تعارض فعل النبي مع قوله
تعارض فعل النبي مع قوله: إذا اعتقدنا أنّ النبي(ص) بأفعاله وأقواله وجميع حرکاته وسکناته يکون لنا أسوةٌ فکيف يتصور أنّ بعض أفعاله يتعارض مع بعض أقواله؟ الإجابة عن هذا السؤال هو المحور الأساسي في هذا المقال.
العلاقة بين الفعل والقول
الفعل في حالة عدم تعارضه مع القول إمَّا أن يكون شاهدا أو مصداقا أو مخصِّصا أو مقيِّدا للقول، وبتعبير آخر: هو عاضد للقول ومثبت لاحتمال ورافع لاحتمالات اُخرى يمكن أن يفسَّر بها القول[١].
التعارض بين الفعل والقول
التعارض بين الفعل والقول ليس من قبيل التعارض بين الفعلين، اللذين يستحيل إتيانهما في وقت واحد فلا إشكال في إمكانية وقوع التعارض بين قول الرسول وفعله مع اختلاف في زمان كلٍّ منهما[٢]، فإذا كان مستقرَّا ولايوجد ما يدلُّ على ترجيح أحدهما أو الجمع بينهما ففيه أقوال، يأتي ذكرها وأمَّا في حال عدم الاستقرار، فالتعارض حينئذٍ ليس تعارضا في واقع أمره، بل يدخل في باب التخصيص أو النسخ أو ما شابه.
مثَّلوا للتعارض بقوله(ص) بعد نزول آية الحجّ: «من قرن الحجّ إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا»[٣] وروي عنه أنَّه قرن فطاف لهما طوافين وسعى سعيين[٤].
قسَّم الشوكاني حالات التعارض بين القول والفعل إلى ثلاث حالات:
1 ـ أن يُعلم تقدُّم القول على الفعل.
2 ـ أن يُعلم تقدُّم الفعل على القول.
3 ـ أن يجهل التاريخ[٥].
في الحالة الأخيرة (الجهل بالتاريخ) لا نقاش فيما إذا قام الدليل أو القرينة على ترجيح أحدهما على الآخر، والكلام فيما إذا لم يكن هناك دليل التقديم، وفي هذا المجال فصَّل مثل الآمدي كثيرا، لأجل تثبيت قرائن على ترجيح أحدهما وعلاج التعارض[٦]، ومثل الزركشي قسَّم الحالات والفروض المتصوّرة إلى ستّين قسما[٧]، والشوكاني قسَّمها إلى ثمانية وأربعين قسما، لكنَّه اكتفى بدراسة أربعة عشر قسما يراها كثيرة التحقُّق[٨].
وفيما يلي بعض العلاجات الواردة في حلّ التعارض العملي:
إنَّ القول إذا تقدَّم ومضى الوقت الذي يجب الفعل فيه وفعل(ص) ما يعارضه كان الفعل ناسخا للقول دون شكّ، ومثاله: عدم قتل الشارب للخمر في المرَّة الرابعة، بعد قوله: «فإن شربها في الرابعة فاقتلوه»[٩].
وإن فعل ما يعارض دلالة القول قبل مجيء الوقت الذي تُعبِّدنا بالفعل فيه فلايجوز أن يكون نسخا؛ لأنَّ النسخ قبل الوقت لايصحّ.
وإن تقدَّم الفعل ووجد القول الذي يقتضي رفع مقتضاه عُدَّ القول ناسخا بلا شبهة؛ لأنَّه متأخّر عن حكم استقرار الفرض[١٠].
وفي حال جهل تاريخهما ولم يكن هناك ما يثبت تقدُّم أحدهما على الآخر، ففيه آراء:
الرأي الأول: الأخذ بالقول أولى؛ للاعتبارات التالية:
1 ـ احتمال اختصاص الفعل وعدم تعديه إلى غير الرسول إلاَّ بدليل، بينما القول يتعدَّاه[١١].
2 ـ القول يدلُّ بنفسه بينما يفتقر الفعل لأجل الدلالة إلى القول، فكان أولى[١٢].
3 ـ القول قابل للتأكيد، والفعل ليس كذلك[١٣].
4 ـ العمل بالقول هنا ممَّا يُفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حقِّ النبي دون الاُمَّة، والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكليَّة، فكان الجمع بينهما ـ ولو من وجه ـ أولى[١٤].
