اجتماع الحكمین التكلیفیین
موضوع إجتماع الحکمین التکلیفیین من المباحث التي اختلف الاصولیون علی جوازه واستحالته، مثل اجتماع الوجوب والحرمة الذي یعبر عنه باجتماع المتضادین، أو إجتماع الوجوب مع وجوبٍ آخر الذي یعبر عنه باجتماع المتماثلین، أو إجتماع الوجوب مع الإستحباب أو الکراهة و ما إلی ذلک، فهل یجوز إجتماع الحکمین التكليفيين على موضوع واحد أو لا؟
التعریف بالموضوع
وهو اجتماع حكمين تكليفيين على موضوع واحد، سواء أكانا متضادين أو متماثلين، مع اتحاد المكلّف والحيثية المكلَّف بها وزمان الامتثال. وهذا هو القدر المسلَّم من مسألة اجتماع الحكمين[١] وأمّا الحكمان الوضعيان فليسا منظورين في كلمات الأعلام؛ لأ نّهما ليسا على نسق واحد، فقد يجتمعان وقد لايجتمعان، كما يأتي بيانه لاحقا.
السابقة التأريخية
يبدو أنّ مسألة استحالة اجتماع الحكمين لم تكن مطروحة لدى قدماء الأصوليين، إلى أواسط القرن الخامس الهجري عندما تحدّث السيد المرتضى[٢] عن التضاد بين الأحكام، ثمّ جاء بعده شمس الدين السرخسي الذي كان أكثر وضوحا منه، عندما صرّح باستحالة تضمن شيء واحد لحكمين متضادين. [٣] وتطورت هذه الفكرة، وأخذت تتفاعل في الأوساط العلمية، وكثر الكلام عن كيفية التخلص من محذورها في مناسبات مختلفة ومسائل متعددة كمسألة التعارض والتزاحم، واجتماع الأمر والنهي، واجتماع الحكم الظاهري والواقعي. ولم تكن هذه الفكرة بعيدة عن أفكار المتقدمين، كيف وهي من البديهيات[٤] التي لايختلف فيها اثنان، ولعلّ عدم تعرضهم لها لأنّها ـ باعتقادهم ـ كسائر المسائل الأخرى، التي لم يجدوا ضرورة لطرحها أو الإشارة إليها في ذلك الزمان.
الألفاظ ذات الصلة
تداخل الأسباب والمسببات:
وهي عبارة عن صيرورة الأسباب والمسببات المتعددة كالسبب والمسبب الواحد، كما لو قيل: إذا نمت فتوضأ، وإذا بلتَ فتوضأ، فإنّه لايجب على المكلّف إلاّ وضوء واحد؛ بناءً على التداخل[٥]، ووضوءان؛ بناءً على عدم التداخل. [٦]
تحریر محل النزاع والحکم علیه
ويقع البحث في أمور: الأمر الأول: التنافي بين الأحكام التكليفية الواقعية
لا خلاف بين طوائف المسلمين
ـ إلاّ من شذ منهم
ـ في امتناع اجتماع حكمين تكليفيين في متعلق واحد. واستدلّ له بعض علماء الجمهور
بقوله تعالى: «لاَيُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا».
وهذا الدليل إنّما يتناسب مع عدم إمكان الجمع بين الوجوب والحرمة، دون اجتماعهما مع غيرهما كاجتماع الوجوب مع الإباحة، أو الحرمة والكراهة؛ لإمكان الجمع بين متعلقيهما.
ومن هنا فقد أكّد المحقّق النائيني على أنّ عدم الاجتماع لا دليل عليه من الشرع، بل لابدّ من الاستدلال له من العقل.
والمعروف
بينهم أنّ سبب عدم الاجتماع هو التضاد بين الأحكام التكليفية
، بل اعتبر ذلك بعضهم من المسلّمات
، بل من البديهيات.
وهذا التضاد كما هو موجود بين الوجوب والحرمة موجود بين سائر الأحكام الأخرى، وإنّما خصّهما بعضهم
بالذكر لشدة التضاد بينهما
، فإنّه كما لايجتمع الوجوب مع الحرمة لايجتمع مع الاستحباب؛ لأنّ في الوجوب مصلحة ملزمة وفي الاستحباب مصلحة غير ملزمة، وهكذا بالنسبة للحرمة والاستحباب وغيرهما من أحكام.
