ابن حزم

مراجعة ٠٦:٥٠، ٢٥ مايو ٢٠٢١ بواسطة Saedi.m (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب'هو أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (383هـ-454هـ/994م-1063م)، درس الحديث على أبي عمر أحمد بن محمد الجسور در...')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

هو أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (383هـ-454هـ/994م-1063م)، درس الحديث على أبي عمر أحمد بن محمد الجسور دراسة طيبة، فتهيأ له بذلك أساس مكين، بنى عليه فيما بعد معارفه بأصول الدين والشرع، ودرس “تاريخ الطبري” دراسة فهم وتمعن، فأصاب من ذلك إدراكا طيبا لتاريخ البشر والأديان، وكذلك سمع الحديث عن أبي عمر الطلمنكي المحدث النابه، وتعلم المنطق على يدي الكتاني، وكان طبيبا من مدرسة مسلمة المجريطي، ودرس الأدب على أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي، وعرف في مجلسه أبا عبد الله محمد بن يحيى بن محمد بن الحسين المعروف بابن الطبني، وكانا من أفذاذ الشعراء، ولابد أنه ساهم كذلك في مجالس الأدب التي كانت شائعة في تلك البيئة المهذبة المثقفة الرفيعة التي نشأ فيها.

وقد تعلق أبو محمد بن حزم- وهو بعد صبي يافع- بفتاة ذات حسن كان أبواه قد حضناها وقاما على تربيتها، فتمنعت عليه، ولم تظهر له قط من القبول ما يفسح له في مجال الأمل فيها، فطوى نفسه على آلام هذا الهوى. وفي عام 402هـ/1012م توفي أبوه، وكان قد أقام في خدمة العامريين حتى مقتل عبد الرحمن بن المنصور بن عامر الملقب بشنجول، وعندما نشبت الفتنة البربرية أخرج ابن حزم من قرطبة ونهبت قصوره، فتوجه إلى ألمرية وأقام فيها، وهناك انصرف إلى تأييد عبد الرحمن الرابع- الملقب بالمرتضى- وسار ابن حزم مع جيش المرتضى لحرب بني حمود، فانهزم الجيش في موقعة “غرناطة” (408هـ/1018م) وقتل المرتضى وأسر ابن حزم ثم أخلي سبيله فلجأ إلى شاطبة، واطمأن هناك ردحاً من الزمن كتب فيه كتاب “طوق الحمامة”، وظل مع ذلك يدعو لعبد الرحمن الخامس الذي كان يطلب الخلافة لنفسه.

فلما وفق عبد الرحمن إلى ما كان يسعى إليه، وارتقى عرش الخلافة وتلقب بالمستظهر عام 414هـ/1023م، استقدم ابن حزم وأقامه وزيراً له، ولم تدم خلافة المستظهر غير شهرين قتل بعدها، فنفي ابن حزم مرة ثانية من قرطبة، فآلى على نفسه ألا يضع في السياسة يداً من ذلك الحين، مؤمناً بأن أدعياء الخلافة لم يعودوا يحوزون ما ينبغي لها من نصاب شرعي، وأن الخلافة لم تعد حقاً إلهياً. وهكذا ظل ابن حزم إلى ذلك الحين موزعاً بين السياسة والأدب، أما بعد ذلك فقد كرس وقته كله لدراسة الدين والفقه.

أقبل على دراسة الشريعة والفقه وهو في السادسة والعشرين من عمره، بنهم على يد الفقيه المشاور عبد الله بن يحيى بن دحون… ثم وجد نفسه ميالاً لمذهب محمد بن ادريس الشافعي فانتقل إليه، وكان الشافعيون قلة بين الأندلسيين. ولم يظل ابن حزم شافعيا إلا فترة قصيرة، إذ استحسن المذهب الظاهري.

كان ابن حزم رجلاً صادقاً مخلصاً قويماً ذا ديانة وحشمة وسؤدد، وكان يؤمن بأن سلامة العقيدة والشرف فوق الحياة نفسها، وكان مخلصاً لأصحابه يتفانى في سبيلهم، لدوداً في خصومته، لا يصفح ولا ينسى ثأره، ولوعاً بالسخر من خصومه، شديد الاعتداد بما أوتي من علم، وكان كريما عفيفاً وسطاً في إيمانه، لا هو ساذج يقبل كل شيء، ولا هو متشدد لا يقبل إلا حكم العقل، بل هو أقرب إلى العقليين منه إلى العاطفيين.

كان غزير الإنتاج، ويبدو أنه درس وألف في كل صنف من أصناف العلوم عدا الرياضيات، ومن المؤسف أن معظم مؤلفاته قد ضاع. وسنتتبع في عرض مؤلفات ابن حزم التصنيف الذي اتبعه آسين بلاثيوس في كتابه عن ابن حزم.

أ- الفلسفة: ألف ابن حزم كتباً في مراتب العلوم والمنطق وفي نقد أبي بكر الرازي، وقد ضاعت كلها، ولكن بقي لنا مما يستحق الذكر من تواليفه كتابه المسمى “الأخلاق والسير في مداواة النفوس”. وقد أجمل آسين بلاثيوس وصفه بقوله : “إنه أشبه بسجل يوميات، دون فيه ابن حزم ملاحظات أو اعترافات تتصل بسيرة حياته … ونحن إذ نقرأه نجد فيه الوقائع كما سجلها رجل يقظ دقيق الملاحظة أثناء تجاربه الواسعة، وصاغها في قالب مبادئ عامة وحكم”.

