ورود الأمر عقيب الحظر
ورود الأمر عقيب الحظر: وردت في الکتاب والسنّة مواردُ من الأمر عقيب الحظر کما في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»[١]، فهل هذا الأمر يدلّ علی الوجوب کما إذا لم يکن عقيب الحظر؟ الإجابة عن هذا السؤال هو المقصود في هذا المقال.
ورود الأمر عقيب الحظر
ناقش الأصوليون دلالة الأمر فيما إذا ورد عقيب حظر، من قبيل: الأمر بحلق الرأس بعد تحريمه بالإحرام في قوله تعالى: «وَلاَتَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»[٢] والاصطياد بعد الإحلال، في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»[٣] وانقسموا إلى أقوال.
والظاهر أنّ مورد النزاع ومحلّ الكلام بينهم إنّما هو في مورد كان متعلّق الأمر بعينه هو المتعلّق للنهي من حيث العموم والخصوص، ومع الاختلاف من هذه الناحية كان النزاع خارجا عن الموضوع[٤] .
وقد يعزى الاختلاف هنا إلى اعتبار أو عدم اعتبار الحظر قرينة توجب خروج الأمر عن مقتضاه أو لا توجبه، كما نسب الزركشي هذا إلى ابن دقيق العيد[٥] ، والأقوال هي:
القول الأوّل: بقاء دلالته على ما كان عليه
بقاء دلالته على ما كان عليه دون اعتبار ما تقدّم عليه من الحظر، ذهب إليه السيّد المرتضى[٦] ، و الشيخ الطوسي [٧] ، و العلاّمة الحلّي [٨] ، وينسب إلى ظاهر كلمات الشافعي [٩] ، والقاضي أبي الحسين بن الطيب[١٠] وأبي إسحاق الشيرازي[١١] وغيرهم[١٢] .
استدلَّ على هذا الرأي باُمور:
الدليل الأول
أنَّ الاعتبار في الألفاظ بظواهرها وما وضعت له، والظاهر والوضع هما اللذان يمكن الاستدلال بهما.
الدليل الثاني
شأن الحظر اللفظي ليس أكثر من الحظر العقلي، وهو (الحظر العقلي) متقدّم على مثل الصلاة ورمي الجمار؛ لأنَّ العقل يرى قبح الإتيان بهذه لكنّ الشرع أمر بها، فلم يؤثر حظر العقل على أمر الشارع[١٣] .
الدليل الثالث
أنَّ الأمر بعد الحظر لا يخرج عن كونه أمراً، والصفة ما دامت غير متغيرة فلا بدَّ أن تكون دلالته كذلك.
الدليل الرابع
الأمر على الوجوب، وتقدُّم الحرمة أو النهي عليه لا يصلح لئن يكون معارضاً، فإنّه كما يصلح إباحة الشيء بعد تحريمه يصلح إيجابه بعد تحريمه[١٤] .
القول الثاني: الإباحة
وقد نسبه السيّد المرتضى إلى أكثر المتكلّمين[١٥] ، ونسبه الشيخ الطوسي إلى أكثر الفقهاء ومن دوّن في أصول الفقه[١٦] ونُسب إلى الأكثر[١٧] ونُسب كذلك إلى بعض أصحاب الشافعي [١٨] .
استدلَّ على هذا الرأي باُمور:
الدليل الأوّل
الأوامر في الآيات التالية تدلُّ على الإباحة، فيجب أن يكون الأمر في هكذا موارد حقيقة في الإباحة. والآيات هي: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»[١٩]، «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ»[٢٠].
وأجيب بأنَّ هناك آيات يدلُّ أمرها الوارد بعد الحظر على الوجوب، مثل: «وَلاَتَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»[٢١]، و «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ»[٢٢].
وقد يقال: بأنَّ استفادة الوجوب والإباحة في الموردين ليس ناشئاً من نفس الأمر، بل من أمر خارجي، فلا دلالة للأمر في الموردين على أيٍّ منهما.
الدليل الثاني
العرف يستفيد من الأمر الإباحة إذا ما ورد بعد الحظر، فإنّ المولى إذا منع عبده من فعل شيء، ثُمّ أمره به استفيد منه الإباحة.
واُجيب بأنَّ العرف يستفيد الوجوب أحياناً كما يستفيد الإباحة.
الدليل الثالث
الأمر إزالة الحظر، والإباحة من ضروريات إزالة الحظر.
واُجيب بأنَّ صيغة الأمر غير موضوعة لإزالة الحظر أو رفع المنع، بل لطلب المأمور به، الذي قد يفيد رفع الحظر وزوال المنع[٢٣] .
الدليل الرابع
أنَّ الظاهر كون النهي السابق مانعاً من انعقاد ظهور الصيغة في البعث نحو الفعل فضلاً عن دلالتها على الالزام. والصيغة وإن لم تخرج عمّا استعملت فيه من النسبة البعثية والزجرية إلاّ أنَّ أصالة كون الداعي للاستعمال هو البعث والزجر لا تجري، والمتيقن في المجال كون داعي الأمر هنا هو رفع النهي السابق أو بيان عدمه[٢٤] .
