ابن حزم
أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري: فقيه حافظ، ومتكلّم، وأديب، ووزير، صاحب تصانيف كثيرة جدّاً.
ولادته
ولد أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد، الفارسي الأصل، ثمّ الأندلسي القرطبي اليزيدي، مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي المعروف بيزيد الخير، سنة أربع وثمانين وثلاث مائة للهجرة بقرطبة.
شيوخه
سمع في سنة أربع مائة وبعدها من طائفة، منهم: يحيى بن مسعود بن وجه الجنّة، وأحمد بن محمّد بن الجسور، ويونس بن عبد الله بن مغيث القاضي، وحمام بن أحمد القاضي، ومحمّد بن سعيد بن نبات، وعبد الله بن ربيع التميمي، وعبد الرحمان بن عبد الله بن خالد، وعبد الله بن محمّد بن عثمان، وغيرهم.
تلاميذه
حدّث عنه : ابنه أبو رافع الفضل، وأبو عبد الله الحميدي، ووالد القاضي أبي بكر ابن العربي، وأبو الحسن شريح بن محمّد، وطائفة.
نشأته وعلمه
نشأ ابن حزم في تنعّم ورفاهية، ورزق ذكاءً مفرطاً وذهناً سيّالاً ، وكتباً نفيسة كثيرة. وكان والده من كبراء أهل قرطبة، عمل الوزارة في الدولة العامرية، وكذلك وزّر أبو محمّد في شبيبته، وكان قد مهر أوّلاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثّرت فيه تأثيراُ كبيراً.
قيل: إنّه تفقّه أوّلاً للشافعي، ثمّ أدّاه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كلّه جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصّ وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال، وصنّف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدّب مع الأئمّة في الخطاب، بل فجّج العبارة وسبّ وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله على حدّ تعبير الذهبي في السير، بحيث إنّه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمّة وهجروها، ونفّروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتّشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدرّ الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين.
قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام -وكان أحد المجتهدين- : "ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل "المحلى" لابن حزم وكتاب "المغني" للشيخ موفّق الدين .
وقال الذهبي معلّقاً: "قلت: لقد صدق الشيخ عزّ الدين. وثالثهما "السنن الكبير" للبيهقي، ورابعها " التمهيد" لابن عبد البرّ . فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها، فهو العالم حقّاً".
ولابن حزم مصنفات جليلة أكبرها كتاب " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال " خمسة عشر ألف ورقة ، وكتاب " الخصال الحافظ لجمل [ ص: 194 ] شرائع الإسلام " مجلدان وكتاب " المجلى " في الفقه مجلد ، وكتاب " المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار " ثماني مجلدات ، كتاب " حجة الوداع " مائة وعشرون ورقة ، كتاب " قسمة الخمس في الرد على إسماعيل القاضي " مجلد ، كتاب " الآثار التي ظاهرها التعارض ونفي التناقض عنها " يكون عشرة آلاف ورقة ، لكن لم يتمه ، كتاب " الجامع في صحيح الحديث " بلا أسانيد ، كتاب " التلخيص والتخليص في المسائل النظرية " كتاب " ما انفرد به مالك وأبو حنيفة والشافعي " ، " مختصر الموضح " لأبي الحسن بن المغلس الظاهري ، مجلد ، كتاب " اختلاف الفقهاء الخمسة مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وداود " ، كتاب " التصفح في الفقه " مجلد ، كتاب " التبيين في هل علم المصطفى أعيان المنافقين " ثلاثة كراريس ، كتاب " الإملاء في شرح الموطأ " ألف ورقة ، [ ص: 195 ] كتاب " الإملاء في قواعد الفقه " ألف ورقة أيضا ، كتاب " در القواعد في فقه الظاهرية " ألف ورقة أيضا ، كتاب " الإجماع " مجيليد ، كتاب " الفرائض " مجلد ، كتاب " الرسالة البلقاء في الرد على عبد الحق بن محمد الصقلي " مجيليد ، كتاب " الإحكام لأصول الأحكام " مجلدان ، كتاب " الفصل في الملل والنحل " مجلدان كبيران ، كتاب " الرد على من اعترض على الفصل " له ، مجلد ، كتاب " اليقين في نقض تمويه المعتذرين عن إبليس وسائر المشركين " مجلد كبير ، كتاب " الرد على ابن زكريا الرازي " مائة ورقة ، كتاب " الترشيد في الرد على كتاب " الفريد " لابن الراوندي في اعتراضه على النبوات ، مجلد ، كتاب " الرد على من كفر المتأولين من المسلمين " مجلد ، كتاب " مختصر في علل الحديث " مجلد ، كتاب " التقريب لحد المنطق بالألفاظ العامية " مجلد ، كتاب " الاستجلاب " مجلد ، كتاب " نسب البربر " مجلد ، كتاب " نقط العروس " مجيليد ، وغير ذلك .
