أحکام البيان: بمعنی الدليل الواضح والمبيّن الذي يکشف عن قول الشارع، ولايخفی أنّ لـ البيان أحکاماً کما أنّ له أقساماً و مراتب، والمقصود في هذا المقال بيان الأحکام الذي يتعلّق بنوع بيان الشارع من العقلي والنقلي وأنّه هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو لا؟

أحکام البيان

وقع البيان موضع بحث الأصوليين من عدّة جهات:

الاُولى: قبح العقاب بلا بيان

ناقش الأصوليون قاعدة تخصُّ مورد ما إذا احتملنا التكليف ولم يكن لدينا بيان فيه، فقال البعض: بأنَّ العقل يحكم بالبراءة في هذا المورد؛ لهذه القاعدة، باعتبار أنّا لو لم نقل بالبراءة لزم الظلم، وهو منفي عن الباري تعالى[١]. فهي مبنية على القول بالتحسين والتقبيح العقليين[٢].
وفي القاعدة بحوث ومناقشات غير قليلة:
منها: جريانها بعد الفحص عن البيان لا قبله.
ومنها: هل المراد بالبيان هنا البيان التفصيلي أو يكفي البيان الإجمالي؟
وقد اعتبرت من المسلّمات بين العقلاء[٣]، لكنَّ الأخباريين يرون أدلّة الاحتياط نوع بيان، فلاتطبّق القاعدة في موارد الاحتياط، فيدّعون أنَّ موارد الشبهة تندرج تحت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، بدعوى وجود بيان على التكليف المشتبه من جهة العلم الإجمالي أو أخبار الاحتياط التي تصلح لئن تكون بيانا على التكليف الواقعي[٤].
ومنها: كون المراد من البيان هو البيان الواصل إلى العبد وليس البيان الواقعي وإن لم يصل إلى العبد[٥].
ومنها: هل القاعدة تخصُّ الشبهات الحكمية أو تشمل الموضوعية كذلك؟[٦]
وخالف الشهيد الصدر جزئيا هذه القاعدة بإطلاقها؛ بناءً على مسلكه المسمّى مسلك حقّ الطاعة[٧].

الثانية: تأخير البيان عن وقت الحاجة

ناقش الأصوليون موضوع تأخير البيان عن وقت الخطاب ومجيئه في دليل منفصل، وذلك من قبيل صدور عام، ثُمّ صدور خاصّ، فهل يمكن القول بأنّ الثاني موجِّه للأوّل ومخصِّص له أو أنَّ الثاني ناسخ وليس مخصِّصا؟
كما ناقش بعض الأصوليين في المراد من وقت الحاجة، فهل هو وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه، فقبح التأخير مسلَّم؛ لأنَّه يستلزم نقض غرض المولى، وهو مستحيل في حقّ الحكيم؟
وإن اُريد بوقت الحاجة حاجة المكلَّف فقبح التأخير غير معلوم؛ لأنَّ من المحتمل أنّ المولى يرى المصلحة في إلقاء ظهور العام إلى المكلَّف ـ خلافا لمرامه الواقعي ـ ليأخذ به ويتّكل عليه حجّة وبيانا إلى أن تقتضي المصلحة في بيان المرام الواقعي، أي أنَّ فلسفة التدرُّج في البيان الشرعي تأتي هنا كذلك. فلابدَّ وأن يكون المراد من التأخير هو التأخير عن وقت حاجة المولى، وبناءً عليه يكون مستحيلاً[٨].