القول الثالث: تدلُّ على الاستحباب
واعتبر الزركشي هذا القول ممّا جزم به القاضي الحسين في باب الكتابة من (تعليقه) [٢٥] .
القول الرابع: دفع الذمّ فقط
إن كان الحظر السابق عارضاً لعلّة وكان سبباً وعلّقت صيغة (افعل) بزوالها كقوله: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»[٢٦]، وكقوله: «كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي فادخروا»[٢٧] دلّت صيغة الأمر هنا على دفع الذمّ فقط.
وإن كان الحظر السابق قد عرض لا لعلّة ولم تعلّق صيغة الأمر بزوال ذلك، كالجلد المأمور به عقيب الزنا بعد النهي عن الإيلام، فتبقى الصيغة على ما دلّت عليه قبل الحظر عليها، فإن قيل تدلُّ على الوجوب دلّت عليه، وإن قيل: بدلالتها على الندب دلّت عليه[٢٨] .
القول الخامس: رفع الحظر السابق
أنّها ترفع الحظر السابق وتعيد الفعل إلى ما كان قبل الحظر، فإن كان مباحاً دلّ على الإباحة، كما في قوله: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ» وإن كان واجباً دلّت على الوجوب، كما في قوله: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ»[٢٩].
وقد اختار الزركشي نفسه هذا القول، واعتبره ممّا يبدو من كلمات القفال الشاشي[٣٠] .
القول السادس: التوقُّف
قال به الجويني[٣١] والمحقّق الآخوند الخراساني[٣٢] . والسيّد الخوئي[٣٣] .
استدلَّ الآخوند على رأيه بأنَّ مصاديق هذا البحث لا تخلو عن قرينة تدلّ على حكم الأمر، ومع الخلو لم يثبت كون سبق الحظر قرينة على شيء، غاية الأمر أنَّ الصيغة تبقى مجملة غير ظاهرة في الوجوب أو الإباحة[٣٤] .
وذكر الشهيد محمّد باقر الصدر تبريراً آخر لهذا القول، وهو أنّ للأمر مدلولاً تصوّرياً ومدلولاً تصديقياً ، والتصوّري هو النسبة الإرسالية، والتصديقي هو وجود الإرادة الطلبية في نفس المولى، وفي حالة سبقه بحظر يبقى مدلوله التصوري دون تغيير، لكنَّ مدلوله التصديقي يحتمل أن يكون ذات الطلب والإرادة ويحتمل أن يكون كسر التحرّج ورفع الحظر، فيوجب الإجمال في مدلوله التصديقي[٣٥] .
الهوامش
- ↑ . المائدة: 2.
- ↑ . البقرة: 196.
- ↑ . المائدة: 2.
- ↑ . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 209.
- ↑ . البحر المحيط 2: 381.
- ↑ . الذريعة 1: 73.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه 1: 183.
- ↑ . مبادئ الوصول: 93.
- ↑ . البحر المحيط 2: 379.
- ↑ . المعتمد 1: 75.
- ↑ . اللمع: 48.
- ↑ . أنظر: أصول السرخسي 1: 19، الفائق في أصول الفقه 1: 209، الإبهاج في شرح المنهاج 2: 46 ـ 47.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 183.
- ↑ . المحصول الرازي 1 : 236 ـ 237 ، الإبهاج في شرح المنهاج 4 : 1083.
- ↑ . الذريعة 1: 73.
- ↑ . العدّة في أصول الفقه 1: 183.
- ↑ . الفصول الغروية: 70.
- ↑ . أصول السرخسي 1: 19، المحصول الرازي 1: 236.
- ↑ . المائدة: 2.
- ↑ . البقرة: 222.
- ↑ . البقرة: 196.
- ↑ . التوبة: 5.
- ↑ . أصول السرخسي 1: 19، الإبهاج في شرح المنهاج 2: 45 ـ 46، المحصول 1: 236 ـ 237.
- ↑ . المحكم في أصول الفقه 1: 242.
- ↑ . البحر المحيط 2: 380.
- ↑ . المائدة: 2.
- ↑ . سنن ابن ماجة 2: 1055، كتاب الأضاحي، باب ادّخار لحوم الأضاحي ح 3159، بحار الأنوار 10: 441 ـ 442، باختلاف.
- ↑ . البحر المحيط 2: 379 ـ 380، الفصول الغروية: 70.
- ↑ . البقرة: 222.
- ↑ . البحر
المحيط 2: 379 ـ 380. - ↑ . البرهان في أصول الفقه 1: 88.
- ↑ . كفاية الأصول: 76 ـ 77.
- ↑ . محاضرات في أصول الفقه 2: 205 ـ 206.
- ↑ . كفاية الأصول: 76 ـ 77.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 2: 117 ـ 118.