ومما له في جزء أو كراس : " مراقبة أحوال الإمام " ، " من ترك الصلاة [ ص: 196 ] عمدا " ، " رسالة المعارضة " ، " قصر الصلاة " ، " رسالة التأكيد " ، " ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس " ، " فضائل الأندلس " " العتاب على أبي مروان الخولاني " ، " رسالة في معنى الفقه والزهد " ، " مراتب العلماء وتواليفهم " ، " التلخيص في أعمال العباد " ، " الإظهار لما شنع به على الظاهرية " ، " زجر الغاوي " جزآن ، " النبذ الكافية " ، " النكت الموجزة في نفي الرأي والقياس والتعليل والتقليد " مجلد صغير " الرسالة اللازمة لأولي الأمر " ، " مختصر الملل والنحل " مجلد ، " الدرة في ما يلزم المسلم " جزآن ، " مسألة في الروح " ، " الرد على إسماعيل اليهودي الذي ألف في تناقض آيات " ، " النصائح المنجية " " الرسالة الصمادحية في الوعد والوعيد " ، " مسألة الإيمان " ، " مراتب العلوم " ، " بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل " ، " ترتيب [ ص: 197 ] سؤالات عثمان الدارمي لابن معين " ، " عدد ما لكل صاحب في مسند بقي " ، " تسمية شيوخ مالك " ، " السير والأخلاق " جزآن ، " بيان الفصاحة والبلاغة " ، رسالة في ذلك إلى ابن حفصون ، " مسألة هل السواد لون أو لا " ، " الحد والرسم " ، " تسمية الشعراء الوافدين على ابن أبي عامر " ، " شيء في العروض " ، " مؤلف في الظاء والضاد " ، " التعقب على الأفليلي في شرحه لديوان المتنبي " ، " غزوات المنصور بن أبي عامر " ، " تأليف في الرد على أناجيل النصارى " .
ولابن حزم " رسالة في الطب النبوي " ، وذكر فيها أسماء كتب له في الطب منها : " مقالة العادة " و " مقالة في شفاء الضد بالضد " ، و " شرح فصول بقراط " ، وكتاب " بلغة الحكيم " ، وكتاب " حد الطب " وكتاب " اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة " ، وكتاب في " الأدوية المفردة " ، و " مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب " ، و " مقالة في النخل " وأشياء سوى ذلك . [ ص: 198 ] وقد امتحن لتطويل لسانه في العلماء ، وشرد عن وطنه ، فنزل بقرية له ، وجرت له أمور ، وقام عليه جماعة من المالكية ، وجرت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظرات ومنافرات ، ونفروا منه ملوك الناحية ، فأقصته الدولة ، وأحرقت مجلدات من كتبه ، وتحول إلى بادية لبلة في قرية .
قال أبو الخطاب ابن دحية : كان ابن حزم قد برص من أكل اللبان وأصابه زمانة ، وعاش ثنتين وسبعين سنة غير شهر .
قلت : وكذلك كان الشافعي -رحمه الله- يستعمل اللبان لقوة الحفظ ، [ ص: 199 ] فولد له رمي الدم .
قال أبو العباس بن العريف : كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين .
