المعتزلة

من ویکي‌وحدت

المعتزلة: فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميّزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسماً مشتركاً بين جميع فرقها. من أسمائها: القدرية، والوعيدية، والعدلية. سمّوا معتزلة لاعتزال مؤسّسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق.

التأسيس

مؤسّس المعتزلة هو واصل بن عطاء الغزّال.. قال الذهبي في ترجمته في السير:"البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزّال.. مولده سنة ثمانين بالمدينة.. طرده الحسن عن مجلسه لمّا قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضمّ إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن، فسمّوا المعتزلة".

ومن مؤسّسيها عمرو بن عبيد.. قال الذهبي في ترجمته في السير: "عمرو بن عبيد الزاهد العابد القدري كبير المعتزلة.. قال ابن المبارك: دعا - أي عمرو بن عبيد - إلى القدر فتركوه، وقال معاذ بن معاذ: سمعت عمراً يقول: إن كانت { تبّت يدا أبي لهب } في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجّة، وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال: لو سمعت الأعمش يقوله لكذّبته، إلى أن قال: ولو سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لرددته.. مات بطريق مكّة سنة ثلاث، وقيل: سنة أربع وأربعين ومائة".

العقائد والأفكار

بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثمّ تطوّر خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة، بل تجاوزها ليشكّل منظومة من العقائد والأفكار، والتي في مقدّمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعدّ معتزلياً من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول ولبعض العقائد غيرها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:

الأصول المتّفق عليها بينهم

1- التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيته سبحانه ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله سبحانه، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله : لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة .. إلخ، أمّا الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله سبحانه تحت حجّة أنّ في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا: ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضياً نفي الصفات.

2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله سبحانه على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناءً على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده، وقالوا: إنّ العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيراً وإن شرّاً.. قال أبو محمّد ابن حزم: "قالت المعتزلة بأسرها -حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه-: إنّ جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عزّ وجلّ". وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده.. قال الشهرستاني: "اتّفقوا - أي المعتزلة - على أنّ الله تعالى لا يفعل إلّا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأمّا الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسمّوا هذا النمط عدلاً". وقالوا أيضاً: بأنّ العقل مستقلّ بالتحسين والتقبيح، فما حسّنه العقل كان حسناً، وما قبّحه كان قبيحاً، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.

3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضّح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أنّ الفاسق في الدنيا لا يسمّى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمّى كافراً، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرّاً على فسقه كان من المخلّدين في عذاب جهنّم.

4- الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر وأنّ الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحداً منهم من النار، فهم كفّار خارجون عن الملّة مخلّدون في نار جهنّم.. قال الشهرستاني: "واتّفقوا - أي المعتزلة - على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحقّ الثواب والعوض .. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحقّ الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار، وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً".

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضّح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكّاماً أم محكومين.. قال الأشعري في المقالات: "وأجمعت المعتزلة إلّا الأصمّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك". فهم يرون قتال أئمّة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظنّ بحصول الغلبة وإزالة المنكر.

هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتّفقوا عليها.

الأصول والعقائد المختلف فيها بينهم

وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محلّ اتّفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه.. فمن تلك العقائد:

1- نفيهم رؤية الله عزّ وجلّ، حيث أجمعت المعتزلة على أنّ الله سبحانه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا: لأنّ في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله سبحانه، وهو منزّه عن الجهة والمكان.. وتأوّلوا قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة} أي منتظرة.

2- قولهم: بأنّ القرآن مخلوق.. وقالوا: إنّ الله كلّم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.

3- نفيهم علوّ الله سبحانه، وتأوّلوا الاستواء في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} بالاستيلاء.

4- نفيهم شفاعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل الكبائر من أمّته.. قال الأشعري في المقالات: "واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر؟ فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله".

5- نفيهم كرامات الأولياء.. قالوا: لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي.

فرق المعتزلة

عادةً ما تبدأ الفرق في عددها وأفكارها صغيرة ثمّ ما تلبث أن تتشعّب وتتفرّق، فتصبح الفرقة فرقاً والشيعة شيعاً، وهكذا كان الحال مع المعتزلة.. فقد بدأت فرقة واحدة ذات مسائل محدودة، ثمّ ما لبثت أن زادت فرقها وتكاثرت أقوالها وتشعّبت، حتّى غدت فرقاً وأحزاباً متعدّدة.

ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعضاً من تلك الفرق، ونقدّم موجزاً تعريفياً بها وبمؤسّسها، مع ذكر بعض أقوالها التي شذّت بها عن أصحابها المعتزلة.. فمن فرق المعتزلة:

1- الواصلية: وهم أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزّال.. كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار، ثمّ فارقه بسبب خلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقول واصل فيه: بأنّه في الدنيا في منزلة بين منزلتين.

2- الهذيلية: وهم أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلّاف شيخ العتزلة ومقدّمهم.. أخذ الإعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء.. من مفردات قوله: إنّ حركات أهل الجنّة والنار تنقطع وإنّهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً، وتجتمع اللذّات في ذلك السكون لأهل الجنّة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.

3- النظامية: أتباع إبراهيم بن يسار بن هانئ النظّام.. كان قد خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل، منها قوله: إنّ الباري سبحانه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً، ولا على أن ينقص منه شيئاً، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنّة، ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنّة، وليس ذلك مقدوراً له، وقد ألزم بأن يكون البارى تعالى مجبوراً على ما يفعله تعالى الله.

4- الخابطية والحدثية: أصحاب أحمد بن خابط، وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي.. كانا من أصحاب النظّام وطالعا كتب الفلاسفة.. ومن مفردات أقوالهما: القول - موافقة للنصارى-: بأنّ المسيح (عليه السلام) يحاسب الخلق في الآخرة. وكذلك قولهم: إنّ الرؤية التي جاءت في الأحاديث، كقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فى رؤيته)، هي رؤية العقل الأوّل الذي هو أوّل مبدع، وهو العقل الفعّال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، فهو الذي يظهر يوم القيامة، وترفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه، فيرونه كمثل القمر ليلة البدر، فأمّا واهب العقل "الله" فلا يُرى.

5- البشرية: أصحاب بشر بن المعتمر.. كان من علماء المعتزلة، وقال الذهبي عنه: "وكان .. ذكياً فطناً لم يؤت الهدى، وطال عمره فما ارعوى، وكان يقع في أبي الهذيل العلّاف وينسبه إلى النفاق". ومن أقواله: "إنّ الله تعالى قادر على تعذيب الأطفال، وإذا فعل ذلك فهو ظالم".

6- المردارية: أصحاب عيسى بن صبيح المكنّى بأبي موسى الملقّب بالمردار، ويسمّى راهب المعتزلة.. من مفردات أقواله: إنّ الله تعالى يقدر على أن يكذب و يظلم، ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً ظالماً (تعالى الله). وقال: إنّ الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظماً وبلاغة. وكان مبالغاً في القول بخلق القرآن وتكفير من خالفه. وقد سأله إبراهيم بن السندي مرّة عن أهل الأرض جميعاً فكفّرهم، فأقبل عليه إبراهيم، وقال: الجنّة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلّا أنت وثلاثة وافقوك! فخزي ولم يحر جواباً.

7- الثمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري.. كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس، وانفرد عن أصحابه المعتزلة بمسائل، منها قوله في الكفّار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية: إنّهم يصيرون في القيامة تراباً، وكذلك قال في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين.

8- الهشامية: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي.. كان مبالغاً في نفي القدر، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل، منها قوله: إنّ الله لا يؤلّف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، وقد ورد في التنزيل: {ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم}. ومنها قوله: إنّ الله لا يحبّب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزيّنه في قلوبهم، وقد قال تعالى: {وحبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم}. ومن أقواله: إنّ الجنّة والنار ليستا مخلوقتين الآن. وقال كذلك: إنّ النبوّة جزاء على عمل، وإنّها باقية ما بقيت الدنيا.



حدث في مسجد البصرة

كانت مدينة البصرة في العهد الأُمَويّ قد تحوّلت من معسكرٍ للجيوش الإسلامية إلى الحاضرةِ الثقافيةِ للدولةِ العربيةِ الاَخذةِ في الاتّساع، وأصبح مسجدها أول جامعة إسلامية يتخرّج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والأدب والشعر وسائر أبواب المعرفة المُتاحة في ذلك العصر.

