جمع القرآن الكريم

جَمْعُ الْقُرآنِ الْكَرِيمِ

لا يزال المسلمون يقطفون ثمار جمع المصحف على يد عثمان فلماذا احتاج الصحابة والتابعون إلى جمع آخر للقرآن في مصحف عثمان إذا كان أبوبكر قد جمع المصاحف في عهده؟ لماذا دخل اللحن واختلفوا في القرآن وكان مصحفُ أبي بكر موجوداً لديهم؟

مراحِلُ جَمْعِ الْقُرآنِ الْكَرِيمِ

موجزاً ناکّد علي انّ هناك فرق بين جمع القران في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وبين جمعه في عهد أبي بكر وبين جمعه في عهد عثمان ولذا احتاج عثمان إلى جمعه مرة أخرى؛ فالجمع في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) كان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورها ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين عسبٍ وعظامٍ وحجارةٍ ورقاعٍ ونحو ذلك حسبما تَتَيَسَّرُ أدوات الكتابة، وكان الغرض من هذا الجمع زيادة التوثق للقرآن وإن كان التعويل أيامئذ كان على الحفظ والاستظهار. فإنّ كلمة جمع القرآن تطلق تارة ويراد منها حفظه واستظهاره في الصدور، وتطلق تارة أخرى ويراد منها كتابته كلّه حروفاً وكلماتٍ وآياتٍ وسوراً، هذا جمع في الصحائف والسُّطور وذاك جمع في القلوب والصدور، ثمّ إنّ جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات، الأولى في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، والثانية في خلافة أبي بكر، والثالثة على عهد عثمان، وفي المرة الأخيرة وحدها نسخت المصاحف وأرسلت إلى الآفاق.

اَلْجَمْعُ الاوَّلُ

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جامع القرآن في قلبه الشريف وسيد الحفاظ في عصره، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن، وكان يقرؤه على الناس على مكث، وكان يحيي به الليل ويتلوه في الصلوات، وكان جبريل يدارسه إياه يعارضه في رمضان وعارضه إياه في العام الأخير (الذي توفي فيه) مرتين. وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان كتاب الله في المحل الأول من عنايتهم، يتنافسون في استظهاره وحفظه. ومن هنا كان حفّاظ القرآن في حياة الرسول جما غفيراً. وأمّا جمعه كتابة فإنّ همة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأصحابه كانت منصرفة أوّل الأمر إلى جمع القرآن في القلوب بحفظه واستظهاره لضرورة أنّه نبيٌّ أمِّيٌّ بعثه الله في الأميين، أضف إلى ذلك أن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم في ذلك العهد، ومن هنا كان التعويل على الحفظ في الصدور يفوق التعويل على الحفظ بين السطور، على عادة العرب أيامئذ من جعل صفحات صدورهم وقلوبهم دواوين لأشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم وأيامهم. ولكن القرآن حظيٌّ بأوفى نصيبٍ من عناية النبي وأصحابه فلم تصرفهم عنايتهم بحفظه واستظهاره عن عنايتهم بكتابته ونقشه، ولكن بمقدار ما سمحت به وسائل الكتابة وأدواتها في عصرهم، فقد اتخذ (صلى الله عليه وآله) كتاباً للوحي كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته مبالغة في تسجيله وتقييده، وزيادة في التوثق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى حتى تُظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ، وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة.
وكان يدلهم على موضوع المكتوب من سورته، فيكتبونه على ما تيسر من قطع الأديم والقماش واللخاف؛ ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهكذا انقضى العهد النبوي السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط، مرتب الآيات حسب إرشاد النبي (صلى الله عليه وآله) وكان هذا الترتيب بأمر من الله جاء به جبريل (عليه السلام). أما الصحابة فقد كان منهم من يكتبون القرآن ولكن فيما تيسر لهم من قرطاسٍ أو كتفٍ أو عظامٍ أو نحو ذلك بالمقدار الذي يبلغ الواحد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يلتزموا توالي السور وترتيبها وذلك لأنّ أحدهم كان إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله أو كتبها ثم خرج في سرية. مثلاً فنزلت في وقت غيابه سورة فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته ثم يستدرك ما كان قد فاته في غيابه فيجمعه ويتتبعه على حسب ما يسهل له فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير بسبب ذلك، وقد كان من الصحابة من يعتمد على حفظه فلا يكتب جرياً على عادة العرب، فلم يلتزموا توالي السور وترتيبها.