وقال أبو بكر محمد بن طرخان التركي : قال لي الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد -يعني والد أبي بكر بن العربي - : أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة ، فدخل المسجد ، فجلس ولم يركع ، فقال له رجل : قم فصل تحية المسجد .
وكان قد بلغ ستا وعشرين سنة . قال : فقمت وركعت ، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة ، دخلت المسجد ، فبادرت بالركوع ، فقيل لي : اجلس اجلس ، ليس ذا وقت صلاة -وكان بعد العصر- قال : فانصرفت وقد حزنت وقلت للأستاذ الذي رباني : دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون . قال : فقصدته وأعلمته بما جرى ، فدلني على " موطأ " مالك ، فبدأت به عليه ، وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوا من ثلاثة أعوام ، وبدأت بالمناظرة . ثم قال ابن العربي صحبت ابن حزم سبعة أعوام ، وسمعت منه جميع مصنفاته سوى المجلد الأخير من كتاب " الفصل " ، وهو ست مجلدات ، وقرأنا عليه من كتاب " الإيصال " أربع مجلدات في سنة ست وخمسين وأربعمائة ، وهو أربعة وعشرون مجلدا ، ولي منه إجازة غير مرة .
هو أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (383هـ-454هـ/994م-1063م)، درس الحديث على أبي عمر أحمد بن محمد الجسور دراسة طيبة، فتهيأ له بذلك أساس مكين، بنى عليه فيما بعد معارفه بأصول الدين والشرع، ودرس “تاريخ الطبري” دراسة فهم وتمعن، فأصاب من ذلك إدراكا طيبا لتاريخ البشر والأديان، وكذلك سمع الحديث عن أبي عمر الطلمنكي المحدث النابه، وتعلم المنطق على يدي الكتاني، وكان طبيبا من مدرسة مسلمة المجريطي، ودرس الأدب على أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي، وعرف في مجلسه أبا عبد الله محمد بن يحيى بن محمد بن الحسين المعروف بابن الطبني، وكانا من أفذاذ الشعراء، ولابد أنه ساهم كذلك في مجالس الأدب التي كانت شائعة في تلك البيئة المهذبة المثقفة الرفيعة التي نشأ فيها.
وقد تعلق أبو محمد بن حزم- وهو بعد صبي يافع- بفتاة ذات حسن كان أبواه قد حضناها وقاما على تربيتها، فتمنعت عليه، ولم تظهر له قط من القبول ما يفسح له في مجال الأمل فيها، فطوى نفسه على آلام هذا الهوى. وفي عام 402هـ/1012م توفي أبوه، وكان قد أقام في خدمة العامريين حتى مقتل عبد الرحمن بن المنصور بن عامر الملقب بشنجول، وعندما نشبت الفتنة البربرية أخرج ابن حزم من قرطبة ونهبت قصوره، فتوجه إلى ألمرية وأقام فيها، وهناك انصرف إلى تأييد عبد الرحمن الرابع- الملقب بالمرتضى- وسار ابن حزم مع جيش المرتضى لحرب بني حمود، فانهزم الجيش في موقعة “غرناطة” (408هـ/1018م) وقتل المرتضى وأسر ابن حزم ثم أخلي سبيله فلجأ إلى شاطبة، واطمأن هناك ردحاً من الزمن كتب فيه كتاب “طوق الحمامة”، وظل مع ذلك يدعو لعبد الرحمن الخامس الذي كان يطلب الخلافة لنفسه.
فلما وفق عبد الرحمن إلى ما كان يسعى إليه، وارتقى عرش الخلافة وتلقب بالمستظهر عام 414هـ/1023م، استقدم ابن حزم وأقامه وزيراً له، ولم تدم خلافة المستظهر غير شهرين قتل بعدها، فنفي ابن حزم مرة ثانية من قرطبة، فآلى على نفسه ألا يضع في السياسة يداً من ذلك الحين، مؤمناً بأن أدعياء الخلافة لم يعودوا يحوزون ما ينبغي لها من نصاب شرعي، وأن الخلافة لم تعد حقاً إلهياً. وهكذا ظل ابن حزم إلى ذلك الحين موزعاً بين السياسة والأدب، أما بعد ذلك فقد كرس وقته كله لدراسة الدين والفقه.
