أقسام الإجتهاد

أقسام الاجتهاد: هذا العنوان یراد به أن الإجتهاد في الفقه الإسلامي ینفسم إلی أقسام متعددة و متنوعة، والغرض هنا توضیح الأقسام والأنواع من الإجتهاد و بعض الشئ من أحکامها.

أنواع تقسیمات الإجتهاد

يقسّم الاجتهاد من عدة زوايا:

(1) تقسيمه بحسب سعة دائرته

يقسّم من هذه الزاوية إلى قسمين: المطلق، والمتجزّئ. ويقصد بتجزئة الاجتهاد أن يجتهد العالم لاستنباط بعض الأحكام دون بعض، والمطلق ما يقابله. [١] وقد برزت في تفسير كلّ من المطلق والمتجزّئ عدة اتّجاهات: (أ) إنّ الإطلاق هو الاستفراغ الفعلي في جميع الأحكام، و أن التجزّئ هو الاستفراغ الفعلي في بعضها. [٢] (ب) إنّ الإطلاق هو ملكة الاقتدار على استنباط جميع الأحكام، والتجزّئ هو ملكة الاقتدار على استنباط بعضها، بمعنى أن يتمكّن الشخص من استنباط الجميع وإن لم يستنبط الجميع بعدُ في العمل. [٣] (ج) إنّ الإطلاق هو الإحاطة بأدلة جميع أو معظم الأبواب أو المسائل، والمتجزّئ هو الإحاطة بأدلة بعضها. [٤] والفرق بين الثاني والثالث هو أنّ الثاني يركّز على عنصر ملكة الاقتدار على استنباط الأحكام، بينما الثالث يركّز على عنصر الإحاطة بالأدلة.

إمكان واستحالة كلّ من الاجتهاد المطلق والمتجزّئ

الاجتهاد المطلق أم المتجزّئ ممكن أو هو محال؟ برزت إزاء هذا السؤال أقوال:

=القول الأول: الاجتهاد المطلق محال والمتجزّئ ممكن=

وقد اختار هذا القول بعض أهل السنّة، منهم الفتوحي الحنبلي. [٥] وقد استدلّ لهذا القول بأنّ الاجتهاد لو لم يكن متجزّيا يلزم منه كون شخص واحد عالما بتمام أبواب وجزئيات الفقه وهذا محال. ومن هذا الاستدلال يعلم أنّ القائلين بهذا القول قد تبنّوا التعريف الأول من التعاريف التي ذكرت للمطلق، أي التعريف الذي لايرى حصول الاجتهاد بالاستفراغ الفعلي في جميع الأحكام والجزئيات.

=القول الثاني: الاجتهاد المتجزّئ محال و الاجتهاد المطلق ممكن=

وقد اختار هذا القول بعض الحنفية[٦]، وجمع من متأخري الإمامية[٧]، وكذلك الشوكاني[٨]، وقد استدلّ أنصار هذا القول بوجوه متعدّدة: الأول: إنّ ملكة الاجتهاد أمر بسيط، والبسيط لا يتجزّئ. يستفاد من هذا الاستدلال أنّ القائل به قد تبنّى المعنى الثاني من معاني الإطلاق، من جهة أنّ الذي يمتلك ملكة الاجتهاد، يمتلكها لجميع الموارد، ولا معنى لأن يعتبر مجتهدا في بعض المسائل فحسب. [٩] الثاني:وقد استدلّ بعض آخر[١٠] بوجه يستبطن ذكر نكتتين، وهما: الأولى: أنّ الملكة أمرها دائر مدار الوجود والعدم، وعليه فإمّا أن تتوفّر جميع العلوم والتجارب الدخيلة في الاجتهاد، فتحصل حينئذٍ الملكة، وإمّا لاتتوفّر إلاّ بعض منها فلا تحصل الملكة إذا. الثانية: أنّ الملكة بعد أن حصلت، فلا تختلف نسبة الأبواب إليها مع بعض، بمعنى أنّ للملكة إمكانية أن تُعمل في كلّ باب باب على حدّ سواء؛ نعم هناك تفاوت من حيث إنّ الملكة قد يصعب إعمالها في بعض الأبواب دون بعضها، وواضح أنّ قضية صعوبة إعمال الملكة شيء، وعدم إمكان إعمالها شيء آخر. وقد استدلّ بعض آخر من أنصار هذا القول، بأن أبواب الشرع يتعلق بعضها ببعض، فالاستنباط في بعض مع الجهل بالآخر مظنة للتقصير، حيث يحتمل وجود ما يتعلق بهذا الباب في الأبواب الأخرى، ومعه لايحصل الاجتهاد. [١١] ويستفاد من هذا الاستدلال أ نّه قد انطلق من المعنى الثالث من معاني الإطلاق.