اَلْجَمْعُ الثَّانِيُّ

في عهد أبي بكر، فكان سببه استشهاد كثير من قراء الصحابة وحفظتهم في حروب الردة ينتهي عددهم إلى السبعين وأنهاه بعضهم إلى خمسمائة، فاقترح عمر على أبي بكر أن يجمع القرآن خشية الضياع بموت الحفاظ وقتل القراء. فتردد أبو بكر أول الأمر خشية الوقوع في مهاوي الخروج والابتداع. وبعد المحاورة مع عمر شرح الله صدره للفكرة فقبلها ورأى أن يندب لتحقيقها رجلاً من خيرة رجالات الصحابة هو زيد بن ثابت؛ لأنه اجتمع فيه من المواهب ذات الأثر في جمع القرآن ما لم يجتمع في غيره من الرجال إذ كان من حفاظ القرآن ومن كتاب الوحي لرسول الله وشهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته، وكان فوق ذلك معروفاً بخصوبة عقله وشدة ورعه وعظم أمانته وكمال خلقه واستقامة دينه، فشرع زيد في تنفيذ هذه المهمة العظيمة بإشراف كبار الصحابة ومعاونتهم حتى أتمها على أكمل وجه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكفرون. وقد انتهج زيدٌ في القرآن طريقة دقيقة محكمة وضعها له أبو بكر وعمر فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق وتحريات شاملة فلم يكتف بما حفظ في قلبه ولا بما كتب بيده ولا بما سمع بأذنه فجعل يتتبع ويستقصي آخذاً على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين أحدهما ما كتب بين يدي رسول الله ولم تنسخ تلاوته، والثاني ما كان محفوظاً في صدور الرجال، فكانت هذه الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر، حتى طلبها منها خليفة المسلمين عثمان حيث اعتمد عليها في استنساخ مصاحف الأمصار.

اَلْجَمْعُ الثَّالِثُ

في عهد عثمان كان سببه اتساع الفتوحات وتفرق المسلمين في الأمصار. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافاً. ولهذه الأسباب والأحداث رأى عثمان بثاقب رأيه وصادق نظره أن يتدارك الخرق قبل أن يتسع. فجمع أعلام الصحابة وذوي البصر منهم واستشارهم فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها وألا يعتمدوا سواه، وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار فكون لجنة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعهد إليهم بنسخ المصاحف، وأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر فبعثت إليه بالصحف التي عندها وهي الصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر، وعهد إليهم ألا يكتبوا في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة وما أيقنوا صحته عن النبي (صلى الله عليه وآله) مما لم ينسخ. وقد كتبوا مصاحف متعددة لأن عثمان قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين وهي الأخرى متعددة وكتبوها متفاوتة في إثبات وحذف وبدل وغيرها لأنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وجعلوها خالية من النقط والشكل تحقيقاً لهذا الاحتمال أيضاً، فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل، والذي دعا الصحابة إلى انتهاج هذه الخطة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله بجميع وجوه قراءاته وبكافة حروفه التي نزل عليها فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها حتى لا يقال إنهم أسقطوا شيئاً من قراءاته أو منعوا أحداً من القراءة بأي حرف شاء على حين أنها كلها منقولة نقلاً متواتراً عن النبي (صلى الله عليه وآله). وبعد أن أتمّ عثمان نسخ المصاحف بالصورة المذكورة ردّ الصحف إلى حفصة وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يحرق. وأرسل إلى كلِّ أفقٍ بمصحفٍ ممّا نسخوا وذلك ليقطع عرق النّزاع من ناحيةٍ وليحمل المسلمين على الجادة في كتاب الله من ناحيةٍ أخرى فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر في غيرها.