التأويل ومصاديقها

التأويل ومصاديقها: المراد بالتأويل هو حمل اللفظ على غير ظاهره؛ مثل: «يَدُ اللّهِ فوقَ أيديهم» بتأويل اليد علی القدرة؛ والبحث في هذا المقال في مصاديق التأويل التي وقع الخلاف فيها.

موارد التأويل التي وقع الخلاف فيها

ذكر الفقهاء وخصوصا الأحناف منهم مجموعة من التأويلات وقع الخلاف في أنّها هل تستند إلى دليل يعضدها أو لا؟

المورد الأول من مصاديق التأويل

ما روي أنّ النبي(ص) قال لغيلان وقد أسلم على عشر نسوة: «أمسك أربعا وفارق سائرهن»[١]، وقوله(ص) لفيروز الديلمي وقد أسلم على اُختين: «أمسك أيتهما شئت وفارق الاُخرى»[٢]، فإنّ الظاهر من الامساك هو الإبقاء، ومعناه أنّ نكاح الأربع أو الاخت الواحدة صحيح وعليهما مفارقة البواقي[٣].
إلاّ أنّ الأحناف لم يقبلوا بذلك وحملوا تلك الأحاديث على تأويلات عدّة[٤]:
أوّلها: أنّ المراد بالامساك هو ابتداء وتجديد العقد عليهنّ.
ثانيها: يحتمل أن يكون النكاح المذكور واقعا في حال اسلامهم، وأنّ الإسلام لم يأت بحكم عدم جواز الزواج بأزيد من أربع أو حرمة الزواج والجمع بين الأختين بعدُ.
ثالثها: يحتمل أنّه(ص) أمره باختيار أوائل هذه النساء وترك المتأخّرات.
وذكر مخالفو الأحناف أنّ هذه التأويلات وإن كانت محتملة، لكنّها تخلو من وجود شاهد ودليل عليها.

المورد الثاني من مصاديق التأويل

ما روي عن النبي(ص) أنّه قال: «في أربعين شاة شاةٌ»[٥]، قالت [[الشافعية]]: إنّ الظاهر منه هو وجوب عين شاة من بين تلك الشياه. وتأوّل الشيعة الإمامية و الأحناف ذلك، وذهبوا إلى كفاية دفع قيمة الشاة في الزكاة؛ لأنّ الغاية من تشريع الزكاة هو سدّ حاجة الفقراء، وهذا لايختلف فيه الأمر بين دفع القيمة أو دفع عين الشاة، أو لأنّ الحديث في مقام بيان مقدار المدفوع في الزكاة، وهو ما يقدّر بشاة لا في مقام بيان ما يدفع في الزكاة، ولأجل ذلك أوّلوا الحديث المذكور إلى كون المراد به دفع القيمة، وأنّ ذكر الشاة إنّما هو لبيان المقدار فقط[٦].

المورد الثالث من مصاديق التأويل

قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ...»[٧]، ذكرت الشافعية: إنّ الظاهر منها استحقاق جميع الأصناف المذكورة للصدقة، كما هو مقتضى الإضافة بلام الملك مع العطف بالواو المقتضية للتشريك في الحكم، فيجب دفع الزكاة وتفريقها على جميع الأصناف المذكورة في الآية. وهناك من تأوّل الآية وذهب إلى جواز الاقتصار في مصرف الزكاة على البعض منهم وعدم وجوب التفريق عليهم، لكون الآية في مقام بيان المصرف لا بيان الاستحقاق[٨].
وكذلك الحال في قوله تعالى: «فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينا»[٩]

المورد الرابع من مصاديق التأويل

قوله(ص): «أيّما امرأة انكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل»[١٠]، فإنّه صريح في العموم وذلك لوجود أداة «أي» و«ما»، فمفاد الحديث أنّ نكاح المرأة بغير إذن وليها باطل، وقد أكّد ذلك في آخر الحديث بتكرار البطلان مرّات عدّة[١١].
إلاّ أنّ الشيعة الإمامية و الأحناف لم يقبلوا المفاد المذكور وأوّلوا الحديث بعدّة تأويلات[١٢].
الأوّل: من المحتمل أن يكون المراد بالمرأة هي الصغيرة.
الثاني: من المحتمل أن يكون المراد بها الأمة أو المكاتبة.
الثالث: من المحتمل أن يكون الحديث في مقام الإخبار عن قضية خارجية وهي مصير النكاح المذكور غالبا إلى البطلان؛ وذلك لأنّ الغالب في الأولياء أنّهم يعترضون على النكاح المذكور الواقع من دون إذنهم فيكون باطلاً.
وذكر النراقي أنّه من التأويلات القريبة: «ووجه قربه شيوع التخصيص ومجاز المشاورة في المحاورات مع دلالة الإجماع والنصّ على استقلال الثيّب البالغة في النكاح»[١٣].