في تلك الجامعة كان يشغل منصب الأستاذ الأكبر إمام وعالِم جليل هو الحسن البصري، وكان مجلسه يستقطب طلاب العِلم القادمين من مختلف البلدان، وكان من بينهم طالب نبيه وخطيب مُفوَّه أدهشَ القوم ببلاغته حين استغنى، وهو الألثغ الذي لا يُحسِن النُطق بحرف الراء، استغنى عن هذا الحرف في كلامه كله مؤدّياً المعنى نفسه للكلمات التي تتضمّن هذا الحرف باستخدام كلمات مُرادفة ليس فيها الراء.

هذا الألثغ الفصيح كان واصل بن عطاء، الذي جاء من المدينة المنوّرة إلى البصرة لكي يندمج في جوّها الفكري والثقافي ويطلّع على أفكار أصحاب المِلل غير الإسلامية وعلى معتقداتهم، ولاسيما الثنوية منهم والمسيحيين الذين اطّلع منهم على أفكار يوحنا الدمشقي الذي دخل في سِجالات وكتبَ ومؤلّفات تُدافع عن عقيدته المسيحية.

كما أن هذا الراهِب الذي نشأ في عائلةٍ عربيةٍ مسيحيةٍ تولّت مناصبَ مهمّة في البلاط الأموي، كان يقول بمبدأ الاختيار، أي إن الإنسان مُخيَّر في أفعاله وليس مسيّراً. وقد ظهر أثر هذا الاحتكاك مع هؤلاء عبر التركيز على توحيد الذات الإلهية في الأصول الخمسة التي قام عليها منهج أهل العدل والتوحيد الذين عُرِفوا باسم المُعتزِلة.


"لقد اعتزلنا واصل"

وكان واصل، الطالب، شديد الإعجاب بذكاء أستاذه وسِعة معرفته وأحاطته بالقضايا الفقهية التي دفعت الخليفة عمر بن الخطاب إلى توليته قضاء البصرة. غير أن الخلاف ما لبث أن وقع بين التلميذ وأستاذه في مسألة كانت موضوع جدلٍ واسعٍ في الأوساط الدينية وهي مسألة مُرتكب الكبيرة. والمقصود بذلك مَن يتعمّد ارتكاب الذنب الذي جاء فيه حدٌّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كالشرك بالله تعالى مثلاً، أو قتل النفس ظلماً أو ترك الصلاة وغير ذلك من عِظم الذنوب.

بدأ الخلاف عندما سُئل الحسن البصري عن مُرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر؟ فأجاب أنه مؤمن عاصٍ. فاعترض عليه واصل بأن مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين منزلة بين منزلتين، أي بين الكفر والإيمان، وأنه ليس مؤمن ولا عاصٍ. ثم اعتزل مجلسَ الحسن البصري. فقال الحسن: "لقد اعتزلنا واصل" فسُمّي هو وأتباعه بالمُعتزِلة، أما المُعتزِلة فقد سمّوا أنفسهم" أصحاب العدل والتوحيد".

واتّخذ واصل بن عطاء لنفسه مجلساً مستقلاً في المسجد أخذ يدرّس فيه منهجه الفكري القائم أساساً على تقديم العقل على النقل في المسائل الدينية، فيما كان رأي الحسن والجمهور تقديم النقل على العقل.

وهكذا كانت بداية أول مدرسة عقلانية إسلامية ما لبثت أن لعبت دوراً خطيراً في الحياة الفكرية والعقائدية في المجتمع الإسلامي. وكانت وراء ما سُمّي بمحنةِ خَلْق القرآن التي بدأت في عهد المأمون. وذلك أن المُعتزِلة يرون أن القرآن كلام الله وهو مخلوق الله تعالى، أي أنه مُحدَث وليس جزءاً من ذاته قديماً بقدمه، كما تقول المُشبِّهة. بينما ينظر الأشاعرة وغيرهم إلى كلام الله على أنه صفة ذات لله. في حين ينظر المُعتزِلة إلى كلام الله على أنه صفةُ فعلٍ لله، أي أن الله خلق كلاماً أي أحدثه.

