الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مواضع جريان البراءة»

من ویکي‌وحدت
ط (استبدال النص - '====' ب'=====')
ط (استبدال النص - '=المصادر=↵{{الهوامش}}' ب'== الهوامش == {{الهوامش}}')
 
سطر ١٢٥: سطر ١٢٥:
<br>ثُمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة للاستحباب الاستقلالي، وأمّا الضمني الراجع إلى الوجوب الشرطي للجزء أو الشرط فقد اُدعي جريان البراءة فيه بلا كلام<ref>. أنظر : دراسات في علم الاصول 2 : 247، بحوث في علم الاصول 5 :  149.</ref>، وقد يستشكل فيه  أيضا بما ليس هنا محلّ ذكره فراجع المفصلات الأصولية<ref>. أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 150.</ref>.
<br>ثُمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة للاستحباب الاستقلالي، وأمّا الضمني الراجع إلى الوجوب الشرطي للجزء أو الشرط فقد اُدعي جريان البراءة فيه بلا كلام<ref>. أنظر : دراسات في علم الاصول 2 : 247، بحوث في علم الاصول 5 :  149.</ref>، وقد يستشكل فيه  أيضا بما ليس هنا محلّ ذكره فراجع المفصلات الأصولية<ref>. أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 150.</ref>.


=المصادر=
== الهوامش ==
{{الهوامش}}
{{الهوامش}}
{{الهوامش|2}}
{{الهوامش|2}}

المراجعة الحالية بتاريخ ١٨:٤٦، ٥ أبريل ٢٠٢٣

مواضع جريان البراءة: وهذا بحث مهمّ في جريان أصالة البرائة وقد تعرّضوا في مبحث البراءة من علم أصول الفقه لموارد مختلفة من حيث جريان البراءة وعدمه فيها، نتعرّض لأهمّها فيما يلي:

مواضع جريان البراءة (مجاري البراءة)

1 ـ الشكّ في أصل التكليف

قد جعل الشيخ الأنصاري أقسام الشكّ في التكليف الذي هو مجرى البراءة على ثمانية أقسام، باعتبار أنّ الشبهة تارة تكون وجوبية واُخرى تحريمية، وعلى كلّ تقدير فمنشأ الشكّ إما أن يكون فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين أو الاُمور الخارجية، وجعل لكلّ واحد منها بحثا مستقلاًّ[١]، ولعلّ غرضه من ذلك استقصاء جميع الأدلّة بالنسبة لكلّ مورد على حدّة لاحتمال وجود الفرق بينها في بعض الجهات.
بينما جعل المحقّق الخراساني وغيره البحث شاملاً لمطلق الشكّ في التكليف ـ الجامع لجميع الأقسام المزبورة ـ إذ إنّ ملاك جريان البراءة في الشكّ في التكليف واحد في جميع الأقسام، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلّف.
مع أنّ عمدة أدلّة البراءة أيضا شاملة لجميع الأقسام[٢]، لكنّه قد أخرج تعارض النصّين على إطلاقه من بحث البراءة وجعله من مباحث التعادل والترجيح، ولذلك قد أورد عليه: بأن ذلك إن كان مجرّد تقسيم موضوعي للبحث وفارغا عن حكم كلّ قسم من الاحتياط أو البراءة أو التخيير، فلا بأس به، وأمّا لو كان مراده الإخراج حكما ـ وإن كان بعيدا ـ فهو غير قابل للالتزام؛ إذ كثيرا ما يحكم في تعارض النصّين بعد تساقطهما ـ مع عدم مرجح في البين، وعدم عام فوقاني يشمل بعمومه المقام ـ إلى الاُصول العملية التي أحدها البراءة مع عدم وجود أصل حاكم في البين[٣].
وكيف كان فقد ذهب المشهور من العلماء ـ وهم جميع المجتهدين[٤] ـ إلى جريان البراءة في موارد الشكّ في التكليف أخذا بالآيات والأخبار الدالّة عليها من مثل قوله تعالى: «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا»[٥]. وقوله: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»[٦]. وقوله: «وَمَا كَانَ اللّهُ ... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ»[٧]. وحديث الرفع[٨] وحديث الحجب[٩] وحديث الاطلاق[١٠] وحديث السعة وغيرها، والإجماع[١١] والعقل[١٢] على ما مر شطر منها في أدلّة البراءة والتفصيل متروك إلى المفصلات الاُصولية.
والمعروف ممن خالفهم في ذلك معظم الأخباريين في خصوص الشبهة التحريمية من جهة فقدان النصّ[١٣] مستندين ببعض الآيات الناهية عن العمل بغير العلم[١٤] والدالّة على لزوم الورع والتقوى،[١٥] والأخبار الدالّة على حرمة القول بغير العلم[١٦] والآمرة بـ الاحتياط والتوقّف وردّ الأحكام إلى أهلها[١٧] وغيرها ممّا وقع الكلام عنها مع أجوبتها في المفصلات الاُصولية.
كما قد ينسب إلى المحقّق الحلّي التفصيل بين ما تعم به البلوى وما لا تعم فيعتبر أصل البراءة في الأوّل دون الثاني، ولكن بدقيق النظر في كلامه يتّضح أنّ كلامه غير مرتبط بمبحث البراءة من الاُصول العملية وقد مرّ شطر مما يرتبط بذلك في الألفاظ ذات الصلة فراجع.

2 ـ الشكّ في المكلّف به مع كون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر

وله قسمان:
أ ـ الأقلّ والأكثر الاستقلاليين.
ب ـ الأقلّ والأكثر الارتباطيان.
والمراد بالأول ما كان التكليف فيه بالأقل على تقدير ثبوته مستقلاً عن التكليف بالأكثر وغير مرتبط أحدهما بالآخر، وذلك مثل الدين، وقضاء الفائتة من الصلاة والصوم ونحوها. فإذا شكّ المكلّف أنّ لزيدٍ عليه ألف دينار أو ألفين، فحيث إنّ التكليف بوجوب ردّ الدين بالنسبة لكلّ جزء من المال ـ كالدرهم مثلاً ـ مستقل عن التكليف بوجوب ردّ سائر الدراهم، فيرجع الشكّ لا محالة بالنسبة للقدر الزائد على القدر المعلوم ـ وهو الأقلّ ـ إلى الشكّ في التكليف. وبتعبير آخر: التكليف بوجوب رد المال أو قضاء الصلاة أو الصوم بالنسبة للقدر المعلوم منها ثابت، وبالنسبة للأكثر مشكوك من أصله، وحيث إنّ التكليف بالأكثر على تقدير ثبوته واقعا مستقل عن سائر التكاليف ـ التي منها التكليف بالأقلّ ـ فالشكّ فيه لا محالة يكون من الشكّ في أصل التكليف[١٨]، ولذلك نرى أنّ كلماتهم في مبحث الأقلّ والأكثر مختصّة بالارتباطي، وأمّا الاستقلالي فرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في التكليف من الواضحات التي قد أرسل في كلماتهم إرسال المسلمات[١٩].
ولو وقع بينهم خلاف في بعض الفروع كالفائتة التي حكم بعضهم فيها بلزوم الاحتياط، فإنّما هو لزعمهم كون المورد من موارد الشكّ في الامتثال فيجب الاحتياط من باب المقدّمة العلمية لتحقّق الامتثال[٢٠].
والمراد بالثاني ما كان التكليف بالأقلّ على تقدير ثبوته مرتبطا بالتكليف بالأكثر في مقام تعلّق التكليف وفي مقام الامتثال بحيث لو اُتي بالأقلّ منفكا عن الأكثر لم يتحقّق امتثال أصلاً، وذلك كالعلم بوجوب الصلاة مع الشكّ في جزئية السورة وعدمها، حيث إنّ وجوب السورة ليس وجوبا مستقلاًّ عن وجوب سائر الأجزاء ـ كما كان في الدين ـ بل جميع الأجزاء يكون وجوبها بوجوب واحد قد تعلّق بالكلّ، لغرض واحد في الكلّ[٢١].
وهذا في مواضع العلم التفصيلي بالمكلّف به بأجزائه وشرائطه واضح، وإنّما الكلام في موارد الشكّ فيه بين الأقلّ والأكثر فهل يلحق بالاستقلالي في جريان البراءة أو بالمتباينين في لزوم الاحتياط؟ فيه خلاف.
وعمدة الكلمات من البراهين والنقوض في مبحث الأقلّ والأكثر منحصر في هذا القسم[٢٢].
ولا بأس بالتعرّض لبعض ما ذكر في هذا المجال من الأدلّة والنقوض على وجه الإجمال، بما يناسب هذا المختصر والمرسوم استقصاء البحث في ضمن الشكّ في الأجزاء، والشكّ في الشرائط ويلحق بها الموانع والقواطع. وكذا الشكّ في أنّ جزئية الشيء أو شرطيته أو مانعيته هل هي مطلقة وفي جميع الأحوال أو مختصّة بحال العلم والاختيار فهنا أقسام ثلاثة نتعرّض لكلّ منها إجمالاً فيما يلي:

