الوحدة الحقيقية
الوحدة الحقيقية: هناك دواعٍ لما حصل بين المسلمين من خلاف، فما أجمل أن يقف الإنسان عليها بكل حياد وتعقل، مدركين مستشعرين أن المهم هو ظهور النهج الإسلامي الحنيف، وليس غلبة هذا الاتجاه أو ذاك، وأن الوحدة والإتفاق على الحق الصريح هو الذي سيضمن اجتماع المسلمين وائتلافهم. وأمّا تعصّب كلّ مسلمٍ إلى فرقته، والذي هو عادة ورثها عن آبائه ونشأ عليها وتشرّبت بها عروقه فلا يزيد المسلمين إلاّ باعداً عن بعضهم، وابتعاداً عن المحجة البيضاء، والشريعة المحمدية السمحة.
الوقوف أمام المفاهيم الدينية والحقائق التاريخية
يستطيع المسلمون أن يقفوا أمام حقائق الدين والتاريخ وقفة حياد تام كما يقفون أمام الظواهر الكونية والنظريات العلمية في الفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض. لماذا يقف المسلم أمام العلوم التجريبية بحيادٍ تامّ، فيما لا يعرف شيئاً من ذلك الحياد تجاه المفاهيم الدينية والحقائق التاريخية؟
لم يكن السّر في ذلك هو اختلاف طبيعة الحقائق الدينية والتاريخية عن طبيعة الحقائق التجريبية، إنّما السر في أن الإنسان المسلم قد تبنّی مواقف مسبقة تجاة القضايا الدينية والتاريخية، وهذه المواقف المسبقة هي التي تتحكم في طريقة تلقيه للقضايا والحقائق، بينما لم يكن نفس الموقف تجاه القضايا التجريبية.
ومن مزايا هذه المواقف المسبقة أنه أضاف صفة القداسة على كثير من المفاهيم والأشخاص، وهذه القداسة تسبّب سدّاً منيعاً دون تقبّل أيّة حقيقةٍ تهدم تلك المواقف المسبقة وتنال من هذه القداسة! هذا مع أن المنهج الذي رسمه الإسلام للحوار والبحث العلمي قد ألغی أيَّ نوعٍ من القداسة للمفاهيم وللأشخاص، وفتح أبواب البحث العلمي حتّى حيال اقدس المبادئ والمفاهيم، إلاّ وهو مبدأ التوحيد. فحين رد القرآن الكريم على الّذين جحدوا مبدأ التوحيد لم يصدمهم أولاً بالقداسة، ولم يهول عليهم التشكيك حتّى أتى بالحجة والبرهان القاطع.
قال تعالی: ﴿...وما كان معه من إله إذاً لذهب كلّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض...﴾ [١] فبعد أن قدّم البرهان العلمي الثابت حقّ له أن يبدي ما لهذا الأمر من قداسة، فقال: ﴿... سبحان الله عما يصفون.عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون﴾[٢]
ومثل هذا الأسلوب جاء أيضاً في قوله تعالى: ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما إلهة إلاّ الله لفسدتا...﴾ وبعد هذا البرهان القاطع قال: ﴿فسبحان الله رب العرش عما يصفون﴾[٣]
أما النقاش في مبدأ المعاد واليوم الآخر فقد بسط القرآن الكريم فيه القول وفصل وأجاب على الشبهات بأنواع شتى من البراهين، وكذلك الحال مع مبدأ النبوة والكلام في صدق الأنبياء ورسالاتهم، ففي كلّ هذه المبادئ التي تمثل أصول الدين، ولا دين إلاّ بها، لم يصدم القرآن المعاندين بالتهويل والتكفير حتّى ساق الحجج ودافع عن هذه المبادئ والمفاهيم بالبراهين العقلية القاطعة ليوقفهم على حقيقة واضحة وضوح البديهيات التي لا يتنكر لها إلاّ معاند يعشق اللجاجة والجحود.
وكل شيء من العقائد الإسلاميّة هو دون هذه العقائد الثلاث بلا شك، وبلا أدنى خلاف.
