الإيماء والتنبيه

الإيماء والتنبيه: اصطلاحان أصوليان بمنزلة اصطلاحٍ واحدٍ، وله معنيان: العامّ والخاص؛ وأما المعنی العامّ فهو ما دلّ عليه اللفظ لاقترانه بما يستبعد معه عدم إرادته، كما إذا قال عليه‏السلام: «بطل البيع»، لمن سأله عن بيع السمك في الماء، فيفهم اشتراط القدرة على التسليم في البيع. وأما المعنی الخاص فهو أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن ذلک اللفظ للتعليل لكان المعنى بعيداً، كما في سؤال النبي(ص): «أينقص الرُطَب إذا يَـبُسَ؟» عندما سألوه عن حكم بيع التمر بالرطب، فقالوا: نعم، فنهاهم عنه. فسؤاله(ص) المذكور يفهم منه أنّ علّة حرمة بيع الرطب بالتمر هي النقصان. وهذا المعنی الخاص هو محلّ الکلام في هذا المقال.

تعريف الإيماء والتنبيه لغةً

الإيماء: هو الإشارة، يقال: ومَأَ إليه يَمَأُ وَمْأً، أي أشار[١]، ويقال: أومأت إليه: أي أشرتُ[٢].
والتنبيه: مأخوذ من النُّبه، وهو القيام والانتباه[٣]، ويقال: نبهته على الشيء: أي: أوقفته عليه، فتنبّه هو عليه[٤].

تعريف الإيماء والتنبيه اصطلاحاً

يُذكر الإيماء والتنبيه في كلمات الأصوليين بمعنيين: عام و خاصّ.

المعنى العام

وهو ما دلّ عليه اللفظ لاقترانه بما يستبعد معه عدم إرادته[٥].
وهذا اللازم الذي يدلّ عليه اللفظ عقلاً أو عرفا يُفيد أنحاء متعددة في الكلام، فتارة يُفيد التنبيه والإشعار، كما إذا أراد المتكلم بيان أمر فنبّه عليه بقوله: «دقّت الساعة العاشرة» مثلاً، حيث تكون تلك الساعة موعدا له مع المخاطب، وأُخرى يُفيد الشرطية، كما إذا قال عليه‏السلام: «بطل البيع»، لمن سأله عن بيع السمك في الماء، فيفهم اشتراط القدرة على التسليم في البيع، وثالثة يُفيد عدم المانعية، كما في قوله عليه‏السلام: «لا تعيد» لمن سأل عن الصلاة في الحمام، فيفهم عدم مانعية الكون في الحمام للصلاة. وهناك أنحاء أخرى تدلّ عليها دلالة الإيماء والتنبيه تختلف باختلاف المقام وما يقترن من الكلام من قرائن[٦].

المعنى الخاصّ

وهو أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان المعنى بعيدا[٧]. أو هو: ما يقترن بحكم على وجهٍ، يُفهم منه أنّه علّة لذلك الحكم، فيلزمه جريان هذا الحكم في غير هذا المورد، ممّا اقترنت به[٨]. فيبحث عن الإيماء والتنبيه هنا باعتباره أحد المسالك المعتبرة في استكشاف علّة الحكم كما في سؤاله(ص): «أينقص الرطب إذا يبس؟»[٩] عندما سألوه عن حكم بيع التمر بالرطب، فقالوا: نعم، فنهاهم عنه. فسؤاله(ص) المذكور يفهم منه أنّ علّة حرمة بيع الرطب بالتمر هي النقصان.
و الفرق بين الإيماء والتنصيص، أنّ النص يدلّ على العلّية صريحا، والإيماء يدلّ عليها بالالتزام[١٠]، بحيث يكون التعليل لازما من مدلول اللفظ وضعا لا أن يكون اللفظ دالاًّ بوضعه على التعليل[١١].
والإيماء بمعناه الخاصّ هو محلّ الكلام هنا.
وهو بهذا المعنى من المباحث المتعلّقة بـ القياس.