الأوّل: الشكّ في الجزئية

المستفاد من كلمات بعضهم في الاُصول وبعض الفروع الفقهية الحكم بالبراءة مطلقا[٢٣]، بل هو المنسوب إلى المشهور من المتقدّمين والمتأخّرين[٢٤] والمنسوب إلى جمع من المتأخّرين القول بالاحتياط[٢٥].
نعم، صريح الشيخ الأنصاري التفصيل بين الشبهة الموضوعية والحكمية فالتزم بالاحتياط في الأوّل وبالبراءة في الثاني فيما إذا كان منشأ الشك فقدان النصّ أو إجماله[٢٦]، وأمّا إذا كان منشؤه تعارض النصّين فظاهره الميل إلى التخيير فيما إذا لم يكن هناك إطلاق يقتضي أصالة عدم تقييده عدم الجزئية[٢٧] وحمل إطلاق أكثر الأصحاب أيضا إليه[٢٨].
وأمّا المحقّق الخراساني فيظهر منه التفصيل في جميع الصوّر بين مقتضى العقل والنقل فحكم بالاحتياط العقلي لمكان العلم الإجمالي غير المنحلّ ـ على ما زعمه القوم ـ وبالبراءة الشرعية بمقتضى أدلّتها من الآيات والأخبار[٢٩].
وأمّا وجوه عدم انحلال العلم الإجمالي في الأقلّ والأكثر الارتباطي وما ذكر في قبالها من الجواب متروكة إلى المفصلات[٣٠].

الثاني: الشكّ في الشرطية

الكلام في الشكّ في الاشتراط والتقيد كالكلام في الشكّ في الجزئية ـ على ما مرّ إجماله، فيرجع فيه إلى البراءة كما صرح به جماعة[٣١]. نعم قد يستشكل في جريان البراءة بالنسبة لما إذا كان نسبة الشرط إلى المشروط نسبة الصفة إلى الموصوف والعارض إلى المعروض أو نسبة الفصل إلى الجنس[٣٢]، وتفصيل الكلام في كلّ من الوجوه وما ورد في التعليق عليها من الجواب[٣٣] متروك إلى محله من علم الاصول.

الثالث: الشكّ في إطلاق الجزئية والشرطية وعدمه (الشكّ في الركنية وعدمها)

وأمّا القسم الثالث وهو الشكّ في أنّ جزئية الشيء أو شرطيته مطلقة وفي جميع الأحوال ـ والتي يعبّر عنها بالركن ـ أو مختصّة بحال العلم والاختيار المعبر عنه بالجزء أو الشرط العلمي أو الذكري أو غير الركني، فمثاله: ما إذا شكّ في أنّ طهارة البدن أو الثوب في الصلاة شرط واقعي وفي جميع الأحوال أو مختص بحال العلم؟ وحكمه أنّه إن كان هناك إطلاق دالّ على الجزئية أو الشرطية في جميع الأحوال فحاصله الركنية وبطلان العمل بفقده مطلقا وعلى كلّ حال، وإلاّ فإن كان هناك إطلاق في دليل الواجب الارتباطي من حيث وجود الجزء أو الشرط المشكوك وعدمه، فحاصل ذلك عدم ركنية الجزء أو الشرط المشكوك وبالتالي صحّة العمل الفاقد للجزء أو الشرط المشكوك في هذا الحال[٣٤] وهذا لا كلام فيه وإنّما الكلام في صورة عدم وجود الاطلاقين المزبورين؛ إذ معه تصل النوبة إلى الأصول العملية لا محالة، ويقع البحث عنه في موردين: الأوّل: ما إذا لم يتمكن المكلّف من الإتيان بالعمل مستجمعا للأجزاء والشرائط للعجز أو النسيان، ثم يرتفع العجز أو النسيان. الثاني: ما إذا تمكن من ذلك.
أمّا الأوّل: فمثاله ما ءذا أمر المولى عبده بالوقوف في يوم معيّن من طلوع الشمس إلى الزوال، ونسي المكلّف فلم يقف ساعة من أوّل النهار، وشكّ في أنّ جزئية الوقوف في هذه الساعة هل هي مطلقة ـ حتّى مع النسيان ـ فلا يكون الإتيان بالباقي واجبا بعد ـ أو مختصّة بفرض الذكر ليكون الوجوب مع سقوطه عن الجزء الأوّل بالنسيان متعلّقا بالساعات الباقية من اليوم ـ فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في أصل التكليف بالباقي، بعد العلم بسقوطه عن الساعة الأولى فيرجع فيه إلى البراءة[٣٥]. وهذا واضح.
وأمّا الثاني: فيكون الشكّ في إطلاق الجزئية أو الشرطية أو تقييدها بحال الذكر شكّا في أنّ التكليف هل هو بخصوص المشتمل على الجزء أو الشرط على كلّ حال أو بالجامع بين المشتمل في حال الذكر والفاقد في حال النسيان، وهو صرف الطبيعة فيكون الأقلّ ـ وهو القدر الجامع معلوما ـ والأكثر ـ وهو المقيّد بالمنسي ـ على كلّ حال مشكوكا، فيرجع فيه إلى البراءة، فلا يحكم بالجزئية إلاّ في القدر المتيقن وهو حال الذكر، ونتيجته وجوب الباقي في فرض النسيان[٣٦].
لكن ذلك بناء على إمكان تكليف الناسي بالباقي الأقلّ حال النسيان، وقد استشكل بعض الأساطين ـ كالشيخ الأنصاري ـ في ذلك بأنّ ذلك غير ممكن؛ لأنّ التكليف بالأقل إن خصّص بالناسي فهو محال؛ لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسيا، فلا يتوجّه إلى الخطاب، وإن جعل على المكلّف عموما شمل المتذكر أيضا مع أنّ المتذكر لا يكفي منه الأقل وليس مأمورا بالأقلّ إلاّ مع ضم الأكثر[٣٧].
وقد اُجيب عن ذلك تارة بإمكان توجيه الخطابين أحدهما إلى جميع المكلّفين ـ ومنهم الناسي ـ بالخالي عن المشكوك دخله في الحالة الخاصّة، والثاني إلى خصوص الذاكر بوجوب الجزء، واُخرى بإمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بالخالي عن الجزء المشكوك دخله بعنوان آخر عام أو خاصّ، لا بعنوان الناسي كي يستلزم ما ذكر[٣٨]، واستشكل بعضهم في الجواب الثاني ورجّح الأوّل بما ليس هنا محلّ ذكره[٣٩].
وممّا ذكر اتّضح الحكم بالنسبة للشكّ في إطلاق الجزئية والشرطية لحالة التعذر والعجز وعدمه أيضا، إذ التعذر والعجز لا يخلو إمّا أن يكون بالنسبة لبعض الوقت أو تمامه، ففي الحالة الاُولى يحصل للمكلف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال التعذر والعجز والصلاة التامّة مع القدرة، أو بوجوب الصلاة التامّة عند ارتفاع العذر؛ لأنّ جزئية المتعذر إن كانت ساقطة في حالة التعذر فالتكليف متعلّق بالجامع لا محالة، وإلاّ كان التكليف متعلّقا بالتامّة عند ارتفاع العذر، فالجامع معلوم والزائد مشكوك وتجري البراءة عنه.
والفرق بين التعذر والعجز والنسيان أنّ العاجز حيثما كان ملتفتا فيحصل له التردد والشكّ المزبور حين التعذر بخلاف الناسي، إذ هو غير ملتفت، بل يلتفت بعد الخروج من الجزء المنسي أو بعد العمل تماما، فيحصل له هذا الشكّ بعدا.
هذا في العذر غير المستوعب للوقت، وأمّا العذر المستوعب فحيث إنّه يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بالتكليف بالناقص في الوقت أو بالتامّ بعد الوقت ورفع التعذر ـ إذا كان للواجب قضاء ـ وأمره دائر بين المتباينين فهو منجز ويجب موافقته بالجمع[٤٠].

