الاستعمال

الاستعمال: بمعنى إطلاق اللفظ لإفادة المعنى وتفهيمه؛ والغرض أنّ الأصوليين من الشيعة و أهل السنّة تعرّضوا للبحث عن الاستعمال في مطاوي كلماتهم في أبواب مختلفة من مباحث الألفاظ كباب «الوضع» و«الحقيقة والمجاز» و«الاشتراك» ونحوها.

تعريف الاستعمال لغةً

يطلق الاستعمال في اللغة على عدّة معاني، يقال: استعملته، أي: جعلته عاملاً. واستعملته: سألته أن يعمل، واستعملت الثوب ونحوه، أي: أعملته فيما يعدّ له[١]، والأول والثاني يرجعان إلى نفس طلب العمل من العاقل. والثالث حيث إنّه يتوجّه إلى غير ذوي العقول، فإنّه يرجع إلى الأعمال؛ ضرورة عدم تعقّل توجّه الطلب إليهم.

تعريف الاستعمال اصطلاحاً

هو بمعنى إطلاق اللفظ لإفادة المعنى وتفهيمه[٢]، وهذا يناسب المعنى الثالث في اللغة. فما وقع في كلمات الأصوليين ليس بحثا في المصطلح، بل بحث في واقع العملية التفهيمية للمعاني بالألفاظ[٣]، كما سيأتي تفصيله.

مواطن البحث في الأصول

تعرّض الأصوليون من الشيعة و السنّة للبحث عن الاستعمال في مطاوي كلماتهم في أبواب مختلفة من مباحث الألفاظ كباب «الوضع» و«الحقيقة والمجاز» و«الاشتراك» ونحوها، وإن تعرّض أكثرهم لذلك في ذيل بحث الاشتراك وفي استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. ولم يبحث عنه مستقلاً في مبحث خاص، إلاّ أنّ بعض المتأخرين[٤] فتح بابا خاصا في مبحث الألفاظ وجمع فيه شتات البحث.

حقيقة الاستعمال

وقع البحث بين الأصوليين في حقيقة الاستعمال، ويرجع كلامهم فيه إلى قولين رئيسين، وهما عبارة عن أنّ الاستعمال جعل اللفظ علامة المعنى وأمارة عليه، أو أنّه إفناء اللفظ في المعنى.
المشهور[٥] بين المتأخرين من الإمامية: أنّ حقيقة الاستعمال ليست جعل اللفظ علامة على إرادة تفهيم المعنى، بل إيجاد المعنى باللفظ، وجعل اللفظ فانيا في المعنى فناء المرآة في المرئي، بحيث يكون هو الملقى رأسا، فالمعنى هو الملحوظ أولاً وبالذات، واللفظ ملحوظ بالتبع وفانٍ فيه، وهذا ما صرّح به جماعة: كالمحقّق الخراساني[٦]، والنائيني[٧]، والعراقي[٨]، وغيرهم[٩]، مع اختلاف في البيان.
كما عرّفه المحقّق الأصفهاني[١٠]: بأنّه إيجاد المعنى في الخارج باللفظ إيجادا عرضيا، إلاّ أنّه صرّح بأنّ اللفظ في عملية الاستعمال يصير فانيا في المعنى. [١١]
كما يمكن استظهار ذلك من بعض عبارات الأصوليين من علماء الجمهور[١٢]، حيث ذكروا في بيان وجه امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، التمثيل بالكسوة فجعلوا نسبة اللفظ إلى المعنى كنسبة الكسوة الواحدة إلى شخص واحد فقط، وهو قريب من فناء اللفظ في المعنى؛ بحيث يصير اللفظ وجها وعنوانا للمعنى.
بينما ذهب السيد الخوئي[١٣] والإمام الخميني[١٤] وغيرهما[١٥] إلى أنّ الاستعمال من باب العلامية، لكن السيد الخوئي بنى المسألة على المباني في حقيقة الوضع، فإنّه بناءً على أنّها تنزيل اللفظ منزلة المعنى يكون الاستعمال إفناءً في المعنى وإيجادا للمعنى باللفظ، وبناءً على أنّ حقيقة الوضع هي التعهّد ـ كما هو الحق لديه ـ يكون الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى؛ لأنّ الاستعمال ليس إلاّ فعلية ذلك التعهّد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلم إفهامه.
كما أنّ تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له، أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضا، لايستدعي فناء اللفظ في مقام الاستعمال. [١٦]
وعرّفه الشهيد الصدر ـ مع إنكاره لمسلك الفناء[١٧] ـ بأنّه عبارة عن إرادة التلفظ باللفظ لا بما أنّه صوت مخصوص، بل بما أنّه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن. [١٨]