الألفاظ ذات الصلة

1 ـ اقتضاء

وهي دلالة اللفظ على كلّ أمر لايستقيم المعنى إلاّ بتقديره[١٢].
مثل قوله (ص): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»[١٣]، حيث إنّ صدق الكلام المذكور يتوقّف على تقدير كلمة «الأحكام» أو «الآثار الشرعية» فيكون مفاده عدم وجود ضرر ناشئ من جهة الحكم الشرعي[١٤]. وغير ذلك من الأمثلة التي تذكر لدلالة الاقتضاء[١٥].
وهذه الدلالة كدلالة الإيماء يشترط فيها القصد عرفا، لكن يفترقان في أنّ دلالة الإيماء لايتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها، وإنّما سياق الكلام يقتضي ذلك بحيث يقطع معها بإرادة لازم الكلام. وأما دلالة الاقتضاء فإنّه يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها[١٦].

2 ـ إشارة

وهي ما يدلّ عليه اللفظ بغير عبارته، ولكنّه يجيء نتيجة لهذه العبارة[١٧].
مثاله قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً»[١٨] وقوله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»[١٩] فإنّه بإخراج الحولين من مجموع الأشهر في الآيتين، وهي الثلاثون يكون الباقي ستّة أشهر، فيعلم أنّه أقلّ الحمل[٢٠].
وهذه الدلالة عكس دلالة الاقتضاء و دلالة الإيماء، حيث يشترط فيها ألاّ تكون مقصودة بحسب العرف، وأنّ مدلولها لازم للكلام لزوما غير بيِّن أو بيّنا بالمعنى الأعم، وسواء كان هذا المدلول مستنبطا من كلام واحد أو كلامين[٢١].

3 ـ مفهوم (مفهوم المخالفة)

وهو حكم دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق[٢٢].
مثل قولهم: «إذا بلغ الماء كرا لاينجسه شيء» فإنّ مفهوم هذه الجملة هو أنّه إذا لم يبلغ الماء كرا يتنجّس[٢٣].
ويذكر أنّ الفرق بين المفهوم وبين الإيماء هو أنّ المفهوم من الدلالات الالتزامية للكلام، بينما الإيماء هو من الدلالات المنطوقية له[٢٤].
هذا وقد اختار المظفر أنّ الإيماء من الدلالات السياقية التي هي مقابل المفهوم والمنطوق[٢٥].

أقسام الإيماء والتنبيه

ذكروا أنَّ الدلالة المذكورة باعتبار الوفاق والخلاف فيها تنقسم إلى ثلاثة أقسام[٢٦]:

القسم الأوّل: ما صُرّح فيه بالحكم والوصف جميعا

وهذا القسم لا خلاف في كونه إيماءً متفقا عليه، ومُثّل له بقوله(ص): «من أحيا أرضا مَيْتَة فهي له»[٢٧] فقد صرح بالحكم وهو الملك وبالوصف وهو الإحياء.

القسم الثاني: ما صُرّح فيه بالحكم فقط وكان الوصف مستنبطا

وهذا القسم لا خلاف في عدم كونه إيماءً، ويمثّل له بما إذا استنبط وصف الإسكار من دليل حرمة الخمر وجعله هو العلّة في تحريمه.

القسم الثالث: ما صُرّح فيه بالوصف فقط وكان الحكم مستنبطا

وفي هذا القسم وقع الخلاف في أنّه نوع من الإيماء أم لا؟
ويمثل له بقوله تعالى: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»[٢٨] فمن قال أنّه ليس بإيماء باعتبار أنّ الوصف غير مصرح به كما هو الحال في القسم الثاني، فلايمكن إستكشاف الصحّة من التصريح بحلّية البيع. ومن قال إنّه إيماء، باعتبار أنّ حلّية البيع تدلّ على الصحّة، إذ لولا الصحة لم يكن لذكر الإحلال فائدة.