الشكّ في المانعية والقاطعية وعدمهما

واتّضح الحال أيضا بالنسبة للشكّ في مانعية الشيء وعدمه ـ وأنّه أخذ في التكليف عدمه شرطا أو شطرا أم لا؟ ـ إذ هو أيضا من موارد الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطي، ويجري فيه ما مرّ من جريان البراءة عقلاً ونقلاً أو نقلاً فقط، فتجري البراءة عن الزيادة ـ أي عن مانعية أو قاطعية الشيء المشكوك[٤١].
كما اتّضح الحال بالنسبة للشكّ في إطلاق المانعية وتقيدها بحال الذكر والاختيار؛ لوحدة الملاك كما لا يخفى.

3 ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في المحرمات

وذلك بأن يعلم بحرمة شيء مردد بين الأقلّ والأكثر، كما إذا علم بحرمة تصوير خصوص رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه لمجموعه، وهذا بالدقّة راجع إلى الدوران بين التعيين والتخيير؛ وذلك لأن حرمة الأكثر ـ وهو المجموع ـ في قوة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييرا؛ لأنّ ترك الكلّ كما يتحقّق بتركه جميعا كذلك يتحقّق بترك أحد أجزائه تخييرا، كما أنّ حرمة الأقلّ ـ وهو خصوص الرأس مثلاً ـ في قوة وجوب ترك هذا الجزء الخاصّ تعيينا. فيرجع الدوران بين الأقلّ والأكثر في التحريم إلى الدوران بين التعيين والتخيير، وحكمه حكمه فيرجع إلى البراءة عن تحريم الأقلّ وهو خصوص الرأس، ولا يعارضها البراءة عن تحريم الأكثر ـ وهو المجموع ـ بعين ما ذكر في محلّه من عدم معارضة البراءة عن وجوب الأكثر مع البراءة عن وجوب الأقلّ، والوجه فيهما كون البراءة مخالفا للامتنان فلا تجري حتّى تعارضها.
ومن ذلك اتّضح أنّ الأمر في الدوران بين الأقلّ والأكثر في التحريم على العكس منه في الوجوب في جهتين:
الأوّل: في جانب الحكم على ما مرّ توضيحه.
الثاني: في جانب قلة المؤونة وكثرتها على المكلّف؛ إذ أنّ وجوب الأقلّ أخف مؤونة على المكلّف، وبخلافه تحريم الأقلّ فإنّه أكثر مؤونة وأشدّ على المكلّف، فالتخفيف على المكلّف في الإيجاب يكون في إيجاب الأقلّ، وأمّا التخفيف على المكلف في التحريم إنّما يكون في تحريم الأكثر المجموع لا الأقلّ[٤٢].

4 ـ موارد انحلال العلم الإجمالي حكما (بجريان الأصول المؤمنة في بعض الأطراف)

لا كلام عندهم في لزوم الاحتياط في موارد العلم الإجمالي من الخارج ـ من إجماع وغيره ـ بوجوب أو حرمة أحد الأمرين أو الأمور على وجه الشبهة المحصورة لما ثبت عندهم في محلّه من منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي في الشبهة المحصورة[٤٣] في الشبهات الوجوبية والتحريمية، بالنسبة لوجوب الموافقة القطعية فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية[٤٤]، نعم هناك موارد قد يحكم فيها بانحلال العلم الإجمالي تعبّدا وحكما بجريان الأصل بلا معارض في بعض الأطراف دون غيرها، إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء، أو كان المكلّف مضطرا إلى ارتكاب بعض الأطراف قبل العلم وغير ذلك مما يوجب الانحلال وسقوط العلم عن المنجزية على ما فصل في محلّه من علم الاصول[٤٥].
وأمّا الشبهة غير المحصورة فالمشهور[٤٦] إن لم نقل المسلم عندهم عدم لزوم الاحتياط وجواز الرجوع فيها إلى البراءة، مستدلّين على ذلك تارة بعدم العلم معه بتكليف فعلي[٤٧]، واُخرى بالاطمئنان بعد انطباق المعلوم بالإجمال بالطرف المبتلى به[٤٨]. وثالثة: بجريان الأصول المؤمنة من دون استلزام للمخالفة القطعية العملية وذلك لكثرة الأفراد بدرجة لا يؤدّي إلى فسح المجال لارتكابها جميعا[٤٩] أو لأنّ كثرة الاحتمال توجب عدم اعتناء أهل العرف بالضرر المحتمل بين المحتملات[٥٠]. ورابعة بالإجماع[٥١]. وخامسة: بلزوم العسر والحرج في اجتناب الجميع[٥٢] وسادسة بالأخبار العامّة ـ وهي أخبار الحلّ ـ والخاصّة[٥٣].
وقد وقعت بينهم في كلّ من هذه الأدلّة مناقشات وأجوبة نترك ذكرها للمفصلات الأصولية فراجع[٥٤].
هذا بالنسبة للعلم الإجمالي الحاصل من غير جهة تعارض الخطابين وأمّا في موارد العلم الإجمالي الحاصل من تعارض الخطابين فقد وقع الخلاف بينهم في مقتضى الأصل، فهل هو التخيير عقلاً أو شرعا، أو هو التساقط؟ فعلى التخيير لا تصل النوبة إلى أصل البراءة أصلاً كما هو واضح، وأمّا بناء على القول بالتساقط وخلو المسألة عن العمومات والإطلاقات فالمرجع لا محالة هو الأصول العملية ـ الجارية في موضوع المسألة أو حكمها ـ التي منها أصالة البراءة، فيرجع إليها إذا لم يكن هناك أصل من الأصول الحاكمة.
وفي الحقيقة يرجع الأمر في النهاية إلى الشك في التكليف. نعم، إذا كانت الشبهة تحريمية فيكون المرجع فيها عند بعض ـ كالأخباريين ـ هو الاحتياط، كما ثبت في محلّه.

