انخرام المناسبة
انخرام المناسبة: اصطلاحٌ أصوليٌ، والمراد من المناسبة وصفٌ منضبطٌ ناسب ترتب الحکم علی الموضوع لأجل ذلک الوصف، وهو الذي يعبّر عنه بـ «مناسبة الحکم والموضوع». مثلاً کان ترتّب حکم الحرمة علی الخمر لأجل ذهاب العقل، فصفةُ «ذهاب العقل» وصفٌ ناسب تحقق حکم الحرمة علی الخمر. وأما انخرام المناسبة فهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية للحکم المذکور، فالمصلحة التي كانت تقتضي وجود الحكم وكانت من المناسب أن تكون علة له، تبطل بوجود مفسدة معارضة لها مساوية كانت أو أرجح، بحيث تكون هذه المصلحة لا أثر لها لا أنها تبطل من الاساس، فالمراد من الانخرام هو عدم تأثير المصلحة لا عدم وجود المصلحة.
تعريف الانخرام والمناسبة لغةً
الانخرام هو التشقق، ويقال انخرم ثقبه أي انشق[١].
والمناسبة هي المشاكلة، ويقال ليس بينهما مناسبة أي مشاكلة[٢].
ويذكر بعض الأصوليين أنّ المناسبة لغة تجتمع مع الملائمة، والمناسب: الملائم[٣].
تعريف المناسبة والانخرام اصطلاحاً
المناسبة مأخوذة من المناسب وهو: وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم[٤]. مثل وصف ذهاب العقل حيث إنّه يمكن أن يكون هو الباعث لتحريم الخمر فناسب وصف إذهاب العقل حكم تحريم الخمر.
وانخرام المناسبة هو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية[٥]
فلايقضي العقل مناسبتها للحكم عند وجود ما يعارضها[٦]. فالمصلحة التي كانت تقتضي وجود الحكم وكانت من المناسب أن تكون علة له، تبطل بوجود مفسدة معارضة لها مساوية كانت أو أرجح، بحيث تكون هذه المصلحة لا أثر لها لا أنها تبطل من الاساس، فالمراد من الانخرام هو عدم تأثير المصلحة لا عدم وجود المصلحة[٧].
ومثّل له بمن سافر وسلك الطريق الأبعد ـ مع وجود الأقرب ـ لا لغرض إلاّ القصر نفسه فإنّ المناسب هنا وهو السفر البعيد عورض بمفسدة وهي عدم سلوك الطريق الأقرب الذي لا قصر فيه[٨]
أقسام الانخرام
إنّ معارضة الوصف المناسب يمكن أن تكون على قسمين[٩]:
القسم الأول
أن يكون المعارض دالاً على انتفاء المصلحة، فهنا لا خلاف بين الأصوليين في كون المناسبة المدّعاة قد إنخرمت وبطل الوصف.
القسم الثاني
أن يكون المعارض دالاً على وجود مفسدة تعارض المصلحة مساوية لها أو راجحة عليها.
ومحل الكلام في كون الانخرام مبطلاً للمناسبة أو غير مبطل إنما هو في هذا القسم.
حكم الانخرام
البحث في انخرام المناسبة يتفرّع عن أصل قبول مسلك «المناسبة» في استكشاف علل الشارع ومناطات أحكامه وهو ممّا لم يقبله منكرو القياس كالشيعة الإمامية[١٠]. أما الذين قبلوا مسلك «المناسبة» وهم القسم الأكبر من أهل السنّة وذهبوا إلى أن المناسبة بين المصلحة الظاهرة وبين الحكم هي أحد المسالك المعتبرة في إستكشاف العلة، وكون تلك المصلحة هي العلة الباعثة لتشريع ذلك الحكم. فوقع الكلام عندهم فيما لو عارضت هذه المصلحةَ الظاهرةَ مفسدةٌ مساويةٌ لها أو أرجح فهل تبقى هذه المصلحة على تأثيرها في الحكم أم تبطل وتنخرم؟ قولان في ذلك:
القول الأول: إنخرام المناسبة وبطلانها
وهو اختيار الآمدي[١١]، وابن الحاجب[١٢]، والعضدي[١٣]، والسبكي[١٤]، وأحمد بن يحيى[١٥]، والسالمي[١٦]، والصنعاني[١٧]، والخضري[١٨]، ونُسب إلى الأكثر[١٩].
وأستدل لانخرام المناسبة بعدّة أدلة:
الدليل الأول: أنّه لا مصلحة في الفعل مع وجود مفسدة تساويها أو تزيد عليها
لأن المناسبة أمر عرفي، والعرف لايرى مصلحة في الفرض المذكور[٢٠].
