مقتدى الصدر
عاد السيد مقتدى الصدر إلى واجهة الصحافة العربية والعالمية في الثلاثين من أبريل 2016 بعد نجاح أنصاره في دخول المنطقة الخضراء الأكثر تحصيناً وأمناً في العراق واقتحام مبنى البرلمان العراقي، بعد أن كان قد وجه خطاباً انتقد فيه تقاعس الحكومة والفساد.
أعلن الصدر، وهو رجل دين شيعي يتمتع بالكاريزما وغالباً ما تعكس خطبه الحماسية نزعةً قومية، أنه ينتظر “الانتفاضة الشعبية الكبرى والثورة الشعبية العظمى،” وأضاف أن “أمام الشعب خياران إما إبقاء المحاصصة أو إسقاط الحكومة برمتها،” وذلك بعد أن فشل البرلمان بالانعقاد للتصويت على الدفعة الثانية للوزراء المقترحين من رئيس الوزراء حيدر العبادي. وفي غضون دقائق، وبهذه الخطوة الجديدة يكون مقتدى الصدر قد أدخل العملية السياسية في العراق في دوامة جديدة غير مسبوقة.
كان الشاب مقتدى الصدر ذو الثلاثين عاماً عند الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، شخصية غير معروفة في الإعلام العربي والأجنبي، ولكنه وخلال فترة وجيزة أثبت أن له قاعدة شعبية شيعية عريضة لا يمكن تجاوزها، وأسس أكبر ميليشيا شيعية قاتلت قوات التحالف الأمريكية مما حدى بجورج بوش، الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، إلى اعتباره عدواً وطلب قتله أو أسره بعد أن قال “لا نستطيع أن نسمح لرجل واحد أن يغير مسار بلد بأكمله.” كما تم اختياره من قبل مجلة “تايم” ضمن قائمة أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم في عام 2008، ولطالما لقَب من العديد بصانع الملوك في العراق.
ينحدر مقتدى الصدر من عائلة شيعية معروفة في العراق ولها امتدادات وجذور قديمة في تاريخ المنطقة. إذ تربى في كنف والده آية الله محمد صادق الصدر، الرجل الشيعي المعروف الذي أسس التيار الصدري في الثمانينات من القرن الماضي، والذي كان مشهوراً بين الشيعة بالحوزة الناطقة، وهو رجل دين ناشط سياسياً واجتماعياً، وبالتالي يخالف رجال الدين الذين يركزون فحسب على العمل الديني. كما يُعرف عن الصدر الأب بأنه يسعى لتعريب الحوزة، وهذا يعني أنه ينبغي أن يكون رجال الدين والشخصيات البارزة الأخرى في العراق من أصول عربية، وليس إيرانية. أغتيل أبوه واثنين من أخوته في عام 1999 واتهم آنذاك حزب البعث بتصفيته. كان أيضاً عمه آية الله محمد باقر الصدر معارضاً ورجل دين وتمت أيضاً تصفيته في بغداد في عام 1980. من عائلته أيضاً، الرجل الشيعي اللبناني مؤسس حركة أمل الشيعية، موسى الصدر، الذي اختفى في ليبيا في عام 1978. تمايز الثلاثة، الأب والعم وقريبه، في أن أغلبية أنصارهم ومُريديهم من الطبقات المحرومة والفقيرة في العراق، وهو أيضا ما ورثه منهم مقتدى الصدر. كان والد الصدر ثورياً في نهجه، على المستويين الديني والاجتماعي. فقد أرسى علاقاتٍ قوية مع مختلف العشائر في البلاد، على النقيض من رجال الدين الشيعة الذين كانوا معروفين بالانخراط بشكلٍ أساسي مع النخبة. وعلاوة على ذلك، دعا إلى إعادة إحياء صلاة الجمعة، التي تخلى عنها الشيعة منذ فترة طويلة، وذلك من أجل التواصل المباشر مع الجمهور. زعيم ميليشيا أم مقاوم؟
كان مقتدى الصدر من أوائل الزعماء الشيعة الذين عارضوا الاحتلال الأمريكي من خلال الصحيفة التابعة للتيار الصدري الحوزة الناطقة. عندما أمرت الولايات المتحدة بإغلاق صحيفته، انتقل إلى العمل المسلح ضد قوات التحالف والقوات العراقية الرسمية. ومن ثم كان اللاعب الرئيسي في الحرب الاهلية في العراق بين السنة والشيعة خلال عامي 2006/2007، التي اندلعت بعد تفجير المتمردين لمرقدين شيعيين في سامراء. كما اتّهم جيش المهدي، الذي أنشأه الصدر في عام 2003 رداً على الغزو الأمريكي للعراق، بالقتل الطائفي والقتل على الهوية. وقرر الزعيم الشيعي تجميد جيش المهدي في أغسطس 2007، إثر اشتباكات مسلحة في كربلاء بين قوات تابعة لمنظمة بدر (شيعية) وميليشيا جيش المهدي، والتي أدت إلى مقتل أكثر من خمسين شخصاً وإصابة نحو ثلاثمائة آخرين، علماً أنه أسس لاحقاً “لواء اليوم الموعود” لمقاومة الامريكان.
