Write، بيروقراطيون، إداريون
٤٬٩٤١
تعديل
Mohsenmadani (نقاش | مساهمات) لا ملخص تعديل |
Mohsenmadani (نقاش | مساهمات) لا ملخص تعديل |
||
سطر ٢٩: | سطر ٢٩: | ||
|} | |} | ||
</div> | </div> | ||
'''سالم بن عمر بو حاجب البنيلي''': شخصية تونسية معروفة، ومصلح إسلامي مشارك في العلوم. ولد سنة 1827 م (1243 ه) في قرية [[بنيل الساحلية]] قرب ([[المنستير]]) في [[تونس]] | '''سالم بن عمر بو حاجب البنيلي''': شخصية تونسية معروفة، ومصلح إسلامي مشارك في العلوم. | ||
=الولادة= | |||
ولد سنة 1827 م (1243 ه) في قرية [[بنيل الساحلية]] قرب ([[المنستير]]) في [[تونس]]. | |||
=الدراسات والنشاطات= | |||
وطوى المراحل الدراسية، وتولّى التدريس في جامع الزيتونة ثمّ الفتيا سنة 1323 ه، ثمّ عيّن كبيراً لأهل الشورى المالكية. | |||
=بعض من آرائه= | |||
يقول في كتابه «الخطب المنبرية» حول تربية الأبناء: «الحمد للَّه الذي أسّس مصالح العباد على وسائل التواصل، وربط عمران الأرض بسلاسل التناسل، فركّب في الطبيعة ما يحمل على اتّصال الذكر بالأُنثى، وميّز ما يُثني عليه من طُرقه وما يُنثى؛ إذ مِن حِكَم حفظ الأنساب تحقيقُ الوصلة بين الأجنّة والأصلاب، وخلوص المعادن الإنسانية وإن كان أصلها من تراب، والمعدن إذا اتّحد سهل الالتحام، كما يُشاهد من تراحم ذوي الأرحام؛ إذ الفرع الحقيقي ينجذب بالطبع إلى أصله، فيقوّم به كما يتقوّم الجنس بفصله، وكما يتدعّم ذباب السيف بنصله، فسبحانه من قادر حكيم، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأرشده أن يسلم فيما يجب لأصله وفرعه النهج القويم». | |||
<br>وقضت الخطبة تُحدِّث في مثل هذا الأُسلوب عن حقوق الأبناء على الآباء، وحقوق الآباء على الأبناء، ومن آرائه في هذا الصدد:<br>«ويجب أن يُمنع الولد في أوّل الأمر من خلطة الناس؛ لأنّها مجلبةٌ لكلّ شرّ وبأس، ثمّ إذا عرف الخير والشرّ، وصار بحيث لا يشتبه عليه الفاجر بالبرّ، ولا تروج عليه الخدائع والمكر، يؤذن له في مخالطة ذوي الرشد والحياء، ويتباعد عمّن فوقه من الأغنياء، ومن تحته من الأغبياء، ولا بأس أن يُدرّب على تنمية المال، والتوصّل لاكتسابه من طرق الحلال، ويذمّ التداين؛ إذ يجلب بين الأجنّة العداوات والتضاغن، ولأن تصبر عليك نفسك<br>التي بين جنبيك أهون وأحقّ من صبر الناس عليك... وممّا يذمّ للصبي صرف الهمّة لتحسين اللباس والطعام، والتقدّم على من هو أسنّ منه في الكلام. وكان من تربية لقمان لابنه: يا بني، إن كنت تشكّ أن تموت فاجتهد ألّا تنام، وإن كنت تشكّ أن تستيقظ فاجتهد ألّا تستيقظ بعد المنام. يعني: كما أنّك تنام فلا بدّ أن تموت، وكما أنّك تستيقظ من نومك فلا بدّ أن تُبعث، ومثل هذا وإن كان من قياس التمثيل الذي لا يُفيد القطع بالدليل، لكنّه يغرس في النفوس عقيدة فطرية، تجري مَجرى الجِبِلّيّات الجبرية». | <br>وقضت الخطبة تُحدِّث في مثل هذا الأُسلوب عن حقوق الأبناء على الآباء، وحقوق