ويُقال إن يوحنا الدمشقي ألزم الأشاعرة بقِدم المسيح وأزليّته بما أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، والكلمة قديمة في رأي المُعتزِلة.


هل يجوز الخروج على الحاكم؟

لم تكن قضية مُرتكِب الكبيرة سوى منطلق لنشر منهج التفكير العقلاني في القضايا الدينية وما يترتّب على ذلك من نتائج اجتماعية وسياسية. وذلك أن التعارُض الناشىء بين أصحاب المنهج العقلي وبين المحافظين القائلين بتغليب النقل على العقل، ينطوي على أبعادٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ محورها الموقف من الحاكم الجائر هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.

وكان رأي واصل ومَن جاء بعده من رؤساء المُعتزِلة هو القيام على الحاكم الظالم والمقصود يومها الحُكم الأموي. وأما رأي الحسن البصري فهو السّمع والطاعة للحاكم مهما بلغ من الجور أو الخروج على الشريعة درءاً للفتنة. مع العِلم أن الحسن البصري كان يرى أن حُكم بني أميّة فيه ظلم وجور لكنهم أقوياء وليس بإمكان المعارضة أن تقف في وجههم ما يترتّب عليه سفك الدماء.


تيّار عقلاني؟

قام منهج الاعتزال على خمسة أصول اتفقوا عليها على الرغم من الانشقاقات التي تعرّض لها هذا التيار العقلاني، حتى أصبح فِرقاً مُتعدّدة نسبت كل واحدة منها إلى مؤسّسها. وأشهر أعلامهم: الكندي، أبو علي الجُبائي وابنه إبراهيم، بشر بن معتمر، القاضي عبد الجبار، الزمخشري، العلّاف، النظّام، الجاحِظ.

أما الأصول الخمسة لمذهبهم فهي:

التوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وتنزيهه عن الجسمية والجوهرية والعرضية.

العدل: يعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وأن الإنسان حرّ في أفعاله. وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أموراً. فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده وقالوا إن العباد هم الخالقون لأفعالهم بأنفسهم إن خيراً وإن شراً. وذلك خلافاً للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. والجبر هنا ينطوي من قِبَل القائلين به على بُعدٍ اجتماعي وسياسي لكونه نوعاً من الدعوة إلى السكوت على الحاكم الظالم بحجّة أن جوره مكتوب عليه، وأن ليس في اليد حيلة أمام ما يقدّره الله تعالى.

المنزلة بين المنزلتين: وهم يرون أن الفاسِق في الدنيا لا يُسمّى كافراً ولا يُسمّى مؤمناً بوجهٍ من الوجوه، بل هو في منزلةٍ بين هاتين المنزلتين، فإن تابَ رجع إلى إيمانه وإن مات مُصرّاً على فسقه كان من المُخلّدين في النار.

الوعد والوعيد: المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار. على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعةٍ وتوبةٍ استحقّ الثواب والعوض. وإذا خرج على غير توبة عن كبيرةٍ ارتكبها استحق الخلود في النار لكن عِقابه يكون أخفّ من عِقاب الكفّار. وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.

الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: هذا الأصل يوضّح موقف المُعتزِلة من أصحاب الكبائر سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغَلَبة الظن بحصول الغَلَبة وإزالة المُنكر.


الأشعري ... إرتداد عن المعتزلة

أشرنا في ما تقدّم إلى تفرّق المُعتزِلة فِرَقاً لا تكاد تتّفق في ما بينها إلا على هذه الأصول الخمسة. لكن ثمة مَن ارتدّ عن منهجِ المُعتزِلة وخرج منهم وناصَبهم العداء وانضمّ إلى أهل السنّة والجماعة مع شيءٍ من التمايز. وأشهر هؤلاء أبو الحسن الأشعري الذي يُنسَب إليه الأشاعرة.

كان الأشعري من تلاميذ إبي علي الجُبائي شيخ المُعتزِلة في زمانه (235- 303 للهجرة). وكان الأشعري مُتكلّماً يتمتّع بذكاءٍ حادٍ، وقد ردّ على مقولات المُعتزِلة رداً لقيَ صدىً واسعاً لدى الجمهور، وأصبح من شيوخ أهل السنّة والجماعة المُعتَبرين.