إذن لنا كلّ الحق في مناقشة ما هو دون ذلك، ومعنا في حقنا هذا: القرآن و السنة.
نحن نعتقد بعصمة القرآن وعصمة السنة وبأن للتاريخ مساراً ما.
ولكننا نعود فنفرض آراءنا المذهبية على القرآن، فتظهر له معان شتى ووجوه مختلفة وأهداف متناقضة !. ونفرض آراءنا المذهبية على السنة، فتظهر وكأنها سنن شتى، لا سنة واحدة، ونفرض أهواءنا على التاريخ فنصدق منه ما وافقها، ونكذب بما خالفها!
إنّ هذا يعنى أننا في الحقيقة إنّما اعتقدنا بعصمة أهوائنا وآرائنا المذهبية، فجعلناها حاكمةً على كلّ شيء، لا على حقائق الأحداث فقط، بل على القرآن والسنة أيضاً !
وهذا هو السر في نمو النزاع واستفحاله وتفشيه.
هناك مصدر آخر اتخذنا منه أحياناً مصدراً من مصادر العقيدة، ومنحناه العصمة لا ليكون موازياً للقرآن والسنة، بل ليكون حاكماً عليهما.
لقد عمدنا إلى مرحلة من مراحل تاريخنا بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فأضفينا عليها القداسة التامة ومنحناها سمة العصمة، فعمدنا إلى كلّ ما لا ينسجم مع شيء من تفاصيلها من القرآن والسنة نأوله لنصرفه عن ظاهره لكي لا يصطدم مع هذا الأمر الواقع أو ذلك. نعم لو تحقق الإجماع فعلاً على مسألة ما، لكان حجة علينا، ولكن لا يصح أن ينظر إلى الأمر النافذ بالفعل على انه إجماع دائماً!
جذور النزاعات
لقد ابتدأ النزاع في هذه الأمة سياسياً، ثم كان من شأن السياسة أن تقود هذا النزاع إلى ميادين الفكر والاجتماع الأخرى، حتّى توالت على الأمة عهود تتابع فيها حاكمون يتبنون اتجاهاً واحداً يتعصبون له ويوفرون له الحماية وأسباب الانتشار ويواجهون بالعنف كلّ اتجاه آخر.
ثم وجدوا لهم في كلّ عصر رجالاً ممن عرفوا بالفقه فقاموا بالتقرب إليهم واجتهدوا في توطيد سلطانهم بها فتعاظم الشرخ بين فصائل الأمة، وترسخت الحواجز بعد أن أصبحت حواجز دينية بين فئة تعيش في ظل السلطان ثم تمنحه الشرعية في سياساته ومقاصده، وفئات أخرى يطارد رجالها ويؤذى كبراؤها وربما يقتلون ويحجر على أفكارهم وكتبهم.
يقول الإمام الغزالي: «إنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم. وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الإعصار عز العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فاشربوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله»[٤]
والحق أن هذا لم يكن وقفاً لجماعة واحدة دون سواها، فصحيح انه استغرق الحقب الأطول والأوسع والأشمل لصالح مذاهب الجمهور على أيدي الأمويين واغلب الخلفاء العباسيين ثم السلاجقة والأيوبيين، إلاّ أن الطوائف الأخرى كان لها دورها أيضاً، فكان لـ المعتزلة دور أيام المأمون والمعتصم، ولـ الشيعة دور أيام البويهيين، ولـ الإسماعيلية دور أيام الفاطميين، وأنه وإن اختلفت تلك الأدوار في المساحات الزمانية والمكانية ودرجة التطرف وحجم الأضرار، فإن الموضوع واحد في آثاره الاجتماعية الأدبية والدينية.
تلك الأجواء كانت السبب المباشر في ظهور الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد والدخيلة، التي تسلحت كلّ فرقة بطائفة منها ورمت خصومها بطائفة أخرى.
فهل ذهبت تلك النزاعات ودرست مع الزمن واختفت آثارها؟
إنّ الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن أحد أن تراثنا الموجود بين أيدينا إنّما جمع وصنف في تلك الأحقاب، لا غير. كلّ تراثنا الّذين نقرأه في الحديث، في التفسير، في الفقه، في الأصول، في العقائد، في التاريخ، لكنه تراث تلك العهود عهود النزاع السياسي والمذهبي.
