التابعون

طبقات التابعين

وقد جعل بعضهم جميع التابعين طبقة واحدة كما صنع ابن حبان باعتبار الأخذ عن بعض الصحابة، ومن نظر إليهم باعتبار اللقاء - أي من حيث كثرته وقلته والأخذ عن بعضهم وعدمه - جعلهم طبقات كما فعل محمد بن سعد حيث جعلهم ثلاث طبقات، وكذا مسلم في كتاب الطبقات، وربما بلغ بهم أربع طبقات، وقال الحاكم في علوم الحديث هم خمس عشرة طبقة آخرهم من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة، والطبقة الأولى من روى عن العشرة المبشرين.

ولكلٍ من الناظرين وجهٌ وجيهٌ، وتوجيهٌ نبيه.

ويمكننا باعتبار اللقاء جعلها إحدى عشرة طبقة:

الأولى: طبقة كبار التابعين كابن المسيب وقيس بن أبي حازم والفقهاء السبعة المدنيين، وهم:

1. عروة بن الزبير.

2. سعيد بن المسيب.

3. القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

4. خارجة بن زيد وهو ابن الصحابي زيد بن ثابت.

5. عبيد الله بن عبد الله بن عتبة.

6. أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة.

7. سليمان بن يسار مولى أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.

الثانية: الطبقة الوسطى كالحسن البصري وابن سيرين.

الثالثة: طبقة من جل روايته عن كبار التابعين كالزهري وقتادة.

الرابعة: الطبقة الصغرى وهم من رأى بعض الصحابة ولم يرو عنه شيئاً كالأعمش وأبي حنيفة رأيا أنساً ولم يرويا عنه شيئاً.

الخامسة: طبقة من عاصروا بعض الصحابة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد منهم كابن جريج.

السادسة: طبقة كبار أتباع التابعين كمالك والثوري.

السابعة: الطبقة الوسطى من أتباع التابعين كابن عيينة وابن علية.

الثامنة: الطبقة الصغرى منهم كيزيد بن هارون والشافعي وأبي داود الطيالسي وعبد الرزاق الصنعاني.

التاسعة: كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين كأحمد بن حنبل.

العاشرة: الطبقة الوسطى من ذلك كمحمد بن يحيى الذهلي والبخاري.

الحادي عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع كالترمذي ومن عاصره ممن هو في درجته في اللقي.

وحاصل هذه الطبقات: أن من كان من الأولى فهم قبل المائة الهجرية ، وإن كان من الثانية إلى آخر السابعة فهم بعد المائة ، وإن كان من الثامنة حتى نهاية الطبقات فهم بعد المائتين ، وهناك طبقات الرواة من غير الصحابة والتابعين وهي كثيرة ، وتعرف من خلال المطالعة في كتب التراجم والرجال، وأنصح في هذا الباب قراءة كتب الطبقات كـ : كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ، وهو كتاب مسند مطبوع، وأكمله بتحقيق: علي بن محمد عمر، وكتاب الطبقات لخليفة بن خيّاط -شيخ البخاري، وكتاب التاريخ الكبير وكتاب التاريخ الأوسط وكتاب التاريخ الصغير وثلاثتها للبخاري، وكتاب الطبقات لمسلم، وكتاب تذكرة الحفاظ، وكتاب سير أعلام النبلاء، وكتاب تاريخ الإسلام، وكتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال وأربعتها للحافظ الذهبي.

ومن كتب الطبقات أيضاً: كتاب الوفيات لأبي نُعيم الفضل بن دكين، وكتاب تاريخ وفيات الشيوخ الذين أدركهم أبو القاسم البغوي بترتيب محمد بن المظفر البغدادي، وكتاب تاريخ مواليد العلماء ووفياتهم لابن زبر الرَبَعي، وكتاب تكملة وفيات النقلة للحافظ المنذري، وكتاب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للحافظ السخاوي، وغيرها كثير مسندة ومطولة ومختصرة، كما ينبغي لكل طالب حديث ألا تخلو مكتبته من كافة كتب خاتمة الحفاظ الإمام ابن حجر، وخصوصاً كتب التراجم والرجال ككتاب تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب ولسان الميزان وغيرها


كان للتابعين دور بارز في تدوين السنة لا يقل أهمية عن دور الصحابة رضي الله عنهم، فقد تلقى التابعون الرواية على أيدي الصحابة الأجلاء، وحملوا عنهم الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا عنهم متى تُكره كتابة الحديث، ومتى تُباح، فقد تأسوا بالصحابة رضي الله عنهم، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول تدوين وكتابة الحديث، ولذلك فقد ظهرت بعض تلك الأحاديث المدونة والصحف الجامعة للحديث الشريف التي اعتنى بكتابتها أكابر التابعين.