المُعتزِلة ... هل انحسر تيارهم الفكري؟

أيّدّ المُعتزِلة بني العباس لمّا آلت الخلافة إليهم بعد بني أميّة. وعلا شأنهم في عهد المأمون حين أخذت مسألة خلق القرآن طابعاً سياسياً، فقد أوعز إثنان من شيوخ المُعتزِلة إلى الخليفةِ المأمون بأن يجعلَ القول بخلق القرآن عقيدةً رسميةَ للدولة، وأن يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد وقطع الأرزاق.

وقد اتّبع المأمون هذا السبيل في ما عُرِف بمحنة خلق القرآن.

وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام أحمد بن حنبل. واستمرت هذه المحنة في أيام المعتصم والواثق، ثم انقلب عليهم المتوكّل ووضعَ حداً لنفوذهم.

ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، إلى أن عاد للظهور على نحوٍ متواضعٍ في العصرِ الحديث. ومن أشهر المُفكّرين الذين يمكن القول بأنهم تأثّروا إلى هذا الحد أو ذاك بفكر المُعتزِلة القدماء: رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمّد عبده، محمّد رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، أحمد أمين وغيرهم.


الفرق بين الشيعة والمعتزلة

يفترق الشيعة عن المعتزلة في مجموعة من المسائل الكلامية التي تجعل منهما مدرستين مختلفتين، ومنها:

   إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة

إنَّ الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن بطلان الحسنة، وعدم ترتب مايتوقع منها عليها، ويقابله التكفير، وهو إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها، فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة، وقد قال الشيعة والأشاعرة أنّه لاتحابط بين المعاصي، والطاعات، والثواب، والعقاب، [22] وقال المعتزلة بالإحباط.[23]

   خلود مرتكب الكبيرة بالنار

اتفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة،[24] وقد أجمعت المعتزلة، وذهبت إلى أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار، وجميع فساق أهل الصلاة.[25]

   لزوم العمل بالوعيد وعدمه

ذهبت الإمامية إلى جواز العفو عن المسي‏ء إذا مات بلا توبة،[26] والمشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسي‏ء لاستلزامه الخُلف، وأنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعد.[27]

   الشفاعة حط الذنوب أو ترفيع الدرجة

قال الشيعة: الشفاعة عبارة عن إسقاط العذاب، قال الشيخ المفيد: اتفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمة آل البيت صلی الله عليه وآله وسلميشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، [28] وقالت المعتزلة: الشفاعة عبارة عن ترفيع الدرجة، فخصوها بالتائبين من المؤمنين، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه، قال القاضي: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع والدلالة على منزلة من المشفوع.[29]

   التفويض في الأفعال

قالت الشيعة: لقد تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قولهم: لا جبر ولا تفويض لكن أمر بين الأمرين،[30] وذهبت المعتزلة إلّا من شذّ منهم إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب، بل باختيار .[31]

   الرجعة إمكانها ووقوعها

تعتقد الشيعة بوقوع الرجعة قال الشيخ المفيد: إنّ الله يحشر قوماً من أُمّة محمد صلی الله عليه وآله وسلم بعد موتهم قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمد صلی الله عليه وآله وسلم والقرآن شاهد به،[32] وأنكر المعتزلة والأشاعرة وقوع الرجعة.[33]

   الإمامة بالتنصيص أو الشورى

اتفقت الشيعة الإمامية على أنّ الإمامة بالتنصيص‏،[34] وقال المعتزلة و الأشاعرة أن الإمامة بالشورى وغيرها، وقد قال القاضي عند البحث عن طرق الإمامة (عند المعتزلة): انها العقد، والاختيار.[35]

   حكم محارب الإمام علي أمير المؤمنين (ع)

اتّفقت الإمامية على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلّال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام وأنّهم بذلك في النار مخلدون‏،[36] وأجمعت المعتزلة سوى الغزّال منهم وابن باب، والمرجئة، والحشوية من أصحاب الحديث على خلاف ما ذهبت له الشيعة، فذهبت المعتزلة كافّة إلّا من بعض منهم، وجماعة من المرجئة، وطائفة من أصحاب الحديث، انّهم فسّاق ليسوا بكفار، وقطعت المعتزلة من بينهم على أنّهم لفسقهم في النار خالدون.[37]