وما يتراءى من اجتماع بعض الأحكام، كالوجوب والاستحباب، فهو لكونهما حكمين لجهتين لكلّ منهما حكمها، كإطاعة الوالدين الواجبة المجتمعة مع إجابة الصديق المستحبة في فعل واحد
، فهما من قبيل حرمة النظر إلى الأجنبية في الصلاة الواجبة، فإنّ متعلق التحريم فيها هو النظر، ومتعلق الوجوب الصلاة، وهو ليس من الاجتماع المحال.
وفي مقابل ذلك ذهب جماعة من الأعلام
إلى عدم صحة الاستدلال بالتضاد على عدم اجتماع الأحكام، كالمحقّق الأصفهاني
والإمام الخميني
؛ لعدم انطباق تعريف المتضادين عليها؛ لأنّ المتضادين عبارة عن الوجودين المتعاقبين على موضوع واحد بينهما غاية الاختلاف، من دون توقف تعقل أحدهما على الآخر.
وهما بهذا المعنى لايصدقان على الأحكام التكليفية الخمسة.
وقد بيَّن الإمام الخميني سبب عدم انطباق التعريف من وجهة نظره، حيث قال: «إنّ التعريف المذكور لاينطبق على الأحكام، أمّا على القول المختار بأنّ الأحكام عبارة مثلاً عن البعث والزجر المنشئين بالآلات والأدوات فواضح جدا؛ لأنّ البعث والزجر بالهيئة الدالة عليهما إنّما هو بالمواضعة والاعتبار، وهما ليسا من الأمور الوجودية الحالّة في موضوعها الخارجي، بل أمور اعتبارية عقلائية، وهم يرون البعث بالهيئة مكان البعث التكويني، لكن بحسب الوضع والاعتبار القائمين بنفس المعتبر قياما صدوريا.
وأمّا على القول بكونها عبارة عن الإرادات أو عن الإرادات المظهرة فكذلك أيضا؛ لأنّ الشرط كون الأمرين الوجوديين الداخلين تحت جنس قريب، وعليه لابدّ أن يكونا نوعين مستقلين، مع أنّ إرادة البعث والزجر داخلتان تحت نوع واحد، ومعه كيف تصيران متضادتين... فإنّ الإرادات ليست أنواعا مختلفة تحت جنس قريب، أمّا الواجب والمستحب، وكذا الحرام والمكروه فواضح؛ لأنّ الإرادة الوجوبية والاستحبابية مشتركتان في حقيقة الإرادة ومتميزتان بالشدة والضعف، فإذا أدرك المولى مصلحة ملزمة تتعلق بها الإرادة الشديدة وينتزع منها الوجوب، أو أدرك مصلحة غير ملزمة تتعلق بها الإرادة لا بنحو الشدة، بل بنحو يستظهر منها الترخيص في الترك وينتزع منها الاستحباب، وقس عليهما الحرام والمكروه ...».
ولكن يبقى هنا سؤال حول سبب الامتناع إذا لم يكن هو التضاد؟ حيث أجاب عليه الإمام الخميني بقوله: «إنّه بناءً على القول بكون الأحكام أمورا اعتبارية فسرُّ عدم اجتماع الوجوب والحرمة هو لغوية الجعلين غير الجامعين، بل امتناع جعلهما لغرض الانبعاث؛ لأنّ المكلّف لايقدر على امتثالهما، وكذا على القول بكونهما عبارة عن الإرادات؛ لامتناع تعلق الإرادة بالبعث إلى العمل والزجر عن الفعل [فهو من قبيل] تعلق الإرادة بالطيران إلى الهواء، فعدم الاجتماع أعمّ من التضاد».
هذا بالنسبة إلى سبب الامتناع، وأمّا المرحلة التي يمتنع فيها الاجتماع من مراحل الحكم التكليفي ـ التي هي المصلحة والاقتضاء والإنشاء، والفعلية والتنجز
ـ فقد اختلف الأصوليون فيها، فمنهم من ذهب إلى امتناع الاجتماع في جميعها
، ومنهم من حصره ببعضها ، ويتضح ذلك من خلال استعراضنا لهذه المراحل، وذلك كما يلي:
...