استصحاب الأحكام

استصحاب الأحکام: والاستصحاب هو إبقاء الحکم الذي في الزمن السابق إلی اللاحق، والمراد بهذا العنوان إثبات إمکان الاستصحاب في الأحکام التکليفية کالوجوب والحرمة، و الأحکام الوضعية کالصحة والبطلان.

استصحاب الأحکام

1 ـ استصحاب الأحكام التكليفية

وهو الاستصحاب الذي يكون المستصحب فيه حكما تكليفيا لا وضعيا، من قبيل: استصحاب وجوب الصلاة أو الصوم أو التطهُّر. ذهب الفاضل التوني إلى عدم إمكانية الاستصحاب في الأحكام التكليفية؛ باعتبار أنَّها لاتثبت إلاَّ بالأدلَّة المنصوصة، والاستصحاب ليس منها، والخلاف الحاصل في الاستصحاب خاص بالأحكام الوضعية. لكنَّ جلَّ الأصوليين رفض هذا التفصيل.

2 ـ استصحاب الأحكام الوضعية

وهو الاستصحاب الذي يكون المستصحب فيه حكما وضعيا لا تكليفيا، من قبيل: الأسباب والشروط والموانع، وقد حصل نقاش في جريان الاستصحاب في بعض مواردها، من قبيل: الشكّ في السببية والمانعية، فقد قال الفاضل التوني بعدم جريان الاستصحاب فيها، ويجري في نفس الأسباب و الشروط و الموانع كالبلوغ ؛ باعتباره سببا للتكليف والطهارة التي هي شرط للصلاة والحيض المانع منها. وقد رفض هذا الرأي جلّ أصوليي الشيعة.

3 ـ استصحاب أحكام الشرائع السابقة

يراد منه استصحاب الأحكام الواردة في الشرائع السابقة، والتي لم يرد فيها حكم مباشر في الشريعة الإسلامية، والحكم ببقائها وعدم نسخها. من الأمثلة التي ذكرت لأحكام الشرائع السابقة، هو القرعة الواردة في قصة زكريا وقصَّة يونس في كتاب اللّه‏، فيستصحب هذا الحكم ويُحكم بثبوته لنا كذلك.