5 ـ الدوران بين التعيين والتخيير

ذكروا للدوران بين التعيين والتخيير أقساما ثلاثة:
القسم الأوّل: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعية، كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو تخييري؟
والقسم الثاني: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّية التي هي من الشكّ في مقام الجعل في الأحكام الظاهرية، كما إذا شكّ في أنّ تقليد الأعلم واجب تعيينا على العامي العاجز عن الاحتياط أو تخييرا بين تقليد الأعلم وغير الأعلم؟
القسم الثالث: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال بعد تعيّن التكليف في مقام الجعل، كما إذا كان هناك غريقان ويحتمل كون أحدهما نبيا ولم يتمكن المكلّف من إنقاذهما معا فيدور الأمر بين وجوب إنقاذ من يحتمل نبوته تعيينا أو تخييرا بينه وبين الآخر.
وجميع الصور الثلاث يكون محلاًّ للكلام في جريان البراءة فيها أو الاحتياط لكن بشرطين:
الأوّل: عدم وجود أصل لفظي من عموم أو إطلاق. ولا أصل موضوعي رافع للشكّ، كما في سائر الأصول العملية.
الثاني: أن يكون التكليف في الجملة متيقنا بأن يكون الأمر دائرا بين تعيينيته وتخييريته، وأمّا إذا احتمل عدم التكليف أيضا كما إذا دار الأمر بين الإباحة والوجوب تعيينا أو تخييرا ـ فهو وإن كان محلّ البراءة قطعا إلاّ أنّه خارج عن محلّ الكلام ـ وهو الدوران بين التعيين والتخيير ـ وداخل في مواضع الشكّ في أصل التكليف كما لا يخفى[٥٥].
وأمّا الحكم في القسم الثاني ـ وهو الدوران بين التعيين والتخيير في الحجّية ـ فهو التعيين، وذلك للشكّ في حجّية الطرف التخييري ـ كتقليد غير الأعلم ـ وأنّه مبرئ للذمّة أم لا؟، وقد ثبت في علم الاصول أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للعلم بعدم الحجّية الفعليّة، فكلّ ما شكّ في حجّيته لشبهة حكمية أو موضوعية لا يصحّ الاعتماد عليه في مقام العمل، ولا يصلح إسناد مؤداه إلى المولى في مقام الإفتاء.
وكذلك الحكم في القسم الثالث؛ إذ التكليف فيه معلوم ولزوم الخروج من عهدته ثابت عقلاً، وهو مع الأخذ بمحتمل الأهمّية ـ وهو من يحتمل نبوته ـ محرزٌ؛ إذ يكون معه ترك الآخر بالعذر عقلاً وشرعا، دون العكس، فإن ترك محتمل الأهمّية في مقام الامتثال وأخذ غيره لا يعدّ عذرا لا عقلاً ولا شرعا، وبتعبير آخر: الواجبان المتزاحمان حيث كانا معا مشتملين على المصلحة والملاك الواجب التدارك، إلاّ أنّ المكلّف لا يقدر على تدارك كلا الملاكين، فله أن يترك أحدهما بفعل الآخر، فلو كان أحدهما معلوم الأهمّية تعيّن الأخذ به، كما إذا كانا متساويين فله أخذ أيّهما شاء فيكون في هاتين الصورتين في ترك ملاك الآخر معذورا عقلاً بل شرعا؛ لأنّ المولى أمره أو أجازه في صرف القدرة في الآخر. وأمّا إذا احتمل أهمّية أحدهما فيكون في صرف القدرة في محتمل الأهمّية وبالتالي ترك الآخر معذورا قطعا عقلاً وشرعا؛ لأنّه إمّا متعين الأخذ واقعا أو مخيره، وهذا بخلاف العكس لاحتمال ترك ما هو الأهمّ واقعا من دون عذر ومؤمِّن من عقل أو شرع؛ لأنّ الفرض عدم أمر الشارع بصرف القدرة في غير الأهمّ، والعقل أيضا إنّما حكم بلزوم الخروج من عهدة التكليف المعلوم بقدر الإمكان، ويكون أخذ غير محتمل الأهمّية وترك المحتمل من التقصير في مقام الامتثال وتدارك الملاك الواجب[٥٦].
وأمّا القسم الأوّل: فقد ذكروا له صورا ثلاثا، أهمها ما إذا علم بثبوت الحكم في شيء كوجوب الظهر يوم الجمعة، ومع ذلك احتمل وجوب الجمعة كعدل له فيدور الأمر بين تعيّن الوجوب في الظهر أو التخيير فيه بين الظهر والجمعة، أو علم بوجوب الصيام في يوم، ومع ذلك يحتمل أن يكون اطعام عشرة مساكين عدلاً له في الوجوب.
وقد اختلف في حكم هذه الصورة من هذا القسم. فذهب جماعة إلى التعيين والاشتغال وجماعة إلى البراءة.
واستدلّ المحقّق الخراساني على التعيين بأنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير إن كان من جهة احتمال أخذ شيء شرطا للواجب فيحكم فيه بالتخيير رفضا للشرط المحتمل؛ لأن الشرطية أمرٌ قابل للوضع والرفع، وأمّا إذا كان منشأ الدوران احتمال خصوصية في ذات الواجب ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا يمكن الرجوع فيه إلى أدلّة البراءة؛ وذلك لأنّ الخصوصية المحتملة إنّما تكون منتزعة من نفس الخاصّ، وذات الواجب المعيّن، فلا تكون قابلة للوضع والرفع، فلا مناص من الحكم بالاشتغال والالتزام بالتعيين في مقام الامتثال[٥٧].
واُجيب عنه: بأنّ الخصوصية وإن كانت منتزعة من نفس الخاصّ وغير قابلة للوضع والرفع بنفسها، إلاّ أنّ اعتبارها في المأمور به قابل لهما، فإذا شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة[٥٨].
واستدل المحقّق النائيني على اليقين في المقام بالشكّ فيه من الشكّ في الامتثال وافراغ الذمة بعد العلم بثبوت التكليف، مثلاً إذا دار الأمر في كفارة تعمد الإفطار بين خصوص صيام شهرين والأعم منه ومن إطعام ستّين مسكينا، فتعلّق التكليف معلوم للإفطار المزبور، كما أنّ إفراغ الذمّة بالصيام أيضا معلوم، وأمّا الإطعام فإفراغ الذمّة به مشكوك فيه فيتعين في مقام إفراغ الذمّة من الحكم بتعيّن الصيام عقلاً.

6 ـ البراءة في الواجبات التخييرية والكفائية

جريان البراءة في الشبهات الوجوبية عادة يكون في الدوران بين الإباحة والوجوب التعييني والعيني.
وأمّا إذا دار الأمر بين الإباحة والوجوب التخييري ـ بمعنى الشكّ في أنّ هذا الشيء مباح أو عدل لوجوب تخييري ـ أو دار الأمر بالنسبة لمكلّف في أنّه بريء أو مكلّف بوجوب كفائي ـ بمعنى كونه أحد اطراف الوجوب الكفائي ـ فهل تجري البراءة هنا أيضا أو لا؟
ولعلّ الظاهر من إطلاق أدلّة البراءة ـ بعد صدق التكليف على التخييري والكفائي ـ وكذا إطلاقات الفقهاء جريان البراءة فيهما أيضا، ولكن الظاهر من الشيخ الأنصاري عدم الجريان، حيث إنّه استظهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعييني ـ سواء كان أصليا أو عرضيا كالواجب التخييري المتعين في حال الانحصار ـ أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والإباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة لظهورها في رفع الشيء المجهول تعيينا بحيث يلتزم به ويعاقب عليه بالخصوص[٥٩].
ولكن هذا الكلام بظاهره محلّ الاشكال؛ لعدم اختصاص أدلّة البراءة بما إذا كان الوجوب المشكوك تعيينا، بل يشمل صورة الشكّ في الوجوب التخييري أيضا فكما تجري البراءة عن وجوب الظهر تعيينا، كذلك تجري البراءة عن كون الجمعة عدلاً للوجوب التخييري أيضا؛ لأنّه أيضا من الشكّ في التكليف. ولذلك أنكر المحقّق الخراساني هذا الظاهر وحمله على صورة العلم الإجمالي حيث قال: «ظاهره وإن كان يوهم أنّه لا مجال لأصالة البراءة فيما لو شكّ في أصل توجّه الخطاب التخييري إلاّ أنّه غير مقصود جزما؛ بداهة عدم التفاوت في قاعدة قبح العقاب بلا بيان وغيرها من أدلّة البراءة بين الوجوب التعييني والتخييري. وإنّما المقصود أنّه لا مجال لها بعد العلم بتوجّه أصله لو شكّ في كيفيته وأنّه على نحو التعيين بأن يكون متعلّقا بغير ما شكّ في وجوبه وإباحته، أو على التخيير بأن يكون متعلّقا به أيضا[٦٠].
ويؤيّد هذا الحمل قول الشيخ نفسه بعد ما مر من كلامه: «لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه في ضمن كلّي مشترك فيه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب؛ إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّي والفرد، فتعيّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد [الواقعي ]المتيقن الوجوب بفعل هذا المشكوك»[٦١] فالمرجع حينئذٍ قاعدة الاشتغال وأصالة عدم سقوط الوجوب الواقعي بفعل المشكوك، فيجب الإتيان بالفرد الآخر المحتمل للتعيين لقاعدة الاشتغال.
فصدر كلام الشيخ وإن كان عاما، إلاّ أنّ ظاهر كلامه بعد ذلك هو صورة العلم الإجمالي، ولكنه خروج عن مفروض البحث كما لايخفى.
ثُمّ إنّه قدس‏سره بعد الالتزام بقاعدة الاشتغال وأصالة عدم السقوط بفعل الفرد المشكوك ـ في فرض العلم الإجمالي ـ التزم بجريان البراءة بالنسبة لخصوص الفرد المشكوك كونه عدلاً للواجب التخييري[٦٢]، ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني بأنّ الطرف المشكوك كما لا ينفع الاقتصار على فعله كذلك لا أثر لجريان البراءة عن وجوبه بالخصوص، فالبحث عن جريان البراءة وعدمه حينئذٍ ساقط ولغو من أصله، قال قدس‏سره: «فالبحث عمّا يقتضيه الأصل بالنسبة إليه بعد البناء على أصالة التعينية ساقط؛ إذ لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم وجوبه، فإنّه بمقتضى قاعدة الاشتغال يتعيّن على المكلّف الإتيان بما علم تعلّق الطلب به، والمفروض أنّه لا يجب على المكلّف إلاّ عمل واحد وذلك العمل يتعيّن بما يحتمل عينيته، فأيّ أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل كون أحد فردي الواجب التخييري؟»[٦٣].
ولكن قد أجاب عليه المحقّق العراقي في حاشيته على الفرائد: بأنّ إجراء البراءة عن وجوب الطرف الآخر في صورة الإتيان بالطرف المحتمل للتعيين وإن كان لا أثر فيه؛ إذ حينئذٍ يقطع بعدم وجوب العدل المحتمل، وأمّا في فرض عدم الإتيان بالطرف المحتمل للتعيين فلأصالة البراءة كمال الأثر، إذ قاعدة الاشتغال وإن كانت تقتضي العمل بالطرف الخاصّ، إلاّ أنّ في ظرف ترك المكلّف لهذا الطرف، فالمرجع في نفي الوجوب عن المحتمل الآخر إنّما هو أصل البراءة، وحاصل هذا الأصل أنّ في ظرف ترك الطرف الخاصّ ليس الطرف الآخر عدلاً للواجب التخييري، فلا يجب الإتيان به في هذا الفرض[٦٤].

