الامتثال
الامتثال: اصطلاح أصوليٌ يقابل الطاعة، فالامتثال هو الإتيان بفعلٍ يتخيّل المکلّفُ أنه تکليف واقعي، کتخيّل الإنسان بأن هذا واجب فامتثله فانکشف أنه غير واجب، أو تخيل أن هذا حرام فترکه فانکشف أنه ليس بحرامٍ. بخلاف الطاعة التي هی موافقة العمل للتکليف واقعاً.
تعريف الامتثال لغةً
الامتثال هو الاقتداء والاحتذاء بالشئ يقال امتثل أمره أي احتذاه[١]، ويقال أيضا امتثلت مثال فلان أي احتذيت حذوه وسلكت طريقته[٢].
تعريف الامتثال اصطلاحاً
عرّف الامتثال بتعاريف متعددة:
منها: الامتثال هو الطاعة.
وهو لجمع من الأصوليين منهم المرتضى[٣] والفاضل التوني[٤].
وقد ورد في كثير من كتب الأصوليين ذكر الامتثال والطاعة مترادفين[٥].
ومنها: الاتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب[٦].
وقريب منه تعريف السبكي[٧] والعاملي[٨] والعطار[٩] والحكيم[١٠] له.
ومنها: قصد الطاعة بفعل المأمور به وترك المنهي عنه[١١].
ويمتاز هذا التعريف عن سابقه بأنه يعم إمتثال الأمر والنهي، بينما التعريف الذي يسبقه يختص بامتثال الأمر.
حكم الامتثال
لا خلاف في لزوم طاعة وامتثال أوامر الشارع ونواهيه، وقد صرّح الكثير من أصوليي الإمامية و أهل السنّة بأنّ الحاكم بوجوب الطاعة والامتثال هو العقل[١٢].
وذكر أنّ الأوامر الشرعية الواردة في لزوم الطاعة والامتثال تحمل على كونها إرشادا إلى حكم العقل، ولا يمكن حملها على المولوية[١٣].
نعم، للشارع أن يتدخل في كيفية الامتثال، بمعنى أنّ له أن يقيد الامتثال بشروط معينة زائدا على ما يحكم به العقل، كاعتبار لزوم خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء[١٤].
وهناك مسائل تعرّض لها الأصوليون، من قبيل:
مقومات الامتثال
اعتبر الأصوليون أن تحقّق الامتثال يتوقّف على توفّر عدّة أمور:
الأمر الأوّل: القصد إلى الامتثال
وفي مدخلية القصد في الامتثال يوجد اتّجاهان:
الاتّجاه الأوّل
وهو الذي يرى أنّ الامتثال لايتحقّق إلاّ بأن يتمّ فعل المكلّف عن قصد، بحيث إنّه بدون القصد لايمكن تحقّق الامتثال خارجا.
وهو اختيار الأكثر[١٥].
وقد انقسم أصحاب هذا الاتجاه إلى رأيين:
الرأي الأوّل: أن تقوّم الامتثال بالقصد أستفيد من قوله صلىاللهعليهوآله«إنّما الأعمال بالنيّات»[١٦]. وهو اختيار السبكي[١٧] والأسنوي[١٨].
الرأي الثاني: أن تقوّم الامتثال بالقصد ممّا يحكم به العرف. وهو اختيار الأنصاري[١٩] والميرزا القمّي[٢٠].
وحمل البعض الحديث المتقدّم على كونه في مقام اشتراط النية في العبادات[٢١]، وإن جعله البعض الآخر ـ مثل الميرزا القمّي ـ دليلاً آخر على مقوميّة القصد في الامتثال[٢٢].
وهذه النظرة العرفية في مدخلية القصد في الامتثال تبعها البحث في نوعية القصد الذي يراه العرف مقوما للامتثال، فبرز هنا قولان:
القول الأوّل: أنّ القصد المعتبر هنا هو قصد ما يقطع كون الإتيان به هو امتثالاً للمولى. وهذا القول يبدو من الميرزا القمّي اختياره[٢٣].
القول الثاني: أنه يكفي في تحقّق الامتثال رجاء حصول الامتثال، بمعنى أن يكون قصد المكلّف في فعله التوصّل إلى ما يحتمل كونه تكليفا[٢٤]. ونسب هذا القول إلى مشهور الإمامية[٢٥].