الأقوال في جواز تأخير البيان وعدمه

ويبدو إجماع الأصوليين أو عدم الخلاف بينهم في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنَّ تأخيره في هذه الحالة يستلزم التكليف بما لايطاق، لتعذُّر فعل ما كُلِّف به خارج وقت الحاجة، فهو غير جائز إلاَّ عند من يرى جواز التكليف بما لايُطاق[٩].
والخلاف في التأخير عن وقت الخطاب، وفي هذا المجال عدّة أقوال:
1 ـ جواز التأخير عن وقت الخطاب مطلقا. وهو لأبي إسحاق الشيرازي.
2 ـ جواز تأخير بيان التفسير، كما يصحّ موصولاً ومفصولاً. نسب إلى أبي العباس وأبي سعيد الاصطخري وأبي بكر القفّال.
3 ـ عدم جواز تأخير البيان المجمل عن وقت الخطاب، وهو لأبي علي وأبي هاشم وأهل الظاهر.
4 ـ جواز تأخير البيان المجمل عن وقت الخطاب، وهو لأكثر الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة، و السيد المرتضى.
5 ـ جواز تأخير بيان المجمل وعدم جوازه في العموم وما جرى مجراه، وهو لجماعة من أصحاب الشافعي وأبي الحسن الكرخي.
6 ـ جواز تأخير بيان الأوامر وعدم جواز تأخير بيان الأخبار.
7 ـ ونُسب إلى ناس جواز التأخير في الأخبار دون الأمر والنهي[١٠].
قسَّم الرازي الخطاب المحتاج إلى بيان إلى ضربين، أحدهما: ما له ظاهر استعمل خلافه. والثاني: ما لا ظاهر له، كالأسماء المتواطئة والمشتركة.
ثُمَّ قسَّم الأوّل إلى أربعة أقسام، هي:
الأوّل: تأخير بيان التخصيص.
الثاني: تأخير بيان النسخ.
الثالث: تأخير بيان الأسماء الشرعية.
الرابع: تأخير بيان اسم النكرة إذا أراد به شيئا معيّنا.
ثمّ ذهب إلى جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في جميع هذه الأقسام[١١].

أدلّة المجوزين

استدلَّ مجمل القائلين بجواز تأخير البيان عن الخطاب إلى وقت الحاجة باُمور:
الأوّل: كونه أمرا غير ممتنع، مع أنَّه قد تكون هناك مصلحة دينية تستدعي تأخير البيان.
الثاني: هناك موارد وردت في القرآن فيها تأخير بيان:
منها: قوله تعالى: «...إنَّ اللّه‏ يَأمرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزوا قَالَ أعوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ قَالوا ادْعُ لَنَا ربَّكَ يُبِّنُ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنِّهَا بَقَرة لاَ فَارِض ولاَ بِكْر عَوان بَيْنَ ذَلِكَ...» [١٢]. وهو صريح بجواز تأخير البيان؛ باعتبار وضوح التأخير في ذكر الخصيصة وبيانها.
ومنها: قوله تعالى: «إنَّ عَلَيْنَا جَمعَهُ وقُرآنَهُ فَإذَا قَرَأنَاه فاتّبع قُرآنَهُ ثُمَّ إنّ عَلَيْنَا بَيانَهُ»[١٣].
وهي تدلُّ على تأخير البيان عن وقت الإنزال؛ لأنَّ (ثُمَّ) للمهلة والتراخي.
ومنها: قوله تعالى: «ألر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ»[١٤]. و (ثُمَّ) هنا للتأخير أيضا.
ومنها: قوله تعالى: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْآن مِنْ قَبْل أنْ يقْضى إلَيْكَ وَحْيُهُ»[١٥]. ويراد من الآية عدم تعجيل الرسول(ص) ببيان المراد من القرآن للناس.
وآيات اُخرى استدلَّ بها على الموضوع[١٦].
الثالث: وقوعه في العرف، فلايقبح أن يقول المولى لعبده: آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة، وتبتاع ما اُبيّنه لك يوم الجمعة.
الرابع: الإجماع على حسن تأخير اللّه‏ تعالى بيان مدّة الفعل المأمور به، والوقت الذي ينسخ فيه، عن وقت الخطاب، وكما يجوز تأخير البيان في النسخ كذلك في بيان غير النسخ[١٧].

