إحتمال التكلیف

إحتمال التکلیف أو التکلیف المحتمل إصطلاحٌ في علم اصول الفقه یبحث فیه حول منجزیة التکلیف المحتمل ووجوب إمتثاله. وللمجتهدین من السنة والشیعة آراء و مباني متعددة في هذا البحث.

تعريف الإحتمال لغةً

الاحتمال لغةً: ضدّ الجزم والقطع، وهو من مراتب الكشف، وأصله: الحمل بمعنى الشمول والتضمّن، كحمل الشجر للثمرة، والمرأة الحامل للولد، والعالم للعلم، والشاهد للشهادة، وغيرها. وذلك لتضمّن الاحتمال الوجوه المختلفة من الكشف المقابل للجزم، من الوهم والشك بل الظن. وقد يعبّر عنه بالجواز؛ لجواز الوجوه المزبورة فيه. [١]

تعريف الإحتمال اصطلاحاً

يستعمل عرفا ولدى أهل التخصّص من الفقهاء والأصولييّن بل الكلامييّن بنفس المعنى، فيقال: التكليف المحتمل، والعقاب المحتمل، والضرر المحتمل، ونحوها، ويراد به غير المجزوم من الموارد المزبورة. نعم، الظن الذي ثبت اعتباره شرعا فهو، وإن كان في ذاته غير العلم والجزم، إلاّ أ نّه ملحق بالعلم عقلاً في بعض الأحكام، كالمنجزيّة و المعذريّة على ما ثبت في علم الأصول، فكأ نّه صار اصطلاحا عندهم في غير الظن المعتبر.

الأمر الاول: منجزيّة احتمال التكليف الالزامي

والبحث عنه تارةً بالنسبة لما قبل الفحص وحال الفحص، وأخرى بالنسبة لما بعد الفحص. أمّا الأوّل: فلا شك ولا خلاف بين الأصوليين في منجزيّة التكليف الإلزامي المحتمل، ولزوم الاحتياط في قباله. بمعنى أنّ العقل ـ وكذا الشرع ـ لايجوّزان على المكلّف إهمال التكاليف الإلزامية الواقعيّة بعذر الجهل وعدم العلم بها، بل يوجبان عليه الفحص عنها وامتثالها مع تحقّقها واقعا. وقد ناقش الأصوليون مفصّلاً موضوع وجوب معرفة الأحكام عقلاً وشرعا من باب لزوم دفع الضرر الأخروي المحتمل، وكذا أدلة هذا الوجوب، ذيل بحوث مختلفة مثل: حجّية الظن، و حكم العقل بدفع الضرر، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان. [٢] بل هذا المقدار من الدلالة ـ أي وجوب الاحتياط حال الفحص وقبله ـ هو القدر المتيقّن من هذه الأدلة، لكن الكلام إنّما يقع في منجزيّة الاحتمال بعد الفحص واليأس، وعدمها وهو الفرض الثاني. فحيئذٍ لابدّ من بسط الكلام في مقامين: الأول: مقتضى الدليل العقلي. الثاني: مقتضى الدليل الشرعي. وهذا هو البحث الطويل في كتب الأصول المعنون «بالبراءة» «والاحتياط» عقلاً وشرعا.