الألفاظ ذات الصلة

1 ـ الوضع

وهو عبارة عن جعل اللفظ للمعنى وتعيينه له[١٩] ـ بناءً على أكثر المسالك في حقيقة الوضع ـ أو اختصاص اللفظ بمعنى وتحقق ارتباط خاص بينهما[٢٠]، وعليه يكون الاستعمال في رتبة متأخرة عن الوضع، وبمعنى إطلاق ذلك اللفظ في معناه.
ولكن قد يشكل الفرق بينهما ـ بناءً على مسلك التعهّد ـ بإبراز المعنى بلفظ خاص عند قصد التفهيم؛ حيث لازمه أنّ الاستعمال هو الوضع. [٢١]
هذا ولكن فرّق السيد الخوئي بينهما على أساس أنّ الوضع هو نفس التعهّد والالتزام النفساني، وهو ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية الحقيقية، بينما الاستعمال عبارة عن فعلية ذلك التعهّد والعمل به، فيوجد المستعمل فردا منه في الاستعمال[٢٢]، كما يظهر ذلك بمراجعة كلمات غيره ممن يقول بالتعهد. [٢٣]

2 ـ الإرادة الاستعمالية

يختلف تعريف الإرادة الاستعمالية عن الاستعمال، بناءً على ما تقدم في حقيقته، فهي إرادة استعمال اللفظ في المعنى[٢٤] وإفنائه في مطابقه[٢٥] ـ كما عن المشهور ـ أو إرادة استعمال اللفظ علامة وأمارة للمعنى الناشئ عن جعل اللفظ للمعنى، أو عن تعهّد نفساني كما عن السيدين الخوئي والخميني، وعلى مبنى الشهيد الصدر تكون بمعنى إرادة الإتيان بما يصلح للدلالة على معنى بما أنّه يصلح لذلك. [٢٦] نعم قد يعبّر عن الاستعمال بأنّه إرادة المعنى من اللفظ[٢٧] ولكن الاستعمال في الحقيقة يكون متعلقا للإرادة، فتكون الإرادة الاستعمالية متأخّرةً عن الاستعمال[٢٨] وكذلك الحال في الإرادة التفهيمية والجدية.

3 ـ الإرادة التفهيمية

وهي إرادة تفهيم المعنى تصورا باستعمال اللفظ وإخطاره في الذهن فعلاً[٢٩]، ومتعلق هذه الإرادة هو التفهيم والإخطار الفعلي للمعنى، فإنّه حين استعمال اللفظ المشترك مع تعمّد الإجمال وعدم نصب القرينة لايوجد تفهيم، أو إرادته مع حصول الاستعمال والإرادة الاستعمالية[٣٠]، وإن رجعت تلك الإرادة ـ بناءً على مسلك التعهّد ـ إلى الوضع فيقدّم على الاستعمال. [٣١]

4 ـ الإرادة الجدّية

أنّ من يريد أن يخطر المعنى تصورا في ذهن السامع قد يكون هازلاً، ولا تكون في نفسه حالة تناسب ذلك المعنى من جعل الحكم أو قصد الحكاية وغير ذلك، ففي هذا الاستعمال لاتوجد إرادة جدّية. [٣٢]
فالإرادة الجدّية تختص بموارد استعمال الجمل التامة، وأمّا في استعمال الكلمات الأفرادية والجمل الناقصة، فلا يتصور بشأنها إلاّ الإرادة الاستعمالية والتفهيمية[٣٣] ولكن أنكر المحقّق النائيني التفكيك بين الإرادة الاستعمالية و الإرادة الجدّية. [٣٤]

