفراس، فإنّه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد.
الرابع: جواز التأخير تحكُّم، فإن جاز تأخير البيان إلى ما لا نهاية فربّما يخترم النبي(ص): قبل البيان، فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسّكا بعموم ما اُريد به الخصوص[٧٤].
رأي الأخبارية
خالف الأخبارية في هذا المجال، وقالوا بعدم صحّة هذه القاعدة؛ لأجل ما ورد من روايات تفرض السؤال على الناس من الأئمة(ع) وتقول بعدم وجوب الإجابة من قبلهم، من قبيل: «... فأمرهم الشيعة أن يسألونا، وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا»[٧٥]. وأنَّ هناك فتنة وقعت بعد وفاة الرسول(ص) أوجبت إخفاء بعض ما جاء عن النبي[٧٦].
فائدة البحث
تذكر فائدة لهذا البحث، وهي كون حلّ التعارض الوارد بين العام والخاصّ ومجيء الخاصّ بعد حلول وقت العمل بالعام، ودوران الأمر ـ لأجل حلّ التعارض ـ بين النسخ والتخصيص، فيحتمل كون الخاص مخصِّصا للعام ويحمتل كونه ناسخا.
والقول بالنسخ يتوقّف على مقدّمات، منها: قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ باعتبار لزوم أن يكون الأمر الآخر إذا صدر بعد وقت العمل أصبح ناسخا وقبله مخصصا[٧٧].
أصالة البيان
وهي من الأصالات المستخدمة من قبل الأصوليين، ويراد منها أنّ المتكلم غالبا ما يكون في صدد بيان كلّ مراده من الكلام، ومن خلال هذه الأصالة ينفى القيد المحتمل إرادته في الكلام ويثبّت الإطلاق، ويرجع دليلها إلى حجّية الظهور؛ باعتبار أنّها من الأصالات اللفظية، التي يرجِّع الأصوليون أدلّتها إلى أصالة الظهور[٧٨].
المصادر
- ↑ . لسان العرب 1: 407 مادة «بيّن».
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . المصباح المنير: 70 مادة «بيّن».
- ↑ . مثل الامام الجويني في البرهان 1: 39.
- ↑ . المحصول الرازي 1: 472 ـ 500، إرشاد الفحول 2: 34 ـ 44.
- ↑ . الرسالة: 21.
- ↑ . الواضح في أصول الفقه 1: 103.
- ↑ . المستصفى 1: 285.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . الذريعة 1: 328.
- ↑ . الواضح في أصول الفقه 1: 104.
- ↑ . المستصفى 1: 285.
- ↑ . اللمع: 116.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 39، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 24.
- ↑ . الذريعة 1: 329.
- ↑ . الواضح في أصول الفقه 1: 104.
- ↑ . المصدر السابق 1: 102.
- ↑ . التبيين 1: 641.
- ↑ . البحر المحيط 3: 477.
- ↑ . أنظر: الذريعة 1: 8 ـ 15، العدة في أصول الفقه الطوسي 1: 8 ـ 11، اللمع: 37، المحصول (الرازي) 1: 409 ـ 417، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 85، معارج الاصول: 49 .
- ↑ . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 361.
- ↑ . اللمع: 116.
- ↑ . الواضح في أصول الفقه 2: 25.
- ↑ . المصدر السابق 1: 104 ـ 105.
- ↑ . كشف الأسرار البخاري 3: 213.
- ↑ . معارج الأصول: 109.
- ↑ . مذكرة أصول الفقه: 183 ـ 184.
- ↑ . المعالم الجديدة: 46.
- ↑ . أنظر: اللمع: 116، تاريخ حصر الاجتهاد: 52.
- ↑ . معارج الأصول: 109، بداية الوصول 4: 190.
- ↑ . أنظر: الذريعة 1: 331، العدّة في أصول الطوسي 2: 582 ـ 583، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 148، معارج الأصول: 120، البحر المحيط 4: 189.
- ↑ . أنظر: الذريعة 1: 332، اللمع: 147 ـ 150، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 148 ـ 150، الابهاج 2: 263.
- ↑ . المحصول الرازي 1: 480 ـ 481، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 34 و40.
- ↑ . الحجر: 30.
- ↑ . أنظر: العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 216، نهاية السول 2: 112 ـ 113 ، كشف الأسرار ( البخاري ) 3 : 214 ـ 217 ، التبيين 1 : 641 ـ 642.
