محمد عبد اللَّه محمد المحامي

مراجعة ٠٠:٣٢، ١٢ نوفمبر ٢٠٢٠ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات) (محمّد_عبد_اللَّه_محمّد_المحامي ایجاد شد)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
الاسم محمّد عبد اللَّه محمّد المحامي‏
الاسم الکامل محمّد عبد اللَّه محمّد المحامي‏
تاريخ الولادة
محل الولادة
تاريخ الوفاة 1951م/1370ق
المهنة متفکر، شاعر
الأساتید
الآثار في جرائم النشر، في بسائط علم العقاب، معالم التقريب بين المذاهب الإسلامية، وله ديوانان شعريان، هما «العارف» و «الطريق»
المذهب سنی

الدكتور محمّد عبد اللَّه محمّد المحامي: مفكّر إسلامي، وشاعر متميّز، ورئيس جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة.
كان الأوّل على دفعته عندما تخرّج في كلّية الحقوق عام 1930 م، ويعتبر كبير المحامين في مصر، وهو صاحب تاريخ ومنزلة رفيعة بين القضاة والمحامين. بدأ حياته بالنيابة العامّة، إلى أن صار مستشاراً ومحامياً عامّاً بمحكمة النقض قبل أن يترك القضاء إلى المحاماة.
وقد روى الأُستاذ عبد الرحمان السايح أنّه عندما ترك الحكومة كتب استقالة غير مسبوقة في تاريخ الاستقالات، فقد أرسل ورقة إلى المسؤول مكتوب فيها: «استقلت من وظيفتي»، ولم يزد!
يعدّ كتابه «في جرائم النشر» واحد من أعظم الكتب التي أثرت المكتبة القانونية في هذا القرن، وكتابه «في بسائط علم العقاب» وعشرات من المقالات التي نشرت له على مدار خمسين عاماً.
وبتاريخه في القضاء والمحاماة شيّد مكانته كعملاق من عمالقة جيل الأساتذة العظام.
وكتابه «معالم التقريب بين المذاهب الإسلامية» من أفضل وأعمق ما كتب في موضوعه، ينير عقول وقلوب المسلمين، ويوجّه أنظارهم إلى معالم الطريق السوي الصحيح للمستقبل.
ويعدّ من الشعراء العرب البارزين، وله ديوانان شعريان، هما «العارف» و «الطريق»، وما يزال على قيد الحياة وقد تجاوز عتبات التسعين.
يقول: «التقريب إجمالًا هو: اتّجاه جادّ داخل الإسلام مجرّد تماماً من اللون الطائفي أو الإقليمي؛ للتخلّص من العداوة المتبادلة بين أهل المذاهب الإسلامية المختلفة، وصيانة وحدة المسلمين.
ويخرج من نطاق هذا التعريف التبشير بالإسلام عند غير المسلمين، وكذا التبشير بمذهب من المذاهب الإسلامية عند أهل مذهب آخر منها، كما يخرج التقارب بين أهل الأديان المختلفة سواء أكان الإسلام من بينها أو لم يكن، كما يخرج منه ردّ الغلاة الذين ينتسبون للإسلام بالاسم مع الإخلال بركن أو أكثر من أركانه، ويخرج كذلك منه ردّ المقصّرين من المسلمين، وأخيراً يخرج منه المدارس والمذاهب الإسلامية، وكلّ اختلاف في الرأي بين المسلمين لا يصحبه عداوة تحدث انقساماً في وحدة الجماعة الإسلامية.
ذلك أنّ التقريب مرتبط ارتباطاً تامّاً بوحدة المسلمين؛ إذ هو محاولة للدفاع عن هذه الوحدة واستنقاذها.
ووحدة المسلمين تدور على محورين:
أوّلهما: التسليم بحقوق عامّة للمسلم في كلّ مكان من بلاد الإسلام بغض النظر عن مذهبه وطبقته وجنسه ولونه ولغته، وأهمّها عصمة دمه وماله وعرضه وألّا يظنّ به السوء.