المقام الأول: مقتضى الدليل العقلي

ومجمل الكلام فيه أنّ هنا مسلكين: أحدهما: مسلك قبح العقاب بلا بيان، المسمّى عندهم بالبراءة العقليّة، وهو مسلك المشهور. [٣] والثاني: المسلك المنسوب إلى الأخباريين القائلين بحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وكذا مسلك الشهيد الصدر القائل بثبوت حق المولوية عقلاً للمولى الحقيقي، حتّى في دائرة التكاليف المشكوكة والموهومة، فضلاً عن المظنونة، ويسمى بمسلك حق الطاعة. أمّا المشهور القائلون بالبراءة العقليّة، فخلاصة كلامهم في ذلك: أنّ العقل يرى المكلّف معذورا في مخالفة التكاليف الإلزامية الواقعيّة إذا فحص عنها ولم يجد بيانا ودليلاً عليها من عقل أو شرع. ولهم في توضيح ذلك تقريبات[٤]، منها: ما ذكره النائيني من: أنّ العقاب على ما لا بيان عليه عقاب على ما لا مقتضي للتحرّك معه، وهو ظلم وقبيح على الحكيم سبحانه وتعالى. [٥] وقد يقال بأنّ نفس حكم العقل بدفع الضرر المحتمل بيان، فيرتفع به موضوع القضية المزبورة «وهي قبح العقاب بلا بيان». وقد أجيب عنه: بأنّ الأمر على العكس إذ بعد حكم العقل بقبح العقاب مع عدم البيان لايبقى عقاب محتمل، فهي واردة عليه[٦]، فينحصر مورد قاعدة وجوب دفع الضرر في موارد العلم الإجمالي والشبهات البدوية قبل الفحص وحين الفحص. [٧] وتفصيل الكلام في سائر ما أجيب به عن القاعدة المزبورة، وكيفية جمع القاعدتين متروك إلى محله. [٨] وأمّا الشهيد الصدر فإنّه يدّعي أنّ المسألة الوحيدة التي لابدّ من الكلام عنها قبل جميع المباحث السابقة من قبح العقاب بلا بيان وغيره هي: أنّ المولى الحقيقي سبحانه وتعالى هل له حقّ المولويّة والطاعة في خصوص التكاليف التي تمّ عليها البيان من عقل أو نقل، أو أنّ له ذلك في جميع موارد احتمال التكليف؟ فقد ادّعى قدس‏سره ثبوت حق الطاعة للمولى مطلقا حتى في المحتملات التي لم يقم عليها بيان، وأنّ هذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي، بصريح الوجدان. [٩]

المقام الثاني: مقتضى الدليل الشرعي

وهنا أيضا مسلكان: أحدهما: مسلك الأصوليين القائلين بالبراءة شرعا، ومنهم الشهيد محمدباقر الصدر قدس‏سره. ثانيهما: مسلك الأخبارييّن القائلين بلزوم الاحتياط شرعا في خصوص الشبهات التحريميّة، وأمّا الوجوبيّة فمقتضى الأخبار فيها البراءة. وقد استدلّ كلّ طائفة بالآيات والأخبار، وتفصيل الكلام في ذكر ما استند إليه الأصوليون للبراءة وما استند إليه الأخباريون للاحتياط في الشبهة التحريمية، وما ورد من النقض والإبرام بينهم متروك إلى محله.

