الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الإجمال في القرآن والسنّة»

(أنشأ الصفحة ب''''الإجمال في القرآن والسنّة''' بحثٌ اصوليٌ مشهورٌ بین الفقهاء والمجتهدین، فإنهم یقولون بجریا...')
 
سطر ٣: سطر ٣:
===الإجمال العرضي في القرآن والسنّة===
===الإجمال العرضي في القرآن والسنّة===
====أ ـ الإجمال في القرآن====
====أ ـ الإجمال في القرآن====
لا إشكال في جريان الإجمال بالعرض في القرآن، بناءً على ما هو الصحيح من [[جواز تخصيص الكتاب بالسنّة]]، بمعنى سريان الإجمال إلى إطلاق أو عموم أو ظهور آية من آيات الأحكام، نتيجة إجمال المخصّص أو القرينة المنفصلة الواردة في السنّة الشريفة.
لا إشكال في جريان الإجمال بالعرض في القرآن، بناءً على ما هو الصحيح من [[جواز تخصيص الكتاب بالسنّة]]، بمعنى سريان الإجمال إلى إطلاق أو عموم أو ظهور آية من آيات الأحكام، نتيجة إجمال المخصّص أو القرينة المنفصلة الواردة في السنّة الشريفة. كما يجري فيه الإجمال بمعنى عدم الإطلاق، من جهة عدم كونه في مقام التفصيل، بل في مقام تشريع أصل الحكم كما يقال ذلك بالنسبة لمثل قوله تعالى: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ»، وقوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»<ref> آل عمران : 97.</ref>، وغيرها من الآيات التي ليست بمقام التعرض لتفصيل الحكم، وكم لها من  نظير.<br>
كما يجري فيه الإجمال بمعنى عدم الإطلاق، من جهة عدم كونه في مقام التفصيل، بل في مقام تشريع أصل الحكم كما يقال ذلك بالنسبة لمثل قوله تعالى: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ»، وقوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»<ref> آل عمران : 97.</ref>، وغيرها من الآيات التي ليست بمقام التعرض لتفصيل الحكم، وكم لها من  نظير.
 
وأيضا يجري فيه الإجمال بمعنى التشابه بالمعنى الذي فسّرناه ـ  وهو أن يكون للفظ ظهور غير مراد  ـ بل ذلك واقع قطعا، كما هو صريح قوله تعالى: «وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ».
وأيضا يجري فيه الإجمال بمعنى التشابه بالمعنى الذي فسّرناه ـ  وهو أن يكون للفظ ظهور غير مراد  ـ بل ذلك واقع قطعا، كما هو صريح قوله تعالى: «وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ».<br>
وأمّا الإجمال بالذات بمعنى الإبهام وعدم اتضاح مدلول اللفظ ومراده في نفسها، فقد يقال بعدم جريانه مطلقا في القرآن؛ وذلك لأنّ الكلام إن لم يقصد به الإفهام كان عبثا، وهو غير لائق بالحكيم، وإن قصد به الإفهام، فإن قرن بالمجمل ما يبيّنه كان تطويلاً من غير فائدة؛ لأنّ التنصيص على المعنى أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكر المجمل ثمّ تعقيبه بالبيان، وإن لم يقترن به ما يبيّنه كان من إرادة الإفهام بما لايدلّ على المراد، ومخلاًّ بالتفاهم، وهو محال من الحكيم. <ref> انظر : المحصول الرازي 1 : 465، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2 : 143، مفاتيح الأصول : 223، هداية المسترشدين 1 : 497.</ref>
 
وأمّا الإجمال بالذات بمعنى الإبهام وعدم اتضاح مدلول اللفظ ومراده في نفسها، فقد يقال بعدم جريانه مطلقا في القرآن؛ وذلك لأنّ الكلام إن لم يقصد به الإفهام كان عبثا، وهو غير لائق بالحكيم، وإن قصد به الإفهام، فإن قرن بالمجمل ما يبيّنه كان تطويلاً من غير فائدة؛ لأنّ التنصيص على المعنى أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكر المجمل ثمّ تعقيبه بالبيان، وإن لم يقترن به ما يبيّنه كان من إرادة الإفهام بما لايدلّ على المراد، ومخلاًّ بالتفاهم، وهو محال من الحكيم. <ref> انظر : المحصول الرازي 1 : 465، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2 : 143، مفاتيح الأصول : 223، هداية المسترشدين 1 : 497.</ref><br>
 