الآباء على الأبناء، ومن آرائه في هذا الصدد:<br>«ويجب أن يُمنع الولد في أوّل الأمر من خلطة الناس؛ لأنّها مجلبةٌ لكلّ شرّ وبأس، ثمّ إذا عرف الخير والشرّ، وصار بحيث لا يشتبه عليه الفاجر بالبرّ، ولا تروج عليه الخدائع والمكر، يؤذن له في مخالطة ذوي الرشد والحياء، ويتباعد عمّن فوقه من الأغنياء، ومن تحته من الأغبياء، ولا بأس أن يُدرّب على تنمية المال، والتوصّل لاكتسابه من طرق الحلال، ويذمّ التداين؛ إذ يجلب بين الأجنّة العداوات والتضاغن، ولأن تصبر عليك نفسك<br>التي بين جنبيك أهون وأحقّ من صبر الناس عليك... وممّا يذمّ للصبي صرف الهمّة لتحسين اللباس والطعام، والتقدّم على من هو أسنّ منه في الكلام. وكان من تربية لقمان لابنه: يا بني، إن كنت تشكّ أن تموت فاجتهد ألّا تنام، وإن كنت تشكّ أن تستيقظ فاجتهد ألّا تستيقظ بعد المنام. يعني: كما أنّك تنام فلا بدّ أن تموت، وكما أنّك تستيقظ من نومك فلا بدّ أن تُبعث، ومثل هذا وإن كان من قياس التمثيل الذي لا يُفيد القطع بالدليل، لكنّه يغرس في النفوس عقيدة فطرية، تجري مَجرى الجِبِلّيّات الجبرية». | ||
<br>يقول الدكتور البيّومي معلِّقاً: «هذا بعض ما كتبه سالم في كتابه الوحيد الذي نشره مطبوعاً، ولعلّه لم يطبعه إلّاليؤدّي رسالة المنبر في عصر لم يكن فيه خطيب منبري يجري على سنَنٍ صحيح؛ إذ كانت موضوعات الخطب كلّها تحذير من النار ووصف لهول القبر وعذاب جهنّم، وتصوير للأساطير الإسرائيلية، ودعوة للزهد والانصراف عن الحياة، وهي غفلةٌ لا أدري كيف وقع فيها هؤلاء الخطباء! ولم يكن الأمر كذلك في تونس وحدها بل في كلّ بقاع العالم العربي حين فُهم الدين على غير وجهه الصحيح، فاضطرّ سالم إلى أن يُنبّه الناس إلى العمل الصالح في الحياة، وإلى أنّ الإسلام دين الكرامة والفخر والنهوض، وله من الفضائل ما يجب أن يتردّد دون انقطاع، وله من رعاية الإنسان ابناً وأباً وجدّاً ما يضمن تعاون الأُسرة التي هي بارتفاعها أداةٌ لرفعة الأُمّة! في هذه المعاني جالت خطب سالم، وقد أسلفنا أنموذجاً منها يتحدّث عن رعاية الآباء للأبناء. | <br>يقول الدكتور البيّومي معلِّقاً: «هذا بعض ما كتبه سالم في كتابه الوحيد الذي نشره مطبوعاً، ولعلّه لم يطبعه إلّاليؤدّي رسالة المنبر في عصر لم يكن فيه خطيب منبري يجري على سنَنٍ صحيح؛ إذ كانت موضوعات الخطب كلّها تحذير من النار ووصف لهول القبر وعذاب جهنّم، وتصوير للأساطير الإسرائيلية، ودعوة للزهد والانصراف عن الحياة، وهي غفلةٌ لا أدري كيف وقع فيها هؤلاء الخطباء! ولم يكن الأمر كذلك في تونس وحدها بل في كلّ بقاع العالم العربي حين فُهم الدين على غير وجهه الصحيح، فاضطرّ سالم إلى أن يُنبّه الناس إلى العمل الصالح في الحياة، وإلى أنّ الإسلام دين الكرامة والفخر والنهوض، وله من الفضائل ما يجب أن يتردّد دون انقطاع، وله من رعاية الإنسان ابناً وأباً وجدّاً ما يضمن تعاون الأُسرة التي هي بارتفاعها أداةٌ لرفعة الأُمّة! في هذه المعاني جالت خطب سالم، وقد أسلفنا أنموذجاً منها يتحدّث عن رعاية الآباء للأبناء. | ||