الأمر الثاني: التمييز بين الأمارة والأصل على حساب قوة الاحتمال وقوة المحتمل

قد ذكروا للتمييز بين الأمارات والأصول العمليّة وجوها. منها: أنّ الميزان في كون الشيء أمارة إنّما هو بكونه كاشفا عن الواقع ـ ولو بمرتبةٍ ـ مع كون دليل اعتباره ناظرا إلى تتميم كشفه، كما أنّ الميزان في الأصل العملي أن لايكون دليل اعتباره ناظرا إلى ذلك. وبعبارة أخرى: كلّ ما اعتبره الشارع بلحاظ كشفه عن الواقع فهو أمارة، وكلّ ما لم يعتبره الشارع من هذه الجهة ـ إمّا بأن لايكون له كشف أصلاً، أو يكون له ذلك ولكن لم يكن اعتباره بهذا اللحاظ ـ فهو أصل عملي. وعلى ذلك فقد يُتردّد في بعض الأمور بين كونه أصلاً أو أمارة؛ وذلك لخفاء وجه اعتباره، وأ نّه من حيث كشفه أو من حيث ذاته تعبّدا. [١٠] ومنها: ما نُسب إلى المشهور من أنّ الشك مأخوذ في موضوع دليل التعبّد بالأصل بخلاف الأمارة، فإنّ دليل اعتبارها مطلق من هذه الجهة، نعم الشك مورد للتعبّد بها. وبتعبير آخر: إنّ الأمارة والأصل وإن اتّحدا في أنّ جعلهما إنّما هو عند الجهل وعدم انكشاف الواقع، إلاّ أنّ دليل الأمارة لم يؤخذ في موضوعه هذا الشك فهو ظرفه ومورده، بخلاف دليل الأصل حيث أخذ الجهل والشك وعدم الانكشاف في موضوعه. [١١] وعليه فيكون دليل التعبّد بالأصل حافظا للشك واستتار الواقع، ودليل التعبّد بالأمارة رافع للاستتار، وهذا سرّ تقدم الأمارات على الأصول مطلقا. [١٢] ولكن مبنى الشهيد الصدر قدس‏سره للتمييز بين الأمارات والأصول هو نفس مبناه في حقيقة الأحكام الظاهرية جميعا من الأمارات والأصول، وهو أنّ خطابات الأحكام الظاهرية مردّها إلى خطابات تعيين ما هو الأهم من الأغراض الترخيصية واللزومية عند اختلاطها على المكلّفين، وأنّ الأهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقا لها تارةً تكون بلحاظ الاحتمال، وأخرى بلحاظ المحتمل، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا. وحينئذٍ عند اختلاط الأغراض اللزومية والترخيصية، فإن قُدّم بعضها وجُعل الحكم الظاهري وفقا لها لقوة احتمالها وغلبة مصادفة هذا الاحتمال للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار، فهذا أمارة سواء أكان لسان الجعل لسان جعل الطريقيّة وتتميم الكشف أم لا. وإن قُدّم بعضها وجعل الحكم الظاهري وفقا له لأهميةٍ في نفس هذا المحتمل بدون أخذٍ لكاشفية الاحتمال بعين الاعتبار، كان الحكم من الأصول العملية المحضة كأصالة الإباحة و أصالة الاحتياط، والملحوظ في الأوّل أهمية الحكم الترخيصي المحتمل، وفي الآخر أهمية الحكم الإلزامي المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال. وإن قُدّمت بعض المحتملات والأغراض على بعض بلحاظ كلا الأمرين من الاحتمال والمحتمل، كان المجعول من الأصول العملية التنزيلية أو المحرزة كقاعدة الفراغ ونحوها. بلا فرق في جميع ذلك في الصيغة المبيّنة للحكم، وهو لسان الدليل. نعم الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهري بلسان جعل الطريقيّة، كما أنّ الأنسب في موارد التقديم بلحاظ أهمية المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة العمليّة. [١٣]