وهذا البيان نظير ما ذكره بعضهم من استحالة وقوع المشترك في القرآن لذلك الوجه. <ref> انظر : كفاية الأصول : 35.</ref>
وهذا البيان نظير ما ذكره بعضهم من استحالة وقوع المشترك في القرآن لذلك الوجه. <ref> انظر : كفاية الأصول : 35.</ref>
وأجيب:
وأجيب:
أوّلاً: بوقوع المجمل في القرآن في الجملة، وهو أدلّ دليل على إمكانه، وذلك كالقُرء المردّد في المعنى بين الضدين ـ  الحيض والطهر  ـ عند أهل اللغة والتفسير، ولا مبيّن له في الكتاب، ولولا الروايات الواردة من أئمّة [[أهل البيت]](ع) في تعيين المراد منه لبقي مجملاً، وكعسعس الموضوع للإقبال والإدبار. <ref> انظر : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 445 مادة «قَرء»، تفسير غريب القرآن : 60، التبيان 2 : 394، مجمع البيان 2 : 300، المهذّب البارع 3 : 481، المعتبر في شرح المختصر 1 : 28، نهاية الدراية 1 : 145، الفصول في الأصول 1 : 64، المحصول الرازي 1 : 465.</ref>
أوّلاً: بوقوع المجمل في القرآن في الجملة، وهو أدلّ دليل على إمكانه، وذلك كالقُرء المردّد في المعنى بين الضدين ـ  الحيض والطهر  ـ عند أهل اللغة والتفسير، ولا مبيّن له في الكتاب، ولولا الروايات الواردة من أئمّة [[أهل البيت]](ع) في تعيين المراد منه لبقي مجملاً، وكعسعس الموضوع للإقبال والإدبار. <ref> انظر : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 445 مادة «قَرء»، تفسير غريب القرآن : 60، التبيان 2 : 394، مجمع البيان 2 : 300، المهذّب البارع 3 : 481، المعتبر في شرح المختصر 1 : 28، نهاية الدراية 1 : 145، الفصول في الأصول 1 : 64، المحصول الرازي 1 : 465.</ref><br>
وثانيا: بمنع كونه مخلاًّ بالحكمة؛ لتعلق الغرض بالإجمال أحيانا، وإلاّ لما وقع المشتبه في كلامه أيضا، وقد أخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه كما مرّت الآية. وقد يكون الغرض من الإجمال بل الإهمال اضطرار المكلّفين إلى الرجوع إلى أهل الذكر والراسخين في العلم ـ  وهم المعصومون من أهل البيت عليهم‏السلام  ـ أو استعدادهم للامتثال بذكر الإجمال أولاً ثمّ الإتيان بالمبيّن أو اجتهادهم في طلب البيان. <ref> انظر : المحصول الرازي 1 : 466، مفاتيح الأصول : 223، هداية المسترشدين 1 : 497، كفاية الأصول : 35.</ref> وهي كلّها أغراض عقلائية لا تقبح على الحكيم تعالى.
 