ويبدو من بعض أصحاب هذا الاتّجاه القائل بمقوّمية القصد للامتثال أ نّه لا فرق في الاحتياج إلى القصد بين الواجب التعبّدي و الواجب التوصلي، وهو ظاهر القرافي[٢٦]، والأنصاري[٢٧]، بل صرح به آخرون كالميرزا القمّي[٢٨]، والأسنوي على ما نقل عنه الشعراني[٢٩].
والذي يبدو من كلماتهم أنّهم لايعنون بقولهم هذا وجوب قصد الامتثال في التوصلي، إذ إنّ عدم وجوبه محلّ وفاق، بل يعنون أنّ عنوان الامتثال في التوصلي كما في التعبّدي لايتحقّق إلاّ بالقصد[٣٠].
والكلام في امتثال الأمر والنهي كالكلام في امتثال الواجب التوصلي والتعبّدي، فإنَّ صدق عنوان الامتثال في النهي يتوقّف على القصد كما في امتثال الأمر[٣١].
والثمرة في اشتراط ومقوّميّة القصد للامتثال في الواجب التوصلي والنهي هو ترتّب الثواب عليهما، وإلاّ فإنَّ الغرض ومصلحة الشارع تتحقّق بمجرّد فعل الواجب في التوصليات وبمجرّد الترك في النواهي ولا يتوقّف ذلك على القصد، وإنّما فائدة القصد في ترتّب الثواب[٣٢].
الاتّجاه الثاني
وهو الذي يرى أن تحقّق الامتثال عرفا لايتوقّف على القصد، وإنّما القصد يجب لقيام دليل شرعي من الخارج على وجوبه ولا يتوقّف العمل عليه.
وهو اختيار الطباطبائي من الإمامية [٣٣]، واختيار الأحناف أيضا[٣٤].
الأمر الثاني: العلم بالتكليف
وقع البحث في أنّ العلم بالتكليف هل هو داخل في الامتثال أم لا؟ ويوجد فيه رأيان:
الرأي الأوّل: وهو أنّ العلم بالتكليف من مقومات الامتثال
ولايتحقّق بدونه، وعُلل ذلك بأ نّه لو لم يكن للمكلّف علم بالتكليف فلا يمكن له قصد الامتثال[٣٥].
الرأي الثاني: وهو أنّ الامتثال يصدق حتّى مع عدم العلم بالتكليف
وهذا الرأي هو اختيار أصحاب القول الثاني حول نوعية القصد المعتبر (أي الذين ذهبوا إلى الاكتفاء بقصد التوصّل إلى ما يحتمل كونه مطلوبا للشارع) غير أ نّهم يعدّونه امتثالاً احتماليا يكفي في تحقّق الطاعة حيث إنّ العلم طريق إلى حصول المطلوب لا أ نّه دخيل فيه[٣٦].
الأمر الثالث: المباشرة
وقد اعتبرت في موردين:
المورد الأوّل: فعل المأمور به[٣٧].
المورد الثاني: نيّة فعل المأمور به[٣٨].
فلا يعدّ المكلّف ممتثلاً ما لم يباشرهما بنفسه. وقد استثنوا منها موارد دلّ الدليل فيها على عدم المباشرة كما في موارد جواز النيابة[٣٩].
مراتب الامتثال
يذكر الأصوليون للامتثال عدّة مراتب:
المرتبة الأولى: الامتثال العلمي التفصيلي
و هو أن يأتي المكلّف بما يعلم تفصيلاً أ نّه هو المكلّف به[٤٠]. وهو شامل للعلم الوجداني وللعلم التعبّدي الحاصل بالطرق و الأمارات والأصول والظنّ المطلق بناءً على انسداد باب العلم والعلمي بناءً على الكشف، وفتوى المجتهد في حقّ مقلّديه[٤١].
المرتبة الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي
وهو إتيان المكلّف بجميع الأطراف التي يتردد التكليف بينها كإتيانه صلاتي الظهر والجمعة فيما لو تردد الواجب يوم الجمعة بينهما، وهو الذي يعبر عنه بالاحتياط[٤٢].
المرتبة الثالثة: الامتثال الظنّي
وهو أن يأتي المكلّف بما يظنّ أ نّه المكلَّف به[٤٣]. وهو شامل للظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره، والظنّ المطلق بناءً على الحكومة[٤٤].
المرتبة الرابعة: الامتثال الاحتمالي
وهو أن يأتي المكلّف بما يحتمل أنّه هو المكلَّف به في الأطراف التي يتردد التكليف بينها أو الأطراف التي يُشكّ فيها بَدْوا[٤٥].