7 ـ البراءة في الاحكام الوضعية

لا كلام عندهم في شمول أدلّة البراءة للأحكام التكليفية ـ سواء جعلنا المرفوع فيها المؤاخذة أو الأحكام أو جميع الآثار أو غيرها، وإنّما الكلام في شمولها للأحكام الوضعيّة.
والأحكام الوضعية على أقسام:
1 ـ ما كان مجعولاً بنفسه مباشرة وتناله يد الجعل وضعا ورفعا، كالملكية والزوجية والرقيّة والحجيّة والنيابة والولاية ونحوها.
2 ـ ما كان مجعولاً بجعل منشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة للمأمور به، حيث لا يمكن جعل شيء قيدا للمأمور به ومتعلّق التكليف وجودا أو عدما إلاّ إذا لوحظ تعلق التكليف به كذلك أي مقيدا به وجودا أو عدما فينتزع من الأوّل الجزء أو الشرط ومن الثاني المانع. ويكون رفعها برفع منشأ انتزاعها[٦٥].
3 ـ ما كان من الاُمور الواقعية التي قد كشف عنها الشارع وأمضاها كالنجاسة والطهارة من الخبث بناء على كونهما من الاُمور الواقعية لا الاعتبارية[٦٦].
المستفاد من إطلاق كلماتهم في مباحث الأصول العملية من البراءة وغيرها شمول الحكم للأحكام الوضعية أيضا. نعم، الظاهر من كلام القائلين بأنّ المرفوع في حديث الرفع ـ أي قوله: رفع ما لا يعملون ـ خصوص المؤاخذة اختصاص المرفوع بالتكليف؛ إذ لا مؤاخذة على الأمر الوضعي، إلاّ أنّ صريح كلام بعض الأساطين من المعاصرين شمول الحكم لما كان قابلاً للرفع والوضع من الأحكام الوضعية أيضا، مثل ما كان منها مجعولاً مستقلاً، قال السيّد الخوئي عند الكلام عن مجاري الأصول العملية: «هذا كلّه في الحكم التكليفي، وكذا الحال عند الشكّ في الحكم الوضعي، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في الحكم التكليفي، بناء على كون الحكم الوضعي أيضا مجعولاً مستقلاً كما هو الصحيح... وبالجملة لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي من حيث تقسيم الشكّ فيه إلى الأقسام الأربعة وجريان الأصل العملي فيه»[٦٧].
وظاهره أنّ القسم الثاني من الأحكام الوضعية التي ليست مجعولة بجعل مستقل، بل تنزع من تعلّق التكليف بالكلّ ـ كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ـ لا يجرى فيها البراءة؛ لأنّها غير قابلة للرفع والوضع، ولا تنالها يد الجعل استقلالاً. نعم، يمكن رفع هذه الاُمور برفع منشأ انتزاعها وهو الأمر المتعلّق بالكلّ، وبعد رفع الأمر المتعلّق بالكل يكون إثبات الباقي بحاجة إلى دليل آخر، فالتمسّك إلى البراءة في خصوص الجزء المشكوك لاستفادة وجوب الباقي غير صحيح[٦٨].
نعم، لو كان الأمر بالباقي ثابتا من الخارج بدليل خاصّ من إجماع ونحوه كما يكون كذلك بالنسبة للصلاة فجريان البراءة عن الجزء المشكوك ـ مثلاً ـ يجدي إلاّ أنّه إثبات بدليل خارج.
فالمراد من عدم جريان البراءة في هذه الاُمور عدم جريانها لإثبات الباقي تمسّكا بالأمر الأوّل المتعلّق بالمركب، لا استحالة رفعها ذاتا ولو برفع منشأ انتزاعها كما لا يخفى.
نعم، لو قيل بإمكان جعل الجزئية والشرطية مستقلاً فيصحّ رفعها أيضا بحديث الرفع من دون حاجة إلى رفع الأمر بالمركب، فيتمسّك به لإثبات الباقي[٦٩].
هذا وقد يستشكل في جريان البراءة بالنسبة لبعض الأحكام الوضعية المجعولة بالجعل المستقل ـ كالطهارة والنجاسة ـ أيضا؛ وذلك لأنّ الظاهر من حديث الرفع رفع ما يكون في وضعه ثقل على المكلّف، والطهارة لا ثقل في جعلها على المكلّف، بل فيها تسهيل وتخفيف، فلا يشمله الحديث.
هذا في الطهارة، وأمّا في النجاسة فقيل بعدم جريان البراءة فيها لأمرين: الأوّل: إنّها ليست حكما موضوعا على المكلّف الجاهل بخصوصه، بل هي حكم موضوعه ذات النجس بلا توجيه إلى مكلّف خاصّ، بل يشترك فيه جميع المكلّفين، فلم توضع النجاسة على المكلّف كي ترفع عنه عند الجهل[٧٠]، كما استشكل في الأحكام الوضعية بباب المعاملات ـ كالملكية ـ أيضا؛ وذلك لأنّ الحكم الوضعي في باب البيع مثلاً ـ وهو المبادلة والنقل والانتقال ـ ليس فيه ثقل على المكلّف بحسب طبعه، بل قد يرغب فيه المكلّف ويقدّم عليه بنفسه، ولما مرّ بالنسبة للنجاسة من أنّها غير متعلّقة بالمكلفين حتّى يرفع عنهم، بل المبادلة ـ وهو الحكم الوضعي هنا ـ سواء قيل بانتزاعها من الحكم التكليفي أم لا لاتختصّ بالمكلّف، بل موضوعه المالان[٧١].

