عناصر قوّة المجتمع الإسلامي ضدّ إسرائيل
الأسباب الداعية إلى حدوث الاختلاف بين علماء المسلمين في المسائل العلمية النظرية الفرعية، والتي منها :
1 - الاختلاف في بعض المصادر والأدلّة الاجتهادية ؛ إذ لم يتّفق رأي جميع المذاهب على اعتبار كلّ المصادر والأدلّة، بل وقع الخلاف بينهم في بعضها.. ومن ذلك الاستحسان، فإنّ أبا حنيفة يعتبر الاستحسان - والذي أسّسه عبداللّه بن عمر - من مصادر التشريع، في عين أنّ الشافعية والإمامية والظاهرية والأوزاعية والثورية لا يعتبرونه منها، وقد ألّف الشافعي كتاباً في إبطال الاستحسان ونقده ضمن عبارات لاذعة، حيث قال : «الاستحسان تلذّذ، ومن استحسن فقد شرّع»، أراد أن يكون شارعاً (أي : المجتهد).
ومن ذلك أيضاً المصالح المرسلة والسيرة العملية لأهل المدينة وسدّ الذرائع وفتح الذرائع، فإنّ مالك بن أنس قد تبنّاها كأصلٍ للتشريع، والإمامية والحنفية والليثية والثورية والأوزاعية لم يقبلوها على إطلاقها، وأحمد بن حنبل علّق قبولها في الحالات الضرورية.
ومنه أيضاً قاعدة الاستصلاح، فهي معتبرة عند أتباع المذهب الحنفي - وهم الذين أسّسوه بعنوان أصلٍ للتشريع - وغير معتبرةٍ عند غيرهم.
2 - الخلاف في شروط الأدلّة، ومن ذلك : أنّ أبا حنيفة - على ما هو المعروف - يعتبر التواتر من الشرائط في اعتبار الخبر، ولكنّ الشافعي ومالك وفقهاء الشيعة الإمامية - عدا الشريف المرتضى - وأحمد بن حنبل لا يرونه شرطاً من شروط اعتباره، بل اعتبروا في اعتباره الوثوق ولو كان من أخبار الآحاد، وحتّى أحمد بن حنبل كالأخباريّين من الشيعة لم يعتبر في اعتبار الخبر التواتر ولا الوثوق والاطمئنان.
3 - الخلاف في نوعيّة الدليل، فإنّ أئمّة المذاهب اتّفقوا على اعتبار قياس الأولويّة والمنصوص العلّة، وإنّما وقع الخلاف بينهم في نوعٍ خاصٍّ من القياس، وهو قياس التمثيل والتشبيه، وقد ذهب الحنفية والنخعية ومذهب ابن أبي ليلى إلى اعتباره من مصادر التشريع، ولكنّ فقهاء الإمامية والظاهرية والثورية والأوزاعية ذهبوا إلى عدم اعتبار مصدراً من مصادره.
4 - الخلاف في مرحلة الاستظهار والاستنباط من الأدلّة.
5 - الخلاف في كيفيّة اعتبار الدليل، كالإجماع، فإنّ أئمّة المذاهب الأربعة يعتبرونه في نفسه حجّةً، وينظرون إليه بعنوان أصلٍ مستقلٍّ، ولكنّ الشيعة الإمامية لا ينظرون إليه بعنوان أصلٍ مستقلٍّ، فلا يعتبرونه في نفسه حجّةً، بل يقولون باعتباره إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم. ومن ذلك أيضاً الاجتهاد ؛ إذ الأئمّة الأربعة يعتبرونه من طريق الرأي والتفكّر الشخصي أصلاً مستقلّاً في نفسه، ولكنّ فقهاء الشيعة يرفضون هذا، وبتعبيرٍ آخر : أنّ الأئمّة الأربعة يعتبرون الاجتهاد غايةً، والشيعة تعتبره وسيلةً لإعماله في مصادر التشريع لاستنباط الأحكام الشرعية للحوادث الواقعة والموضوعات المستحدثة.
6 - الاختلاف في التمسّك بظاهر الألفاظ الوارد في الأدلّة الاجتهادية والجمود عليها وعدم الجمود.
7 - الاختلاف في الاقتصار على العناوين الواردة في العناصر الخاصّة للاستنباط وعدم الاقتصار عليها.
8 - الاختلاف في الاقتصار على الموضوعات المأخوذة في لسان الأدلّة.
9 - الاختلاف في لزوم الملاحظة والتحقيق حول شرائط الموضوعات في طول الزمان وعدم لزوم ذلك.
10 - تعارض الأحاديث، سيّما الأحاديث التي ترتبط بشرائط الأحكام وأجزائها وموانعها التي رُويت بواسطةٍ أو بوسائط.