أصناف الإيماء والتنبيه

إنّ الأصوليين ذكروا للإيماء والتنبيه عدّة أصناف:

الصنف الأوّل: تعليق الحكم على الوصف بحرف الفاء

وهو يقع على وجهين:
الوجه الأوّل: أن تدخل الفاء على العلّة ويكون الحكم متقدّما، كقوله(ص) في المحرم الذي مات في إحرامه: «لاتقرّبوه طيبا، فإنّه يُحشر يوم القيامة مُلبِّيا»[٢٩]، فإنّه يدلّ على سقوط الحنوط عن كلّ من مات في إحرامه؛ لأنّ العلّة في ذلك بعثه يوم القيامة مُلبِّيا[٣٠].
الوجه الثاني: أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلّة متقدّمة مثل قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا»[٣١] وقول الراوي: «سها رسول اللّه‏ فسجد»[٣٢].
فإنّ الفاء هنا تدلّ على التعقيب لغةً، فيلزم من ذكر الحكم مع الوصف بواسطة الفاء ثبوت الحكم عقيبه، وهو معنى السببية؛ لأنّه لا معنى للسبب إلاّ ما ثبت الحكم عقيبه[٣٣].
ويذكر الرازي بأنّ الوجه الثاني وهو ما كانت العلّة فيه متقدّمة أقوى في الإشعار بالعليّة من الوجه الأوّل، وهو ما كانت العلّة فيه متأخّرة؛ لأنّ إشعار العلّة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلّة، باعتبار أنّ الطرد واجب في العلل دون العكس[٣٤].
ثُمّ إنّ تعليق الحكم على الوصف بحرف الفاء تارة يكون في كلام اللّه‏ تعالى، وأخرى في كلام الرسول(ص)، وثالثة في كلام الراوي وهو ينقل عن النبي(ص)، وأقوى تلك المراتب ما كان في كلامه تعالى، ثُمّ ما كان في كلامه(ص) [٣٥] .
وردّه ابن السبكي قائلاً: «والحقّ مساواتهما؛ لعدم احتمال تطرق الخطأ قاله الهندي، وهو صحيح»[٣٦].

الصنف الثاني: أن يعلم النبي(ص) بحادثة فيحكم عقيب العلم بها بحكم

مثل ما روي إنّ أعرابيا جاء إلى النبي(ص) فقال له: هلكتُ وأهلكتُ، فقال له النبي(ص) : ماذا صنعت؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامدا، فقال له(ص): إعتق رقبة[٣٧].
فإنّ جوابه(ص) عقيب السؤال عن تلك الحادثة يدلّ على أنّ علّة العتق والكفارة هي الجماع في شهر رمضان عامدا، ويكون الحكم وهو العتق مرتبا على الوصف وهو الجماع بالفاء تقديرا، أي إذا جامعت فكفّر.
ولذا ذكروا أنّ ظهور هذا النوع من الإيماء في التعليل دون النوع الأوّل، وهو ما كان الحكم مترتّبا على الوصف بالفاء تحقيقا لا تقديرا[٣٨].

الصنف الثالث: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يكن هو العلّة لما كان لذكره فائدة