<br>وفي المصلحين قومٌ لم يجعلوا القلم أداة إصلاحهم، بل انطلقوا إلى الإصلاح العلمي في الدروس وفي المجتمعات الخاصّة والعامّة، نعرف منهم نماذج لم تكتُبْ كثيراً، ولكنّها فعلت كثيراً، نعرف منهم في هذا العصر [[جمال الدين الأفغاني]] الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ونعرف منهم [[حسن البنّا]] الذي سيقول التاريخ- أو قاله-: إنّه أبعد أثراً في نضاله الفسيح الممتدّ من جمال الأفغاني، ونعرف منهم أخيراً سالم أبا حاجب الذي ترك ذكره في قومه وعلمه في صدور تلاميذه، فدأبوا يذكرونه بالفضل، ويُكرّرون مواقفه، ويتحدّثون عن جهاده السياسي جوار الحديث عن مجده العلمي. | <br>وفي المصلحين قومٌ لم يجعلوا القلم أداة إصلاحهم، بل انطلقوا إلى الإصلاح العلمي في الدروس وفي المجتمعات الخاصّة والعامّة، نعرف منهم نماذج لم تكتُبْ كثيراً، ولكنّها فعلت كثيراً، نعرف منهم في هذا العصر [[جمال الدين الأفغاني]] الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ونعرف منهم [[حسن البنّا]] الذي سيقول التاريخ- أو قاله-: إنّه أبعد أثراً في نضاله الفسيح الممتدّ من جمال الأفغاني، ونعرف منهم أخيراً سالم أبا حاجب الذي ترك ذكره في قومه وعلمه في صدور تلاميذه، فدأبوا يذكرونه بالفضل، ويُكرّرون مواقفه، ويتحدّثون عن جهاده السياسي جوار الحديث عن مجده العلمي. | ||
=إكثاره في ذكر الأحاديث= | |||
لقد كان الأُستاذ [[محمّد الخضر حسين]] في [[مصر]] كثير الحديث عن أُستاذه سالم، فهو يعطّر مجالسه بذكره، كما يشير إلى مواقفه في مقالاته... ومن حديث الخضر وحديث [[السيّد محمّد رشيد رضا]] عنه في «المنار» عرفت مصر سالم أبا حاجب معرفة أنزلته منزلة الاعتزاز... أذكر أنّ الخضر كتب مقالًا عن الحركة العلمية في [[تونس]]، مقالًا مستفيضاً، ختمه بالحديث عن ثلاثة من علماء الزيتونة تلقّى عليهم العلم في الجامع الأعظم، هم: سالم أبو حاجب، و[[عمر بن الشيخ]]، و[[محمّد النجار]]... فقال عن الأوّل: وأُستاذنا أبو حاجب حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأنّي دخلت في مجال أفسح للنظر وأدعى للفكر؛ إذ لم يكن الأُستاذ ممّا يقتصر في مناقشته على عبارات المؤلّفين، بل كان يتجاوزها إلى نقد الآراء نفسها، ويتجاوز النقد إلى الوقوف على أسرار المباحث دينية كانت أم عربية، ولا يترك في درس الكتب الشرعية أن يعقد الصلة بين أُصول الإسلام والمدنية الحاضرة....». | |||