ولتعارض الروايات أسباب، من أهمّها :
أ - اختلاف الصحابة في ضبط أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله.
ب - اختلاف الصحابة في مراتب حفظ الحديث.
ج - عدم حضور جميع الصحابة في كثيرٍ من الأوقات التي كان فيها الرسول صلى الله عليه و آله يحدّث ويبيّن الأحكام الإلهية، وهذا يسبّب عدم استيعاب جميعهم لتمام الحديث، فالذي حضر في ابتداء كلام الرسول صلى الله عليه و آله كان يستوعب كلامه كلّه، لكنّ الذين حضروا أثناء المجلس أو أواخره لم يستوعبوا جميعه، ولذا نرى أنّ الصحابة بعد عصر الرسول صلى الله عليه و آله وبعد تفرّقهم في البلاد يروون عنه في مسألةٍ واحدةٍ أحكاماً مختلفةً، فالصحابي المدني ينقل عنه غير ما كان ينقله المصري، والصحابي الشامي يروي عنه غير ما يرويه زميلاه، وهذا الخلاف في النقل ربّما يعود إلى المدني الذي استمع من الرسول حكماً لم يسمعه المصري، أو أنّ الصحابي المصري سمع حكماً لم يسمعه الشامي، أو أنّ الشامي تلقّى عن النبي صلى الله عليه و آله حكماً لم يتلقّاه الكوفي، وهكذا.
د - عدم التفات بعض الرواة إلى القرائن الحاليّة التي كانت تصحب كلام الرسول صلى الله عليه و آله، والتفات بعض الرواة إليها.
ه - عدم التزام جميع الرواة نقل نفس الكلمات والجمل التي نطق بها النبي صلى الله عليه و آله.
و - محو بعض القرائن المقاليّة التي كانت تقترن بالحديث.
ز - نقل الروايات بالمعنى من ناحية الرواة.
ح - تقطيع الحديث على يد الراوي بحيث نقل صدر الحديث دون ذيله أو بالعكس.
ط - صدور الحكم متدرّجاً أحياناً في بعض الروايات.
ي - ورود بعض الأحكام أوّلاً بصورةٍ مجملةٍ، ثمّ وروده بصورةٍ تفصيليةٍ.
ك - عدم الوضوح في الناسخ والمنسوخ.
ل - وضع وجعل الروايات على أساس النزعات الاجتماعية والسياسية على مستوىً واسعٍ، وقد صرّح العلماء في دراية الحديث وعلم الرجال بأنّه وضع أكثر من 50000 حديث، وكانت الأحاديث الموضوعة سبباً لنقد الحديث وجعله في ميزان النقد على معايير خاصّةٍ ليميّزوا الأصيل من الموضوع، وفي أثر ذلك دوّن علم الرجال وعلم الحديث.
ولا يخفى أنّ الأسباب التّي تقدّم ذكرها وإن أوجبت الخلاف بينهم في المسائل الفرعية النظرية، ولكن مع ذلك في أكثرها مجال للتقريب. وأمّا في بعضها وإن لم يكن التقريب ولكن لا يختصّ هذا الخلاف بمذهبٍ دون مذهبٍ، بل يعمّ جميع المذاهب، وهذا دليل على عدم كون منشأ الخلاف هو المذهب، بل المنشأ فيه هو كونها نظريةً، والاختلاف في المسائل النظرية أمر طبيعي، فليس منشأ الخلاف فيها الهوى والتعصّب، بل يكون منشؤه أُصول الشريعة ومصادرها التي يجب على الفقهاء والمجتهدين الاعتماد عليها في مقام استنباط الأحكام للحوادث الواقعة والموضوعات المستحدثة ؛ إذ الفقهاء وإن اعتقدوا بأنّ كتاب اللّه هو المصدر الأوّل وسنّة رسول اللّه هي المصدر الثاني للاستنباط، ولكن من جهة اختلافهم في أفهامهم، وفي قواعدهم النظرية، واختلاف أهل اللغة في بعض الكلمات الواردة في هذين المصدرين، واختلاف القرّاء في قراءة بعض الكلمات في المصدر الأوّل، واختلاف الرواة في نقل الروايات وتعارضها، وفي اعتبار روايةٍ عند فقيه وعدم اعتبارها عند الآخر، وفي وثوق مجتهدٍ على راوٍ وعدم الوثوق به عند مجتهدٍ آخر في المصدر الثاني، صار كلّ ذلك موجباً للاختلاف بين الفقهاء في المسائل النظرية، وهذا الاختلاف في نفسه ليس خطراً على الأُمّة ؛ لأنّ هدفهم فيه واحد، وهو الوصول إلى حكم اللّه ورسوله، ولأنّه يوجب توسعة الفقه من ناحية المصاديق.