مقوّمات الاستعمال وشروطه

ذكر للاستعمال شروط ومقوّمات أساسية لايتأتّى الاستعمال بدونها، وهي وإن تعرض لها بعض الأعاظم تحت عنوانها الخاص[٣٥]، ولكن يمكن استظهارها من مطاوى كلمات الآخرين، وهي كالتالي:
1 ـ لحاظ اللفظ والمعنى: يتقوّم الاستعمال بلحاظ اللفظ والمعنى؛ لأنّه على جميع المباني المذكورة في حقيقة الاستعمال عبارة عن لحاظ اللفظ أولاً، ثمّ جعله فانيا أو علامة في معناه، فهذان هما طرفا الاستعمال الأساسيين. [٣٦] والمعتبر في لحاظ اللفظ عند الأكثر هو اللحاظ الآلي، بمعنى أن يكون اللفظ مرآةً للمعنى، وهذا ظاهر على مسلك الفناء في حقيقة الاستعمال، وكذلك الحال على مسلك العلامية؛ لأنّه يلحظ اللفظ علامة للمعنى، وبذلك يختلف عن الانتقال من العلامية إلى ذي العلامة في سائر الموارد، فإنّ العلامة هناك تلحظ باللحاظ الاستقلالي بخلاف اللفظ مع المعنى[٣٧]، ولكن لايلزم منه كون اللفظ مغفولاً عنه رأسا. هذا، ولكن ذهب بعض إلى إنكار ذلك[٣٨]، أو أنّها أمر يقتضيه طبع المطلب، وأنّها ليست من مقوّمات تفهيم المعنى باللفظ. [٣٩]
2 ـ صلاحية دلالة اللفظ على المعنى: من مقوّمات الاستعمال أن يكون في اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى، فإن لم تكن فيه صلاحية ذلك فلا يعقل الاستعمال؛ لأنّ الاستعمال قصد تفهيم المعنى باللفظ، فمع عدم الدلالة والشأنية للفظ لايعقل قصد ذلك من الملتفت. ولا فرق في تحقق هذا الشرط، بين أن تكون صلاحية الدلالة على المعنى بالوضع، أو بالمناسبة الذاتية كما في دلالة شخص اللفظ على نوعه. [٤٠]
3 ـ تغاير المستعمل والمستعمل فيه: لابدّ في الاستعمال من التغاير بينهما، فلا يعقل الاتحاد؛ لأنّ اللفظ المستعمل يقصد جعله دالاً، والمعنى المستعمل فيه يقصد كونه مدلولاً، والدال والمدلول متضايفان، والمتضايفان متقابلان، فلا يعقل صدقهما على شيء واحد. [٤١]
4 ـ استحضار المستعمل الحيثية المصحّحة لدلالة اللفظ على المعنى، والمصحّح في الاستعمال الحقيقي هو الوضع، وفي الاستعمال المجازي هو الوضع مع العلاقة. وكأنّه لا إشكال عندهم في عدم لزوم استحضار تلك الحيثية بالنسبة إلى الوضع، وأمّا العلاقة فقد ادّعي لزوم استحضارها في مقام الاستعمال المجازي، وهذا الشرط يجري في نطاق الاستعمالات المجازية، ولكن السيد الصدر يرى عدم لزوم ذلك أيضا. [٤٢]
5 ـ قد يدّعى بأنّ من شرائط عموم الاستعمالات كون اللفظ موضوعا للمعنى المستعمل فيه، إمّا بوضع شخصي كما في الاستعمال الحقيقي، وإمّا بوضع نوعي كما هو المشهور[٤٣] في الاستعمال المجازي، ويرجع ذلك إلى أنّ استعمال اللفظ في المعنى لايكفي فيه مجرد صلاحية للدلالة عليه، بل لابدّ من الوضع، ولكن يظهر من السيد الصدر وغيره[٤٤] عدم تسليمه.