=القول الثالث: الاجتهاد المطلق والمتجزّئ كلاهما ممكنان=

وهذا يمثّل وجهة نظر أكثر العلماء.[١٢] والظاهر أنّ القائلين به قد تبنّوا من المعاني المذكورة إمّا المعنى الثاني (أي: كون الإطلاق ملكة الاقتدار على استنباط الجميع، والتجزّئ هو ملكة الاقتدار على استنباط بعض)، أو المعنى الثالث (أي: كون الإطلاق الإحاطة بأدلّة جميع الأحكام، والتجزّئ الإحاطة بأدلّة بعض) حيث إنّ كلاًّ من هذين المعنيين أمكن على أساسه القول بإمكانية كلّ من الاجتهاد المطلق والمتجزّئ.

(2) تقسيمه بحسب مراتب المجتهدين

وقد تمّ هذا التقسيم من قِبل أهل السنّة، فقسّموه إلى أقسام: [١٣]

(أ) الاجتهاد المطلق

والمقصود من هذا القسم الاجتهاد في الأصول والفروع، و بعبارة أخرى : يعني قيام المجتهد بالعملية الاجتهادية على أساس ما اجتهد فيها من قواعد أصولية. والإمامية لاتعطي الاعتبار إلاّ إلى هذا القسم من الاجتهاد. [١٤]

(ب) الاجتهاد المنتسب

ويقصد بهذا الاجتهاد في الفروع اعتمادا على منهج أصولي لإمام المذهب، وبتعبير آخر تحصل عملية الاجتهاد الحاصلة وفقا لهذه المرتبة، على أساس قواعد أصولية مأخوذة من إمام المذهب. [١٥] وقد جرى البحث بين القائلين بوجود هذه المرتبة هل أنّ أخذ الأصول من إمام المذهب يعدّ تقليدا أم لا؟ برزت أقوال ثلاثة في الإجابة على هذا السؤال:

=القول الأول:=

أنّه في حقيقته عمل اجتهاديّ. وقد نسبه بعض الشافعية إلى أصحابهم. [١٦]

=القول الثاني:=

أنّه مزيج من الاجتهاد والتقليد، وبعبارة أخرى إنّه اجتهادٌ شابه شيء من التقليد، وقد اختار ذلك الكثير من الأصوليين.

=القول الثالث:=

أنّه تقليد محض. وقد قاله بعض من أصحاب مالك، وجملة من أصحاب أحمد، وأكثر أصحاب أبي حنيفة وكذلك داود. [١٧] ولو وجّه هذا السؤال إلى الإماميّة لكان جوابها عنه: أنّ أخذ الأصول من إمام المذهب هو ليس إلاّ تقليدا محضا. وبما أ نّها ـ أي الإماميّة ـ تعتقد أنّ حصول الاجتهاد حقيقةً متوقف على وقوع الاجتهاد في كلّ من الأصول والفروع، فهي لا تعطي أيّ اعتبار إلى الاجتهاد المنتسب، ولاتعدّه من الاجتهاد أصلاً. والجدير بالذكر أنّ الإماميّة ترى أنّ وقوع اجتهاداتها في إطار أقوال أئمّة أهل البيت وسيّما الإمام الصادق عليه‏السلام، ليس من باب وقوع نحوٍ من الاجتهاد المنتسب من جانبها، بل من باب اعتبار أقوالهم من السنّة الحجّة، انطلاقا من أنّ سنّتهم امتدادٌ للسنّة النبوية المطهّرة. [١٨]

(ج) الاجتهاد التخريجي

وهو أن يقوم العالم بتخريج أحكام المسائل حسب أصول إمامه وقواعده بعد أن استقل بتقريرها. وهذا القسم مجاله ما إذا لم يكن لإمام المذهب فيه حكم. وكما هو معلوم كانت مرتبة الاجتهاد المنتسب أعلى من هذا القسم؛ حيث إنّ هذا القسم ليس أكثر من التخريج، في حين أنّ المجتهد المنتسب لايقلّد إمام المذهب في الفقه، بل قد يخالفه في الرأي وإن كان يقلّده في الأصول.