وثانيهما: اعتقاد أُخوّة المسلم للمسلم تبعاً لأُخوّتهما في اللَّه.
فليس التقريب حركة تبشيرية بأيّ وجه، ولا يدخل في رسالته الدعوة للإسلام بين غير المسلمين، ولا الدعوة لنشر هذا المذهب أو ذاك بين المسلمين في أيّ مكان؛ لأنّه لا ينشد إزالة المذاهب الإسلامية، ولا إضعاف ولاء المسلمين لمذاهبهم، وإنّما ينشد إزالة العداوة المتبادلة بين أهل المذاهب؛ لأنّه لا تلازم بين وجود المذهب والولاء له وبين عداوة المنتسبين إلى المذاهب الأُخرى وبغضهم.
ولا يدخل في مهمّة التقريب التقارب بين أهل الأديان المختلفة توحيداً لمساعيها فيما تتّفق عليه مبادئها من البرّ والخير والفضيلة والاهتمام بروح الإنسان، وفي دفاعها ومقاومتها للمذاهب والحركات المادّية التي انتشرت في هذا الزمن.
ولا يشتغل التقريب بمحاولة ردّ الغلاة من الفرق والطوائف الغالية إلى الإسلام الحقّ؛ لأنّ هذه المحاولة مع وجوبها مهمّة قائمة بذاتها تحتاج لمن يتوفّرون عليها ولا يشتغلون بسواها.
كذلك ليس من اختصاص التقريب ردّ المقصّرين من المسلمين عن تقصيرهم في أداء الالتزامات التي يوجبها الإسلام على المسلم في العبادات والمعاملات؛ فهذا مع لزومه عمل ضخم يتناول كلّ جوانب حياة المسلم الحديث وظروفه وظروف العالم الذي يحيا فيه.
ثمّ لا شأن للتقريب باختلاف المسلمين في الرأي ولا بالمذاهب ومدارس الفكر عندهم مادام الاختلاف الفكري لا ينقلب إلى عداء وانشقاق وعزلة أو لا يصحبه شي‏ء من ذلك؛ لأنّ وجود المذاهب ومدارس الفكر المختلفة داخل الإسلام شي‏ء طبيعي مرغوب فيه ليس منه بدّ مادام الإسلام ديناً حيّاً لأحياء لكي يزدادوا حياة، وليس ديناً ميتاً لأموات لكي يهيّئ لهم الانسحاب من الدنيا.
والإسلام نفسه شحنة هائلة من النشاط العقلي الروحي تأبى أن يتحوّل المسلمون إلى مجرّد نسخ متطابقة تتكرّر باستمرار وبلا اختلاف من عقل واحد أيّاً كان هذا العقل، حتّى لا يهلك المسلمون من الإجداب والرتابة والركود والشعور بالقدم ومقت أنفسهم ودنياهم، فالمسلم ليس نسخة من أحد، وإنّما هو أصل فذّ يعقد عليه الإسلام آماله ويضنّ به على الدنيا بأسرها، وليس يرضى الإسلام أن تلد المسلمات إمّعات مكرّرة معتمة، وإنّما يرضيه ويعلّيه إنجاب العقول الجديدة اليقظة النشطة التي تتسلّم دينها ودنياها بشغف وحماس، وتحلّل بلّوراتها الصافية المتنوّعة الطاقات والأبعاد ضياء الإسلام إلى ما لا حدّ له من الألوان المبهجة الملهمة.