المورد الخامس من مصاديق التأويل

قوله(ص): «لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل»[١٤]، ذكروا أنّ ظاهره العموم؛ لأنّ الصوم في الحديث المذكور نكرة دخل عليه النفي، فيكون عاما في كلّ صوم، وأنّ المتبادر من الصوم هو الصوم الواجب بالفرض أو النذر، إلاّ أنّ الأحناف تأوّلوا ذلك وحملوا الصوم على صوم القضاء أو النذر[١٥].

المورد السادس من مصاديق التأويل

قوله(ص): «من ملك ذا رحم محرّم عتق عليه»[١٦]، فإنّ ظاهره شمول الحكم المذكور لمطلق الرحم، وأنّ الشارع في مقام تأسيس لقاعدة شرعية تختصّ بالأرحام للتأكيد على أهمّيتهم ومنزلتهم، إلاّ أنّ البعض أوّل الحديث المذكور بما يوجب اختصاصه بالأرحام الأصول كالأب والاُم وإن علو، وعدم شموله لكلّ رحم[١٧].

المورد السابع من مصاديق التأويل

قوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى»[١٨]، حيث إنّ ظاهره استحقاق ذوي القربى للخمس إنّما هو بداعي القرابة؛ لكونها المناسبة للاستحقاق في الآية لبيان شرف القرابة ومنزلتها، وهذا غير مشروط بشيء، إلاّ أنّ الأحناف أوّلوا ذلك وذهبوا إلى أنّ الاستحقاق يشترط فيه الحاجة ولاتكفي مجرّد القرابة[١٩].

المورد الثامن من مصاديق التأويل

قوله(ص): «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر»[٢٠]، فإنّ ظاهره في كلّ ما سقي من الزرع من غير فرق بين الخضروات وغيرها، إلاّ أنّ الأحناف أوّلوا الحديث المذكور وحملوه على ما عدا الخضروات، باعتبار أنّ الحديث بصدد بيان أصل الفرق بين العشر ونصف العشر لا بصدد بيان ما يجب فيها العشر وما لايجب فيها العشر فلا عموم له من هذه الناحية. وذكر الآمدي: إنّه من التأويلات البعيدة؛ وذلك لأنّ اللفظ عام وما ذكروه ليس له شاهد[٢١].

المورد التاسع من مصاديق التأويل

قوله تعالى: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ»[٢٢]، فإنّ ظاهر الآية هو التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح، كما هو مقتضى العطف، إلاّ أنّ جماعة أوّلوا الآية وحملوها على وجوب الغسل لا المسح[٢٣].
وغير ذلك من التأويلات التي ارتكبها الأحناف وغيرهم، وكان الباعث إلى تلك التأويلات في تلك النصوص هو مخالفتها للقاعدة أو الفتوى المعمول بها عندهم، ممّا يضطرهم إلى ارتكاب خلاف الظاهر ويأوّلون تلك النصوص بتأويلات منسجة مع أصول مذهبهم.

الهوامش

  1. . السنن الكبرى البيهقي 7: 181 باب من يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة.
  2. . السنن الكبرى اليهقي 7: 184 ـ 185 الباب نفسه.
  3. . انظر: المستصفى 1: 293، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 51، نهاية الوصول (العلاّمة الحلي) 2: 495، أنيس المجتهدين 2: 849.
  4. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 51 ـ 52، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 495 ـ 498.
  5. . سنن ابن ماجة 1: 577، كتاب الزكاة، 13 باب صدقة الغنم، ح 1805.
  6. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 52 ـ 53، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 498 ـ 499.
  7. . التوبة: 60.
  8. . أنظر: المستصفى 1: 296، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 53، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 500 ـ 501.
  9. . المجادلة: 4، وأنظر: نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 2: 502.
  10. . ورد قريبا منه في مسند أحمد 7: 98، ح 23851 و237، ح 24798 حديث السيّدة عائشة، وسنن الدارمي 2: 137 كتاب النكاح، باب النهي عن النكاح بغير ولي.
  11. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 54.
  12. . راجع: المستصفى 1: 297، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 54، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 506.
  13. . أنيس المجتهدين 2: 849 ـ 850.
  14. . السنن الكبرى البيهقي 4: 202، باب الدخول في الصوم بالنية، عوالي اللئالي 3: 132 بألفاظ متقاربة، وغيرها من المصادر الاُخرى.
  15. . أنظر: المستصفى 1: 299، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 56، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 508.
  16. . ورد بلفظٍ قريب في سنن ابن ماجة 2: 843 كتاب العتق، باب 5 من ملك ذا رحم محرم فهو حر ح 2524 و2525 وغيره من المصادر الاُخرى.
  17. . أنظر: المستصفى 1: 298، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 56، نهاية الوصول (العلامة الحلّي) 2: 509.
  18. . الأنفال: 41.
  19. . أنظر: المستصفى 1: 298 ـ 299، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 57، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 509 ـ 510.
  20. . سنن ابن ماجة 1: 580 ـ 581 باب 17 صدقة الزروع والثمار، ح 1816 ـ 1818.
  21. . أنظر: المستصفى 1: 298، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 58، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 510 ـ 511.
  22. . المائدة: 6.
  23. . أنظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 58، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 503.