الأحكام الشرعية الاعتبارية
الأحکام الشرعية الاعتبارية: والمراد بالاعتباريات هي الأحکام التي وضعها ورفعها بيد الشارع، فالاعتباريات مقابل التکوينيات. ومن هذه الجهة إنّ جميع الأحكام الفقهية أحكامٌ اعتباريةٌ إمّا بالأصالة وإمّا بالتبع، ولتوضيح هذا البحث نجعل هذه المقالة أمام القارئ الکريم.
تعريف الاعتبار في اللغة
الاعتبار: هو الاتعاض، ويأتي بمعنى الاجتياز والعبور.[١]
تعريف الاعتبار في الاصطلاح
وأمّا في الاصطلاح: فهو الافتراض والتباني القانوني الذي له آثار عملية على أفعال المكلّفين إمّا بصورة مباشرة كالوجوب والحرمة في الأحكام التكليفية التي تجعل في عهدة المكلّف وذمّته، أو بصورة غير مباشرة كالملكية والصحّة والفساد في الأحكام الوضعية. [٢] وبعبارة أخرى: الاعتبار هو الجعل المسبوق باللحاظ الذهني التصوّري. [٣] وقد يطلق الاعتبار على عالم الاعتبار أو وعاء الاعتبار. أمّا الجمهور فقد استعملوا الاعتبار في معناه اللغوي وهو الاجتياز، حيث فسروا به قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»[٤]، لإثبات حجّية القياس الذي هو عبور من حكم الأصل إلى الفرع. [٥] بينما أصرّ الإمامية[٦]، على عدم دلالة الآية إلاّ على الاتعاظ؛ لأنّه الأنسب بظاهرها، بقرينة ما ورد قبلها في قوله تعالى: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ». وسيأتي تفصيل ذلك في مدخل «قياس».
الألفاظ ذات الصلة
1 ـ الأعيان الخارجية
تختلف الأعيان الخارجية عن الأُمور الاعتبارية في توقّفها على عللها التكوينية، بخلاف الأمور الاعتبارية التي لا توقف فيها إلاّ على لحاظها الذهني، وإن اشترك الاثنان في أنّ لكلٍّ منهما تقررا ووجودا، أحدهما في وعاء الاعتبار، والآخر في وعاء الأعيان. [٧]
2 ـ الأُمور الانتزاعية
وهي الأُمور التي لا واقع لها إلاّ بوجود منشأ انتزاعها كالفوقية والتحتية المنتزعتين من الأشياء الخارجية[٨]، فهي وإن كانت كالأمور الاعتبارية من حيث اللحاظ الذهني إلاّ أ نّها ليست مجعولة كالأمور الاعتبارية. [٩] وهناك من فرّق بينهما في أنّ الأُمور الاعتبارية لها تقرر ووجود خارجي من نوع خاصّ، و الأُمور الانتزاعية لا وجود خارجي لها غير منشأ انتزاعها. [١٠] لكن البعض رفض أن يكون ذلك فارقا بينهما، مدعيا عدم انطباق صفات الوجود الخارجي عليها، والتي منها الاستقلال الوجودي عن سائر الموجودات، فإنّ الأمور الاعتبارية ليست من هذا القبيل، إذ لا وجود خارجي لها لولا وجود الإنسان وتصوّراته. [١١] وعلى أيّ حال لا ينبغي التسامح ـ بعد هذا البيان ـ في استعمال الأمور الانتزاعية مكان اصطلاح الأُمور الاعتبارية، كما قد يلاحظ ذلك في بعض البحوث العلمية. [١٢]
دور الاعتبار في الفقه والأصول
إنّ جميع الأحكام الفقهية أحكام اعتبارية إمّا بالأصالة كـ الأحكام التكليفية وبعض الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية والرقيّة، وإمّا بالتبع كالأحكام الوضعية المنتزعة من أحكام شرعية اعتبارية كالشرطية والسببية والمانعية المنتزعة من قيود ملحوظة في الأحكام أو موضوعات الأحكام، فإنّها وإن كانت انتزاعية بنفسها إلاّ أ نّها اعتبارية بالتبع لوقوع متبوعها تحت تصرّف الشارع وإرادته. وأمّا الأحكام الأصولية فليست جميعها من هذا القبيل، فقد تكون انتزاعية محضة لا علاقة لها بالاعتبار كمباحث الألفاظ والاستلزمات العقلية و البراءة و الاحتياط العقليين، فإنّها أُمور انتزاعية لا علاقة لها بالاعتبار، وإنّما ينتزعها العقل من أمور واقعية، كالأمر بالشيء الذي ينتزع منه النهي عن ضده. وقد تكون أحكاما أصولية اعتبارية محضة كـ حجّية خبر الواحد، و حجّية ظواهر الكتاب والبراءة والاحتياط الشرعيين، فإنّ جميعها أحكام اعتبارية متوقّفة على اعتبار الشارع