وهذا النوع يمكن أن يتصوّر على أنحاء:
النحو الأوّل: وهو ما كان الاقتران فيه بغير سؤال، كما في حديث ابن مسعود حيث توضأ(ص) بماء قد نبذ فيه بعض التمرات لاجتذاب ملوحته، فقال(ص): «ثمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهور»[٣٩]. فإنّ وصف الطهور لبيان جواز الوضوء به، وإلاّ كان ذكره لغوا وهو منزَّه عنه الشارع الحكيم[٤٠].
النحو الثاني: وهو ما كان الاقتران فيه في مقام الجواب عن سؤال، كما روي من أنّ النبي(ص) دُعي إلى ضيافة دار فأجاب، ودعي إلى أخرى فلم يجب، فسُئل في ذلك فقال: «إنّ في الدار كلبا» فقيل له: في تلك الدار هرّة، فقال: «إنّها ليست بنجسة، إنّها من الطوّافين عليكم والطوّافات»[٤١].
فلو لم يكن للطواف تأثير في ثبوت الحكم لما ذكَرَه النبي(ص) [٤٢].
النحو الثالث: وهو ما كان الاقتران فيه بإقرار النبي(ص) على وصف الشيء المسؤول عنه كما في سؤاله(ص) لما سُئل عن حكم بيع الرطب بالتمر «أينقص الرطب إذا جفّ؟»[٤٣] و[٤٤]، قالوا: نعم، فنهاهم عن البيع.
فلو لم يكن لذكر وصف النقصان فائدة لما صحّ التقرير عليه[٤٥]. بل ذكر الغزالي أنّ قوله(ص) المذكور بمرتبة النصّ على العلّة[٤٦].
النحو الرابع: أن يجيب(ص) على سؤال بذكر نظيره، فيعلم أنّ وجه الشبه بين مورد السؤال وبين نظيره هو العلّة في الحكم، كما في جوابه(ص) لـ عُمَر حين سأله عن قُبلة الصائم: «أرأيتَ لو تمضمضت بماءٍ وأنت صائم»[٤٧] فنبّه(ص)بذكر المضمضة على أنّ كلاً من القُبلة والمضمضة لايفسدان الصوم بسبب عدم بلوغ المفطر فيهما، فدلّ على أنّ العلّة في المفطريّة هي بلوغ المفطر لا مجرّد الدخول في مقدّماته[٤٨]

الصنف الرابع: أن يفرّق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفةٍ

فيعلم أنّه لو لم تكن الصفة سببا في التفريق لما كان لذكرها فائدة.
وهذا النوع ضربان:
الضرب الأوّل: أن يكون حكم أحد الأمرين مذكورا في الخطاب دون الآخر، مثل قوله(ص): «القاتل لايرث»[٤٩]، حيث خصص القاتل بعدم الإرث من بين بقية الورثة، فيعلم أنّ صفة القتل هي التي أوجبت حرمان القاتل من الإرث وثبوت الفرق بين القاتل وبين غيره في الإرث[٥٠].
الضرب الثاني: أن يكون حكم كلٍّ من الأمرين مذكورا في الخطاب. وهذا يمكن أن يقع على خمسة أنحاء:
النحو الأوّل: أن تكون التفرقة بينهما بذكر الشرط والجزاء كقوله(ص): «لا تبيعوا البر بالبر... فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد»[٥١]. فدلّ على أنّ اختلاف الجنس هو العلّة في جواز البيع مع التفاضل[٥٢].
النحو الثاني: أن تقع التفرقة بين الأمرين في الحكم بواسطة الغاية، كقوله تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ»[٥٣]، فهو يدلّ على أنّ ما جعل غاية في الحكم هو العلّة له[٥٤].
النحو الثالث: أن تقع التفرقة بين الأمرين في الحكم بواسطة الاستثناء، كقوله تعالى: «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ»[٥٥]، فدلّ على أنّ العفو هو العلّة في سقوط نصف المهر[٥٦].
النحو الرابع: التفرقة بين الأمرين بواسطة الاستدراك كقوله تعالى: «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ»[٥٧] فدلّ على أنّ التعقيد هو السبب والعلّة في المؤاخذة هنا[٥٨].
النحو الخامس: التفرقة بين الأمرين في الحكم بواسطة استئناف أحدهما بذكر صفةٍ من صفاته بعد ذكر الآخر، فتكون تلك الصفة هي المؤثرة في التفريق بينهما، كقوله(ص): «للراجلِ سهمٌ وللفارس ثلاثة أسهم»[٥٩] فتكون صفة «الفارس» هي السبب في التفريق بينهما في مقدار السهم[٦٠].

الصنف الخامس: النهي عما يمنع الواجب، على أنّ العلّة في النهي عنه كونه مانعا من الواجب

كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ»[٦١] فالنهي عن البيع هنا لأجل كونه مانعا من الذكر وهو صلاة الجمعة لا أنّه منهي عنه في نفسه[٦٢].

