محمد عاكف

من ویکي‌وحدت
مراجعة ١٠:٣٨، ٥ يوليو ٢٠٢١ بواسطة Mohsenmadani (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
محمد عاكف
الاسم محمّد عاكف‏
الاسم الکامل محمّد عاكف‏
تاريخ الولادة 1873م/1290ق
محل الولادة استانبول(ترکیه)
تاريخ الوفاة 1936م/1355ق
المهنة شاعر
الأساتید
الآثار اصوات حق؛ بر منبر [مسجد] سلمانیه؛ بر منبر مسجد فاتح؛ خاطرات ؛ سایه‌ها؛ صفحات
المذهب سنی

محمّد عاكف: شاعر الوحدة الإسلامية في تركيا، ومصلح ديني.

الولادة والدراسة

كان والد عاكف مدرّساً في مدرسة الفاتح بإسطنبول، وذا نزعة دينية حميدة، فحين وُلد نجله الشاعر سنة 1873 م اهتمّ بتربيته وألحقه بالمدارس النظامية، فنال قدراً من التعليم المدني أهّله إلى الالتحاق بكلّية الطبّ البيطري، فتخرّج منها ظافراً بشهادتها النهائية، وفي الوقت نفسه زاوج تعليمه، فحفظ القرآن، وروى الحديث، ودرس اللغة العربية والفارسية والفرنسية مع التركية، فكانت دراسته الشخصية ذات أثر بالغ في حياته؛ لأنّه حين دعا إلى الوحدة الإسلامية كان يغترف من قراءاته الخاصّة.

التأثر من السيد جمال الدين و أبو الهدى الصيّادي

وكان هناك رجلان طغيا على تفكيره في صدر شبابه، فأثّر كلاهما بشخصيته تأثيراً قوياً في نفس الشاعر:
أمّا الرجل الأوّل ف جمال الدين الأفغاني، وهو أُستاذ المصلحين في ربوع الإسلام، فتح عيونهم على الهوّة العميقة التي تنحدر إليها ممالك الإسلام بتكالب أوروبّا ومكايد أحقادها الثائرة، ورسم الطريق إلى الخلاص بإيضاح حقوق الحاكم وواجباته،
وتحقيق سعادة الرعية ورفاهتها، والانضواء تحت ألوية المعرفة والحضارة بعيداً عن الجمود والقنوط والاستسلام، ثمّ الدعوة إلى وحدة شاملة عزيزة تجمع ممالك الإسلام نحو هدف واحد!
هذه الآراء قد لمست من قلب عاكف وتراً حسّاساً، فهام بها واعتنقها،
وأصدر جريدتين كبيرتين للدعاية لها، ورسم طريقه في الإصلاح على نهجها، منجذباً إلى تلاميذ جمال الدين ممّن يجتمعون معه في الرأي والاتّجاه، فترجم كثيراً من آراء محمّد عبده إلى اللغة التركية، لا سيّما ردّه المفحم على «هانوتو» وبعض تفسيراته العصرية لآيات من كتاب اللَّه... كما كان معجباً أكثر الإعجاب بالمدافعين عن الإسلام في العربية من أمثال محمّد فريد وجدي؛
إذ أفرد لمقالاته الذائعة جانباً في جريدته، يترجم منها ما يفيد حركة الثقافة والإصلاح، وقد ترجم كتابه «المرأة المسلمة»؛ إذ لمس الحاجة الماسّة إلى إيقاف الرأي العامّ التركي على منزلة المرأة في الإسلام، وموقفها من الثقافة والمعرفة والمنصب، والحدود الفاصلة بين السفور والحجاب والتبرّج والاحتشام.
أمّا الرجل الثاني صاحب التأثير البعيد في نفس عاكف فقد كان أبا الهدى الصيّادي ذا النفوذ البعيد لدى عبد الحميد، فقد تزيّى بزيّ رجال الدين، ونصّب نفسه حامياً للشرع والخليفة، وهو في أطواء نفسه أفّاق محتال يعمل لرغبات شخصية، لا يبالي أن تتجاوز حدود اللَّه،
ناصباً شتّى المؤامرات لإبادة من يجبهه بكلمة الحقّ!