ستظلّ المذاهب ومدارس الفكر في الإسلام توجد ما بقي للمسلمين حاجة إلى التعبير عن ثرائهم العقلي والروحي، وإلى استدامة الصلة بين أُصول دينهم وبين واقع الحياة في العصر والمحيط اللذين يعيشون فيهما... ليس من مصلحة الإسلام والمسلمين كبت النشاط العقلي والروحي داخل الإسلام؛ لأنّ من أجلّ ما يقدّمه المسلم لدينه أن يفكّر فيه ويشعر به، والإسلام يندثر ويدرس إذا لم يعد يفكّر فيه ويشعر به إلّاالحمقى والجهلاء، والمسلم لا شكّ يفقد روحه إذا خاف من التفكير وتهيّب عقله ورهب كلّ تجربة روحية عميقة، وترك الضحالة والمحاكاة والرتابة والآلية تطمر أعماقه وتأكل إرادته وتحيله إلى مسلم تافه سطحي معدوم الروح والشجاعة.
ليس الإسلام دين الآليّين المملين، ولا هو إيمان العجائز وأشباه العجائز من الغائبين الذاهلين، وإنّما هو دين الأيقاظ الأفذاذ، وإيمان الشجعان القادرين الصابرين.
وبديهي أنّ الخلاف الفقهي بين المدارس والمذاهب الإسلامية ليس ممّا تشتغل أن تنظر فيه العامّة، ولا نعني هنا بالعامّة العوام، وإنّما نعني كلّ من لا يهتمّ بمعرفة فقه المذاهب، وهم معظم القارئين الكاتبين، وفي زمننا هذا معظم المثقّفين المتعلّمين.
وهؤلاء يلتقطون عادةً نتفاً ونكتاً عن المذاهب من هنا وهناك، لا يتحرّون أصلها ولا صدقها، وهم- لو وجدوا الفرصة ووجدوا من أنفسهم الاهتمام الكافي- قادرون بلا شكّ على تحصيل صورة صحيحة عن المذاهب الإسلامية.
أمّا العوام والدهماء فلا يقوون على النظر لأنفسهم في هذه الأُمور، ولا يستطيعون إلّا أن يقلّدوا ما يمكنهم تقليده. والخلاف المذهبي لا يمكن أن يصل إلى العوام والجهلاء والدهماء إلّاعن طريق الدعوة والدعاة، ولا يصل إليهم عادة إلّابعد أن يفقد كلّ ما فيه من فكر وفقه، ويتحوّل أكثره إلى دعاوى عريضة ساذجة واتّهامات صارخة منكرة تردّدها ألسنة ناعقة في رؤوس فارغة على أنّها حقائق لا تحتاج إلى بيان أو برهان! وللباطل دائماً حيوية تتناسب مع عدد معتنقيه ومصدّقيه، ومع أمد بقائه بين ظهرانيهم، ومبلغ اختلاطه بأحداث حياتهم، فإذا توالدوا انتقل من الآباء إلى الأبناء، وكساه هذا على مرّ الزمن عراقة وقداسة، فحفظته الصدور والسطور، وتبارت في تأييده وتمجيده العقول، وبذلت في نصرته المهج والأعمار!
والفكر الإسلامي، شأن كلّ فكر، مفتوح الأبواب، وقد مارسه الخيّرون في نزاهة وحسن قصد واحتياط وتحرّ للصدق ما وسعهم، كما مارسه المفسدون واستغلّه ذوو
المصالح والأهواء.
وزاد مسعى هؤلاء سهولة وخطورة اتّصال الفقه الإسلامي بالدين، ويسر الخلط بينه وبين الدين ذاته، وشدّة حسّاسية عامّة الناس في أُمور الدين، وقلّة رؤيتهم وصبرهم فيما يتّصل بها، لهذا وغيره لابست مدارس الفكر الإسلامي من قديم في كثير من بلاد المسلمين عصبيات تجمّعت حولها طوائف من الناس جعلت في ظلّ الانتماء إلى هذه المدارس والمذاهب الإسلامية تتناحر على أسباب الرزق والجاه، وعلى النفوذ السياسي والاجتماعي، فلم يعد الخلاف بين هذه العصبيات خلافاً بين فكر وفكر وفقه وفقه، وإنّما صراع على النفوذ والقوّة بين مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية لا يهمّها خير الإسلام والمسلمين، تختفي وراء عداوة جاهلة سافرة تذكّي نارها باستمرار بين الكتل المنتمية إلى هذا المذهب أو ذاك.