==النوع السادس: اقتران الحكم بوصف مناسب==[٦٣].
ومُثِّل له بقوله (ص): «لايقضي القاضي وهو غضبان[٦٤]» أو بقول «أكرمِ العلماء وأهِنِ الجهّال» واستدلّ الآمدي[٦٥] على أنّ مثل هذا الاقتران يُفيد العليّة بدليلين:
الدليل الأوّل: ما اُلفَ من عادة الشارع من اعتبار الأوصاف المناسبة.
الدليل الثاني: ما علم من حال الشارع من بنائه الأحكام على المصالح والمفاسد، فإذا اقترن وصف بحكم غلب على الظنّ أنّه العلّة الباعثة لتشريع هذا الحكم.

حكم الإيماء والتنبيه

يظهر أنّه لا كلام في حجّية الإيماء والتنبيه واعتباره في استكشاف علّة الحكم، فـ الإمامية منهم من اعتبره حجّة من باب حجّية الظهور، كما هو صريح العلاّمة الحلّي[٦٦] والمحقّق القمّي[٦٧] والمظفر[٦٨]، ومنهم من اعتبره حجّة من باب «تنقيح المناط» كما هو ظاهر الفاضل التوني[٦٩] وصريح المحقّق الحلّي[٧٠].
وأما أهل السنّة فقد أرسلوه إرسال المسلّمات وذكروه في المسالك المعتبرة في استكشاف علل الأحكام. لكن وقع الكلام عندهم في أنّ الوصف المومئ إلى علّيته هل يجب أن يكون مناسبا للحكم المقترن به أو لايجب أن يكون مناسبا؟ أقوال ذكرت في ذلك:

القول الأوّل: عدم اشتراط المناسبة

وهو اختيار الغزالي[٧١]، والرازي[٧٢]، وابن قدامة[٧٣]، والبيضاوي[٧٤]، والطوفي[٧٥]، والعلاّمة الحلّي[٧٦]، وابن عبدالشكور[٧٧]، والسعدي[٧٨]، ونسب إلى الأكثر[٧٩].
واستدلّ لعدم اشتراط المناسبة بدليلين:
الأوّل: أنّه لا إشكال في استقباح قول «أكرموا الجهّال واستخفُّوا بالعلماء» وهذا الاستقباح إمّا لكون المفهوم منه استحقاق الجاهل للإكرام لجهله واستحقاق العالم للاستخفاف لعلمه، وإمّا لكون المفهوم منه مجرّد جعل الجاهل مستحقّا للإكرام والعالم مستحقّا للاستخفاف. والاستقباح بالمعنى الثاني لا وجه له؛ لأنّ الاستحقاق قد يكون لأمرٍ آخر كشجاعة الجاهل وفسق العالم، فلم يبق إلاّ المعنى الأوّل للاستقباح وهو يفيد أن ترتُّب الحكم على وصف بمجرده يفيد التعليل؛ ولذلك وقع هذا التعليل موقع الاستهجان من قبل العُرف[٨٠].
الثاني: أنّه لابدّ لكلّ حكم من علّة، ولا علّة إلاّ الوصف الموجود الذي اقترن بالحكم، أمّا الأوّل؛ فلأنّه من العبث ثبوت الحكم من دون علّة، والعبث مُحال في حقّ الشارع الحكيم، وأمّا الثاني؛ فلأنّ غيره معدوم وهو لايصلح أن يكون علّة، فوجب أن يكون الوصف الموجود المومئ إلى علّيته هو العلّة سواء كان مناسبا أم لا[٨١].

القول الثاني: اشتراط المناسبة

ذكره ابن الهمام[٨٢]، والآمدي[٨٣]، ولم ينسباه إلى أحد معيّن، واختاره الخضري[٨٤] من المتأخّرين.
ويمكن أن يذكر لهذا القول عدّة أدلّة:
الأوّل: أنّ طريقة الشارع في تشريع الأحكام تتبع طريقة العقلاء، والعقلاء طريقتهم قائمة على التعليل بالأوصاف المناسبة لا كلّ وصف[٨٥].
الثاني: إجماع المسلمين على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد من غير فرق في ذلك بين العدلية و الأشاعرة، فوجب أن يكون كلّ حكم معللاً بوصف مناسب لا كلّ وصف[٨٦].
الثالث: الغالب في أحكام الشارع تعليلها بالأوصاف المناسبة؛ لأنّها أقرب للانقياد بها إلى الشارع من غيرها[٨٧].

