مشروع الحكومة الإسلامية الموحّدة
مشروع للتقريب طرحه بعض المفكّرين المسلمين، وذلك باعتبار أنّ حرّية الرأي تحرّر الفكر من تبعات الماضي، وتوفّر مناخات سليمة للحوار، وتحفظ للأطراف المختلفة حقّ الاختلاف والمعارضة في الرأي من دون أن يؤدّي هذا الاختلاف البنّاء إلى خلاف وشقاق إذا كان الجوّ السائد في المجتمع احترام حرّية الرأي والتمتّع به كحقّ من حقوق المرء المسلم.
وهذا البحث يشكّل أساساً سليماً من أُسس التأليف بين المسلمين والتقريب بين مذاهبهم وطوائفهم؛ لأنّه أوّلاً يثبّت حقّ الاختلاف، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، دون غيره، ولا جهة تمتلك الشرعية لتسلب الآخرين شرعيتهم، فتقرّ مَن تشاء على دينه وتنزع الإيمان وتضفي عليه صفة الكفر بمقاساتها، فقد اختلف مسلمون مع خلفاء المسلمين وقادتهم، وحفظ لهم هذا الحقّ، وكانوا أحياناً أقرب إلى الحقّ، ليتراجع الخليفة أو الحاكم عن رأيه.
وبالتالي فإنّ واقع المسلمين منذ صدر الإسلام حفظ للمسلمين حرّية الرأي، وإذا ما ضمن لهم اليوم هذا الحقّ فإنّه سيقرّبهم بعضهم من بعض ومن الحقّ، ويزيد من أُلفتهم ووحدتهم.
ومن هنا لا يمكن منع أصحاب المذاهب من بيان رأيهم والدعوة إلى مذاهبهم؛ لأنّ في ذلك منعاً لحرّية الرأي وسلباً لحقّ الإنسان في التعبير والبيان، والتي تكفّل بها الإسلام فضلاً عن ميثاق حقوق الإنسان، فليست المشكلة في أن يدعو كلّ فريق إلى رأيه، وأن يبيّن كلّ طرف صحّة قوله، وأن يكون للآخرين حرّية الاستماع والاتّباع عملاً بقوله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (سورة الزمر: 17-18)، ولكن المشكلة في أن تتجنّب الدعوة ما أمر اللّه به من اتّباع الحكمة والجدال بالتي هي أحسن، إذ قال: (اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة آل عمران: 64)، بأن تتّبع الوسائل الجاهلية كالسبّ والشتم وإثارة البغضاء والفتنة؛ إذ يحرم ذلك، وقد نهي عنه، فلا بدّ من اجتناب تلك الأساليب التي لم يتبعها نبي مرسل ولا إمام ولا ولي.
وتأكيداً لاتّباع السبل الحسنة واجتناب غيرها، فقد دعا القرآن أهل الكتاب إلى التفاهم والتعاون على طريق الإيمان باللّه تعالى، فقال: (قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (سورة آل عمران: 64)، ولم ينه عن الحوار معهم، بل حاورهم في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ولكنّه نهى عن الجدال السيّئ والمثير للعداوة والبغضاء، فقال تعالى: (وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة العنكبوت: 46).
فكيف يتقبّل أن يغلق باب الحوار بين المسلمين، وهو باب للتفاهم والتقارب والنصح والتكامل في الرأي؟! نعم، ينهى عن كلّ ما يثير الفتنة وينشر البغضاء من أيّ طرف صدر، ولا ينبغي أن نخشى حرّية الفكر والمعرفة بقدر ما يجب أن نخشى الاستبداد والذي يؤدّي إلى مزيد من الجهل والتخلّف والعنف والتمرّد، وقد اختلف الناس في أجواء الحرّية ولكنّهم نادراً ما اقتتلوا، ولكن اقتتل الناس حيثما كان الظلم والقهر والتعصّب والجمود.
ولكن الذي قيل عمّا سبق قد يصدق هنا، فيذهب البعض إلى أنّ هذه الحرّية مختصّة بالمسلمين دون غيرهم، فلا يحقّ للكافر والمشرك - ويقصد بذلك بعض أتباع المذاهب - أن يكون حرّاً في رأيه مختاراً في عقيدته، وبالتالي فإننّا قد نجد بعض أصحاب المذاهب الإسلامية يعانون كبتاً وضغوطاً في بلادهم المسلمة أكثر ممّا يعانونه في غيرها من بلاد
العالم غير المسلمة؛ لأنّ الأُولى تصادر حرّياتهم باسم الإسلام، والثانية تضمنها تحت عنوان حقوق الإنسان وحرّيته في الاعتقاد.
ومن هنا يُدعى إلى التأمّل بهذا المبدأ وتوسيعه إلى حرّية الرأي والاعتقاد لسائر الناس على أساس حقوقهم الإنسانية، وهو ما يمكن استفادته من العديد من الآيات كقوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ) (سورة البقرة: 256)، وقوله تعالى: (أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (سورة يونس: 99)، وقوله: (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (سورة الغاشية: 21-22)، وقوله: (وَ ما عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاغُ اَلْمُبِينُ) (سورة النور: 54)، وغيرها من الآيات الكريمة، والتي تحتاج إلى بحث ومزيد تأمّل.
كما أنّ هذه الدعوة تنسجم مع الاتّجاه العالمي حول حقوق الإنسان وتأكيده على حرّية الاعتقاد والبيان، وبالتالي فهو تضمن للمسلمين على اختلاف مشاربهم وآرائهم حقوقهم ومواطنتهم، وهذا المنهج يصادر الفكر التكفيري على المطلوب، ويشيع في المجتمع جوّ التسامح الديني والتعايش السلمي، والذي يجب أن يكون التعامل مع المجتمع على أساسه، فإنّ الناس - كما قال الإمام علي عليه السلام - صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».