الأمر الثالث: دور حساب الاحتمالات في دليلية التواتر والإجماع

من جملة وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلى غير المعاصرين للشارع الإخبار الحسيّ المتعدّد، بدرجة يوجب اليقين المسمّى بـ «الخبر المتواتر»، والإخبار الحدسي المتعدّد بتلك الدرجة المسمّى بـ «الإجماع». والكثرة العدديّة وإن كانت هي جوهرة التواتر ونظائره[١٤]، ولكن ليس بالإمكان تحديدها في رقم معيّن كما حاوله بعض فحدّدها بتحديدات معيّنة، كالقول بأنّها 313 بعدد شهداء بدر، أو 12 بعدد نقباء بني إسرائيل وغير ذلك. [١٥]. كما إنّ ما أفاده الشهيد الثاني[١٦] وغيره من أن الميزان هو إفادة العلم من تعريف الشيء بنفسه على ما ذكره الشهيد الصدر، وادّعى أيضا أنّ اتجاه التحديد العددي المزبور مُنْشأٌ من منطق أرسطو القائل بأنّ الاستدلال المنطقي قائم على أساس قضية عقلية أوليّة قبلية، وهي وجود عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب. [١٧] ولذلك تصدَّى الشهيد الصدر قدس‏سره لبيان تحليل فنّي لدليليّة هذه الأمور، مبنيّا على حساب الاحتمالات زاعما أ نّه الجوهر الوحيد والأساس لذلك. بيانه: أنّ كل خبر حسّي ـ بما هو خبر ـ يحتمل في حقه الموافقة للواقع والمخالفة، واحتمال المخالفة يقوم على أساس احتمال الخطأ في المخبر، أو تعمدّه للكذب لمصلحة تدعوه إلى إخفاء الحقيقة. كما أنّ قيمة الاحتمال في كلّ خبر تختلف عن غيره من الأخبار بحسب اختلافهما في أوصاف المخبر كالوثاقة وغيرها والسامع. ثمّ إذا فرض تعدّد الأخبار عن محور واحد فإنّ ذلك يؤثر في تضاؤل احتمال الخطأ وتعمّد الكذب، وكلما ازدادت الاخبار عددا ـ بما فيها من الاختلاف في القيمة الاحتمالية ـ ازداد تضاؤل احتمال المخالفة من جهة الخطأ وتعمّد الكذب. وهكذا إلى أن تصل درجة احتمال المخالفة إلى حدّ العدم، وبعكسه قيمة احتمال الموافقة إلى حدّ العلم واليقين. وذلك كلّه نتيجة ضرب قيمة احتمال المخالفة في كلّ خبر بقيمته في الخبر الآخر. [١٨] هذا في الأخبار الحسيّة، وكذلك الحال في الأخبار الحدسية، فإنّ تعددها يؤدّي بحساب الاحتمالات إلى نموّ احتمال الموافقة وضآلة احتمال المخالفة في الجميع إلى درجة زوال هذا الاحتمال عمليّا أو واقعيا. وهذا ما يسمّى عندهم بالإجماع. وهكذا يتضح اشتراك التواتر والإجماع في اعتمادهما معا فيالكشف المزبور على حساب الاحتمالات. وإن كان بينهما فرق في بعض النقاط توجب بُطئ حصول الاطمئنان واليقين في الإجماع بما ليس كذلك في التواتر، ككون مفردات التواتر شهادات حسيّة، بخلاف الإجماع الذي مفرداته شهادات حدسيّة وغيره. [١٩]

المصادر

  1. انظر: الكليات: 57، محيط المحيط : 195 ـ 196 مادة «حمل».
  2. فوائد الأصول 3 : 216، درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 427، مصباح الأصول 2 : 89 .
  3. انظر : فرائد الأصول 2 : 56.
  4. انظر : دروس في علم الأصول 2 : 333 ـ 335.
  5. انظر : فوائد الأصول 3 : 365 ـ 366.
  6. انظر : مصباح الفقيه الصوم 14 : 434، كفاية الأصول : 343، مقالات الأصول 2 : 136، 150، 176.
  7. انظر : فوائد الأصول 3 : 215 ـ 216.
  8. انظر: فرائد الأصول 2: 56 ـ 57، 330، فوائد الأصول 3: 366 ـ 368.
  9. انظر : دروس في علم الاُصول 2 : 321.
  10. انظر : فوائد الأصول 4 : 481 ـ 482، نهاية الأفكار 4 ق2 : 20.
  11. مصباح الأصول 3 : 151.
  12. انظر : فوائد الأصول 4 : 481 ـ 482، تنقيح الأصول العراقي 45 ـ 46، منتقى الأصول 2 : 1047.
  13. انظر : دروس في علم الأصول 2 : 34 ـ 35.
  14. بحوث في علم الأصول الهاشمي 4 : 332، دروس في علم الأصول 2 : 153.
  15. انظر : الإحكام للآمدي 1 ـ 2 : 268.
  16. الرعاية لحال البداية : 59 ـ 60.
  17. بحوث في علم الأصول 4 : 332.
  18. انظر : دروس في علم الأصول 1 : 276 ـ 278.
  19. انظر : بحوث في علم الأصول الهاشمي 4 : 309 ـ 311.