الترتيب بين مراتب الامتثال
وقع الخلاف في أنّه هل يجب الترتيب بين مراتب الامتثال المذكورة، بحيث يقدّم الامتثال العملي سواءً كان تفصيليا أم إجماليا على الامتثال الظنّي، وتقديم الظنّي على الاحتمالي، أم لايجب الترتيب في ذلك؟ ذكر قولان هنا:
القول الأوّل: وجوب الترتيب
وهو ما يظهر من الأنصاري[٤٦] والنائيني[٤٧] اختياره، باعتبار أنّ العقل الحاكم بلزوم الطاعة والامتثال يرى عدم إمكان تحقّقهما في المرتبة اللاحقة مع إمكان المرتبة السابقة.
القول الثاني: عدم وجوب الترتيب
وهو الذي يظهر من الإمام الخميني اختياره[٤٨]، باعتبار أنّ الطاعة والامتثال كما يتحقّقان بالانبعاث عن العلم بوجود الأمر كذلك يتحقّقان عن احتمال وجوده.
الإجزاء عند الإخلال بمراتب الامتثال
لو أخلّ المكلّف بمراتب الامتثال، فأتى بالامتثال الظنّي مع إمكان الامتثال العملي وانكشف أنّ ما أتى به هو التكليف المجعول في حقّه. ففي الإجزاء وعدمه توجد عدّة أقوال:
القول الأوّل: صحّة وإجزاء المأتي به وعدم لزوم الإعادة
وهو اختيار السيّد الخوئي[٤٩] والإمام الخميني، باعتبار أ نّه حكم بالإجزاء[٥٠].
القول الثاني: التفصيل بين ما إذا كان الامتثال العلمي ممكنا وعدمه
فإذا كان الامتثال العلمي ممكنا فعدم الصحّة والإجزاء، وإذا كان غير ممكن فالصحّة والإجزاء. وهو اختيار النائيني[٥١].
القول الثالث: التفصيل بين الواجب والمستحبّ
فلايجوز في الواجب الاقتصار على بعض المحتملات لو لم يكن قاصدا للامتثال على نحو الإطلاق؛ لأ نّه في الاقتصار على بعض المحتملات تجرٍّ على المولى سبحانه، وهو مخلّ بصدق الطاعة والامتثال فلا يكون مجزيا. أمّا في المستحبّ فالاقتصار على بعض المحتملات لايلزم منه التجرّي المخلّ بصدق الطاعة والامتثال، فتقع العبادة المستحبّة مجزية.
وهو ما ينسب إلى المجدد الشيرازي[٥٢].
تقديم الامتثال العلمي التفصيلي وعدمه
وقع الخلاف في لزوم تقديم الامتثال العلمي التفصيلي على الامتثال العلمي الإجمالي وعدم لزومه. وفي ذلك أقوال:
القول الأوّل: لزوم تقديم الامتثال العلمي التفصيلي علی الامتثال العلمي الإجمالي
أنّه يلزم تقديم الامتثال العلمي التفصيلي على الامتثال العلمي الإجمالي فيما إذا استلزم تكرار العمل كإتيان المكلّف بصلاتي الظهر والجمعة اللّتين يتردّد الواجب بينهما.
وهو اختيار جمع من الأصوليين كالأنصاري[٥٣] والنائيني[٥٤].
القول الثاني: لزوم تقديم الامتثال التفصيلي علی الإجمالي
أنّه يلزم تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي مطلقا حتّى لو لم يستلزم التكرار كما لو شكّ المكلّف في جزئية شيء في الصلاة، فأتى بها معه مع إمكان تحصيل العلم بذلك وامتثاله تفصيلاً. ويُنسَب إلى السيّدين الرضي والمرتضى[٥٥].
القول الثالث: عدم لزوم تقديم الامتثال التفصيلي علی الإجمالي
أنّه لايلزم تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي مطلقا وإن استلزم التكرار.
وهو القول السائد لدى متأخّري الإمامية[٥٦].
الهوامش
- ↑ الصحاح 5: 1816 مادة «مثل».
- ↑ لسان العرب 4: 3659 مادة «مثل».
- ↑ الذريعة 1: 63.
- ↑ الوافية: 71.
- ↑ أنظر: المستصفى 1: 98، شرح مختصر الروضة 1: 180، شرح البدخشي 1: 182، نزهة الخاطر 1: 150، تهذيب الفروق 1: 178، إشارات الأصول 1 : 113، جواهر الكلام 5 : 167 ، فوائد الأصول 4: 137.
- ↑ تقريرات المجدد الشيرازي 2: 88.
- ↑ الابهاج في شرح المنهاج 1: 178.