إذن لا مناص من أن يأتي تراثنا محملاً بتلك الآثار الخطيرة. وهذه هي الحقيقة التي طغت على تراثنا الإسلامي؛ هذه الحقيقة هي أول ما ينبغي أن نقف عندها، لا لأجل التقريب بين المذاهب فقط، بل على طريق المطالعة الحرة أيضاً، أو على طريق الدرس والتلقي، أو التحقيق أو التصحيح.
ثم ليس من حقنا أن ننتظر أية فائدة ترجى من وراء هذه الوقفة ما لم يصاحبها شرطان متلازمان على طول الطريق وحتى النهاية، وهما:
1 ـ الجد في التأمل والنظر والمتابعة.
2 ـ الحياد التام في التعامل مع المفاهيم والأحداث إيماناً منا بأن التقريب لا يتحقق إلاّ عن طريق التصحيح. فالتقريب ثمرة شجرتها التصحيح.
وسوف ننتخب لهذا البحث ثلاث موضوعات، نتناول المصادر الأساسية لكل منها، ونسلط الضوء على جذور النزاع فيها. وسوف نرى في النهاية أن أسباب الخلافات والتباعد بين المسلمين، ومادة تلك الخلافات هي تلك المجموعة من الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد الدخيلة التي أفرزتها أيام الصراع السياسي ثم أخذت تنمو وتنتشر حتّى دخلت في صلب عقائد المسلمين.
وهذه الموضوعات الثلاثة التي انتخبناها هنا هي: التاريخ، والحديث، والتفسير.
وجهة النظر التي تبتني عليها الوحدة
قبل الدخول في التفصيل نوجز وجهة النظر التي نتبناها في هذا الموضوع، فنقول:
1 ـ إنّ التقريب ثمرة طبيعية للتصحيح، فكما لا يمكننا أن ننتظر ثمرة تنتج بلا شجرة، لا يمكننا كذلك أن ننتظر للتقريب وجوداً ومعنى دون أن نقطع أشواطاً مهمة على طريق التصحيح.
وكما أن جودة الثمرة ورونقها يتوقف على مقدار العناية بالشجرة وتوفير أسباب نموها وحفظها من الآفات، فكذلك هو المستوى المرجو من التقريب، فإنه يتوقف على المقدار المنجز من التصحيح ودرجة نقائه.
2 ـ إنّ التصحيح ثورة حقيقية، ولا يجرؤ على تقحم نيران الثورة إلاّ الثوريون فالثوريون هم الّذين امتلؤوا استعداداً لتقديم الغالي والنفيس على طريق الثورة ولا يشغلهم عن أهدافهم ما سيفقدونه من راحة ونعيم وأموال وبنين وأهل.
وكذلك من أدرك أن التصحيح ثورة، ومضى على طريقه، فلن يوقف مسيرته ما يراه من تساقط الكثير من المعلومات والمفاهيم التي كان قد ورثها وقرأها وترسخت في ذهنه وأصبحت جزءاً من عواطفه، وربما أصبحت جزءاً من وجوده الاجتماعي أيضاً، لا يهمه أن يرى ذلك كله يتساقط على طريق التحقيق العلمي الدقيق.
إنّ التصحيح بهذا المعنى سيمر من خلال ثورتين:
ثورة على التراث، تثير كوامنه وتكشف حقائقه.
تسبقها ثورة على أوامر عوجاء أو معكوسة شدتنا إلى هذا التراث شداً مغلوطاً حال حتّى دون الإذن بمناقشته.
وهذا لا يعني أننا نستنكر أي نوع من الارتباط العاطفي بالتراث، كلا، فإن الارتباط العاطفي الصحيح المشذب ضروري جداً في ثبات العقيدة.
بعد هذا الإيجاز ننتقل إلى شيء من التفصيل في الميادين الثلاثة التي انتخبناها من بين ميادين التراث الواسعة، بغية فتح أبواب الحوار على طريق التصحيح الذي سوف يكون التقريب ثمرة طبيعية من ثماره.