لقد تداول الناس في بلاد الإسلام تلك الدعاوى والاتّهامات الحمقاء عن طوائفهم جيلًا بعد جيل قروناً وأحقاباً، كرهوا على أساسها وأحبّوا، ومدحوا وذمّوا، وعظّموا وأهانوا، ودعوا ولعنوا، ووصلوا وقطعوا، ونصروا وخذلوا، وأعطوا وحرّموا، وهاجموا وهوجموا، وقاتلوا وقوتلوا، حتّى اختلطت هذه الركائز الشائهة بعواطفهم وتفكيرهم، وصارت جزءاً من عقليتهم وسلوكهم، يستغلّه ذوو الأغراض، ويستخدمه أعداء الإسلام في محاربة الإسلام!
وهذا الاعتياد القديم على تبادل العداوات بعد أن جرّ على المسلمين الويلات في الماضي يوشك في الظروف الحرجة التي يمرّ بها الإسلام الآن أن يعصف بالإسلام نفسه، وهو اعتياد ماكر مخادع يتلوّن ويتشكّل، وتختلف صوره باختلاف الأشخاص وظروف المكان والزمان، بين تبادل الاسترابة وتبادل الازدراء في الخفاء، والترحيب بالأراجيف، وتغليب ظنّ السوء، ورفض التواصل والتعاون والاشتراك، وتخذيل مساعي الأُخوّة بين المسلمين، وتعطيل المشروعات وإفسادها، وبين المجاهرة بالاتّهام والمقت واللعن والتكفير والعدوان على الأنفس والأموال والتحريض عليه، وبين الاستعانة على المسلمين‏
بأعداء الإسلام، وقطع الروابط الباقية بالجماعات الإسلامية الأُخرى، وتمجيد العزلة عن بقية المسلمين، ومحاولة الانفراد بمصير ووجهة غير مصيرهم ووجهتهم!
والتقريب يحارب هذا الاعتياد الماكر في جميع صوره وكافّة ألوانه، ولا غرض للتقريب ولا غاية إلّامحاربته واقتلاعه وإزالته.
ولا يبحث التقريب عمّن هو المسؤول عن تلك العداوة، ولا يهمّه هذا البحث؛ لأنّه لا فائدة منه للغرض الذي يسعى إليه، لا يبحث التقريب في المسؤوليات سالفة أو حاضرة، ولا يقف من أيّ فريق من الناس موقف القاضي أو الحكم، ولا يفاضل بين سلوك جماعة وسلوك جماعة أُخرى، ولا يحاول مراجعة الماضي ولا إعادة كتابة تاريخه؛ لأنّ التقريب كما يبيّن من اسمه أداة تقارب وجمع شمل ورأب صدع، ولأنّه لا يستطيع أن يشغل نفسه بمسائل معظمها شائك خلافي تضيع فيها جهوده وتصرفه عن غرضه الأساسي، بل يقف التقريب بكلّياته لمشكلة لا يتركها ولا يشتغل عنها، ومشكلته قبل كلّ شي‏ء مشكلة اعتياد لا تحلّ إلّاباعتياد مضادّ، فالتقريب من هذه الزاوية هو محاولة لتعويد عامّة أهل المذاهب الإسلامية على اختلافها كفّ أذى بعضهم عن بعض في السرّ والعلن، وتبادل حسن المعاملة في السرّ والعلن، والتواصل والاشتراك والتعاون في السرّ والعلن.