القول الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الإيماء مستندا إلى الوصف المناسب

مثل قوله(ص): «لايقضي القاضي وهو غضبان»[٨٨] فتشترط المناسبة؛ لأنّه لايتصوّر فهم التعليل من دون فهم المناسبة، وبين ما إذا لم يكن الإيماء مستندا إلى الوصف المناسب فلاتشترط المناسبة، لفهم التعليل من غيرها.
وهو اختيار الآمدي[٨٩]، وابن الحاجب[٩٠]، وابن الهمام[٩١].

المصادر

  1. . لسان العرب 4: 4363 مادة «ومأ».
  2. . الصحاح 1: 82 مادة «ومأ».
  3. . لسان العرب 4: 3832 مادة «نبه».
  4. . الصحاح 6: 2252 مادة «نبه».
  5. . الفصول الغروية: 147.
  6. . أنظر : هداية المسترشدين 2 : 417 ، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 186 ـ 187.
  7. . المنهاج الواضح 1: 397.
  8. . الوافية: 228.
  9. . سنن أبي داود 3: 251، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر، ح3359.
  10. . شرح مختصر الروضة 3: 361.
  11. . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 224.
  12. . أصول الفقه أبو زهرة: 133.
  13. . المعجم الأوسط 6: 91 ح5189، مجمع الزوائد 4: 110، عوالي اللئالي 1: 220.
  14. . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 184.
  15. . أنظر: المصدر السابق: 185، أصول الفقه أبو زهرة: 133.
  16. . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 186.
  17. . أصول الفقه أبو زهرة: 130.
  18. . الأحقاف: 15.
  19. . البقرة: 233.
  20. . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 188.
  21. . المصدر السابق: 187.
  22. . المصدر نفسه: 155.
  23. . لمحات الأصول: 275 ـ 279.
  24. . أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 183 ـ 184.
  25. . المصدر السابق: 184.
  26. . شرح مختصر الروضة 3: 374 ـ 375، تيسير التحرير 4: 41 ـ 42.
  27. . سنن أبي داود 3: 178، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إحياء الموات ح 3073، الكافي 5: 280، كتاب المعيشة، باب في إحياء أرض الموات ح6.
  28. . البقرة: 275.
  29. . أنظر: نص الحديث: سنن الدارمي 2: 50، عوالي اللئالي 4: 6.
  30. . أنظر: بذل النظر: 617، المحصول 2: 313.
  31. . المائدة: 38.
  32. . المعجم الكبير 10: 28.
  33. . أنظر: شفاء الغليل: 27، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 224، روضة الناظر: 156، شرح مختصر الروضة 3: 362، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 5: 2038.
  34. . المحصول 2: 315.
  35. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 224 ـ 225.
  36. . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 46، وأنظر: الفائق في أصول الفقه 2 : 261.
  37. . أنظر: السنن الكبرى 4: 222 ـ 223 كتاب الصيام، كفارة من أتى أهله في نهار رمضان وهو صائم، وسائل الشيعة 10: 46 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم وقت الإمساك، باب 48 من أفطر يوما من شهر رمضان عمدا وجب عليه... ح5.
  38. . أنظر: شفاء الغليل: 32 ـ 33، المحصول 2: 315 ـ 316، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 225 ـ 226.
  39. . مجمع الزوائد 8: 313.
  40. . أنظر: شفاء الغليل: 41، بذل النظر: 618، المحصول الرازي 2: 316، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 226.
  41. . صدر الحديث ورد في قضية، وذيله ورد في قضية أخرى فهما حديثان وليس بحديث واحد. أنظر: السنن الكبرى 1: 372 و377، كتاب الطهارة، باب 257 ح 1159 و1176.
  42. . أنظر: شفاء الغليل: 39 ـ 40، بذل النظر: 618، المحصول 2: 316، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 50، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 5: 2048.