- ↑ مفتاح الكرامة 5: 151.
- ↑ حاشية العطار 1: 98.
- ↑ المحكم في أصول الفقه 2: 256 ـ 257.
- ↑ شرح مختصر الروضة 1: 180.
- ↑ أنظر: فواتح الرحموت 1: 68، مطارح الأنظار 1: 301، أوثق الوسائل: 40، المدخل إلى عذب المنهل: 285، تحريرات في الأصول 6: 208، أنوار الأصول 1: 174.
- ↑ أنظر: المدخل إلى عذب المنهل: 285، أوثق الوسائل: 40.
- ↑ أنظر: أوثق الوسائل: 41، فوائد الأصول 3: 68.
- ↑ أنظر: المستصفى 1: 98، روضة الناظر 1: 221، شرح مختصر الروضة 1: 180، شرح مختصر المنتهى 2: 259، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 157، نهاية السول 1: 318، القوانين المحكمة: 74، مطارح الأنظار 1: 325، نزهة الخاطر 1: 150، تهذيب الفروق 1: 178، إشارات الأصول 1: 113، المدخل إلى عذب المنهل: 285 ـ 286.
- ↑ تهذيب الأحكام 1: 83 ، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء ح 67.
- ↑ الإبهاج في شرح المنهاج 1: 156.
- ↑ نهاية السول 1: 318 ـ 319.
- ↑ مطارح الأنظار 1: 325.
- ↑ القوانين المحكمة: 331.
- ↑ أنظر: القواعد والفوائد الشهيد الأوّل 1: 74 ـ 75، مطارح الأنظار 1: 321 ـ 325.
- ↑ القوانين المحكمة: 331.
- ↑ المصدر السابق.
- ↑ أنظر: أنوار الهداية 1: 184، منتهى الأصول البجنوردي 2: 210.
- ↑ مصباح الأصول 2: 82.
- ↑ الفروق 1: 130.
- ↑ مطارح الأنظار 1: 301.
- ↑ القوانين المحكمة: 74.
- ↑ المدخل إلى عذب المنهل: 288.
- ↑ أنظر: الفروق 1: 130، مطارح الانظار 1: 325، المدخل إلى عذب المنهل: 288.
- ↑ أنظر: الفروق 1: 130.
- ↑ المصدر السابق، القواعد والفوائد الشهيد الأول 1: 89، القوانين المحكمة: 74، المدخل إلى عذب المنهل: 291.
- ↑ مفاتيح الأصول: 132.
- ↑ أصول السرخسي 1: 194، مفاتيح الأصول: 132.
- ↑ أنظر: روضة الناظر: 26، الابهاج في شرح المنهاج 1: 157، البحر المحيط 1: 350 ـ 351، القوانين المحكمة: 331، نزهة الخاطر 1: 150، تهذيب الفروق 1: 178.
- ↑ أنظر: مصباح الأصول 2: 81ـ 82، منتهى الأصول البجنوردي 2: 210، أنوار الهداية 1: 182.
- ↑ أنظر: المدخل إلى عذب المنهل: 285.
- ↑ أنظر: الفروق 1: 129 ـ 130، القواعد والفوائد الشهيد الأوّل 1: 122 ـ 123.
- ↑ أنظر: مسالك الأفهام 2: 162، فتح العزيز 7: 38 ـ 39.
- ↑ فرائد الأصول 1: 432.
- ↑ أنظر: المصدر السابق، فوائد الأصول 3: 70.
- ↑ أنظر: فرائد الأصول 1: 432، فوائد الأصول 3: 72.
- ↑ فرائد الأصول 1: 432.
- ↑ أنظر: فوائد الأصول 3: 72.
- ↑ أنظر فرائد الأصول 1: 432، فوائد الأصول 3: 72.
- ↑ فرائد الأصول 1: 432.
- ↑ فوائد الأصول 3: 72.
- ↑ أنوار الهداية 1: 182.
- ↑ مصباح الوصول 2: 84.
- ↑ المصدر السابق: 184.
- ↑ فوائد الأصول 3: 72 ـ 73.
- ↑ أنظر: أنوار الهداية 1: 185 ـ 186.
- ↑ فرائد الاصول 1: 71 ـ 72.
- ↑ فوائد الأصول 3: 72 ـ 73.
- ↑ أنظر: فرائد الأصول 1: 72، بحر الفوائد 1: 170 ـ 171.
- ↑ أنظر: أنوار الهداية 1: 182، مصباح الأصول 2: 81 ـ 82، بحوث في علم الأصول الهاشمي 4: 178.