ونقطة البداية في إقناع عامّة أهل هذه المذاهب بأنّهم جميعاً ليس بينهم أيّ خلاف في الأساسيات: إلههم واحد، وكتابهم واحد، ونبيّهم واحد، وقبلتهم واحدة، لا يختلفون على أيّ ركن من أركان الإسلام، وإفهامهم أنّ هذا القدر المجمع عليه بينهم هو جوهر الإسلام ورأس مال المسلم أيّاً كان مذهبه، ولا ينقص هذا أو ذاك بانتماء المسلم لأحد المذاهب وتعلّقه به، أو نظرته في الأصلح للقيام بأمر المسلمين، وأنّه متى تحقّق جوهر الإسلام لإنسان فقد انعقدت بينه وبين سائر المسلمين في كلّ مكان أُخوّة في اللَّه ورسوله، يحرم معها عليه أن يخذلهم أو يعاديهم أو يؤذيهم أو ينحاز إلى من يعاديهم أو يؤذيهم... وليست نقطة البداية هذه من الهيّنات؛ لأنّ عامّة أهل المذاهب يعتقدون في الغالب أنّهم هم وحدهم الذين فيهم تحقّقت حقيقة الإسلام، وكثيراً ما يتصوّرون أنّ الآخرين من المنتمين لمذاهب‏
أُخرى لا يعبدون نفس الربّ، أو لا يتبعون نفس النبي، أو لا يقرأون نفس القرآن، أو ليست صلاتهم صلاة، ولا زكاتهم زكاة، ولا حجّهم حجّاً، وأنّهم إمّا كفرة أو زنادقة على الجملة! وتلك حال نشأت من العزلة الطويلة التي فرضها تبادل العداوات من قديم، فصارت كلّ طائفة تجهل حقيقة إسلام أُختها، وتصدّق في شأنها أراجيف وترهات، وتتمثّلها في صور غريبة من الانحطاط الفكري والروحي.
قد يقال كما قيل: إنّ الحديث عن تلك العزلة وآثارها لم يعد له الآن موضع بعد أن زحفت المدنية الحديثة على بلاد الإسلام، وقدّمت إليها المطبعة والصحافة والإذاعة والسيّارة والطيّارة والكهرباء والآلات والمصارف والبورصات والتعليم المدني والعلوم الوضعية ومشاركة المرأة في الأعمال والسياسة، وبعد أن تغيّرت عادات المسلمين من حيث مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وملبسهم وزينتهم وأشغالهم وفنونهم ولهوهم وحزنهم والاحتفال بموتاهم تغييراً أدّى إلى تقريبهم بعضهم من بعض، وإلى إبعادهم عمّا اعتاده آباؤهم وآباء آبائهم، بحيث إنّ العين لتجد مثلًا بين الإيراني والمصري الآخذين بالعادات الحديثة من وجوه المشابهة والتقارب ما لا تجده بين كلّ منهما وبين جدّه لو كان في المقدور رؤية جدّه بأكثر من عين الخيال، وإنّ ما يرجوه التقريب ويسعى له ويستعجل حصوله حاصل فعلًا بلا ضجّة ودون أن تتلفّت إليه الأنظار بقوّة التقدّم الحضاري الذي يكتسح بلاد الإسلام، وإنّ من وصلت إليهم المدنية الحديثة من المسلمين لم يعودوا يهضمون الخلافات الدينية، أو ينظرون إلى ما يحدث بسببها من شغب وعنف إلّاعلى أنّه حمق مخجل وبقايا متخلّفة لعناصر غير متطوّرة، وإنّ الفكرة العالمية عن الإنسان وحقوق الإنسان تشجب التفرقة الدينية أو المذهبية، وهذه الفكرة تجد طريقها مع المدنية الحديثة والتعليم الحديث إلى عقول المسلمين في كثير من بلادهم، ولم يعد الكثيرون منهم يقبلون أن يتّهموا بالتفرقة الدينية، أو بعداوة أحد من أجل دينه أو مذهبه مخافة أن يتّهموا بالتخلّف والتأخّر والرجعية.
