عوامل وحدة العمل الإسلامي
أسباب الدعوة التي تطلق من هنا وهناك بغية الوصول إلى نظام تشريعي أو قانوني إسلامي موحّد. ومن تلك الأسباب :
1 - الوحدة الأُممية.
لقد حقّق المسلمون عزّةً لا تطال وهيمنةً وتفوّقاً عظيماً بالغ الشأن حينما أدركوا أنّهم أُمّة واحدة، وإخوة في العقيدة الواحدة وصفّ واحد متضامن أمام الأعداء، متكافلون فيما بينهم في السرّاء والضراء، متعاونون على البرّ والتقوى.
إنّ وحدتهم في الداخل والخارج جعلتهم خير الأُمم، وبوّأتهم ليكونوا كذلك عملاً بقول اللّه تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...) (سورة آل عمران : 110)، وذلك لأنّهم أيضاً الأُمّة الوسط الخيار العدول بين الأُمم.
ومنشأ هذه الوحدة هي أُخوّة الإيمان والعقيدة التي هي أقوى وأخلد وأدوم من أُخوّة النسب، ثمّ تآزر الإخوة وتعاونهم.
2 - وحدة العقيدة.
المسلمون أُمّة ذات عقيدة واحدة، وإيمانهم واحد معروف، فهم يؤمنون باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشرّه. والإيمان بالكتب كلّها وبخاتمتها القرآن الكريم يستدعي الالتزام بمضمون القرآن، ويوجب تطبيق شرعه وأحكامه وحرامه وأخلاقه وآدابه وكلّ ما جاء فيه. ووحدة هذا الكتاب الإلهي من أقوى الأسباب المؤدّية إلى وحدة المسلمين، وكونهم صفّاً واحداً فيما بينهم وفي مواجهة أعدائهم.
3 - وحدة العبادة.
العبادة تصدر عن حب وإيمان، ووحدة العبادة الإسلامية من أهمّ عوامل الوحدة في الأنظمة والمعاملات، فإذا ما اتّحد المسلمون في المسجد أو في الصوم أو في الحجّ أو في الزكاة، اتّحدوا في المجتمع والسوق والإدارة والشركة وكلّ أنماط السلوك والحياة الاجتماعية ؛ لأنّ المسلم الداعي والمخلص هو الذي لا يصدر عنه ما يناقض عقيدته أو عبادته، وتكون ممارساته لشؤون المعاملات والتصرّفات منسجمة مع مقتضيات العقيدة والعبادة، وإلّا لم يكن مسلماً في ميزان أحد صادق الاعتقاد والتعبّد والاتّجاه نحو ربّ واحد.
4 - وحدة اللغة.
إنّ عبادة المسلم لا تصحّ إلّابلغة القرآن العربية، فكلّ مسلم يعرف اللغة العربية، ويأنس بمدلولتها، ويتذوّق أساليبها. واللغة عامل قوي في توحيد الشعوب والأُمم، ويتقوّى هذا العامل ويتنامى مفعوله إذا ارتبط بالدين والاعتقاد والتشريع، فالعقيدة أساس، واللغة العربية تعبير عن مكنون العقيدة، فتتوحّد الطباع، ويتّحد الكلام، وتتّفق العواطف والمشاعر، وتكون اللغة العربية هي لغة الخطاب والكتابة، ويسهل حينئذٍ توحيد العمل،
وتدوين الأسرار، وبعث المراسلات، وعقد المعاهدات بين المسلمين وغيرهم، ويتّجه المسلمون حينئذٍ إلى توحيد جهودهم وطاقاتهم، وتحقيق وحدتهم السياسية والاجتماعية والاجتهاد في ضوء مفاهيم لغة العرب، واستنباط الأحكام المناسبة.
5 - وحدة الثقافة.
الثقافة هي : المقوّمات المتّصلة بالسلوك الإنساني. وهي تشمل من الناحية النظرية : العقيدة والنفس، والاجتماع، والأخلاق، والتربية، والآداب، والفنّ والتاريخ، وفلسفة الاقتصاد والمال. وهي من الوجهة العملية : ممارسة وسلوك، وهي غاية، والعلم وسيلة.