وفي أواخر عام 2007 وأوائل عام 2008، غادر الزعيم الشيعي إلى منفى اختياري في إيران ولم يعد إلى العراق إلا في عام 2011، وذلك بعد فترة وجيزة من تحقيق الائتلاف الوطني العراقي، الذي تتضمن التيار الصدري، نتائج مميزة في الانتخابات البرلمانية 2010، حيث حصل الائتلاف على 70 مقعداً من أصل 325. وبعد ضغوطاتٍ إيرانية، وافق الصدر على الدخول في ائتلاف نوري المالكي، عدوه اللدود، بضمان فوز المالكي بولايةٍ ثانية كرئيسٍ للوزراء، وحصول حزبه على 32 مقعداً في البرلمان الجديد.
ومع قرب رحيل الجيش الأمريكي من العراق، لم تتغير نبرة الصدر كثيراً؛ حيث أعلن في أغسطس 2011 أن القوات الأمريكية التي سوف تبقى بعد عام 2011 سوف يتم معاملتها كقوات محتلة يجب مواجهتها “بالمقاومة العسكرية،” علماً أن القوت الأمريكية سحبت آخر تشكيلتها في ديسمبر 2010، وأبقت حوالي خمسة آلاف عسكري للمشاركة في العملية الإنتقالية.
عاد مقتدى في يونيو 2014 إلى إعلان تشكيل مسلح جديد تحت مسمى “سرايا السلام” وذلك رداً على احتلال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمناطق واسعة من العراق ومن ضمنها ثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل. وجاء في بيان اعلان إنشاء سرايا السلام أنه سوف يتم انشاء الميليشيا بالتنسيق الكامل مع الجهات الحكومية وذلك للدفاع عن المراقد والمساجد والحسينيات والكنائس. كما شدد الصدر على أنه لن يخوض حرب عصابات ومليشيات قذرة لا تميز بين الارهابيين والمدنيين. لكن ناقضت بعض أفعال أعضاء سرايا السلام كلام مقتدى الصدر مما حدا به إلى تجميد نشاط سرايا السلام ولواء اليوم الموعود في فبراير 2015، بعد أخبار عن اختطاف أكثر من مائة شخص من أبناء عشيرتي العبيد والمسارة في تكريت، وتأكيدات الشرطة العراقية على أن التشكيل حرق خمسة وأربعين شخصاً في ناحية البغدادي. ولم تتوقف الادعاءات بأن التشكيلات التابعة للتيار الصدري تقتل وتحرق المدنيين في الاجزاء التي يقع فيها القتال في العراق. الزعيم السياسي والمناور الفذ
رفض مقتدى الاحتلال الأمريكي للعراق وكان الرفض من خلال جريدته الصادرة تحت اسم “الحوزة الناطقة”. وعند إقفالها وقتل أنصار مقتدى خلال تظاهراتهم ضد اقفال الجريدة، انتقل إلى العمل المسلح من خلال مليشيا جيش المهدي في عام 2004. ورفض مجلس الحكم الذي لم يختر المحتل الأمريكي أي ممثل عن التيار الصدري فيه، واعتبر وثيقة قانون إدارة الدولة التي صدرت عن الحاكم المدني بول بريمر “غير شرعية” وأضاف أنها “تحجم دور الاسلام.”
علاوة على ذلك، لم يشارك في انتخاب الجمعية الوطنية في بداية عام 2005، إلا أن بعض المحسوبين عليه شاركوا فيها. ولاحقاً في نفس العام، أبدى مقتدى معارضته للاستفتاء على الدستور الدائم لبعض المواد كموضوع الفدرالية، ولكنه لم يعارض الاستفتاء علانية ولم يحرض أنصاره على التصويت بعدم قبوله. ومع ذلك، شجّع أنصاره على تسجيل أسماءهم في سجلات الناخبين استعداداً للاستفتاء الشعبي العام، الأمر الذي فُسر على أنه محاولة لعدم الخروج عن الاجماع الشيعي.