وتشريعه لها، ولا علاقة لها بالانتزاع. [١٣] ولقد كان لهذا الحجم الواسع من الأحكام الاعتبارية في الفقه والأصول تأثير كبير على الطريقة العامة في معالجة الكثير من المسائل و دراستها بما يضمّن الحفاظ على الصبغة الاعتبارية للأحكام، والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي بالتعرّض هنا لما علّق به بعضهم على ما ذكره المحقّق الخراساني في مسألة اشتراط القصر في الصلاة بخفاء الأذان أو الجدران، عندما حاول إرجاع الخفاءين إلى خفاء واحد منتزع منهما، وهو «خفاء أحدهما» ليكون هو المؤثر في وجوب القصر، استنادا إلى القاعدة العقلية الفلسفية المعروفة: «الواحد لايصدر إلاّ من واحد».[١٤] حيث لم تلق هذه الفكرة ترحيبا من قبل بعض المعاصرين الذين رفضوا التمسّك بالقواعد العقلية في الأحكام الشرعية الاعتبارية مؤكّدين عدم جريانها فيها، واختصاصها بالأمور التكوينية. [١٥]
الاعتباريات الأصيلة والمحضة
ذكر المحقّق العراقي أنّ الأمور الاعتبارية قد تكون أمورا متأصلة ولو في عالم الاعتبار بمعنى أنّ لها واقعا عند تحقّق مناشئها، بحيث يكون اللحاظ طريقا إليها كالملكية والزوجية ونحوها، لا أنّها متقوّمة باللحاظ والاعتبار كي تكون واقعيتها مناطة به، كالاعتبارات المحضة. [١٦]
التفكيك بين الاعتبار والمعتبَر
اختلف الأصوليون في استقلال عالم الاعتبار والجعل عن عالم المعتبَر والمجعول، حيث ذهب المحقّق النائيني إلى استقلالهما وإمكان تخلفهما عن بعضهما إذا لم توفر الشروط اللازمة لفعلية الحكم المعتبَر وتنجيزه، حيث يتحقق الاعتبار ويبقى المعتبَر رهن تحقّق شروطه. ومثَّل لذلك بالوصية التمليكية التي ينشؤها الموصي ويعتبرها حال حياته، فإنّها لاتكون معتبرة ومنجَّزة إلاّ بعد مماته. [١٧] بينما ذهب جماعة منهم المحقّق الإصفهاني والمحقّق العراقي إلى اتّحاد هذين العالمين وعدم انفكاكهما عن بعضهما؛ لأنّهما كالإيجاد والوجود، والتصوّر والصورة. وقد أوضح المحقّق الإصفهاني ذلك بما حاصله: أنّ الاعتبار بحسب ذاته وواقعه يرجع إلى الفرض والبناء، نظير التخيل والادّعاء، وإن اختلف عنه بتلبسه بالحسن والمصلحة التي لاتتحقّق إلاّ بتوفّر شروطها الخارجية، وبتحققها يتحقّق الاعتبار ويتحقّق المعتبَر بتبعه، لكونه تابعا له لاينفك عنه ولايستقل. وأمّا المحقّق العراقي، فهو وإن وافق المحقّق الإصفهاني في عدم انفكاك الاعتبار عن المعتبَر، إلاّ أنه أكّد على انفكاك وجودهما الفعلي عن وجودهما الفاعلي المحركي، المتوقّف على توفر شروط خارجية لايكون للاعتبار والمعتبَر أثر عملي بدونها رغم وجودهما الفعلي. [١٨]
المصادر
- ↑ العين 2: 129 ـ 130 مادة «عبر».
- ↑ أنظر: فوائد الأصول 4: 381، منتقى الأصول 2: 118، الرافد في علم الأصول: 47 ـ 48.
- ↑ تعليقة المحقّق العراقي على فوائد الأصول 4: 382.
- ↑ الحشر: 2.
- ↑ الفصول في الأصول 4: 32، أصول السرخسي 2: 106، المحصول الرازي 2: 247، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 291.
- ↑ العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 673 ـ 674، أصول الفقه (المظفر) 3 ـ 4: 193 ـ 194.
- ↑ فوائد الأصول 4: 381.
- ↑ المصدر السابق.
- ↑ تعليقة المحقّق العراقي على فوائد الأصول 4: 382.
- ↑ فوائد الأصول 4: 382.
- ↑ تعليقة المحقّق العراقي على فوائد الأصول 4: 382.
- ↑ نهاية الأفكار 1: 416، تنقيح الأصول العراقي: 232، الحاشية على كفاية الأصول 2: 48، إفاضة العوائد 1: 94.
- ↑ أنظر: محاضرات في أصول الفقه 1: 18 ـ 19.
- ↑ كفاية الأصول: 201.
- ↑ محاضرات في أصول الفقه 5: 100 ـ 101، زبدة الأصول الروحاني 2: 259.
- ↑ نهاية الأفكار 1 ـ 2: 416.
- ↑ أجود التقريرات 1: 210.
- ↑ نقل ذلك في منتقى الأصول 2: 117 ـ 118.