قال السيد الخوئي: «... لمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، فإنّ الغرض قد يتعلق بالإجمال والإهمال، كما أخبر هو تعالى بوقوعه في كلامه... «واخر متشابهات» فالمتشابه هو المجمل، وقد وقع في القرآن في غير مورد، ولا مانع منه أصلاً إذا تعلق الغرض به، ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك، وباب القرينة واسع».<ref> انظر : محاضرات في أصول الفقه 1 : 203، دراسات في علم الأصول الخوئي 1 : 98 ـ 99.</ref>
وثانيا: بمنع كونه مخلاًّ بالحكمة؛ لتعلق الغرض بالإجمال أحيانا، وإلاّ لما وقع المشتبه في كلامه أيضا، وقد أخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه كما مرّت الآية. وقد يكون الغرض من الإجمال بل الإهمال اضطرار المكلّفين إلى الرجوع إلى أهل الذكر والراسخين في العلم ـ  وهم المعصومون من أهل البيت عليهم‏السلام  ـ أو استعدادهم للامتثال بذكر الإجمال أولاً ثمّ الإتيان بالمبيّن أو اجتهادهم في طلب البيان. <ref> انظر : المحصول الرازي 1 : 466، مفاتيح الأصول : 223، هداية المسترشدين 1 : 497، كفاية الأصول : 35.</ref> وهي كلّها أغراض عقلائية لا تقبح على الحكيم تعالى. وقال السيد الخوئي: «... لمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، فإنّ الغرض قد يتعلق بالإجمال والإهمال، كما أخبر هو تعالى بوقوعه في كلامه... «واخر متشابهات» فالمتشابه هو المجمل، وقد وقع في القرآن في غير مورد، ولا مانع منه أصلاً إذا تعلق الغرض به، ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك، وباب القرينة واسع».<ref> انظر : محاضرات في أصول الفقه 1 : 203، دراسات في علم الأصول الخوئي 1 : 98 ـ 99.</ref>
وقال الشوكاني: «فلا يخفاك أنّ المشترك موجود في هذه اللغة العربية، لاينكر ذلك إلاّ مكابر، كالقرء، فإنّه مشترك بين الطهر والحيض، مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك».
وقال الشوكاني: «فلا يخفاك أنّ المشترك موجود في هذه اللغة العربية، لاينكر ذلك إلاّ مكابر، كالقرء، فإنّه مشترك بين الطهر والحيض، مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك».<br>
 
ثمّ قال: «ومثل القرء، العين... وكذا الجون... وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر، وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء، فهو أيضا واقع في الكتاب والسنّة، فلا اعتبار بقول من قال: إنّه غير واقع في الكتاب فقط، او غير واقع فيهما، لا في اللغة».<ref> إرشاد الفحول 1 : 113.</ref>
ثمّ قال: «ومثل القرء، العين... وكذا الجون... وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر، وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء، فهو أيضا واقع في الكتاب والسنّة، فلا اعتبار بقول من قال: إنّه غير واقع في الكتاب فقط، او غير واقع فيهما، لا في اللغة».<ref> إرشاد الفحول 1 : 113.</ref>
وقال الآمدي: «إذا عرف وقوع الاشتراك لغةً، فهو أيضا واقع في كلام اللّه‏ تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»، فإنّه مشترك بين إقبال الليل وإدباره، وهما ضدّان».<ref> الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 22.</ref>
وقال الآمدي: «إذا عرف وقوع الاشتراك لغةً، فهو أيضا واقع في كلام اللّه‏ تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»، فإنّه مشترك بين إقبال الليل وإدباره، وهما ضدّان».<ref> الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 22.</ref>
فالذي ينبغي القول به هو: إنّ الإجمال تارةً يكون بحيث يعدّ نقصا في البيان وتكلّما بما لاينبغي صدوره من الحكيم، وأخرى يكون بما ليس لذلك. وما ثبت وقوعه في الكتاب العزيز من الاشتراك يكون من قبيل الثاني، فإنّ قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»وكذا قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»ونحوهما، وإن كانت غير مبيّنة من بعض الجهات إلاّ أ نّها ليست من اللّغو والمهمل الذي يُعَدّ نقصا في البيان البليغ، بل قد يكون استعمال المشترك بنفسه من بلاغة الكلام إذا كان باب القرينة مفتوح؛ لكونه أوقع في النفس من ذكره ابتداءً مبينّا. <ref> التحبير شرح التحرير 6 : 2753.</ref>
فالذي ينبغي القول به هو: إنّ الإجمال تارةً يكون بحيث يعدّ نقصا في البيان وتكلّما بما لاينبغي صدوره من الحكيم، وأخرى يكون بما ليس لذلك. وما ثبت وقوعه في الكتاب العزيز من الاشتراك يكون من قبيل الثاني، فإنّ قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»وكذا قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»ونحوهما، وإن كانت غير مبيّنة من بعض الجهات إلاّ أ نّها ليست من اللّغو والمهمل الذي يُعَدّ نقصا في البيان البليغ، بل قد يكون استعمال المشترك بنفسه من بلاغة الكلام إذا كان باب القرينة مفتوح؛ لكونه أوقع في النفس من ذكره ابتداءً مبينّا. <ref> التحبير شرح التحرير 6 : 2753.</ref><br>
قال الآمدي الذي مرّ تصريحه بوقوع المشترك في الكتاب: «القرآن لايتصور اشتماله على ما لا معنى له في نفسه؛ لكونه هذيانا ونقصا يتعالى كلام الربّ عنه».<ref> الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 143.</ref> واستدَلّ له بكونه تكليفا بما لايطاق، وإخراجا للقرآن عن كونه بيانا للناس. <ref> المصدر السابق : 144.</ref>
 
