حجية الانصراف

حجية الانصراف: اصطلاحٌ أصوليٌ يراد به انسباق المعنی وخطوره من اللفظ کانصراف مسح الرأس في الوضوء إلی باطن الکف، والبحث هنا أنّه هل يجوز التمسک بهذا الانصراف أم لا؟

حكم الانصراف

من شروط التمسّك بإطلاق اللفظ عدم وجود انصراف إلى بعض الأفراد يمنع من التمسّك به، ويبدو أنّه لاخلاف بين الأصوليين في أنّ الانصراف الموجِب لظهور لفظ المطلق في الفرد المنصرف إليه حجّةً ومعتبرا ويكون بمنزلة المقيِّد للفظ المطلق. بينما الانصراف الذي لايوجب الظهور المذكور بل كان ناشئا من سبب خارجي خارج علاقة اللّفظ بالمعنى_ لا يكون حجة ومعتبرا ويبقى اطلاق اللفظ على حاله، ويمكن أن يصطلح عليه في هذه الحالة بـ «الانصراف البدوي»[١].
وهذا الكلام واضح من الناحية النظرية لكن وقع البحث في مصاديقه وفي تشخيص ذلك وأنه من أي النحوين هو، من الانصراف الذي يوجب ظهور اللفظ في الفرد المنصرف إليه أم هو من الانصراف البدوي الذي يزول بأدنى تأمل؟[٢] فإن للانصراف مراتب؛ منها ما يوجب التشكيك البدوي بوضع اللفظ للمعنى الذي يزول بأدنى تأمّل، ومنها ما يوجب التشكيك المستحكم والمستقر الذي لايزول بالتأمّل، ومنها ما يوجب أنس الذهن بالمعنى بحيث يكون كالتقييد اللفظي وغير ذلك من المراتب[٣]. وقد تقدمت مناقشة الأقسام وأحكامها تحت عنوان الأقسام.

حجية الانصراف الناشئ من الغلبة الوجودية

وفي حجّية هذا الانصراف واعتباره قولان:

القول الأوّل: الحجّية والاعتبار

وهذا القول يمكن أن يُستفاد من استدلال الفقهاء بالانصراف في بعض الموارد لكون الفرد المنصرف عنه الإطلاق هو من الأفراد النادرة[٤].

القول الثاني: عدم الحجّية والاعتبار

ويبدو أنّه اختيار الأكثر وقد صرّح به متأخّرو الأصوليين كالأنصاري[٥]، والخراساني[٦]، والنائيني[٧]، والعراقي[٨]، والمظفر[٩]، والإمام الخميني[١٠]، والخوئي[١١] والصدر[١٢]، والروحاني[١٣].
والدليل الذي يمكن أن يقام لذلك يتكوّن من عدّة مقدّمات:
المقدّمة الأولى: أن المدار هو مراد المتكلّم، ولا يكون شيء معتبرا إلاّ إذا كان طريقا لمراده.
المقدّمة الثانية: أنّ فهم مراد المتكلّم يتمّ بطريقين إمّا الوضع وإمّا القرينة، فإذا جيء بلفظ كان ذلك دالاًّ على إرادة المعنى الموضوع له، وإذا قامت القرينة على خلافه، فإنّه سوف يكون دالاًّ على إرادة ما تدلّ عليه القرينة[١٤].
المقدّمة الثالثة: أنّ الانصراف إنّما يكون حجّة لكونه يشكّل قرينة لفهم مراد المتكلّم، باعتبار أنّه كالتقييد للمطلق، فلا يكون المتكلّم مريدا لتمام ما يدلّ عليه المطلق، بل حصّة خاصّة دلّ عليها الانصراف[١٥].
المقدّمة الرابعة: أنّ مجرّد حصول الانصراف وخطور الفرد إلى الذهن لايكفي في اعتباره وحجّيته، بل لابدّ من كون الانصراف معيّنا لمراد المتكلّم[١٦].
المقدّمة الخامسة: أنّ كون الانصراف معينا لمراد المتكلّم متوقّف على نشوء علاقة وثيقة بين اللفظ والفرد المنصرف إليه توجب ظهور اللفظ فيه، ومن دون حصول تلك العلاقة لايكون الانصراف المذكور حجّة في تعيين المراد والحصّة الخاصّة من المطلق[١٧].
فطبق الدليل المذكور أنّ الملاك في حجّية الانصراف هو نشوء علاقة بين اللفظ والمعنى الخاصّ المنصرف إليه توجب ظهور اللفظ المطلق فيه، وصرف غلبة الوجود في الخارج لا توجب نشوء العلاقة المذكورة. فلا يكون الانصراف في موردها حجّة.