وهذا الاعتراض مردود أساساً: بأنّ المسلمين لا يستغنون عن الإسلام بالمدنية
الحديثة أو بالمطبعة والصحافة والإذاعة والسيّارة والطيّارة إلى آخر القائمة، كما أنّهم لم يتركوا الإسلام؛ لأنّهم غيّروا عاداتهم في المأكل والمشرب والملبس إلى آخر القائمة أيضاً، وليس في حساب الإسلام ألّا يغيّر المسلمون عاداتهم أو ألّا ينتفع المسلمون بالمخترعات والمكتشفات والعلوم التي توجد في زمانهم؛ إذ المسلم ابن زمانه، ولا يمكن إلّاأن يكون كذلك. ولكن ليس من شكّ في أنّ تيّار المدنية الحديثة قد غيّر من اهتمامات المسلمين الآن، فلم يعودوا في كثير من بلاد الإسلام يهتمّون بكلّ ما كان يهتمّ به آباؤهم في الجيل الماضي، أو بنفس الدرجة التي كان يهتمّ بها آباؤهم، وهذا طبيعي؛ لأنّ لكلّ جيل اهتماماته تبعاً لعقليته وظروفه، ومع ذلك لا يستطيع منصف أن يقول: إنّ المسلمين الآن لا يهتمّون بالإسلام بعامّة ولا يحبّونه، وهم في الواقع يهتمّون بدينهم ويحبّونه، وإنّما على طريقتهم وعقليتهم لا على طريقة آبائهم وعقليتهم، فهم من خلال المطبعة والصحافة والإذاعة والسينما والمسرح والسيّارة والطيّارة والكهرباء والآلات، ومن خلال العادات الجديدة والعلوم الوضعية العصرية وأنواع النشاط الحديثة، يمارسون إسلامهم ويهتمّون به ويحبّونه، وهم لا يعتقدون أنّ المدنية يمكن أن تغني عن الإسلام أو تلغيه، ولا يصدّقون أنّ هذه المدنية يمكن أن تحلّ مشاكل العالم الإسلامي، ولايرتقبون منها أن تساعد عامدة على حلّ مشاكله؛ لأنّهم يعلمون أنّ أصلها غير إسلامي، وأنّها في جوهرها نهضة تطبيقية تكنولوجية قائمة إلى حدّ المغالاة على تدريب المعقول والجوارح على المهارات والكفايات الموصلة إلى السيطرة على العالم المادّي تكاد تغفل وتهمل ما عدا ذلك من الجوانب الروحية الشعورية في الإنسان، وأنّ هذه المدنية في اندفاعها إلى إيجاد المهارات والكفايات المفيدة في السيطرة على المادّة أوجدت وتوجد باستمرار مجاعة أو مجاعات روحية ونفسية تكتسح هذا الكوكب يعاني منها ملايين البشر فقدان التوازن الداخلي والجوع إلى الاستقرار النفسي والشعور بالضياع وانعدام المعنى، وعدّة المسلمين في هذه المجاعة أو المجاعات إسلامهم وإدراكهم لأُخوّتهم في الإسلام.
ثمّ إنّ امتداد المدنية الحديثة إلى بلاد الإسلام لا يستتبع عادةً أيّ تنقية في الأفكار
والاعتقادات الدينية لدى المتأثّرين بالمدنية، بل تقلّ لديهم فرص تنقية هذه الأفكار والعقائد بتلقّي العلوم الحديثة الوضعية وممارسة أساليب الحياة العصرية في العمل أو في المعيشة، ولا يجعل الإنسان أقدر على تصحيح أفكاره الدينية، بل يجعله أميل إلى التقليد واتّباع من يظنّ فيهم التخصّص؛ إذ المغالاة في الإيمان بالتخصّص من سمات المدنية الحديثة، ومثل هذا الإنسان قد تلقّى أفكاره المتعلّقة بطائفة وموقفها من غيرها من الطوائف الإسلامية بلا بحث نقلًا عمّن يظنّ أنّهم أكثر علماً بها منه، وتلقّى معها شحنة الكراهية والعداوة المصاحبة لهذه الأفكار، وكلّ ما يميّزه عن سواه أنّه يتحاشى ما أمكنه الجهر بهذه العداوة، بينما يمارسها في الخفاء كلّ يوم على صور شتّى، ومثله في حاجة إلى جرعة من التقريب قد لا تقلّ عن الجرعة التي يحتاج إليها من لم يتأثّر بالمدنية.