هذا الداهية الوصولي قد أثّر في نفس عاكف تأثيراً لا يقلّ عن أثر جمال الدين، وإن اختلف اتّجاه التأثيرين إلى درجة التناقض، حيث إنّ محمّد عاكف قد عزّ عليه أن يكون الإسلام السمح بعدله وإنسانيته ستاراً يحتمي به الممخرقون من أدعياء الولاية والتصوّف! وهاله أن يعدّ هذا الأفّاق المحترف مع أشياعه من كبار حماته وأساطين أعلامه، ثمّ يقترفون الأوزار، فترجع في نظر الناس إلى دينهم البري‏ء لا إلى فسوقهم الشائن، فصمّم على أن يقوم بدعوة الإصلاح الديني؛ ليفضح هؤلاء الفجرة المارقين.

نشاطاته

وكان طريقه في مفتتح حياته شاقّاً تهبّ به الأعاصير في كلّ اتّجاه، ولكنّه استطاع أن يكون ذا أنصار وأتباع بجهاده الصابر ودفاعه المستميت!
وقد كان إلى ذلك كلّه أُستاذاً في الجامعة التركية، وعضواً في المجلس الوطني، وصاحب مجلّتي «الصراط المستقيم، وسبيل الرشاد»، وكلّ ذلك يجعله ممّن يقولون فيسمعون، بل إنّه ما وصل إلى مكان القيادة في الجامعة والمجلس الوطني إلّابما عُرف عنه من سداد وإخلاص. ولم يخدم الفكرة الإسلامية بقلمه الثائر وحده، بل بدواوينه الخمسة التي توالت حارّة قوية نفّاذة، تحت عنوان واحد هو «الصفحات»، وإذا كان الشعر أخلد من النثر؛ لكثرة رواته وعظيم تأثيره، فإنّ الكاتب المصلح محمّد عاكف قد شاء له القدر أن يدخل حرم التاريخ من باب الشعر على أن يذكر جهاده الإصلاحي الدائب وكفاحه العلمي الثائر من بين معارجه الرفيعة التي حملته إلى ذروة الوحي فتلقّى أشعّة الإلهام ليترنّم بها أبناء اللغة التركية في فخر وإكبار.
وقد كان ادّعاء أبي الهدى الصيّادي سمت التصوّف دافعاً للشاعر أن يبحث عن أُصول التصوّف الحقيقي في الإسلام، فدرس فطاحل المتصوّفين في العربية والفارسية والتركية، واشتدّ إعجابه بابن الفارض في العربية وبسعدي الشيرازي في الفارسية، حتّى ترجم عنه أكثر أشعاره في صدر شبابه بمجلّة «ثروت فنون»، ففتح عيون القارئين على بحر عميق الغور، ووصل بين الفارسية والتركية بأسباب أكيدة فوق ما عرف عن اللغتين من الامتزاج المتقارب في بعض الوجوه والسمات.
على أنّ أكبر أديب احتلّ شعوره وملك عليه منافذ تفكيره كان الشاعر المعاصر محمّد إقبال؛ إذ أنّ صيحات إقبال العظيم في إيقاظ الشعور الإسلامي قد وجدت صداها الرنّان في نفس عاكف، فكانت دواوينه الرائعة سلوى نفسه ومثار عواطفه... يتحدّث عنه صديقه الكبير الدكتور عبد الوهّاب عزّام حين ودّع الحياة في 29 ديسمبر سنة 1936 م، فيقول بالعدد (187) من مجلّة «الرسالة» الغرّاء: «وكم تحدّثنا وقرأنا في سيرنا وجلوسنا في الآداب الثلاثة العربية والفارسية والتركية، وكنت أُحبّ أن أقرأ عليه شعره، وكان يسرّه أن يستمع إليه، وكانت كلّ أحاديثنا وقراءاتنا متعة نجتمع فيها على الفكر والذوق والأمل والألم، وكان أطيب المجالس مجلساً نفرغ فيه إلى شعر محمّد إقبال،
فقد عرّفني رحمه الله بإقبال يوم أعارني ديوانه «بيام مشرق»، فإذا صفا الوقت عمدت إلى أحد كتب إقبال فقرأت، واستمع مُقبلًا مستغرقاً، يقطع إنشادي في الحين بعد الحين بالاستعادة أو الاستحسان أو التعجّب أو التأوّه، وشدّ ما كان يثير إقبال نفسه أو يثلج صدره وشدّ ما كان يحزنه أو يفرحه، وأذكر أنّنا بدأنا كتاب إقبال «أسرار خودي»، فوالينا الجلسات حتّى أنهيناه إنشاداً، ثمّ أتبعنا به أخاه «رموز بي خودي»، فختمناه على شوق إلى الإعادة».