<br>وأقوى ما ساعد على امتداد فضل الشيخ أنّه اتّصل بحركة الإصلاح الديني في العالم العربي؛ إذ صادق الشيخ [[محمّد عبده]] واحتفل به احتفالًا رائعاً حين زار تونس مرّتين، وكانا في مجلسهما الخاصّ يتذاكران فضل جمال الدين الأفغاني ويُعلنان ما يعرفان عن جهاده الموقظ الباعث، وفي المجلس العامّ بين العلماء كان الشيخ عبده يعرض حالة مصر العلمية وما قام به من الاقتراحات الإصلاحية في التعليم الأزهري، فيرى الشيخ سالم يُعلن أنّ الزيتونة في حاجةٍ إلى تنفيذ هذه الاقتراحات؛ لأنّ التعليم الديني في [[العالم الإسلامي]] في حاجة إلى وثبة طافرة... وقد مات الشيخ محمّد عبده دون أن يشهد ثمار غرسه، أمّا الشيخ سالم فقد امتدّ به الزمن حتّى رأى الخطوات المتتابعة في إصلاح التعليم الزيتوني، وحتّى رأى نفراً من تلاميذه أُشربوا روح الإصلاح، وعملوا على تحقيق تعاليمه، ومنهم من وصل إلى مشيخة الإسلام، فصار أداة تنفيذ عملي مستنير. | <br>وأقوى ما ساعد على امتداد فضل الشيخ أنّه اتّصل بحركة الإصلاح الديني في العالم العربي؛ إذ صادق الشيخ [[محمّد عبده]] واحتفل به احتفالًا رائعاً حين زار تونس مرّتين، وكانا في مجلسهما الخاصّ يتذاكران فضل جمال الدين الأفغاني ويُعلنان ما يعرفان عن جهاده الموقظ الباعث، وفي المجلس العامّ بين العلماء كان الشيخ عبده يعرض حالة مصر العلمية وما قام به من الاقتراحات الإصلاحية في التعليم الأزهري، فيرى الشيخ سالم يُعلن أنّ الزيتونة في حاجةٍ إلى تنفيذ هذه الاقتراحات؛ لأنّ التعليم الديني في [[العالم الإسلامي]] في حاجة إلى وثبة طافرة... وقد مات الشيخ محمّد عبده دون أن يشهد ثمار غرسه، أمّا الشيخ سالم فقد امتدّ به الزمن حتّى رأى الخطوات المتتابعة في إصلاح التعليم الزيتوني، وحتّى رأى نفراً من تلاميذه أُشربوا روح الإصلاح، وعملوا على تحقيق تعاليمه، ومنهم من وصل إلى مشيخة الإسلام، فصار أداة تنفيذ عملي مستنير. | ||
=ميزاته= | |||
وكان من أبرز صفاته العلمية أن يُحاول بالتي هي أحسن، وأن يغضّ النظر عن تطاول الكبار ممّن يزعمون لأنفسهم المعرفة في كلّ شيء، فقد كان العلّامة اللغوي الشهير [[محمّد ابن محمود بن التلاميذ الشنقيطي|محمّد<br>ابن محمود بن التلاميذ الشنقيطي]] وقع في جدل حادّ حول صحّة عبارة [[الإمام مالك]] القائلة:<br>«وعليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلّاهي» مع بعض علماء المدينة، ورأى هؤلاء أن يستأنسوا برأي الشيخ سالم أبي حاجب عالم تونس الأشهر، فوقف إلى جانبهم، حين قرر أنّ الحقّ في جانبهم وأنّ الإمام مالك وإن كان إماماً في الفقه فليس من أرباب السليقة العربية. | |||
<br>يقول الدكتور البيّومي معلّقاً: «وكلام أبي حاجب حقٌ؛ لأنّ علماء اللغة قد أجمعوا على أنّ عهد السليقة العربية قد انتهى بانتهاء الدولة الأُموية، وأصبح بشّار بن برد ومن جاء بعده لا يحتجّ بشعرهم، ومالك رضى الله عنه قد عاش إلى عهد الرشيد، فليس إذن ممّن يُحتجّ بقوله اللغوي، ولكن الشنقيطي حمل حملةً شعواء على الشيخ، فبعد أن وصفه بالشيخ الجليل والأُستاذ النبيل تورّط في وصفه بالجهالة والغفلة إلى ما ينحو هذا النحو... وإعراب (هي) مفعولًا به هو موضع الخطأ؛ لأنّ ضمير المفعول به ضمير نصب لا رفع، ولكن الشنقيطي يُفسّر فعل (يجد) بمعنى يغني، فتكون فاعلًا! وإذاً فلكلّ وجهه، وليس من شأن المخالف أن يُسفّه مخالفه