على أنّه ممّا يستوقف النظر في المدنية الحديثة قدرتها الغريبة على إضعاف نفوذ الآباء والأُمّهات في جميع البلاد، وهذا قد لا يكون شرّاً محضاً لو أتاح فرصة للأجيال الحديثة من أبناء المسلمين أن تتخلّص من تعصّب آبائها الطائفي وعداواتهم غير المعقولة.
وإذاً ثمّة عزلة روحية ما تزال موجودة بين بعض طوائف المسلمين على الأقلّ مشحونة بالكراهية والعداوة برغم انتشار المدنية الحديثة وطرق النقل والتواصل والإعلام، وبرغم ممارسة أساليب الحياة العصرية في العمل والمعيشة، وليس لنا أن نعوّل في إصلاح ما بين المسلمين على تطوّر المدنية الحديثة بين طوائفهم؛ لأنّ تطوّرها لا يسير في اتّجاه الإسلام، وإنّما يسير في اتّجاه المذاهب والحركات المادّية، ولو ترك المسلمون للمدنية الحديثة مهمّة إزالة التعصّب والعداواة بين طوائفهم فإنّها ستزيلهما مع إزالة الإسلام نفسه لتحلّ محلّهما تعصّباً أشدّ ضراوة هو تعصّب المذاهب والحركات المادّية.
وقد قيل في نعي التقريب على تلك العزلة الروحية وما يصاحبها من اجترار العداوات والأحقاد: إنّ التقريب يطلب العسير حين يطلب أن يتناسى أهل هذا المذهب أو ذاك أجزاء من ماضيهم الطائفي وتاريخهم المذهبي عزيزة على نفوسهم فيها مواقف وحوادث وتضحيات وبطولات ونماذج يعيش عليها ولاؤهم لمذهبهم وتعلّقهم به، والتقريب لا
يكلّف أحداً إلّااليسير الميسور، ولا يطلب إلّاما يتطلّبه السلام والعقل من كلّ جماعة تريد أن تحسن العيش في هذا العالم، وإذا كانت الحروب والفتن والاضطهادات والمذابح والعداوات أحياناً يضي‏ء في ظلمتها وسوادها وحمقها وقسوتها وفسادها وشرّها تضحيات ومواقف وبطولات ونماذج من الإيثار والثبات على العهد، فذاك أمر عرضي لا يهوّن من تلك الكوارث، ولا يجعلها شيئاً يرغب في بقائه وبقاء أسبابه، فالذي يبيع السلام بالحرب، والوفاق بالفتنة، والأُخوّة بالعداوة، والعمار بالخراب من أجل فرص للبطولة، ونماذج للثبات والإيثار، أحمق قد بلغ غاية الحمق! وتعويل المذهب في استبقاء ولاء أنصاره وتعلّقهم به على عداوتهم للمذاهب الأُخرى أمر لا يشرّفه ولا يشرّفهم، وهو بعد أمارة ضعف وقصر نظر وقرب إدبار، والنسيان الذي يتطلّبه التقريب من أهل المذاهب أمر لا بدّ منه لأيّ سلام حقيقي، فما يمكن أن يقوم سلام أو أمن يبقى إذا ظلّ الجانبان صباح مساء يردّدان أناشيد الحرب، ويقلّب كلّ منهما كلّ يوم صحف الماضي كي لا ينسى ما فيها من المثيرات والأحقاد والعداوات! إنّما يريد التقريب من أهل المذاهب أن يعطوا أنفسهم عمداً أو قصداً فرصةً لنسيان الماضي بعض النسيان تتّجه خلالها عيونهم وقلوبهم صوب المستقبل المشرق الذي ينتظر المسلمين إذا تآخوا واتّحدوا».

المراجع

(انظر ترجمته في: معالم التقريب: 61- 68).