الدليل الثاني: أنّ دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح
فكل فعل إحتوى على مصلحة ومفسدة في آنٍ واحدٍ يقدّم جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة[٢١].
الدليل الثالث: أنّ القول بعدم إنخرام المناسبة ترجيح بلاوجه
أنّ القول بعدم إنخرام المناسبة في المصلحة التي تُعارض بمفسدة مساوية أو أرجح منها يلزم منه أحد أمرين؛ الأول: أن تكون المصلحة قد عُمل بها وحدها ولم يُعمل بما يعارضها، وهو باطل؛ لأنّه يلزم منه ترجيح أحد المتساويين على الآخر من دون مرجّح أو ترجيح المرجوح على الراجح. الثاني: أن تكون المصلحة قد عمل بها إلى جانب العمل بالمفسدة وهو باطل أيضا؛ لأنّ فيه جمعا بين الأحكام المتضادة[٢٢].
القول الثاني: عدم انخرام المناسبة
وهو اختيار الرازي[٢٣] و ابن قدامة[٢٤] والبيضاوي[٢٥]، ونسبه الحلي إلى الأكثر[٢٦].
واستدل لعدم الإنخرام بعدّة أدلة:
الدليل الأول: إختلاف العنوان في الفعل المتضمن للمصلحة والمفسدة معا
كالصلاة في الدار المغصوبة، حيث إنّها تعتبر طاعة ومصلحة من وجه، ومعصية ومفسدة من وجه آخر ومع اختلاف العنوان لا تنخرم المصلحة بمفسدة تعارضها[٢٧].
الدليل الثاني : جواز اجتماع المصلحة والمفسدة
لأن العقلاء يعترفون بجواز اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد[٢٨].
الدليل الثالث: عدم انخرام المصلحة بمفسدة تعارضها
أنّ مناسبة الوصف للحكم تبتني على ما فيه من المصلحة، والمصلحة أمر حقيقي لاتنخرم بمفسدة تعارضها[٢٩].
وغير ذلك من الأدلة التي تذكر له[٣٠].
ويذهب الطوفي إلى أنّ كلاًّ من الفريقين يذهبان إلى ترك العمل بالمناسب والمصلحة المذكورة، فأما القائلون بالانخرام فلبطلان المصلحة، وأما القائلون بعدم الانخرام فلترجيح جانب المفسدة على جانب المصلحة[٣١].
الهوامش
- ↑ . لسان العرب 1: 1070 مادة «خرم».
- ↑ . لسان العرب 4: 3898 مادة «نسب».
- ↑ . أنظر: إرشاد الفحول 2: 165، مباحث العلة في القياس: 391.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3ـ4: 237.
- ↑ . تجريد الأصول: 131.
- ↑ . مباحث العلة في القياس: 436.
- ↑ . أنظر: المصدر السابق.
- ↑ . تشنيف المسامع 2: 92، شرح الجلال المحلّي 2: 441، شرح طلعة الشمس 2: 167.
- ↑ . مباحث العلّة في القياس: 437.
- ↑ . أنظر: تهذيب الوصول: 253، مبادئ الوصول: 219 ـ 220، تجريد الأصول: 104، مناهج الأحكام والأصول: 252.
- ↑ . منتهى السؤل: 212.
- ↑ . منتهى الوصول: 183.
- ↑ . شرح مختصر المنتهى 3: 422.
- ↑ . جمع الجوامع 2: 441.
- ↑ . البحر الزخّار 1: 193.
- ↑ . شرح طلعة الشمس 2: 167.
- ↑ . إجابة السائل: 198.
- ↑ . أصول الفقه الخضري: 307.
- ↑ . ارشاد الفحول 2: 172.
- ↑ . أنظر: منتهى السول: 212، منتهى الوصول ابن الحاجب: 183، شرح مختصر الروضة 3: 421، اجابة السائل: 198، مباحث العلة في القياس: 438.
- ↑ . أنظر: إجابة السائل: 198، ارشاد الفحول 2: 172، أصول الفقه الخضري: 307، مباحث العلة في القياس: 438.
- ↑ . مباحث العلة في القياس: 437 ـ 438.
- ↑ . المحصول 2: 325.
- ↑ . روضة الناظر: 163.
- ↑ . الابهاج في شرح المنهاج 3: 65.
- ↑ . نهاية الوصول 4: 107.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 326، الإحكام الآمدي 3ـ4: 243، شرح مختصر الروضة 3: 421، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 4: 108.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 327، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 4: 109، مباحث العلية في القياس: 442.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 242.
- ↑ . أنظر: نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 4: 107 ـ 110.
- ↑ . شرح مختصر الروضة 3: 423.