المصادر

  1. الصحاح 5 : 1775، لسان العرب 1 : 2765، المصباح المنير : 430، القاموس المحيط : 954 مادة «عمل».
  2. انظر : التحبير شرح التحرير 1 : 290، درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 43.
  3. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 135.
  4. انظر : بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 131 ـ 159.
  5. محاضرات في أصول الفقه 1 : 98، 207.
  6. كفاية الأصول : 36.
  7. أجود التقريرات 1 : 44 ـ 45، 76.
  8. نهاية الأفكار 1 ـ 2 : 61.
  9. انظر : منتقى الأصول 1 : 313 ـ 314.
  10. نهاية الدراية 1 : 152.
  11. انظر المصدر السابق : 156.
  12. انظر : أصول السرخسي 1 : 173، أصول الفقه الإسلامي في نسيجه الجديد : 398.
  13. محاضرات في أصول الفقه 1 : 98.
  14. مناهج الوصول 1: 183.
  15. عمدة الأصول 1 : 473.
  16. محاضرات في أصول الفقه 1 : 208.
  17. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 152 ـ 153.
  18. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 132.
  19. مناهج الوصول 1: 56 ـ 58، والظاهر من كلام الآمدي هو مسلك الجعل وإن اختلفوا في الواضع أهو اللّه‏ أم الأقوام السابقة؟ الإحكام 1 ـ 2: 66 ـ 71.
  20. انظر : هداية المسترشدين 1 : 669، الفصول الغروية : 32، كفاية الأصول : 9، نهاية الدراية 1 : 44 ـ 46.
  21. المباحث الأصولية 1 : 139 ـ 140.
  22. محاضرات في أصول الفقه 1 : 45 ـ 46.
  23. وقاية الأذهان : 65.
  24. نهاية الدراية 1 : 70، منتقى الأصول 7 : 291 ـ 292.
  25. نهاية الأصول : 322، حقائق الأصول 1 : 27، منتهى الأصول 1 : 448.
  26. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 132 ـ 133.
  27. التحبير شرح التحرير 1: 290، هداية المسترشدين 1: 546.
  28. نهاية الدراية 1: 70.
  29. نهاية الدراية 1 : 70، محاضرات في أصول الفقه 5 : 168، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 133.
  30. محاضرات في أصول الفقه 5 : 168 ـ 170، بحوث في علم الأصول 1 : 132 ـ 133.
  31. محاضرات في أصول الفقه 1 : 104 و5 : 169 ـ 170.
  32. نهاية الدراية 1 : 70، منتقى الأصول 7 : 291 ـ 292، محاضرات في أصول الفقه 1 : 133.
  33. محاضرات في أصول الفقه 5 : 169 ـ 170، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 133.
  34. فوائد الأصول 2 : 517 ـ 518.
  35. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 133.
  36. انظر : كفاية الأصول : 16، محاضرات في أصول الفقه 1 : 96 و98، مناهج الوصول 1 : 181، تنقيح الأصول الخميني 1 : 68، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 1 : 133.
  37. انظر : كفاية الأصول : 36، نهاية الأفكار 1 ـ 2 : 61، مناهج الوصول 1 : 108 ـ 109.
  38. محاضرات في أصول الفقه 1 : 208.
  39. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 140.
  40. المصدر السابق : 133 ـ 134.
  41. كفاية الأصول : 53، مناهج الوصول 1 : 107، محاضرات في أصول الفقه 1 : 98، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 134.
  42. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 142.
  43. المحصول الرازي 1 : 147، محاضرات في أصول الفقه 1 : 92.
  44. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1 : 143، سيأتي الإشارة إلى الآخرين في ما ذكر من الاستعمال الحقيقي والمجازي.