وبما أنّ الثقافة الإسلامية هي التي يمكن وصفها بأنّها إنسانية ؛ لشمولها وتوازنها، ومجيئها موافقة للفطرة أو الطبيعة الذاتية، وتجاوزها كلّ عيوب العنصرية القومية الضيّقة والتعصّب الديني، فهي من أقوى دواعي توحيد الفكر والسلوك، وصهر الأُمّة في ممارسة واحدة، والسعي لغايات واحدة، والعيش في ظلّ تشريع واحد.
إنّ وحدة الثقافة تدفع المثقّفين بها إلى الانضمام تحت لواء راية واحدة، هي راية التشريع الذي يحدّد معالم الثقافة الإسلامية الفردية في منزعها وغايتها، وغير المسلمين الذين يتعايشون مع المسلمين في ظلّ دولة واحدة يلتقون مع المسلمين في أُصول الإيمان باللّه واليوم الآخر والكتاب الإلهي، وينضمّون إليهم في دائرة الانتماء التاريخي والثقافي، فتتوحّد الأُمّة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتشريعياً.
6 - وحدة المصالح والتاريخ والمصير.
إنّ المسلمين مع من يعيش في بلادهم لهم مصالح متّحدة وآمال وآلام واحدة، ومصير مشترك، وتاريخ واحد، وهذا يوجب تكوينهم وحدة دولية وقانونية، وما الدولة والقانون إلّا للأكثرية، ولكن في إطار الحقّ والعدل والمساواة التي نظّمها وفرضها القرآن الكريم. وإذا اتّحدت الأُمّة عزّ جانبها، وهابها أعداؤها، وتقدّمت في مختلف وسائل الحياة، ولا سيّما في مجال إيجاد نهضة صناعية قوية.
7 - وحدة المصدر التشريعي.
تتعدّد القوانين الوضعية وتتغاير أحكامها بتعدّد وتغاير عقول واضعيها، وبمقدار تأثّرهم بفلسفة معيّنة ونظرية محدّدة. أمّا التشريع الإسلامي فمصدره واحد، وهو اللّه تعالى بما أنزل من أوامر ونواهٍ، والاجتهاد كاشف مظهر لحكم اللّه تعالى، لا منشِئ ولا مبدع للأحكام الشرعية.
ووحدة المصدر التشريعي الإسلامي تجعل التشريع واحداً بالنسبة لجميع المسلمين في العالم، وغير المسلمين الذي يقيمون في دار الإسلام ملزمون بأحكام هذا التشريع، وذلك بحكم سيادة الشريعة في دار الإسلام، وبمقتضى المعاهدة التي تمّت بين المسلمين وغيرهم للإقامة في دار الإسلام على الدوام، ومن بنود هذه المعاهدة الالتزام بأحكام الشريعة.
وإذا تعدّدت الاجتهادات الفرعية التي مجالها في الفروع لا في الأُصول، فإنّ القانون الموحّد الذي يختار بعض الاجتهادات يؤدّي إلى وحدة تشريعية أيضاً ؛ لأنّ الاختيار لرأي ما نابع من مراعاة المصلحة العامّة والتجاوب مع مقتضيات العصر والزمان.
والمطلوب من رعايا الدولة الإسلامية الواحدة مهما تناءت بهم الديار أن يكون ديدنهم الإخلاص لربّ العالمين ولإمام المسلمين الذي لا يأمر إلّابالحقّ والخير والمعروف، فيسهل تقبّلهم نظام الوحدة أو الاتّحاد، من أجل الحفاظ على وجودهم واستقلالهم، والتخلّص من أيّ تبعة لدولة أُخرى شرقية أو غربية، لا تبغي من تدخّلها في شؤون المسلمين إلّااستنزاف خيراتهم، وإبعادهم عن شريعة ربّهم، وإبقاءهم أذلّة تابعين مهانين، يسيرون في فلك مصالح المستعمرين ومخطّطاتهم الرهيبة، وينطبق عليهم حينئذ المثل العربي : «إنّك لا تجني من الشوك العنب».