شارك التيار الصدري في أول انتخابات برلمانية عراقية في عام 2005 تحت الإحتلال الأمريكي، وفاوض شركاءه في الإئتلاف الشيعي على عدد مقاعده. كما شارك في الانتخابات البرلمانية لعام 2010 ضمن الائتلاف الوطني العراقي وكان أبرز مكوناته المجلس الإسلامي الأعلى. ورغم معارضته لعودة نوري المالكي لرئاسة الحكومة الجديدة إلا أن ضغوضاً خارجية إيرانية أجبرته على الموافقة. ولكن بالمقابل حصل التيار الصدري على مكاسب عالية؛ إذ فاز بـ39 مقعداً وسبعة حقائب وزارية في حكومة المالكي. بعبارةٍ أخرى، يكون التيار الصدري قد شارك في كل العمليات الانتخابية التي جرت تحت الاحتلال الأمريكي، وذلك على الرغم من معارضته للاحتلال الأمريكي ورفضه المستمر لتواجدهم وتدخلهم في مستقبل العراق، وبل والتي وصلت الى التصادم العسكري في أكثر من مرحلة كما ذكر سابقا.
لم تكن علاقاته أيضا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية دائما على أحسن حال كما يذكر البعض؛ فمع بداية الاحتلال الامريكي، دعمت الجمهورية الإسلامية التيار الصدري وجيش المهدي بالمال والسلاح. ولاحقاً، مع تعاظم الاحتراب الأهلي تنازلت ايران عن مقتدى الصدر من خلال السماح بتحجيمه من قِبل أحزابٍ أخرى. لم يمنعه ذلك من الالتجاء اليها بضع سنوات من عام 2007 الى 2011. ومنذ عام 2003، تحوّل خطاب الصدر تدريجياً من نبرة الخطاب الإسلامي إلى الخطاب القومي. كما كان للصدر عدة تصريحات أيضاً ضد التدخل الايراني في الساحة العراقية، ففي مقابلة على قناة الجزيرة الإخبارية عام 2008، قال مقتدى للسيد الخامنئي “ان علاقتنا وامتدادنا واحد عقائدياً، ولكن في الامتداد السياسي والعسكري لن أكون لكم.” وأضاف “أن هناك سلبيات تقوم بها الجمهورية في العراق،” وفي عام 2012، نشر رسالة على الموقع الرسمي ضد المالكي وقاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، والذي قال عنه “قائد فيلق القدس في إيران بل وخارجها،” واتهمهما بمن “بات يعزف على وتر الطائفية،” في العراق.
عاد مقتدى الصدر قبيل الانتخابات البرلمانية لعام 2014، حيث كانت ايران تسعى لولاية ثالثة لنوري المالكي، لينتقد الجمهورية الإسلامية من خلال قاسم سليماني، ووصفه بأنه “الرجل الأقوى في العراق،” مما يفهم من الكلام انتقاده لدور ايران في العراق. ومما لا شك فيه أن دعم إيران لنوري المالكي في الحكومات العراقية المتعاقبة، من بين الأمور التي جعلت الصدر ينتقد ايران في اكثر من موقع. كل ذلك لم يمنع مقتدى الصدر من أن يعتكف السياسية (استمر هذا لعامين) وأن يتوجه مرة أخرى إلى إيران بالذات. ماذا يريد؟
لا شك أن مقتدى الصدر طموح في إثبات نفسه على الساحة العراقية كرقم صعب لا يمكن تجاوزه في تشكيل الحكومات المتتالية في العراق. علماً أنه لم يبنى تحالف استراتيجي طويل الأمد مع أي من مكونات اللعبة السياسية في العراق أو من خارج العراق، فهو القريب من إيران والمنتقد الشديد لسياساتها في العراق. هو المحارب للاحتلال الأمريكي ولكل مخرجات الاحتلال ولكن لم يغب عن أي عملية انتخابية تحت الاحتلال. المتهم من خلال مليشياته بالقتل والتهجير الطائفي، وعلاوة على ذلك اتهامه في المشاركة في التغيير الديمغرافي الحاصل للسنة، ولكنه لا يبرح أن يشدد على التلاحم الوطني والديني بين السنة والشيعة، بل ويظهر المدافع عنهم في بعض الأحيان. وكان آخر حلفائه المتظاهرين المدنيين من العلمانيين الليبيراليين الذين خرجوا في مظاهرات على مدار العام، مطالبين بتحسين الخدمات ومحاربة الفساد والمحاصصة. ما لم يفهم بعد من الصدر هو نيته/هدفه في حكم العراق من بغداد أو من بيته في النجف؟ وهل هو مستعد لدفع حياته ثمناً اذا لزم الأمر للدفاع عن أهدافه ومعتقداته؟ كما فعل من قبله أبوه وعمه.