وهذا القول للشيخ الطوسي[١٥]، وأبي إسحاق الشيرازي[١٦]، والرازي[١٧]، والآمدي[١٨]، وغيرهم[١٩]، ونسبه الزركشي إلى الجمهور[٢٠].
الرأي الثاني: التوقُّف إلاَّ أن يكون هناك دليل
يدلُّ على الأخذ بأحدهما، وهو ما يبدو من السيّد المرتضى[٢١]، كما اختاره ابن السمعاني[٢٢]، وذهب إليه المحقّق الحلّي[٢٣]، وحكاه ابن القشيري عن القاضي أبي بكر، وأيَّده.
استدلَّ عليه بتساوي دلالتهما في وجوب العمل[٢٤].
واختار ابن الحاجب التفصيل بالتوقُّف، بأن يُؤخذ بالقول دون الفعل بالنسبة إلى الاُمَّة، مستدلاَّ عليه بأنَّ الاُمَّة متعبِّدة بالعمل وتأخذ بالقول لظهوره، ولا ضرورة للحكم بأحدهما بالنسبة إلى الرسول[٢٥]؛ لأنَّه أعرف بوظائفه، ولا فائدة عملية تترتَّب على تحديد الأمر في هذا المجال، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين[٢٦].
الرأي الثالث: الفعل أولى
وهو لم يُنسب إلى أصولي محدَّد لكن نسبه أبو إسحاق الشيرازي إلى بعض الأصحاب[٢٧].
استدلَّ عليه بالاُمور التالية:
الأوّل: أنَّ الرسول لمَّا سُئل عن مواقيت الصلاة لم يبيّنها قولاً بل قال للسائل: «اجعل صلاتك معنا» كما بيَّن المناسك والصلاة بالفعل، ممَّا يدلُّ على كون الفعل آكد[٢٨].
ويُردُّ بأنَّ غاية ما يدلُّ عليه هذا هو جواز البيان بالفعل لاتقديمه، فهما متساويان من هذه الناحية[٢٩].
الثاني: كون مشاهدة الفعل آكد في البيان من القول، فهناك الكثير من الهيئات الفعلية لايمكن بيانها بالقول ممَّا يدلُّ على كون الفعل أبلغ في البيان.
ويُردُّ بأنَّه لايوجد فعل لايمكن التعبير عنه ووصفه بالقول[٣٠].
الهوامش
- ↑ الموافقات 3: 315.
- ↑ معارج الأصول: 121.
- ↑ سنن الترمذي 3: 274 كتاب الحجّ باب 102 ح947، سنن النسائي 5: 226 كتاب مناسك الحجّ باب طواف القارن.
- ↑ سنن الدارقطني 2: 258 كتاب الحجّ باب المواقيت ح99 و130 و263، كنز العمال 5: 160 كتاب الحجّ باب القران ح12461.
- ↑ إرشاد الفحول 1: 177.
- ↑ الإحكام 1 ـ 2: 163 ـ 167.
- ↑ البحر المحيط 4: 196.
- ↑ إرشاد الفحول 1: 178 ـ 182.
- ↑ هذا ما ورد عن السيّد المرتضى في الذريعة 2: 594، لكنَّ الوارد عن طرق الشيعة التقييد بالثالثة أو دون تقييد، بل مجرّد المعاودة، أنظر: الكافي 7: 218 كتاب الحدود، باب أنّ شارب الخمر يقتل في الثالثة، أحاديث الباب.
- ↑ الذريعة 2: 594.
- ↑ العدَّة في أصول الفقه الطوسي 2: 589.
- ↑ المعتمد 1: 360.
- ↑ الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 165.
- ↑ المصدر السابق.
- ↑ العدّة في أصول الفقه 2: 589.
- ↑ اللمع: 146.
- ↑ المحصول 1: 517.
- ↑ الإحكام 1 ـ 2: 165.
- ↑ انظر: أفعال الرسول 2: 203.
- ↑ البحر المحيط 4: 198.
- ↑ الذريعة 2: 595.
- ↑ قواطع الأدلّة 2: 195.
- ↑ معارج الأُصول: 121.
- ↑ المصدر السابق ، الإبهاج في شرح المنهاج 2 : 274 ، نهاية السول 3 : 46 .
- ↑ الإبهاج في شرح المنهاج 2: 274، نهاية السول 3: 46.
- ↑ أفعال الرسول 2: 204.
- ↑ التبصرة: 249، اللمع: 146.
- ↑ التبصرة: 250.
- ↑ الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 166.
- ↑ التبصرة: 250.