8 ـ البراءة في موارد الشكّ في القدرة

الظاهر من كلمات العلماء عدم جريان البراءة في موارد الشكّ في القدرة، بل يمكن ادّعاء عدم الخلاف في كلمات المعاصرين، بل قد أرسل في كلمات كثير منهم إرسال المسلمات[٧٢] ومرادهم من ذلك موارد الشكّ في القدرة على الامتثال بعد إحراز المقتضي والملاك في الحكم، بحيث لا يكون للقدرة دخل في اتّصاف الفعل بالمصلحة، بل له الدخل في استيفائه. فلو شكّ المكلّف بعد دخول الوقت في أنّه متمكن من فعل الصلاة تامّة الأجزاء والشرائط أم لا يجب عليه الاشتغال بفعل الصلاة حتّى ينكشف الحال، إمّا بحصول الامتثال أو بظهور العجز، و ليس له ترك الصلاة معتذرا بعدم علمه بتنجزّ التكليف بالصلاة بواسطة الشكّ في القدرة التي هي شرط في ذلك؛ وذلك لأنّ عجز المكلّف عن الامتثال في الواقع هو العذر بنظر العقل في رفع اليد عن الخطاب المتوجّه إليه، فمن كان عاجزا في الواقع فهو معذور في مخالفة التكليف، دون من لم يكن كذلك. ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عن الخطاب المتوجّه إلى المكلّف بمجرد احتمال العجز والمعذورية، بل يجب السعي عقلاً في الخروج عن العهدة ما لم ينكشف العجز رعاية لاحتمال القدرة الموجبة لجواز المؤاخذة على مخالفته، وبعبارة أخرى: بعد ثبوت التكليف يحكم العقل بلزوم الامتثال إلاّ إذا ثبت العذر[٧٣]، ويزيد ذلك وضوحا بناء على المسلك القائل بعدم قبح توجيه الخطاب القانوني نحو العاجز لمكان كليّته وإنّما يكون العاجز معذورا في المخالفة كما عليه الإمام الخميني[٧٤]، إذ المفروض على ذلك تمامية الحكم ملاكا وخطابا فيجب امتثاله حتّى مع الشكّ في القدرة؛ إذ غايته المعذورية، ومعلوم أنّ مع العلم بالمخالفة والشكّ في المعذورية يحكم العقل بالاحتياط كما لا يخفى.
نعم، لو كانت القدرة ممّا لها الدخل في أصل اتّصاف الحكم بالمصلحة والملاك رجع الشكّ في القدرة حينئذٍ إلى الشكّ في أصل التكليف ـ لا إلى الشكّ في تحقّق الامتثال ـ وكان مقتضى القاعدة حينئذٍ البراءة، كما في سائر موارد الشكّ في التكليف. وقد ادّعى ثبوت هذا الافتراض بالنسبة للأحكام التي قد أخذت قدرة المكلّف شرطا في نفس خطاباتها دون ما لم تؤخذ في نفس خطاب الحكم، وإنّما اعتبرها العقل في الخطاب من باب قبح توجيه الخطاب نحو العاجز عن الامتثال، وهذا الحكم من العقل إنّما يعتبر مانعا عن توجيه الخطاب، دون أن يكون مانعا عن اتّصاف الحكم في نفسه وذاتا بالمصلحة والملاك، ويعبّر عن الأوّل بالقدرة الشرعية، وعن الثاني بالقدرة العقلية[٧٥].
ومن هنا اتّضح الوجه في التفصيل في كلمات بعض المحقّقين من جريان الاشتغال في موارد الشكّ في القدرة العقلية، وجريان البراءة في موارد الشكّ في القدرة الشرعية.
قال المحقّق النائيني: «وبالجملة كلّما رجع الشكّ إلى ناحية القدرة العقلية، فمن حيث عدم دخلها في الملاك يستقلّ العقل بوجوب الفحص ويحكم بذلك حكما طريقيا. نعم، لو كانت القدرة شرطا شرعيا فمن حيث دخلها في الملاك ـ كما تقدّم ـ كان الشكّ فيها شكّا في أصل التكليف، فلا يجب الفحص حينئذٍ ... إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على وجوب الفحص أو كان الخطاب المشروط بالقدرة يقتضي الفحص؛ لأنّه كانت القدرة المأخوذة في الخطاب شرعا ممّا لا يمكن العلم بها بحسب العادة إلاّ بالفحص ـ كما في الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ ـ فإنّ العلم بحصولها لا يمكن عادة إلاّ بالفحص عن مقدار المالية وما يملكه. وهذا هو السرّ في فتوى المشهور بوجوب الفحص عن الاستطاعة مع أنّ القاعدة لا تقتضي ذلك، لما عرفت من أنّه كلما كان الشكّ في أصل تحقّق ما هو شرط التكليف وكان له دخل في الملاك كان مرجعه إلى أصل التكليف، وأصالة البراءة تنفي وجوب الفحص إذا كانت الشبهة موضوعية»[٧٦].
وقال السيّد الخويي في التعليق على بعض فروع العروة: «الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة مع إحراز الملاك ظاهر؛ لأنّه تفويت الملاك الملزم، وتفويت الغرض والملاك كمخالفة التكليف بنظر العقل في العصيان، ومع الشكّ في القدرة على العمل في تلك الموارد لابدّ من الفحص والإقدام في العمل ليرى أنّه متمكن منه أو ليس بمتمكن، ولا يجوز الرجوع إلى البراءة بوجه. [ثُمّ قال:] والوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة مع عدم إحراز الملاك هو أنّ المورد حينئذٍ وإن كان من موارد البراءة لأجل الشكّ في أصل توجه التكليف عليه لأجل الشكّ في القدرة، إلاّ أنّ للمقام خصوصية تمنع عن الرجوع إلى البراءة مع الشكّ في القدرة، وتلك الخصوصية هي أهمّية الصلاة وكونها الفاصل بين الإسلام والكفر وكونها عماد الدين... ومع العلم بالأهمّية لا يمكن الرجوع إلى البراءة... وقد ذكرنا في محلّه عدم جواز إجراء البراءة في كلّ مورد علم بعدم رضا الشارع بالمخالفة...[٧٧].
كلّ ذلك بناء على ظهور الخطاب المأخوذ فيه القدرة شرعا في دخلها في أصل الملاك والتكليف، وأمّا بناء على إنكار ذلك وادّعاء عدم ظهور للخطاب المزبور في أكثر ممّا اعتبره العقل من قبح توجيه الخطاب نحو العاجز فينعدم موضوع البراءة لا محالة؛ لعدم رجوع الشكّ في القدرة حينئذٍ إلى الشكّ في أصل التكليف، ويكون المورد من موارد حكم العقل بلزوم الاحتياط على ما مرّ بيانه.