- ↑ . الفتح: 10.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 193، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 49 ـ 60، حاشية العلاّمة البناني 2: 80 ـ 88، الجامع لمسائل أصول الفقه : 194 ـ 196.
- ↑ . الذريعة 1: 10 ـ 16، العدة في أصول الفقه الطوسي 1: 28 ـ 41، اللمع: 55 ـ 60، أصول السرخسي 1: 170 ـ 173، الوافية: 59 ـ 60.
- ↑ . كشف الأسرار البخاري 3: 297 ـ 311.
- ↑ . أنظر: أصول السرخسي 2: 35 ـ 40، التبيين 1: 643 ـ 644، و 1: 663 ـ 678، عمدة القارئ 13: 244.
- ↑ . البقرة: 43.
- ↑ . أنظر: أصول السرخسي 2: 28، الواضح في أصول الفقه 1: 105، كشف الأسرار البخاري 3: 217 ـ 219، التبيين 1: 642 ـ 643.
- ↑ . النساء: 11.
- ↑ . أصول السرخسي 2: 50 ـ 52، كشف الأسرار البخاري 3: 285 ـ 296، التبيين 1: 656 ـ 662.
- ↑ . البقرة: 196.
- ↑ . المائدة: 6.
- ↑ . البقرة: 43.
- ↑ . الأنعام: 141.
- ↑ . الرسالة: 26 ـ 34، وأنظر: البرهان في أصول الفقه 1: 40، المنخول: 65 ـ 66، البحر المحيط 3: 480، إرشاد الفحول 2: 34 ـ 38
- ↑ . البقرة: 184.
- ↑ . المنخول: 66.
- ↑ . المصدر السابق: 66 ـ 67.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 40.
- ↑ . المصدر السابق 1: 41.
- ↑ . المحصول ابن العربي 1: 49.
- ↑ . تقريرات المجدّد الشيرازي 2: 340 و 4: 55، نهاية النهاية 1: 314، ثلاث رسائل، العوائد والفوائد: 9 ـ 10.
- ↑ . مصباح الأصول 2: 283.
- ↑ . تنقيح الأصول العراقي: 48.
- ↑ . نهاية الأفكار 3: 199 ـ 200، منتهى الأصول 2: 164.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 215.
- ↑ . المصدر السابق 3: 389 ـ 396.
- ↑ . دروس في علم الأصول 2: 333 ـ 336.
- ↑ . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 551 و 3: 86، وسيلة الوصول إلى حقائق الاصول: 416، منتهى الأصول 2: 571 ـ 572، محاضرات في أصول الفقه 5: 320 ـ 321.
- ↑ . الذريعة 1: 361 ـ 362، العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 448، المنخول: 128، غنية النزوع 2: 331، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 30، مبادئ الوصول: 161، معالم الدين: 157، الفصول الغروية: 226.
- ↑ . أنظر: الذريعة 1: 362 ـ 363، الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 81، العدّة في أصول الفقه (الطوسي) 2: 449 ـ 450، اللمع: 118، أصول السرخسي 2: 28، غنية النزوع 2: 331 ـ 334.
- ↑ . المحصول 1: 478.
- ↑ . البقرة: 67 ـ 68.
- ↑ . القيامة: 17 ـ 19.
- ↑ . هود: 1.
- ↑ . طه: 114.
- ↑ . أنظر: المستصفى 1: 286 ـ 288، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 30 ـ 42.
- ↑ . أنظر: الذريعة 1: 361 ـ 374، العدة في أصول الفقه الطوسي 2: 450 ـ 464، المستصفى 1: 286 ـ 290، المحصول (الرازي) 1: 477 ـ 498، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 30 ـ 44.
- ↑ . المستصفى 1 : 288 ـ 290 ، وأنظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 42 ـ 44.
- ↑ . الكافي 1: 212، كتاب الحجّة، باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهمالسلام، ح 8.
- ↑ . الفوائد المدنية: 244 ـ 245 و 336 ـ 337.
- ↑ . نهاية الأفكار 4 ق 2: 152، حقائق الاصول 1: 536 ـ 537، أجود التقريرات 3: 393، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 219 ـ 220.
- ↑ . أنظر: مقالات الاصول 1: 505 ـ 506.