إذا اعتمد على سندٍ نحوي، ولكن هكذا فعل ابن التلاميذ!». | <br>يقول الدكتور البيّومي معلّقاً: «وكلام أبي حاجب حقٌ؛ لأنّ علماء اللغة قد أجمعوا على أنّ عهد السليقة العربية قد انتهى بانتهاء الدولة الأُموية، وأصبح بشّار بن برد ومن جاء بعده لا يحتجّ بشعرهم، ومالك رضى الله عنه قد عاش إلى عهد الرشيد، فليس إذن ممّن يُحتجّ بقوله اللغوي، ولكن الشنقيطي حمل حملةً شعواء على الشيخ، فبعد أن وصفه بالشيخ الجليل والأُستاذ النبيل تورّط في وصفه بالجهالة والغفلة إلى ما ينحو هذا النحو... وإعراب (هي) مفعولًا به هو موضع الخطأ؛ لأنّ ضمير المفعول به ضمير نصب لا رفع، ولكن الشنقيطي يُفسّر فعل (يجد) بمعنى يغني، فتكون فاعلًا! وإذاً فلكلّ وجهه، وليس من شأن المخالف أن يُسفّه مخالفه إذا اعتمد على سندٍ نحوي، ولكن هكذا فعل ابن التلاميذ!». | ||
<br>ومن الجدير بالذكر أنّ المترجم انتقل وهو في الثامنة من عمره إلى تونس، وكان بها عمّه إبراهيم، وهو أُستاذ فاضل يقوم بتعليم أولاد الوزير القائم لهذا المعهد، فرعاه بعنايته، ودَفع به إلى طلب العلم في كُتّاب (باب منارة) بتونس، فكان ذلك تمهيداً لالتحاقه بالزيتونة حين كانت تسعدُ بعلماء أعلام مثل شيخي الإسلام [[محمّد بن الخوجة]]، و[[إبراهيم الرياحي]]، و[[محمّد بن معاوية]]، و[[مصطفى بيرم]]، وغيرهم... ومع ابتعاد الزيتونة نسبياً عن علوم اللغة فإنّ الطالب الناشئ وجد من نفسه كَلفاً بمعرفة الألفاظ الغريبة، ولم تكن في «[[القاموس المحيط]]» إذ ذاك غير نسخة في قصر الوزير، وكانت من الرعاية الخاصّة بحيث لا يسمح لأحد باستعارتها، ولكن سالم بوساطة عمّه قد اهتدى إليها وأكبّ عليها حفظاً واستظهاراً، فكان تضلّعه في معرفة الغريب ميزة تُحسب له بين الشيوخ والتلاميذ معاً، وكذلك أخذ تدريس كتاب «المطوّل» [[السعد التفتازاني|للسعد التفتازاني]] في علوم البلاغة، وهو كتابٌ لا يشرئبّ له غير<br>تلاميذ المرحلة العالية؛ لأنّه من العمق والغوص والاستطراد والتعقيد أحياناً بحيث لا يصبر عليه غير الشيوخ! أمّا الذي أذكى في نفسه حبّ الأدب الخالص إذكاءً ترتفع حرارته كثيراً فهو أديب العصر [[محمود قابادو]]، حيث وثّق صلته به، وكان محمود قابادو مؤسّس نهضة أدبية رائعة في البلاد، وقد دعا إلى تعلّم اللغات الأوروبّية، ودراسة العلوم الحديثة، فأُعجب الأُستاذ بتلميذه، وتطارحا الشعر على صفحات الجرائد، وعظمت ثقة الشيخ سالم بنفسه، فكان يحضر مجالس الشيوخ بالزيتونة، ويسمع ويعارض، ومنهم من ضاق به ذرعاً، ومن لمح فيه بوادر اليقظة الفكرية فاستدناه وقرّبه، ومنهم الشيخ محمّد بيرم الذي قدّمه إلى رجال الدولة وكبار الساسة، فعقد صلته بالجنرالات خير الدين وحسين ورستم، وهم ذوو الأمر في البلاد والقائمون على الإصلاح الإداري. | <br>ومن الجدير بالذكر أنّ المترجم انتقل وهو في الثامنة من عمره إلى تونس، وكان بها عمّه إبراهيم، وهو أُستاذ فاضل يقوم بتعليم أولاد الوزير القائم لهذا المعهد، فرعاه