(د) الاجتهاد الترجيحي

والمقصود منه أن يقوم العالم بترجيح قول للإمام على القول الآخر له؛ لقوة دليل القول الأول. وكما هو معلوم يخلو الاجتهاد الترجيحي من أيّ استنباط، بخلاف كلّ من الاجتهاد المنتسب والتخريجي؛ حيث كان الأوّل يستبطن نوعا من الاستنباط، وكان الثاني يتضمّن جهدا يهدف إلى كشف نظر إمام المذهب، وهو وإن كان لايطلق عليه عنوان الاستنباط بالمعنى الرائج، إلاّ أ نّه أمكن إطلاقه عليه تسامحا.

(3) تقسيمه بحسب طبيعة طرقه وحججه المأخوذة في مفهومه

وقد قسّم من هذا الحيث إلى ثلاثة أقسام:

(أ) الاجتهاد القياسي:

وهو ما يتعلق بتحديد العلل الموجبة للأحكام في كلّ حكم بصورة خاصة؛ وذلك ليُتخذ منها مقياس من مقاييس الحكم فيما يراد إضافته على النصوص بطريق القياس، لحلّ تلك القضايا الجديدة المعروضة التي ليس فيها نص خاصّ.

(ب) الاجتهاد البياني:

وهو يتعلق بتحديد معنى النص المبحوث فيه؛ وذلك من أجل معرفة ما إذا كان هذا النصّ في استطاعته أن يتناول في حكمه تلك القضية الحديثة المعروضة، أم لا.

(ج) الاجتهاد الاستصلاحي:

وهو يتعلق بتحديد روح الشريعة بصورة عامة؛ وذلك ليتخذ منها أصل من أصول التشريع يعتمد عليه للحكم في كلّ حادث جديد بطريق الاستصلاح، ممّا لم يمكن الحكم فيه عن طريق الاجتهاد البياني والاجتهاد بالقياس. [١٩]

(4) تقسيمه بحسب نوعية الحجّية

وقد قسّم من هذا الحيث إلى قسمين:

(أ) الاجتهاد العقلي:

وأريد به ما كانت الحجّية الثابتة لمصادره عقلية محضة غير قابلة للجعل الشرعي. ويضمّ هذا القسم كلّ ما أفاد العلم الوجداني لمدلوله، كالمستقلات العقلية، وقواعد لزوم دفع الضرر المحتمل، وشغل الذمة اليقيني يستدعي فراغا يقينيا، وقبح العقاب بلا بيان، وغيرها.

(ب) الاجتهاد الشرعي:

وأريد به كلّ ما احتاج إلى جعل وإمضاء لطريقيته أو حجّيته، ويدخل ضمنه الإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والاستصحاب، وغيرها من مباحث الحجج والأصول العملية، ممّا يكشف عن الحكم الشرعي، أو الوظيفة المجعولة من قِبل الشارع عند عدم اكتشافه. [٢٠]

المصادر

  1. انظر : المستصفى 2 : 203، أعلام الموقّعين 4 : 216، تيسير التحرير 4 : 246، إرشاد الفحول 2 : 302، شرح طلعة الشمس 2 : 278، الأصول العامة للفقه المقارن : 560.
  2. انظر : شرح الكوكب المنير : 398.
  3. انظر : كفاية الأصول : 466 ـ 467، مبادئ الوصول : 242.
  4. انظر : المستصفى 2 : 203، مرآة الأصول 2 : 319 ـ 320، إرشاد الفحول 2 : 302.
  5. شرح الكوكب المنير : 398.
  6. انظر : مرآة الأصول 2 : 219.
  7. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 564.
  8. إرشاد الفحول 2 : 302.
  9. عناية الأصول 6 : 186.
  10. الأصول العامة للفقه المقارن : 564 ـ 565.
  11. فواتح الرحموت 2 : 365، إرشاد الفحول 2 : 302.
  12. انظر : المستصفى 2 : 203، الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 398، مبادئ الوصول : 243، ذكرى الشيعة 1 : 43، الوافية : 244.
  13. انظر : أدب الفتوى : 41 ـ 54، المجموع شرح المهذّب 1 : 42 ـ 43، الردّ على من أخلد إلى الأرض : 38 ـ 40.
  14. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 572 ـ 573.
  15. انظر : المجموع شرح المهذّب 1 : 43، المسوّدة : 288.
  16. انظر : المصدر السابق.
  17. انظر : المصدر نفسه.
  18. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 574.
  19. انظر : المدخل إلى أصول الفقه الدواليبي : 407.
  20. الأصول العامة للفقه المقارن : 551، وانظر : أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2 : 1041 ـ 1042.