يقول الدكتور محمّد رجب البيّومي: «تطرّق بعض الباحثين إلى الموازنة بين شعر إقبال وشعر عاكف، وما قرأته في هذا الصدد يشير إلى أنّ إقبال كان إنشائياً إيجابياً في شعره،
فهو متفائل يلتمس القوّة في ذات المسلم ويرى روحه الوثّابة طاقة كبيرة تستطيع القيام بعمل ضخم كبير لو فطن إلى ذخائرها النفيسة واكتشف عناصرها الفتية، مع أنّ الشاعر
المتفائل ليست له أُمّة متماسكة، بل مسلمو الهند لعهده أباديد هائمة في جماعات متنازعة متناحرة، ممّا كان يدعو إلى التشاؤم، لولا أنّ إقبال قد آلى على نفسه أن ينفخ في الصور ليستيقظ النائمون من أجداثهم إلى بعث جديد.
أمّا عاكف فقد أمضّه تقلّص الظلّ الإسلامي واقتطاع أجزائه وسوء الواقع في تركيا وما ترعاه من ممالك، فاكتفى بالنواح والبكاء، ونظم زفراته الحارّة أبياتاً باكية ذات شجن ملتاع! مع أنّه يعيش في وطن متماسك ذي حيّز، يدعو إلى التفاؤل لو كانت له روح إقبال وعزيمته!
وفي رأينا أنّ البكاء النائح نفخ في الصور من لون آخر، فهو يدعو القارئ إلى تفهّم المأساة، ويبصّر عينيه بالكارثة الحاقّة؛ ليهبّ هبّة عاتية، ينتقم من أعدائه ويثأر من غاصبيه! وإذاً فلعاكف أثره الملموس في إيقاظ الهمم وبعث العزائم، وإن كان لا يُقاس بأثر إقبال إذا قِيسَ به! لأنّ كلّ شاعر يخطّ مجراه وفق منزعه الوجداني واستعداده النفسي، ولا يعقل أن يكون شعراء الإسلام جميعاً على جادّة واحدة، وإن كانوا جميعاً على طريق سواء!».
كان عاكف يقول في ديوانه ما ترجمته: «سَلني أيّها القارئ الحبيب أُنبئك، سَلني: ما هذه الأشعار الماثلة أمامك؟ إنّها أكداس من الكَلِم لا براعة فيها إلّاالإخلاص، لست أعرف التصنّع، لأنّي لست صانعاً، يقال: إنّ الشعر دمع العين، لا علم لي بهذا، ولكنّي أرى أنّ كلّ ما أُسطّر هو بكاء العجز، أنا أبكي فلا أستطيع أن أبكي، وأشعر فلا أستطيع أن أُبيّن، وإنّ الشقاء أن يُحرَم القلب الشاعر لساناً، اقرأ إن كنت تنشد قلباً حسّاساً، اقرأ فما كتبت كلمتين إلّا سطّرت هذا القلب».