أنواع الانصراف الناشئ من الغلبة الوجودية

إنّ المتأخّرين وإن ذهبوا إلى عدم حجّية الانصراف المذكور، غير أنّهم اعتبروه في بعض الموارد الفقهية حجّة أو حكموا بـ الإجمال في مورده. ولمعرفة حقيقة الحال لابدّ من التطرّق إلى الأنواع المتصوّرة للانصراف المذكور.

النوع الأوّل: كون الغلبة الوجودية للمنصرف إليه مقابل ندرة المعنى المنصرف عنه

وهذه الندرة في المنصرف عنه يمكن أن تتصوّر بصور عدّة :
الصورة الأولى: ما إذا كانت الندرة في المعنى المنصرف عنه ندرة عادية، باعتبار أنّه قليل الوجود عادة، ومثال ذلك انصراف لفظ «الماء» في العراق إلى ماء دجلة والفرات لكونهما الأفراد الغالبة وغيرهما نادر الوجود عادةً[١٨].
وفي هذه الصورة لا إشكال في عدم حجّية الانصراف المذكور[١٩].
الصورة الثانية: ما إذا كانت الندرة في المعنى المنصرف عنه ندرة ملحقة بالعدم. ومثال ذلك النصّ الشرعي الوارد: «يجزيكم أذان جاركم» فإنّ الأذان المذكور منصرف عن أذان المرأة وناظر إلى أذان الرجل فقط، باعتبار أنّ أذانها فرد نادر يلحق بالعدم[٢٠].
وفي هذه الصورة قد يقال بـ حجّية الانصراف المذكور، باعتبار أنه يشكل قرينة توجب ظهور اللفظ المطلق في الفرد المنصرف إليه[٢١].
الصورة الثالثة: ما إذا كانت الندرة غير مشخَّصة هل هي ندرة عادية أم ندرة ملحقة بالعدم؟ ويمثّل له بانصراف دليل مسح الرأس في الوضوء إلى المسح مقبلاً وانصرافه عن المسح منكوسا، ويشك في كون المسح منكوسا هل هو من الفرد النادر ندرة عادية أم ندرة ملحقة بالعدم، فيحكم بـ الاجمال وعدم امكان الأخذ بالانصراف ولا بالإطلاق بحيث يكون اللفظ شاملاً للمسح منكوسا [٢٢].

النوع الثاني: كون الغلبة الوجودية للمنصرف إليه مقابل كون المعنى المنصرف عنه أخسّ الأفراد

ويمثّل له بانصراف دليل المسح في الوضوء إلى المسح بالكفّ لا بغيره[٢٣].

المصادر

  1. . أنظر: أجود التقريرات 2: 435، نهاية الأفكار 1ـ2: 576، مصباح الأصول 1 ق 2: 603، بحوث في علم الأصول الهاشمي 3: 431، أصول الفقه (المظفر) 1: 243، منتقى الأصول 3: 446.
  2. . أنظر: أصول الفقه المظفر 1: 243.
  3. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 575 ـ 576.
  4. . أنظر: بدائع الصنائع 1: 159، إشارات الأصول 1: 392 ـ 393، مطارح الأنظار 2: 266، فقه الصادق 1: 155.
  5. . كتاب الطهارة 2: 224.
  6. . كفاية الأصول: 249.
  7. . أجود التقريرات 2: 435.
  8. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 575 ـ 576.
  9. . أصول الفقه 1: 243.
  10. . كتاب البيع 3: 44.
  11. . مصباح الأُصول 1 ق 2: 603.
  12. . بحوث في علم الأصول الهاشمي 3: 431، دروس في علم الأصول ح 1: 247 ـ 248.
  13. . منتقى الأصول 3: 446 ـ 447.
  14. . أنظر: أصول الفقه المظفّر 1 ـ 2: 240 ـ 241.
  15. . أنظر: مطارح الانظار 2: 265، أصول الفقه المظفّر 1 ـ 2: 242 ـ 243.
  16. . أنظر: كتاب الطهارة الأنصاري 2: 224.
  17. . أنظر: دروس في علم الأصول ح1: 247 ـ 248.
  18. . أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 243.
  19. . أنظر: أجود التقريرات 2: 435، بحوث في علم الأصول الهاشمي 3: 431.
  20. . أنظر: مستمسك العروة الوثقى 5: 580.
  21. . تقريرات المجدد الشيرازي 2: 28 ـ 29، بحوث في علم الأصول الهاشمي 3: 431.
  22. . أنظر: مصباح الفقيه 2: 390، كتاب الطهارة الكلبايكاني 1: 86.
  23. . أنظر: التنقيح في شرح العروة الوثقى 4: 161 ـ 162.