ومن أشهر ما كتب في القرن الأول الصحيفة الصحيحة لهمام بن مُنَبِّه الصنعاني (المتوفى سنة 131هـ)، تلك الصحيفة التي رواها عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة كما رواها ودونها، وقد طبعت عدة طبعات، منها طبعة بتحقيق الدكتور رفعت فوزي طبعة مكتبة الخانجي (1406 هـ)، ويزيد من توثيق هذه الصحيفة أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري عددًا كثيرًا من أحاديثها في صحيحه، وتضم صحيفة همام مائة وثمانية وثلاثين حديثًا، ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية؛ لأنها حجة قاطعة على أن الحديث النبوي قد دون في عصر مبكر، وتصحح القول بأن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني، وذلك أن همامًا لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة رضي الله عنه سنة 59 هـ، فمعنى ذلك أن الوثيقة دونت في منتصف القرن الأول الهجري.

وهذا سعيد بن جبير الأسدي (المتوفى سنة 95هـ) كان يكتب عن ابن عباس حتى تمتلئ صحفه، وكانت للحسن بن أبي الحسن البصري كُتُبٌ يتعاهدها، فقد قال إن لنا كُتُبًا كنا نتعاهدها. وممن كتب في هذه الفترة التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبي (المتوفي سنة 103 هـ)، فقد روي عنه أنه قال: "هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة وورثت..." ثم ساق فيه أحاديث.

ويبرز من جيل التابعين عدد آخر من العلماء الذين اهتموا بالحديث واحتفظوا بأجزاء وصحف كانوا يروونها؛ منهم محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي (المتوفى سنة 126هـ) والذي كتب بعض أحاديث الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد وصلت إلينا من آثاره أحاديث أبي الزبير عن غير جابر، جمعها أبو الشيخ عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني (المتوفى سنة 369 هـ) وقد طبع بتحقيق بدر بن عبد الله البدر طبعة مكتبة الرشد بالرياض (1417 هـ)، وأيوب بن أبي تميمة السختياني (المتوفى سنة 131هـ) وقد وصل إلينا بعض حديثه جمعه إسماعيل بن إسحاق القاضي البصري (المتوفى سنة 282 هـ) وهو مخطوط في المكتبة الظاهرية مجموع 4/2 ويقع في خمس عشرة ورقة، وغير هؤلاء كثير.

وهكذا شاعت الكتابة بين مختلف الطبقات في ذلك العصر، حتى أن الأمراء قد ظهرت عنايتهم بالكتابة، فهذا الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز (المتوفي سنة 101 هـ) يروي عنه أبو قلابة قال: "خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قِرْطَاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث، حدثني به عَوْن بن عبد الله فأعجبني، فكتبته".

ولم يعد أحد ينكر كتابة الحديث في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وعليه فقد نشطت الحركة العلمية وازداد التدوين والقراءة على العلماء، ولكن ذلك كان بشكل فردي، ومع كثرة الكتابة في ذلك العصر إلا أنه قد ظهرت أمور أقلقت العلماء واستنفرت همتهم للحفاظ على الحديث الشريف، فمن تلك الأمور المستجدة:

   1- ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية أو المذهبية، حتى إنه ظهرت أحاديث وروايات أنكرها كثير من المتخصصين في الحديث، أمثال الزهري (المتوفي سنة 124 هـ) حيث يقول: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثًا ولا أذنت في كتابته. وعلى أثر ذلك اتجه العلماء إلى وضع علم يحفظ الرواية من التحريف أو الكذب، فاهتموا بتمييز الرجال، والحكم عليهم، فكانت تلك بذور علم يسمى علم الجرح والتعديل.
   2- خشية ذهاب العلم بموت العلماء الحاملين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يضيع ميراث النبوة.

وتلك الأمور دفعت العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها، حتى إن أولياء الأمر اتجهوا إلى تدوين السنة، فحمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي لواء ذلك الاتجاه، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (المتوفي سنة 117هـ) قال: "اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني خشيت دروس العلم وذهابه"، وأمره في موطن آخر بجَمْع رواية عَمْرَة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفية سنة 98هـ) وكانت خالة أبي بكر بن حزم، وقد نشأت في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وقد شارك العلماء في تلك الخدمة مشاركة فعالة، فقام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (المتوفي سنة 124هـ) بجمع السنن بأمر من عمر بن عبد العزيز، وقد وصلت تلك الصحف التي جمعها ابن شهاب لعمر بن عبد العزيز. قال ابن شهاب: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا. ولكن لم يكتب لعمر بن عبد العزيز رؤية ثمار دعوته تلك كاملة فقد توفي قبل إتمام ذلك الأمر.