التعبُّد بشرائع من قبلنا

يبدو أنَّ جريان الاستصحاب في الشرائع المتقدِّمة متوقّف على القول بالتعبُّد أو عدم التعبُّد بها، وجريان الاستصحاب بحث مطروح بالنسبة إلى مَن قال بالتعبُّد أو بإمكانه نظريا على أقلِّ تقدير، والذي لم يقل به ينفي موضوع الجريان من الأصل. وقد اختلف أصوليو أهل السنّة ـ كما هو حال الشيعة ـ في قضية التعبُّد وانقسموا إلى طوائف:
الطائفة الأولى: نفي التعبُّد مطلقا، بل كان الرسول(ص) منهيّا عنها، حكاه ابن السمعاني عن أكثر المتكلّمين، وجماعة من أصحابه الشافعية ومن الحنفية، وهو آخر قولي الشيخ أبي إسحاق، واختاره الغزالي في آخر عمره، وقال ابن السمعاني: إنَّه المذهب الصحيح.
الطائفة الثانية: كونها شرائع لنا كذلك إلاَّ ما ثبت نسخه، وهو لأبي إسحاق، و نُقل عن أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد في إحدى الروايتين عنه، وعن بعض أصحاب الشافعي، كما نقله ابن السمعاني عن أكثر أصحابه الشافعية وعن أكثر الحنفية وطائفة من المتكلّمين، وقال ابن القشيري: هو الذي صار إليه الفقهاء.
الطائفة الثالثة: التفصيل، وفيه أقوال كثيرة، فمنهم من قال: شرع إبراهيم عليه‏السلام وحده شرع لنا دون غيره، ومنهم من قال: شريعة موسى عليه‏السلام شرع لنا إلاَّ ما نسخ بشريعة عيسى عليه‏السلام، ومنهم من قال: شريعة عيسى عليه‏السلام شرع لنا دون غيره.
الطائفة الرابعة: الوقف، حكاه الغزالي في «المنخول»، و ابن القشيري، و استبعده الآمدي. ولكلٍّ من الطوائف والأقوال أدلَّتها ونقاشاتها وتفريعاتها.
فمن المحتمل بالنسبة إلى أصحاب الطائفة الأولى والرابعة، الذين ينفون تعبُّد الرسول(ص) بالشرائع السابقة أو يقفون في ذلك، أن يعمّموا الأمر إلى عامة الناس وينفوا الاستصحاب، ولهذا نجد الزركشي يطرح موضوع استصحاب شرائع من قبلنا كأحد تنبيهات موضوع شرائع من قبلنا وتعبّد النبي(صلی‌الله عليه وآله وسلم) به، وأبا إسحاق الشيرازي يطرح موضوع شرع من قبلنا كشرع لنا أم لا، دون الإشارة إلى تعبّد الرسول(صلی‌الله عليه وآله وسلم) به أو عدم تعبّده، والآمدي يطرح موضوع تعبّد الرسول(صلی‌الله عليه وآله وسلم) والأمة في مكان واحد. ومن المحتمل كذلك أنّهم لايجدون علاقة بين الأمرين، فقد يقولون باستصحاب الشرائع السابقة لعامة الناس رغم نفيهم تعبُّد النبي(صلی‌الله عليه وآله وسلم) بها. الشيخ الأنصاري والآخوند وغيرهما اختاروا الجريان، لكنَّ الأكثر قال بعدم جريانه للقرائن التالية:
الأولى: تغاير موضوع الشرائع السابقة، من حيث أنَّ المدركين لها هم المكلَّفون بها دون غيرهم، وقد انقرضوا حاليا.
الثانية: أنَّ الشرائع السابقة قد نُسِخَت بالإسلام، فلا يجوز البقاء على أحكامها.
الثالثة: انعدام الجدوى منه، فإنَّه على فرض جريان الاستصحاب لابدَّ من إمضاء الشارع والصادع بالشريعة لها؛ وذلك بدليل قوله(ص): «ما من شيء يقرّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلاَّ وقد أمرتكم به»، ومع عدم العلم بالإمضاء لا تكون هناك جدوى للاستصحاب. أمَّا القائلون بجريانه فقد استدلّوا على حجّيته بوجود المقتضي من اليقين بالحكم سابقا والشكّ به لاحقا وعدم وجود المانع، فلا فرق في المستصحَب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أو حكما من الشرائع السابقة، مع أنَّ أدلَّة الاستصحاب عامة، والقرائن المزبورة مرفوضة. أمَّا القرينة الأولى فتردُّ بأمور:
أولاً: أنَّ من أدرك الشريعتين يكون متيقنا بالحكم فيستصحبه، وبقاعدة اشتراك التكليف نثبت الحكم لمن لم يدرك الشريعتين.
ثانيا: أنَّ الأحكام الشرعية موضوعة على نحو القضية الحقيقية وليس على نحو القضية الخارجية الخاصة بالأفراد الموجودين عند نزول التشريع، والموضوع فيها يؤخذ عنوانا كلّيا مرآتيا لما ينطبق عليه من الأفراد عند وجودها. والقرينة الثانية مردودة: بأنَّ العلم بالنسخ منحلّ إلى علم إجمالي وتفصيلي، فإنَّا على شكٍّ بدوي في بعض الموارد رغم علمنا تفصيلاً بنسخ الموارد الأخرى، فيمكننا إجراء الاستصحاب في الموارد الأخيرة (مشكوكة النسخ)، والشريعة السابقة وإن كانت منسوخة يقينا إلاَّ أنَّ ذلك لايوجب ارتفاع أحكامها بتمامها، و النسخ يعني عدم بقائها بتمامها لا ارتفاعها بتمامها. والقرينة الثالثة تُردُّ: بأنَّ حكم كلّ شريعة حكم إلهي ناشئ عن مصلحة تامة، فبقاؤه في الشريعة اللاحقة ملازم لإمضائه في تلك الشريعة، وبقاؤه يكشف عن تمامية ملاكه، وعدم إمضائه يساوق عدم تمامية ملاكه في الشريعة اللاحقة، وهو خلف، فالمفروض القول ببقاء ملاكه، وإلاَّ يلزم جهل الصادع بها، وهو مستحيل.

شروط جريان استصحاب شرائع من قبلنا

وعلى فرض جريان الاستصحاب فهناك شروط:
منها: أن يرد التشريع السابق عن طريق معتبر مثل القرآن والسنّة الصحيحة.
ومنها: أن لا تختلف في التحريم والتحليل شريعتان.
ومنها: أن يكون التحريم والتحليل ثابتا قبل تحريفهم وتبديلهم، فإن استحلّوا وحرّموا بعد النسخ والتحريف فلا عبرة به البتة.