كما يقول: «ما كنت لأقف معقول اللسان أُقلّب الطرف فيما حولي، لم يكن لي بدٌّ أن أنوح لأُوقظ الإسلام، إنّما أُريد أن تفور القلوب المرهفة الحسّ الراسخة الإيمان،
وأمّا التفكير الطويل فقد هجرته منذ أمد بعيد، إنّي أنوح، ولكن لمن؟ أين أهل الدار؟ أُقَلِّب طرفي فلا أظفر إلّابأُمم نائمة! لقد خنقت صرخاتي، وحملت نعشها، ثمّ مزّقتها تمزيقاً، ودفنتها في شعري المنهمر، أسيله في غير هدير كالدموع الخفية، لا أجد في هذه القبّة
الصمّاء لآلامي أثراً، فليئنّ الخسران الذي في صفحاتي دون حسٍّ ولا ركز».
لقد قدم محمّد عاكف القاهرة سنة 1912 م زائراً المشتى الجميل بالأقصر، وواصل الخطو في ديار الإسلام، فوجد نفسه غريباً بين أهله وذويه، عن يمينه وشماله أوروبيّون من إنجليز وفرنسيّين وألمان يملؤون الكؤوس ثملين، ويُواصلون السمر ضاحكين، و
أمامه معابد الفراعنة تُشير إلى مجدٍ عفا وسلطان أدبر، وواقع العالم الإسلامي من حوله يشير إلى ظلمات تتراكم وتمتدّ حتّى يسود الأُفق وتهمد الأنفاس، كلّ ذلك قد هاج لواعه، فنظم قصيدة طويلة جعل عنوانها «في الأقصر»، بدأها بوصف الطبيعة الهادئة ساعة الأصيل بالصعيد الأعلى عند غروب الشمس، فرسم مناظر بديعة للنيل بزوارقه ومجاديفه وللنخل السامق الباسق وللفلّاح الكادح اللاغب، ثمّ انفجر يقول نقلًا عن ترجمة الأُستاذ أكمل الدين إحسان بالعدد الرابع من مجلّة «الشِعر»: «ورأيت أمامي نحو ثلاثة عشر نفراً من السائحين، ما بين فرنسيّين وإنجليز وألمان، مجتمعين زُرافات ووحداناً، وللكؤوس بينهم رنين.
فالفرنسيّون يضحكون؛ لأنّ كيسهم المملوء يهزّ الدنيا المدنية لهم هزّاً عنيفاً، وليس في الدنيا ما يُحزنهم إلّاهزيمة «سيدان»، ومع ذلك فإنّ الرغد والرفاهية يُنسيان الإنسان أنكى الجروح.
والإنجليز يضحكون، وما أجدرهم بالضحك؛
لأنّ الدنيا كلّها رهن إشارتهم، إن قالوا لها: موتي، فستموت، يؤلّبون شعوب الأرض بعضها على بعض، وينظرون عن بُعْد فرحين، فبينما يصطدم الحجر والفولاذ يُشعلون غليونهم.
والألمان يضحكون؛ لأنّ قوّة عضدهم كفيلة بأن يصدّق العالم جميع ما يقولون، وما دام البشر لا يعطي الحقّ إلّاللقوّة، فما الحيلة في الوصول إلى الحقّ بغير القوّة؟!
أضَعيف أنت إذن؟ فالنحيب أولى بك!
نعم، في هذه الساحة من الصخب، صخب الحبور، وجَلَبَة السرور، أنا وحدي اليأس الذي لا يبتسم! قد أخذت أبكي، وما أجدرني بالبكاء! فأنا كالغريب من ديار ديني! لا من‏
تراب هذه الديار ولا من نهرها.
هذه السهول لا ترجّع حديثي! أيّها الشرق العظيم، أيّها العالم المترامي الأطراف! ليت شعري في أيّ بقعة من بقاعك نجد أبناءك السعداء؟! إنّ رأسك ترزخ تحت الشدائد وعضدك واهٍ وذراعيك مغلولتان! ولمّا يهبّ نسيم الاستقلال على قلبك بعد! قد طفت في أرجائك كلّها لأرى أمامي داراً للإسلام، فكلّت قدماي!