وأعظم قيمة لهذا الكتاب الأخلاقي الذي صدر عن نفس يشوبها التشاؤم والتصوف- هي أنه يقدم لنا صورة حقيقية حية لنفسية مسلمي الأندلس في القرن الحادي عشر، وقواعد الأخلاق التي كانت مرعية في مجتمعهم، هذا إلى جانب تلك الفقرات التي تتصل بحياة ابن حزم نفسه.

ب- الفقه والأصول: ألف ابن حزم كتباً كثيرة في الحديث والمذاهب، ولكن أهمها على الإطلاق هو كتاب “الإبطال” الذي يعرض علينا فيه ضعف أصول خمسة أتبعتها بعض المذاهب الإسلامية في استخلاص الأحكام الشرعية، وهي : القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، وأهمية هذا الكتاب راجعة إلى أنه يبين لنا الأسس التي بنى عليها ابن حزم مجادلاته ونقده للمذاهب الأخرى؛ وهو الكتاب الأساس الذي يبسط لنا فيه دقائق المذهب الظاهري الذي اعتقده. وله أيضا كتاب ” المحلى في الخلاف العالي في فروع الشافعية” الذي يناقش فيه أصول المذهب الشافعي وينقدها، وكذلك كتاب “الفصل” الذي سنتحدث عنه فيما سيأتي:

ج- علوم الدين: كتب ابن حزم رسائل كثيرة نقض فيها آراء أصحاب المذاهب التي اعتبرها منحرفة عن الطريق القويم، أو دل فيها على أن أسلوب القرآن معجز لا يشبه في شيء أي أسلوب من أساليب البلاغة الإنسانية… وصنف رسائل أخرى مثل: “بيان التحريفات التي أدخلها اليهود والنصارى على نصوص التوراة والإنجيل”، و”النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربعة : المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة”، وهذه كلها نجدها مجموعة في كتاب. “الفصل في الأهواء والملل النحل” الذي نستطيع أن نعتبره بحق “تاريخا للأديان” وهو أهم ما كتب ابن حزم في موضوع الأديان.

حاول ابن حزم في دراساته في موضوع الأديان أن يوفق بين العقل والعقيدة (سابقا ابن رشد إلى ذلك بقرن من الزمن)، واجتهد في أن يطبق على الإلهيات أصول المذهب الظاهري الذي اعتقده.

د- التاريخ: خلف ابن حزم لنا مادة طيبة في التاريخ منها كتاب “جمهرة أنساب العرب” وهو عظيم الفائدة لمن يدرسون تاريخ الإسلام في المشرق والأندلس. وبين أيدينا كذلك كتابه ” نقط العروس” وهو يضم معلومات مقتضبة جافة عن خلفاء المشرق والأندلس وحكامها. وله كذلك “الرسالة” المشهورة في “بيان فضل الأندلس وذكر علمائه”، وقد احتفظ لنا المقري بنصها في ” نفح الطيب”، ويذكر فيه علماء الأندلس ويعدد أفضالهم ومؤلفاتهم في حماس بالغ لوطنه.

وأشهر ما ألف ابن حزم في مادة التاريخ وأعظمه قيمة هو كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” وهو تاريخ نقدي للأديان والفرق والمذاهب، وهو كتاب ضخم حافل بما فيه من مادة وأفكار، يعرض فيها ابن حزم لشتى مذاهب الذهن البشري في موضوع الدين، من الإلحاد المطلق الذي عليه السفسطائيون الذين لا يؤمنون بشيء… إلى إيمان العوام الذين يصدقون كل شيء، ويؤمنون بالخرافات في جهل، ولا يشكون في شيء.

هـ- الأدب:

يعتبر طوق الحمامة أهم ما ألف ابن حزم في باب الأدب، وهو رسالة عن ” الألفة والألاّف” أي الحب والمحبين، ويقع الكتاب في ثلاثين فصلا يدور كل منها حول موضوع معين من موضوعات الحب… فيبدأ بتعريف نوع الألفة الذي يدور عليه الفصل، أو يصف خاصية من خصائصه يتخيرها، ثم يورد طائفة من الحكايات الواقعية يدلل بها على صحة ما يقول، وتتخلل الكلام كله قطع من شعر ابن حزم نفسه.

ويضع ابن حزم فصول الكتاب كلها في أقسام أربعة تجمع ثلاثين بابا، وقد أورد بيان تقسيم كتابه في الباب الأول منه- عن ماهية الحب- فقال : ” وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين بابا، منها في أصول الحب عشرة : فأولها هذا الباب، ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب التفسير.

ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابا وهي : باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السر، ثم باب الكشف والإذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت.

ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب وهي : باب العاذل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو”.

لم تلبث طريقة ابن حزم- بعد تطبيقها على علوم الدين والفقه- أن أصبحت مذهبا بذاته حل محل المذهب الظاهري، وكون أتباعه فرقة عرفت “بالحزمية”… وقد انتقل مذهب ابن حزم إلى المشرق وذاع بين أهله… أما في المغرب والأندلس فإننا نجد طائفة كبيرة من المؤلفين حملت مؤلفاتهم طابع “المذهب الحزمي”… ونصادف كذلك خصوما لمذهب ابن حزم وطريقته.

وقد مال محمد بن تومرت مهدي الموحدين إلى مذهب ابن حزم، إذ وجد فيه ما يؤيد دعوته، ووصل نفر من فقهاء الحزمية إلى كبار المناصب، ومن أتباع المذهب الحزمي أو الآخذين بناحية منه محيي الدين بن عربي والفيلسوف ابن رشد.

وقد أسرع المذهب الحزمي إلى الزوال بعد انقضاء أمر الموحدين، ولم نعد نجد من أتباعه خلال القرن الثالث عشر الميلادي إلا عددا قليلا من الناس.