بعنايته، ودَفع به إلى طلب العلم في كُتّاب (باب منارة) بتونس، فكان ذلك تمهيداً لالتحاقه بالزيتونة حين كانت تسعدُ بعلماء أعلام مثل شيخي الإسلام [[محمّد بن الخوجة]]، و[[إبراهيم الرياحي]]، و[[محمّد بن معاوية]]، و[[مصطفى بيرم]]، وغيرهم... ومع ابتعاد الزيتونة نسبياً عن علوم اللغة فإنّ الطالب الناشئ وجد من نفسه كَلفاً بمعرفة الألفاظ الغريبة، ولم تكن في «[[القاموس المحيط]]» إذ ذاك غير نسخة في قصر الوزير، وكانت من الرعاية الخاصّة بحيث لا يسمح لأحد باستعارتها، ولكن سالم بوساطة عمّه قد اهتدى إليها وأكبّ عليها حفظاً واستظهاراً، فكان تضلّعه في معرفة الغريب ميزة تُحسب له بين الشيوخ والتلاميذ معاً، وكذلك أخذ تدريس كتاب «المطوّل» [[السعد التفتازاني|للسعد التفتازاني]] في علوم البلاغة، وهو كتابٌ لا يشرئبّ له غير<br>تلاميذ المرحلة العالية؛ لأنّه من العمق والغوص والاستطراد والتعقيد أحياناً بحيث لا يصبر عليه غير الشيوخ! أمّا الذي أذكى في نفسه حبّ الأدب الخالص إذكاءً ترتفع حرارته كثيراً فهو أديب العصر [[محمود قابادو]]، حيث وثّق صلته به، وكان محمود قابادو مؤسّس نهضة أدبية رائعة في البلاد، وقد دعا إلى تعلّم اللغات الأوروبّية، ودراسة العلوم الحديثة، فأُعجب الأُستاذ بتلميذه، وتطارحا الشعر على صفحات الجرائد، وعظمت ثقة الشيخ سالم بنفسه، فكان يحضر مجالس الشيوخ بالزيتونة، ويسمع ويعارض، ومنهم من ضاق به ذرعاً، ومن لمح فيه بوادر اليقظة الفكرية فاستدناه وقرّبه، ومنهم الشيخ محمّد بيرم الذي قدّمه إلى رجال الدولة وكبار الساسة، فعقد صلته بالجنرالات خير الدين وحسين ورستم، وهم ذوو الأمر في البلاد والقائمون على الإصلاح الإداري. | ||
سطر ٤٧: | سطر ٥٦: | ||
<br>وقد نجحت الصادقية في تكوين جيل علمي ناهض، فأدّى ذلك إلى تطوير الزيتونة في مناهجها وطرق تدريسها، فاشتملت بها المناهج لأوّل مرّة على الرياضيات والطبيعيات، كما نظّمت أعمال الامتحان، ومراقبة الحضور والانصراف بالنسبة للأساتذة والطلّاب، وتلك إحدى ميزات التنافس العلمي بين المعاهد المختلفة، حيث يأخذ كلّ معهد من غيره أحسن ما لديه!<br>وتابع الشيخ إصلاحه التعليمي، فسعى إلى إنشاء «الخلدونية» مع جماعةٍ من محبّي<br>التقدّم الفكري، فافتتح هذا المعهد الجليل في حفلٍ مشهود حضره النابهون من رجال الثقافة والسياسة، وكان أوّل درس به هو درس الشيخ سالم أبي حاجب، حيث ألقى محاضرة ضافية بدأها بالآية الكريمة: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (سورة البقرة: 31)، مبيّناً فضل التعليم وسبق أوروبّا إلى النشاط الفكري حتّى سادت الكون، وموضّحاً أنّ العلوم الحديثة سلسلة في حلقات متّصلة بدأها العرب في عصورهم الزاهرة، فليست وافدة من الغرب، ولكنّها ملك الإنسانية جميعاً في المشرق والمغرب. | <br>وقد نجحت الصادقية في تكوين جيل علمي ناهض، فأدّى ذلك إلى تطوير الزيتونة في مناهجها وطرق تدريسها، فاشتملت بها المناهج لأوّل مرّة على الرياضيات والطبيعيات، كما نظّمت أعمال الامتحان، ومراقبة الحضور والانصراف بالنسبة للأساتذة والطلّاب، وتلك إحدى ميزات التنافس العلمي بين المعاهد المختلفة، حيث يأخذ كلّ معهد من غيره أحسن ما لديه!