أقبل على دراسة الشريعة والفقه وهو في السادسة والعشرين من عمره، بنهم على يد الفقيه المشاور عبد الله بن يحيى بن دحون… ثم وجد نفسه ميالاً لمذهب محمد بن ادريس الشافعي فانتقل إليه، وكان الشافعيون قلة بين الأندلسيين. ولم يظل ابن حزم شافعيا إلا فترة قصيرة، إذ استحسن المذهب الظاهري.
كان ابن حزم رجلاً صادقاً مخلصاً قويماً ذا ديانة وحشمة وسؤدد، وكان يؤمن بأن سلامة العقيدة والشرف فوق الحياة نفسها، وكان مخلصاً لأصحابه يتفانى في سبيلهم، لدوداً في خصومته، لا يصفح ولا ينسى ثأره، ولوعاً بالسخر من خصومه، شديد الاعتداد بما أوتي من علم، وكان كريما عفيفاً وسطاً في إيمانه، لا هو ساذج يقبل كل شيء، ولا هو متشدد لا يقبل إلا حكم العقل، بل هو أقرب إلى العقليين منه إلى العاطفيين.
كان غزير الإنتاج، ويبدو أنه درس وألف في كل صنف من أصناف العلوم عدا الرياضيات، ومن المؤسف أن معظم مؤلفاته قد ضاع. وسنتتبع في عرض مؤلفات ابن حزم التصنيف الذي اتبعه آسين بلاثيوس في كتابه عن ابن حزم.
أ- الفلسفة: ألف ابن حزم كتباً في مراتب العلوم والمنطق وفي نقد أبي بكر الرازي، وقد ضاعت كلها، ولكن بقي لنا مما يستحق الذكر من تواليفه كتابه المسمى “الأخلاق والسير في مداواة النفوس”. وقد أجمل آسين بلاثيوس وصفه بقوله : “إنه أشبه بسجل يوميات، دون فيه ابن حزم ملاحظات أو اعترافات تتصل بسيرة حياته … ونحن إذ نقرأه نجد فيه الوقائع كما سجلها رجل يقظ دقيق الملاحظة أثناء تجاربه الواسعة، وصاغها في قالب مبادئ عامة وحكم”.
وأعظم قيمة لهذا الكتاب الأخلاقي الذي صدر عن نفس يشوبها التشاؤم والتصوف- هي أنه يقدم لنا صورة حقيقية حية لنفسية مسلمي الأندلس في القرن الحادي عشر، وقواعد الأخلاق التي كانت مرعية في مجتمعهم، هذا إلى جانب تلك الفقرات التي تتصل بحياة ابن حزم نفسه.
ب- الفقه والأصول: ألف ابن حزم كتباً كثيرة في الحديث والمذاهب، ولكن أهمها على الإطلاق هو كتاب “الإبطال” الذي يعرض علينا فيه ضعف أصول خمسة أتبعتها بعض المذاهب الإسلامية في استخلاص الأحكام الشرعية، وهي : القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، وأهمية هذا الكتاب راجعة إلى أنه يبين لنا الأسس التي بنى عليها ابن حزم مجادلاته ونقده للمذاهب الأخرى؛ وهو الكتاب الأساس الذي يبسط لنا فيه دقائق المذهب الظاهري الذي اعتقده. وله أيضا كتاب ” المحلى في الخلاف العالي في فروع الشافعية” الذي يناقش فيه أصول المذهب الشافعي وينقدها، وكذلك كتاب “الفصل” الذي سنتحدث عنه فيما سيأتي:
ج- علوم الدين: كتب ابن حزم رسائل كثيرة نقض فيها آراء أصحاب المذاهب التي اعتبرها منحرفة عن الطريق القويم، أو دل فيها على أن أسلوب القرآن معجز لا يشبه في شيء أي أسلوب من أساليب البلاغة الإنسانية… وصنف رسائل أخرى مثل: “بيان التحريفات التي أدخلها اليهود والنصارى على نصوص التوراة والإنجيل”، و”النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربعة : المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة”، وهذه كلها نجدها مجموعة في كتاب. “الفصل في الأهواء والملل النحل” الذي نستطيع أن نعتبره بحق “تاريخا للأديان” وهو أهم ما كتب ابن حزم في موضوع الأديان.