وكلّما تناهت إليَّ من سبيلي أصوات الأجانب لم تفض روحي الباكية إلّابخيبة الأمل! فهل كان نصيبي أن أكون غريباً في قلب الإسلام! إنّ هذه العاقبة لأقصى انتقام للأيّام! والآن وقد تقدّمت بي السنون ووهت قدماي فعلى بنَيَّ أن يجاهدوا ويأخذوا بثأري!».
يقول الدكتور البيّومي: «ولنا أن نوضّح الآن نصيب محمّد عاكف في معركة الإصلاح الديني، فنذكر أنّه كان زعيم الحركة الإصلاحية التي ترى قيام الإصلاح السياسي والاجتماعي على سنن من هدي الدين الخالص بعيداً عمّا أضافته الأجيال المتعاقبة من قيود مذهبية تكبّل حركة التطوّر الفقهي وتقفل باب الاجتهاد استناداً إلى ما عُرِفَ بالإجماع،
دون نظر إلى ما في أُصول الشرع من مرونة واتّساع، تجعل دين الإسلام صالحاً للزمان والمكان على تناسل الأحقاب، والإجماع بمدلوله المتحجّر عند الجامدين يُلزِم الناس بالوقوف لدى ما انتهى إليه أصحاب المذاهب دون أن يتعدّى القرن الثالث الهجري،
ولكنّه بمعناه الأصيل يشمل كلّ إجماع للعلماء في كلّ عصر؛ لأنّ لكل وقت ظروفه وملابساته التي تدعو إلى أحكام خاصّة، يجتهد في أمرها ويُصدر إجماع بشأنها.
وقد كان مذهب عاكف يعارض مذهبين مختلفين في تركيا: مذهب الرجعيّين من رجال القصر، والمنتفعين بغنائم الحكم ممّن يرون في استبداد الحاكم مَغنَماً شخصياً تتحقّق رغائبهم في ظلّه، فهم يتمسّكون بالأوسمة والألقاب والرتب والنياشين، وقد جعلوا وظائف الدولة مقصورة على المسلمين، فكلّ مثقّف من أبناء هؤلاء يبحث عن الوظيفة ويجعلها هدفه الأخير والأوّل، منشغلًا عن ميادين النشاط في البلاد من تجارة وصناعة وزراعة! حتّى وقر في الأذهان أنّ المسلم كسول متواكل لا يُغامر في معاش أو يهدف‏
إلى جديد!
أمّا المذهب الثاني فمذهب الإصلاح القومي، وقد تزعّمه المفكّر الكبير ضياء جاك آلب، وصاحبه أديب شاعر ممتاز نشأ في ظروف متشابهة لنشأة عاكف، وكان ذا غيرة وطنية وحماسة قومية، نادى بالإصلاح عن صدق وغيرة، ولكنّه تطرّف تطرّفاً كبيراً، حين دعا إلى القومية الطورانية مُعارِضاً بها فكرة الوحدة الإسلامية.
ومن سوء حظّه أنّ دعوته فُهمت على غير وجهها حتّى حسبه بعض الباحثين عنصرياً طائفياً، مع أنّ الذي يتعمّق أفكاره ويدرس آراءه يراه يعدّ الدين عاملًا هامّاً من عوامل القومية؛ إذ أنّ الشعب في رأيه ليس مجموعة تربطها أواصر الجنسية أو المناخ أو الإدارة،
ولكنّه مجموعة من الأفراد تجمع بينهم روابط الدين واللغة والأدب والأخلاق المشتركة... وقد صرّح أنّه لا يؤمن بالقومية ما لم تكن قائمة على أساس ديني قويم، فاليهود الأتراك في رأيه ليسوا قوميّين وإن سكنوا تركيا سنين كثيرة وتجنّسوا بالجنسية التركية، وإنّما هم (وطنداشي) أي: بنو الوطن.
وإنّما يرجع خطأ ضياء جاك آلب إلى أنّه نسي أنّ الدين الإسلامي الذي يعتبره عاملًا هامّاً في القومية لا يعترف بالجنسية والدم، حتّى‏ يجوز له أن يدعو إلى القومية الطورانية في ظلاله، كما أنّه تزعّم الدعوة إلى لغة شعبية لا تحترم تقاليد النثر والشعر، بل ترفض قواعد التأليف منحدرة إلى مستوى الحديث العلمي أُسلوباً وتركيباً!