<br>وتابع الشيخ إصلاحه التعليمي، فسعى إلى إنشاء «الخلدونية» مع جماعةٍ من محبّي<br>التقدّم الفكري، فافتتح هذا المعهد الجليل في حفلٍ مشهود حضره النابهون من رجال الثقافة والسياسة، وكان أوّل درس به هو درس الشيخ سالم أبي حاجب، حيث ألقى محاضرة ضافية بدأها بالآية الكريمة: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (سورة البقرة: 31)، مبيّناً فضل التعليم وسبق أوروبّا إلى النشاط الفكري حتّى سادت الكون، وموضّحاً أنّ العلوم الحديثة سلسلة في حلقات متّصلة بدأها العرب في عصورهم الزاهرة، فليست وافدة من الغرب، ولكنّها ملك الإنسانية جميعاً في المشرق والمغرب. | ||
<br>ولم تكن الريح رخاء بالنسبة لإنشاء «الخلدونية»، بل وجدت المعارض، وهذه سنّة الحياة في تطوّرها البطيء والسريع، ولكنّ الأُمور استقرّت من بعد، حين خلصت النفوس، وابتعدت الأهواء. وأكبر ما وُجّه إلى الشيخ سالم من نقد أنّه أقرب إلى علوم الغرب منه إلى كتب التراث، وهي فرية تدحضها دروسه العلمية المشار إليها من قبل، والحقّ أن يقال: إنّه عمل على أن يصل الشرق بالغرب، إذ لا يستطيع الشرق أن يُواجه [[الاحتلال الاستعماري]] إلّا بسلاح العلم، وإذا كانت هذه المسألة من البدهيات اليوم فقد كانت في عهد الشيخ من الغرائب العويصة التي يُلتمس لها أدقّ الحلول على حدّ تعبير الدكتور البيّومي. | <br>ولم تكن الريح رخاء بالنسبة لإنشاء «الخلدونية»، بل وجدت المعارض، وهذه سنّة الحياة في تطوّرها البطيء والسريع، ولكنّ الأُمور استقرّت من بعد، حين خلصت النفوس، وابتعدت الأهواء. وأكبر ما وُجّه إلى الشيخ سالم من نقد أنّه أقرب إلى علوم الغرب منه إلى كتب التراث، وهي فرية تدحضها دروسه العلمية المشار إليها من قبل، والحقّ أن يقال: إنّه عمل على أن يصل الشرق بالغرب، إذ لا يستطيع الشرق أن يُواجه [[الاحتلال الاستعماري]] إلّا بسلاح العلم، وإذا كانت هذه المسألة من البدهيات اليوم فقد كانت في عهد الشيخ من الغرائب العويصة التي يُلتمس لها أدقّ الحلول على حدّ تعبير الدكتور البيّومي. | ||
=الوفاة= | |||
وفي سنة 1924 م لقي الأُستاذ سالم ربّه بعد كفاح دائب وجهد جاهد، وكان معتزلًا لعدّة سنوات يزوره طلّابه من الأساتذة الكبار بعيداً عن حلقات الدرس التي لم يستطع النهوض بها في شيخوخته المباركة، وقد تردّد منعاه في العالم الإسلامي جميعه، ففاضت الصحف مؤبّنة راثية، وأُقيمت حفلات التقدير في أكثر من مكان، وهكذا تكون عقبى العاملين. | |||
== المراجع == | == المراجع == | ||
سطر ٥٤: | سطر ٦٥: | ||
[[تصنيف:روّاد التقريب]] | [[تصنيف:روّاد التقريب]] | ||
[[تصنيف:علماء تونس]] | [[تصنيف:علماء تونس]] | ||
[[تصنيف:العلماء المسلمون]] |