حاول ابن حزم في دراساته في موضوع الأديان أن يوفق بين العقل والعقيدة (سابقا ابن رشد إلى ذلك بقرن من الزمن)، واجتهد في أن يطبق على الإلهيات أصول المذهب الظاهري الذي اعتقده.
د- التاريخ: خلف ابن حزم لنا مادة طيبة في التاريخ منها كتاب “جمهرة أنساب العرب” وهو عظيم الفائدة لمن يدرسون تاريخ الإسلام في المشرق والأندلس. وبين أيدينا كذلك كتابه ” نقط العروس” وهو يضم معلومات مقتضبة جافة عن خلفاء المشرق والأندلس وحكامها. وله كذلك “الرسالة” المشهورة في “بيان فضل الأندلس وذكر علمائه”، وقد احتفظ لنا المقري بنصها في ” نفح الطيب”، ويذكر فيه علماء الأندلس ويعدد أفضالهم ومؤلفاتهم في حماس بالغ لوطنه.
وأشهر ما ألف ابن حزم في مادة التاريخ وأعظمه قيمة هو كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” وهو تاريخ نقدي للأديان والفرق والمذاهب، وهو كتاب ضخم حافل بما فيه من مادة وأفكار، يعرض فيها ابن حزم لشتى مذاهب الذهن البشري في موضوع الدين، من الإلحاد المطلق الذي عليه السفسطائيون الذين لا يؤمنون بشيء… إلى إيمان العوام الذين يصدقون كل شيء، ويؤمنون بالخرافات في جهل، ولا يشكون في شيء.
هـ- الأدب:
يعتبر طوق الحمامة أهم ما ألف ابن حزم في باب الأدب، وهو رسالة عن ” الألفة والألاّف” أي الحب والمحبين، ويقع الكتاب في ثلاثين فصلا يدور كل منها حول موضوع معين من موضوعات الحب… فيبدأ بتعريف نوع الألفة الذي يدور عليه الفصل، أو يصف خاصية من خصائصه يتخيرها، ثم يورد طائفة من الحكايات الواقعية يدلل بها على صحة ما يقول، وتتخلل الكلام كله قطع من شعر ابن حزم نفسه.
ويضع ابن حزم فصول الكتاب كلها في أقسام أربعة تجمع ثلاثين بابا، وقد أورد بيان تقسيم كتابه في الباب الأول منه- عن ماهية الحب- فقال : ” وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين بابا، منها في أصول الحب عشرة : فأولها هذا الباب، ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من أحب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب التفسير.
ومنها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابا وهي : باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السر، ثم باب الكشف والإذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت.
ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب وهي : باب العاذل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو”.
لم تلبث طريقة ابن حزم- بعد تطبيقها على علوم الدين والفقه- أن أصبحت مذهبا بذاته حل محل المذهب الظاهري، وكون أتباعه فرقة عرفت “بالحزمية”… وقد انتقل مذهب ابن حزم إلى المشرق وذاع بين أهله… أما في المغرب والأندلس فإننا نجد طائفة كبيرة من المؤلفين حملت مؤلفاتهم طابع “المذهب الحزمي”… ونصادف كذلك خصوما لمذهب ابن حزم وطريقته.
وقد مال محمد بن تومرت مهدي الموحدين إلى مذهب ابن حزم، إذ وجد فيه ما يؤيد دعوته، ووصل نفر من فقهاء الحزمية إلى كبار المناصب، ومن أتباع المذهب الحزمي أو الآخذين بناحية منه محيي الدين بن عربي والفيلسوف ابن رشد.
وقد أسرع المذهب الحزمي إلى الزوال بعد انقضاء أمر الموحدين، ولم نعد نجد من أتباعه خلال القرن الثالث عشر الميلادي إلا عددا قليلا من الناس.