9 ـ البراءة في موارد الشكّ في المحصِّل

المعروف[٧٨] بل كالمسلَّم[٧٩] بين القائلين بجريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطي عدم جريانها فيما إذا كان المورد من موارد الشكّ في المحصِّل، بل يحكم فيه بالاحتياط وقاعدة الاشتغال[٨٠].
ومثال ذلك: ما إذا شكّ في تحقّق الطهارة بالوضوء المشكوك اشتراطه بالموالاة أو قصد القربة ـ مثلاً ـ إذا اُتي به فاقدا للجزء أو الشرط المشكوك، أو شكّ في تحقّق عنوان واجب أو غرض كذلك بمركبٍ مردّد بين الأقلّ والأكثر.
والوجه في ذلك أنّ الوضوء في المثال الأوّل وإن كان أمرا مركبا مشكوكا بين الأقلّ والأكثر إلاّ أنّ ما هو شرط الصلاة الواجب تحصيله فيها ليس هو الوضوء، بل إنّما هو وصف الطهارة بما هي أمر بسيط مسبب عن الوضوء، وغير مشتمل على الأجزاء، فلا يكون الأمر فيه دائرا بين الأقلّ والأكثر، بل يدور الأمر فيه بين الوجود والعدم، فإذا شكّ في تحقّقه بالوضوء الفاقد للجزء أو الشرط المشكوك فمقتضى القاعدة هو الاحتياط و الاشتغال إلى أن يحصل العلم بتحقّق الطهارة، وهو الإتيان بالأكثر. وهذا بخلاف ما إذا كان متعلّق التكليف وما هو شرط الصلاة بنفسه مركّبا ودائرا بين الأقلّ والأكثر.
هذا وقد يفصّل في موارد الشكّ في المحصِّل بين ما كان من المحصّلات الشرعية ـ كالوضوء المحصل للطهارة ـ حيث يكون سببيته لها بجعل الشارع ـ فيجري فيه البراءة، وما كان من المحصلات العقلية ـ كالإلقاء في النار بالنسبة للإحراق ـ فيجري فيه قاعدة الاشتغال[٨١]. توضيحه: إنّ المحصل إذا كان عقليا أو عاديا، فحيث إنّه يعتبر في البراءة أن يكون المجهول ممّا تناله يد الجعل والرفع التشريعي، والمفروض أنّ المحصل العقلي والعادي ليس كذلك، فلا يجري فيه البراءة، مثلاً لو كان إحراق زيد أو شفاء صفراء مريضٍ واجبا وشكّ في أنّ الإلقاء الخاصّ في النار أو معجون خاصّ هل يكون سببا للإحراق في الأوّل ولشفاء الصفراء في الثاني، كان المرجع فيه هو الاشتغال؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المسقط، ولا يجري البراءة في نفس هذا المسقط المردد أمره بين الأقلّ والأكثر ـ على الفرض ـ لأنّ المفروض أنّ ما هو المجعول الشرعي غير مجهول، وما هو المجهول غير مجعول شرعي.
وهذا بخلاف المحصلات الشرعية ـ كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية أو الحدثية، حيث إنّ محصلية وسببية الغسلات للطهارة يكون بجعل الشارع، فلو شكّ في اعتبار شيء ـ كالغسلة الثانية في تطهير البول أو الموالاة في الوضوء كان موردا للبراءة؛ لأنّ محصليّة الأمر المركّب يكون بجعل الشارع فيجري فيه الرفع التشريعي مع الشكّ[٨٢].
ولكن ردّه المحقّق النائيني بأنّ المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية، بل لا يمكن تعلّق الجعل بها؛ إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي؛ فإنّها عبارة عن الرشح والإفاضة، وهذا ممّا لا تناله يد الجعل التشريعي، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببّات وترتبها عند وجود أسبابها، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة، فلا يمكن اجراء حديث الرفع لما مرّ من لزوم كون المرفوع ممّا تناله يد الجعل التشريعي[٨٣].
قال قدس‏سره: «والحاصل أنّ الأمر في باب المحصلات [وفي باب] متعلّقات التكاليف يختلف، فإنّ في باب متعلّقات التكاليف يكون التكليف بالأقلّ معلوما وبالأكثر مشكوكا فيعمه حديث الرفع؛ لأنّ في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات؛ فإنّ ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقلّ مشكوك، فما هو معلوم لا يجري فيه حديث الرفع، وما هو مشكوك لا موقع له فيه؛ لاستلزام جريانه الضيق على العباد، مع أنّه ينتج عكس المقصود، هذا إذا لم نقل بجعل السببية، وأمّا إذا قلنا ـ محالاً ـ بجعل السببية فكذلك أيضا؛ لأنّ سببيّة الأكثر الواحد للخصوصية المشكوكة معلومة فلا يجري فيه حديث الرفع وسببيّة الأقلّ مشكوكة ورفعها ينتج عدم جعله سببا، وهو يوجب التضيق.
نعم، لو قلنا بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذٍ؛ لأنّ جزئية الغسلة الثانية مثلاً أو شرطية العصر مشكوك، وفرضنا أنّها تنالها يد الجعل فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال، محال جعل السببية، ومحال جعل الجزئية. فتحصّل أنّه لا فرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي وأنّه في الكلّ لا مجال إلاّ للاشتغال؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المسقط والامتثال»[٨٤].

10 ـ البراءة في المستحبّات والمكروهات

لا إشكال في عدم جريان البراءة العقلية في الأحكام غير الإلزامية ضرورة أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما تجري بالنسبة لموارد احتمال العقاب، ومن المعلوم انتفاء العقاب في الأحكام غير الإلزامية[٨٥].
وأمّا البراءة الشرعية فادُعي أيضا عدم جريانها في الأحكام غير الإلزامية الاستقلالية مستدلاًّ عليه بأنّ المراد من الرفع في حديث الرفع إنّما هو الرفع ظاهرا في مقابل الوضع الظاهري الحاصل بإيجاب الاحتياط تجاه الحكم المحتمل، وهذا بالنسبة للحكم غير الإلزامي ـ كالاستحباب ـ غير ممكن، ضرورة ثبوت استحباب الاحتياط بالنسبة لموارد الاستحباب المحتمل، فلا يشملها حديث الرفع[٨٦]. نعم، لو فرض أنّ الرفع واقعي ـ كما يكون كذلك بالنسبة لموارد الاضطرار ـ فقد يشكل في عدم شمول الحديث للمستحبّات، ضرورة قابلية الحكم الاستحبابي الواقعي المشكوك للرفع الواقعي، ومقتضى عموم الموصول في «ما لا يعلمون» مطلق الأحكام الإلزامية وغيرها.
هذا ولكن قد يرد على البيان المزبور ـ من وضوح ثبوت استحباب الاحتياط بالنسبة للمستحبات ـ بأنّه إن اُريد من استحباب الاحتياط المزبور الحسن العقلي أو الشرعي الثابت بأخبار من بلغ ـ بناء على استفادته منها ـ فهما أجنبيان عن مدلول البراءة الشرعية؛ لأنّ معنى البراءة الشرعية نفي الاستحباب الشرعي الظاهري الطريقي بملاك ترجيح غرض الإباحة الواقعية على الاستحباب أو الإلزام الواقعيين فهو أجنبي عن الحسن العقلي أو الاستحباب النفسي. وإن اُريد منه استحباب الاحتياط شرعا في الشبهات كحكم ظاهري طريقي فمن المعلوم أنّ مدرك ذلك لابدّ أن يكون مثل أخبار الاحتياط، وهي لدى الأخباريين دالّة على الوجوب في خصوص الشبهات الإلزامية دون غيرها.
ولدى الأصوليين محمول على الإرشاد إلى حكم العقل من حسن الاحتياط، فانتفى الاستحباب الشرعي. فادّعاء وضوح ثبوت استحباب الاحتياط تجاه الأحكام غير الإلزامية يبقى بلا دليل. وهكذا يتّضح أنّ بالإمكان نفيها بحديث الرفع أخذا بإطلاق الموصول[٨٧].
نعم، قد يدعى ظهور حديث الرفع في رفع الكلفة والثقل امتنانا على الاُمّة، فلا يشمل الأحكام غير الإلزامية التي لا تشتمل على ثقل وكلفة على المكلّفين[٨٨] بل قد يدّعى أنّ رفع الحكم غير الإلزامي خلاف الامتنان على الاُمّة[٨٩]، ولعلّ المراد أنّ رفع الاستحباب يستلزم حرمان المكلّفين من الاتيان احتياطا أو رجاء الثواب.
ثُمّ إنّ ما مرّ من الكلام إنّما هو بالنسبة لحديث الرفع، وأمّا بالنسبة لغير حديث الرفع من أدلّة البراءة الشرعية فقد يقال: إن ما كان منها دالاًّ على نفي العذاب كقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً». فمن المعلوم عدم شموله للأحكام غير الإلزامية التي ليس فيها عقاب أصلاً، ومثله ما كان منها دالاًّ على التوسعة ونفي الضيق في قبال ما لا يعلم كقوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون» إذ الاستحباب مستبطن للتوسعة في نفسه وغير مشتمل على الضيق حتّى يحتاج إلى التوسعة واقعا أو ظاهرا. وأمّا ما كان منها دالاًّ على مجرّد الرفع والوضع كقوله: «ما حجب اللّه‏ علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» وقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ونحوه فإن قيل: بأنّ الرفع فيها امتناني ـ كحديث الرفع ـ فيجري فيه ما تقدّم من عدم الامتنان في رفع الاستحباب، وإلاّ ـ كما لا يبعد ـ فينحصر الوجه فيه فيما مرّ من السيد الخويي وغيره بما فيه من الإيراد والجواب.
ثُمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة للاستحباب الاستقلالي، وأمّا الضمني الراجع إلى الوجوب الشرطي للجزء أو الشرط فقد اُدعي جريان البراءة فيه بلا كلام[٩٠]، وقد يستشكل فيه أيضا بما ليس هنا محلّ ذكره فراجع المفصلات الأصولية[٩١].