والآن كما قلنا ننتخب لهذا البحث ثلاث موضوعات، وهذه الموضوعات الثلاثة التي انتخبناها هي: التاريخ، والحديث، والتفسير.
1. التاريخ
حين يُعنى بتدوين تاريخ أمة وقد ظهرت فيها الاختلافات، وتوزعت أبناءها المذاهب، وتغلبت الأهواء التي تفرض هيمنتها في صياغة أفكار الناس ورؤيتهم للأحداث، عندئذ أين سيقف التاريخ؟
هل سيكون بعيداً عن معترك الميول والأهواء، منفصلاً عن قيود الزمان والمكان ليسجل الأخبار والأحداث كما هي تماماً، وبكامل أسبابها ومقدماتها وتفاصيلها وما خلفته من آثار، يسجلها كما هي قبل أن تنفعل معها الميول والأهواء؟
لا شك أن هذا هو الأمل المنشود، وهو الذي تقتضيه الأمانة للتاريخ وللحقيقة ولكن لا شك أيضاً أن التاريخ لم يكتب في الفضاء، ولا كان المؤرخ يستقل بساطاً سحرياً يقله فوق آفاق زمانه ومكانه.
إنه يكتب من على الأرض، وفي زمان ما ومكان ما.
وإنه يكتب ما يسمع وما يرى.
وإنّما يحدثه رجال لهم حيال الأحداث مواقف وميول، فهو لم يسمع في الحقيقة حدثاً مجرداً، وإنّما سمع الحدث ممزوجاً بانفعالات الناقلين، والمورخ نفسه هو واحد من أولئك البشر، يعيش في عصرهم... كما وان لكل عصر لونه ونغماته.
وحين يكون عصر من العصور قاسياً في مواجهة ما لا يتفق ونغماته، فإنما جاءت قسوته من أناسه؛ فالمورخ يكتب حين يكتب وهو يرى عيون الناس وكأنها ترصد أفكاره، وتحصي عليه حتّى مالم يرد بحسبانه !
ففي أحوال كهذه هل يبعد أن يكون المورخ منساقاً من حيث يدري أو لا يدري لواحدة أو أكثر من تلك المؤثرات الواقعية؟
عندئذ سوف يقتطع من الحقيقة التاريخية أجزاء مساوية لمقدار ذلك الانسياق.
ولعل هذا هو أضعف الأخطار الثلاثة التي قد تتعرض لها الحقيقة التاريخية...
أما الخطر الثاني: فيتمثل بالانسياق التام مع نغمات العصر وأهواء أهله.
وأما الخطر الثالث: فيتمثل في كون المؤرخ نفسه من أصحاب الأهواء الّذين لا يقبلون إلاّ ما وافق أهواء هم، ولا ينظرون إلى الأحداث إلاّ بمنظار الهوى.
بعد هذا، فإن التاريخ الذي سيكتبه هذا المؤرخ أو ذاك سوف يصبح مصدراً لثقافة الأجيال، تستقي منه رؤيتها للتاريخ التي ستساهم مساهمة فعالة في صياغة عقائدها.
فحين يجتمع الناس على واحد من هذه المصادر التي استجابت لبعض تلك
المؤثرات على حساب الحقيقة التاريخية ن فمن البديهي أن تحمل أذهانهم برؤى مغيرة للحقيقة.
ومن هنا تتسرب العقائد الدخيلة إلى الأذهان، فيعتقد الناس بأشياء ومفاهيم ليست هي من الإسلام ومفاهيمه الحقة، وهم يظنون أنها الحق.
وسوف لا يكون العوام وحدهم ضحية هذه الخطيئة، بل العلماء أيضاً حين يوقفون علومهم اعتماداً على هذه المصادر دون محاكمة وتمحيص.
كيف اجتازت عيون التاريخ الإسلامي تلك الأجواء والمؤثرات لتحفظ لنا حقائقه؟
لا شك أن الوقوف على المشاهد الحية لإثبات حقيقةٍ ما هو أهم بكثير من البحوث النظرية والبراهين الفلسفية. وهذا ما سنبينه هنا.