وزاد الطين بلّة حين فهم مدلول كلمة (علماني) بمعنى (لا ديني) واهماً أنّ العلم في الإسلام لا يتّفق مع الدين في كلّ وجوهه،
ومن أجل هذا التطرّف في آراء ضياء جاك آلب كانت حركة مذهب الإصلاح الديني التي تزعّمها محمّد عاكف ذات صدىً رنّان في توضيح مبادئ الإسلام ومُثُله! فلولا أنّه ترأس جماعة تقوم بهذه الرسالة الخطيرة وتضمّ أمثال جناب شهاب الدين وتوفيق فكرت لشاهت معاني الإسلام في أذهان الجيل الصاعد ممّن تربّوا بعد صدور الدستور سنة 1906 م وشهدوا الصراع بين الشرق والغرب في معركته الساخنة ذات المدد الحفيل.
لقد كتب الأُستاذ الألماني «ريشارد هرتمان» رسالة موجزة عمّا سمّاه «أزمة
إسلامية» تشمل عرضاً لدعوات التجديد في الحجاز والهند ومصر وتركيا، فكان من الطبيعي أن يبرز دور عاكف ويتعرّض للموازنة بينه وبين أنصار المذهب القومي، فيما ترجمه الدكتور علي حسن عبد القادر بقوله: «ومن الممكن على احتمال قليل أن نميّز المذهب القومي بأنّه سياسي ثقافي، والمذهب الإصلاحي بأنّه ديني إصلاحي، والمهمّ هنا هو أنّ كليهما قد وضع لمسألة الدين طريقاً واحداً للسير فيه، فكلّ منهما يرفض الإسلام التاريخي ويطلب الرجوع إلى الإسلام الأوّل، وكلّ منهما يرفض اعتبار الشريعة للوقت الحاضر ويطلب حرّية الاجتهاد».
وفي هذا الكلام غموض يستدعي الإيضاح، فالمراد بالإسلام التاريخي هو قول «هرتمان» هو ما أُضيف إلى الإسلام على مدّ العصور من آراء وفتاوى لا تحمل عناصر بقائها، بحيث حُمِلت عليه وظنّ أنّها من تعاليمه، وهي أحكام جزئية لعلماء يُصيبون ويُخطئون! أمّا رفض اعتبار الشريعة للوقت الحاضر فمعناه أنّ أقوال الفقهاء التي كوّنت ما ورثناه من كتب الفقه لا تُقبَل على علاتها كقانون جازم لا محيد عنه، بل لا بدّ من النظر في هذه الأقوال من ناحية والاجتهاد المطلق في إصدار أحكام أُخرى تناسب أُصول الإسلام وتصلح لأبناء هذا الزمن.
وقد فصل «هرتمان» ذلك بقوله عن مذهب عاكف فيما بعد:
«فهو مع إحاطته على العموم بالحياة الثقافية والسياسية بتعمّق من الوجهة الإصلاحية في الدين، وما يعنيه من الرجوع إلى الإسلام يعني به الرجوع إلى الإسلام القديم، لا بإبعاد الأُمور التي غيّرت منه أثناء تطوّره التاريخي فحسب، بل أيضاً وقبل كلّ شي‏ء يريد الوقوف ضدّ هؤلاء العصريّين المندفعين في تيّار الغرب، وضدّ دعاة المذهب القومي، فهي حركة دينية تريد أن يكون الدين قوّة تخضع لها كلّ الحياة المدنية في غير إضرار بحركة الفرد».
هذا هو عاكف العظيم، وتلك أضواء تشير إلى بعض مواقفه! (طيّب اللَّه ذكراه، ونضّر بالرحمة مثواه)».
أقول: وأدعو له أنا أيضاً بما دعا له الدكتور البيّومي.

المراجع

(انظر ترجمته في: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين 1: 375- 387).