  43. . فيه: إذا يَبِسَ.
  44. . سنن أبي داود 3: 251، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر، ح 3359.
  45. . أنظر: بذل النظر: 618 ـ 619، المحصول الرازي 2: 317، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 227، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 51.
  46. . شفاء الغليل: 44.
  47. . السنن الكبرى 4: 368 كتاب الصيام باب 25 من طلع الفجر عليه وفي فيه شيء ح: 8018.
  48. . أنظر: شفاء الغليل: 44، بذل النظر: 619، المحصول الرازي 2: 317، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 51 ـ 52.
  49. . سنن ابن ماجة 2: 883، كتاب الديات، باب 14 القاتل لايرث ح2645، دعائم الإسلام 2: 386 ح1375.
  50. . أنظر: شفاء الغليل: 46 ـ 47، بذل النظر: 619، المحصول 3: 317، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 228، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 52.
  51. . أنظر: سنن الترمذي 3: 541، كتاب البيوع، باب 23 ما جاء في الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل وكراهية التفاضل فيه ح1240 باختلاف.
  52. . أنظر: المحصول 2: 317، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 229.
  53. . البقرة: 222.
  54. . أنظر: شفاء الغليل: 48، المحصول 2: 317، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 229.
  55. . البقرة: 237.
  56. . أنظر: المحصول 2: 318، الإحكام الآمدي 3: 229.
  57. . المائدة: 89.
  58. . أنظر: شفاء الغليل: 48 ـ 49، المحصول 2: 318.
  59. . أنظر: سنن أبي داود 3: 75 ـ 76، كتاب الجهاد، باب في سُهْمانِ الخيل، ح2733 ـ 2735 باختلاف.
  60. . أنظر: المحصول 2: 318، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 229.
  61. . الجمعة: 9.
  62. . أنظر: شفاء الغليل: 50 ـ 51، بذل النظر: 619، المحصول الرازي 2: 318، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 229، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 53.
  63. . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 229 ـ 230، روضة الناظر: 157، منتهى الوصول: 180، شرح مختصر المنتهى 3: 402.
  64. . تقدم استخراج الحديث آنفا.
  65. . الإحكام 3ـ4: 230.
  66. . تهذيب الوصول: 252.
  67. . القوانين المحكمة: 295.
  68. . أصول الفقه 1ـ2: 188.
  69. . الوافية: 228 ـ 229.
  70. . معارج الأصول: 185.
  71. . المستصفى: 2: 146، شفاء الغليل: 31.
  72. . المحصول 2: 313.
  73. . روضة الناظر: 156.
  74. . منهاج الوصول: 100.
  75. . شرح مختصر الروضة 3: 364.
  76. . تهذيب الوصول: 253.
  77. . مسلّم الثبوت 2: 298.
  78. . مباحث العلّة في القياس: 375.
  79. . أنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 48، إرشاد الفحول 2: 152.
  80. . أنظر: المحصول 2: 313 ـ 314، مباحث العلّة في القياس: 374 ـ 375.
  81. . أنظر: المحصول 2: 314 ـ 315، مباحث العلة في القياس: 375 ـ 376.
  82. . التحرير 3: 258.
  83. . الإحكام 3 ـ 4: 230.
  84. . أصول الفقه: 326.
  85. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 230.
  86. . أنظر: المصدر السابق: 231، تيسير التحرير 4: 45.
  87. . أنظر: تيسير التحرير 4: 45.
  88. . أنظر: نصّ الحديث: سنن الترمذي 3: 620 كتاب الأحكام ب 7 لايقضي القاضي وهو غضبان ح 1334، مستدرك الوسائل 17: 349، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب (2) كراهة القضاء في حال الغضب... ح 1 و2، باختلاف.
  89. . الإحكام 3 ـ 4: 231.
  90. . منتهى الوصول: 180، مختصر المنتهى الأصولي3: 404.
  91. . التحرير 3: 259.