قال [[الآمدي]] الذي مرّ تصريحه بوقوع المشترك في الكتاب: «القرآن لايتصور اشتماله على ما لا معنى له في نفسه؛ لكونه هذيانا ونقصا يتعالى كلام الربّ عنه».<ref> الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 143.</ref> واستدَلّ له بكونه تكليفا بما لايطاق، وإخراجا للقرآن عن كونه بيانا للناس. <ref> المصدر السابق : 144.</ref>
وقال الزركشي: «لايجوز أن يرد في القرآن ما ليس له معنى أصلاً؛ لأ نّه مهمل والبارى سبحانه منزّه عنه» إلى أن قال: «وأمّا الحروف التّى في أوائل السور، فقد اختلفوا فيها على نيف وثلاثين قولاً، فقيل: إنّها أسماء السور، وقيل: ذكرها اللّه‏ لجمع دواعي العرب إلى الاستماع و...». <ref> البحر المحيط 1 : 457.</ref>
وقال الزركشي: «لايجوز أن يرد في القرآن ما ليس له معنى أصلاً؛ لأ نّه مهمل والبارى سبحانه منزّه عنه» إلى أن قال: «وأمّا الحروف التّى في أوائل السور، فقد اختلفوا فيها على نيف وثلاثين قولاً، فقيل: إنّها أسماء السور، وقيل: ذكرها اللّه‏ لجمع دواعي العرب إلى الاستماع و...». <ref> البحر المحيط 1 : 457.</ref>
وأمّا القول بأنّ القرآن ورد ليكون بيانا استنادا إلى قوله تعالى: «تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ»<ref> النحل : 89 .</ref>، فالجواب عنه: بأنّ هذه الآية وأمثالها إنّما هي ناظرة إلى أنّ القرآن غير ناقص في إفادة مراده من الأحكام وغيرها، لا أ نّه لايشتمل على لفظ مجمل أو مشترك أحيانا، ولو كان المراد منه قد بيّن في آيات أخرى، أو كان غرض الحكيم تعالى قد تعلّق بعدم إيضاحه إيكالاً توضيحه إلى الراسخين في العلم، وقد مرّ أنّ البيان البليغ قد يكون بالإجمال ثمّ التفصيل.
وأمّا القول بأنّ القرآن ورد ليكون بيانا استنادا إلى قوله تعالى: «تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ»<ref> النحل : 89 .</ref>، فالجواب عنه: بأنّ هذه الآية وأمثالها إنّما هي ناظرة إلى أنّ القرآن غير ناقص في إفادة مراده من الأحكام وغيرها، لا أ نّه لايشتمل على لفظ مجمل أو مشترك أحيانا، ولو كان المراد منه قد بيّن في آيات أخرى، أو كان غرض الحكيم تعالى قد تعلّق بعدم إيضاحه إيكالاً توضيحه إلى الراسخين في العلم، وقد مرّ أنّ البيان البليغ قد يكون بالإجمال ثمّ التفصيل.
٤٬٩٤١

تعديل