الهوامش

  1. . فرائد الاُصول 2: 190 ـ 194.
  2. . كفاية الاُصول: 338 ـ 357، مصباح الاُصول 2: 252 ـ 253.
  3. . مصباح الاُصول 2: 253.
  4. . أنظر: فرائد الاُصول 2: 21.
  5. . الطلاق: 7.
  6. . الإسراء: 15.
  7. . التوبة: 115.
  8. . الخصال: 417.
  9. . الوسائل 27: 163 باب 13 صفات القاضي ح33.
  10. . الوسائل 27: 174 ح67.
  11. . أنظر: فرائد الاُصول 2: 51 ـ 56.
  12. . أنظر: المصدر السابق: 56 ـ 59.
  13. . أنظر: المصدر السابق: 20.
  14. . الإسراء: 36.
  15. . آل عمران: 102، الحجّ: 78.
  16. . الوسائل 27: 20 باب 4 صفات القاضي أحاديث الباب.
  17. . المصدر السابق 27: 154 باب 12 صفات القاضي أحاديث الباب.
  18. . هداية المسترشدين 3: 560 ـ 561 ، فرائد الاُصول 2: 78، 172.
  19. . نهاية الأفكار 1: 248، 2: 270 ـ 271، حقائق الاُصول 1: 202، 2: 24، 318، فوائد الاُصول 3: 360 وغيرها.
  20. . تذكرة الفقهاء 2: 361، نهاية الأحكام 1: 325، ذكرى الشيعة 2: 437 ـ 438، الرياض 4: 289، فرائد الاُصول 2: 171 ـ 172.
  21. . أنظر: نهاية الأفكار 3: 379.
  22. . أنظر: فرائد الاُصول 2: 316، كفاية الاُصول: 363 ـ 373.
  23. . أنظر: طهارة الشيخ الأنصاري 1: 257، خلل الصلاة للإمام الخميني: 190، 220، التنقيح كتاب الطهارة 4: 272 و10: 33، مستند العروة كتاب الصلاة 3: 347، فقه الصادق 2: 453، نهاية الأفكار 1: 201: 268 ـ 269، فوائد الأصول 1: 223، 4: 232.
  24. . أنظر: فرائد الأصول 2: 317.
  25. . أنظر: المصدر السابق: 316.
  26. . أنظر: المصدر السابق: 317، 339.
  27. . أنظر: المصدر السابق: 317، 339.
  28. . أنظر: المصدر السابق: 348.
  29. . كفاية الأصول: 363 ـ 367.
  30. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 428 ـ 435.
  31. . أنظر: فرائد الأصول 2: 354، كفاية الأصول: 367، دروس في علم الاصول 2: 436، مصباح الأصول 2: 445 ـ 447، أجود التقريرات 3: 507.
  32. . كفاية الأصول: 367، أجود التقريرات 3: 507.
  33. . أجود التقريرات 3: 508، مصباح الاُصول 2: 426 ـ 435.
  34. . أنظر: مصباح الأصول 2: 461 ـ 463، دراسات في علم الاصول 3: 449 ـ 450.
  35. . أنظر: مصباح الأصول 2: 464، دراسات في علم الاصول 3: 452 ـ 453.
  36. . أنظر: مصباح الأصول 2: 464 ـ 465، دروس في علم الاصول 2: 445 ـ 449.
  37. . فرائد الأصول 2: 363 ـ 364، دروس في علم الاصول 2: 447.
  38. . كفاية الأصول: 368، أنظر: دروس في علم الاصول 2: 447 ـ 448.
  39. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 449.
  40. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 449 ـ 450.
  41. . أنظر: فرائد الأصول 2: 359، كفاية الأصول 368 ـ 369.
  42. . أنظر: دروس في علم الاصول: 444 ـ 445.
  43. . أنظر: كفاية الأصول: 358 ـ 359، 362، فرائد الأصول بحث الشبهة المحصورة 2: 199 ـ 255.
  44. . أنظر: فرائد الأصول 2: 200، 210، كفاية الأصول: 358 ـ 359، دروس في علم الاصول 2: 362 ـ 371.
  45. . أنظر: فرائد الأصول 2: 233 ـ 237، 245 ـ 249، كفاية الأصول: 360 ـ 361، دروس في علم الاصول 2: 407 ـ 410 و392 ـ 394.
  46. . أنظر: فرائد الأصول 2: 200، 210، كفاية الأصول: 358، 359، دروس في علم الاصول 2: 364 ـ 371.
  47. . كفاية الأصول: 362.
  48. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 401.
  49. . أنظر: دروس في علم الاصول 2: 401 ـ 405.
  50. . فرائد الأصول 2: 263.
  51. . المصدر السابق: 257.
  52. . المصدر السابق: 257 ـ 260.
  53. . المصدر السابق: 260 ـ 262.
  54. . أنظر: فرائد الأصول 2: 257 ـ 275، دروس في علم الاصول 2: 401 ـ 407، وغيرها.
  55. . أنظر: مصباح الأصول 2: 448 ـ 449.
  56. . أنظر: مصباح الأصول 2: 458 ـ 459.
  57. . كفاية الأصول: 367.
  58. . مصباح الأصول 2: 453.
  59. . أنظر: فرائد الأصول 2: 159.
  60. . درر الفوائد في الحاشية على الفرائد الآخوند الخراساني 1: 227.
  61. . فرائد الأصول 2: 159.
  62. . المصدر السابق: 159 ـ 160.
  63. . فوائد الأصول 3: 435 ـ 436.
  64. . أنظر: المصدر السابق: 435.
  65. . أنظر: كفاية الأصول: 417.
  66. . فوائد الأصول 3: 357.
  67. . مصباح الأصول 2: 249.
  68. . أنظر: كتاب الصوم للسيد الخوئي 2: 365، كتاب الحج الخوئي 5: 405 ـ 406، بحوث في علم الاصول 5: 56، المحاضرات (الخوئي) 2: 249.
  69. . أنظر: تحريرات في الأصول 2: 279.
  70. . أنظر: منتقى الأصول الروحاني 4: 405 ـ 406.
  71. . أنظر: منتقى الأصول 4: 406 ـ 407.
  72. . أنظر: فوائد الأصول 3: 265، 4: 55 ـ 56، دروس في علم الاصول 2: 401، أجود التقريرات 3: 325، المستمسك 1: 248، 2: 576، 3: 194، صلاة النائيني 1: 269 ـ 270، 2: 236، التنقيح 6: 562، 9: 371، الاجتهاد والتقليد الخوئي: 157.
  73. . أنظر: مصباح الفقيه الهمداني 10: 97، الاجتهاد والتقليد (الخوئي): 157، التنقيح كتاب الطهارة 2: 311.
  74. . أنظر: تهذيب الأصول 1: 306، 406، 2: 281 ـ 382.
  75. . أنظر: صلاة النائيني 1: 269ـ 270 و2: 43، المكاسب البيع 1: 436، كتاب الحجّ الخوئي 1: 73، 111.
  76. . أنظر: صلاة النائيني 1: 284، وأنظر: كتاب الحجّ الخوئي 1: 110.
  77. . أنظر: التنقيح في شرح العروة 6: 562، أنظر أيضا: التنقيح 9: 370.
  78. . أنظر: المحكم في الأصول 4: 92، تحريرات في الأصول 2: 176.
  79. . أنظر: جامع المدارك الخونساري 1: 37.
  80. . فرائد الأصول 2: 319، العروة الوثقى 1: 53.
  81. . جامع المدارك 1: 47، 66، تحريرات في الأصول 2: 176.
  82. . أنظر: فوائد الأصول 1: 165.
  83. . أنظر: فوائد الأصول 1: 165، أجود التقريرات 1: 119 ـ 120، 3: 487 ـ 488.
  84. . أنظر: فوائد الأصول 1: 164 ـ 165.
  85. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 149، مستمسك العروة الوثقى 5: 15.
  86. . دراسات في علم الاصول 3: 247، منتقى الأصول 4: 403.
  87. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 150.
  88. . أنظر: منتقى الأصول 4: 404 ـ 405، بحوث في علم الاصول 5: 150.
  89. . أنظر: تهذيب الأصول 2: 170 و2: 421 ـ 422.
  90. . أنظر : دراسات في علم الاصول 2 : 247، بحوث في علم الاصول 5 : 149.
  91. . أنظر: بحوث في علم الاصول 5: 150.