أدلّة المانعين

واستدلَّ المانعون عن تأخير البيان باُمور:
الأوّل: الخطاب المجمل بمثابة خطاب العربي بالعجمية، والأخير غير جائز، فالأوّل كذلك.
الثاني: الخطاب للفائدة، وما لا فائدة فيه فوجوده كعدمه، فلايجوز قول: «أبجد هوز» وإرادة وجوب الصلاة منه.
الثالث: لا خلاف في عدم جواز قول: «في خمس من الإبل شاة» ويراد من الإبل الأفراس، فإنّه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد.
الرابع: جواز التأخير تحكُّم، فإن جاز تأخير البيان إلى ما لا نهاية فربّما يخترم النبي(ص): قبل البيان، فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسّكا بعموم ما اُريد به الخصوص[١٨].

رأي الأخبارية

خالف الأخبارية في هذا المجال، وقالوا بعدم صحّة هذه القاعدة؛ لأجل ما ورد من روايات تفرض السؤال على الناس من الأئمة(ع) وتقول بعدم وجوب الإجابة من قبلهم، من قبيل: «... فأمرهم الشيعة أن يسألونا، وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا»[١٩]. وأنَّ هناك فتنة وقعت بعد وفاة الرسول(ص) أوجبت إخفاء بعض ما جاء عن النبي[٢٠].

فائدة البحث

تذكر فائدة لهذا البحث، وهي كون حلّ التعارض الوارد بين العام والخاصّ ومجيء الخاصّ بعد حلول وقت العمل بالعام، ودوران الأمر ـ لأجل حلّ التعارض ـ بين النسخ والتخصيص، فيحتمل كون الخاص مخصِّصا للعام ويحمتل كونه ناسخا.
والقول بالنسخ يتوقّف على مقدّمات، منها: قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ باعتبار لزوم أن يكون الأمر الآخر إذا صدر بعد وقت العمل أصبح ناسخا وقبله مخصصا[٢١].

أصالة البيان

وهي من الأصالات المستخدمة من قبل الأصوليين، ويراد منها أنّ المتكلم غالبا ما يكون في صدد بيان كلّ مراده من الكلام، ومن خلال هذه الأصالة ينفى القيد المحتمل إرادته في الكلام ويثبّت الإطلاق، ويرجع دليلها إلى حجّية الظهور؛ باعتبار أنّها من الأصالات اللفظية، التي يرجِّع الأصوليون أدلّتها إلى أصالة الظهور[٢٢].

المصادر

  1. . تقريرات المجدّد الشيرازي 2: 340 و 4: 55، نهاية النهاية 1: 314، ثلاث رسائل، العوائد والفوائد: 9 ـ 10.
  2. . مصباح الأصول 2: 283.
  3. . تنقيح الأصول العراقي: 48.
  4. . نهاية الأفكار 3: 199 ـ 200، منتهى الأصول 2: 164.
  5. . فوائد الأصول 3: 215.
  6. . المصدر السابق 3: 389 ـ 396.
  7. . دروس في علم الأصول 2: 333 ـ 336.
  8. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 551 و 3: 86، وسيلة الوصول إلى حقائق الاصول: 416، منتهى الأصول 2: 571 ـ 572، محاضرات في أصول الفقه 5: 320 ـ 321.
  9. . الذريعة 1: 361 ـ 362، العدّة في أصول الفقه الطوسي 2: 448، المنخول: 128، غنية النزوع 2: 331، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 30، مبادئ الوصول: 161، معالم الدين: 157، الفصول الغروية: 226.
  10. . أنظر: الذريعة 1: 362 ـ 363، الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 81، العدّة في أصول الفقه (الطوسي) 2: 449 ـ 450، اللمع: 118، أصول السرخسي 2: 28، غنية النزوع 2: 331 ـ 334.
  11. . المحصول 1: 478.
  12. . البقرة: 67 ـ 68.
  13. . القيامة: 17 ـ 19.
  14. . هود: 1.
  15. . طه: 114.
  16. . أنظر: المستصفى 1: 286 ـ 288، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 30 ـ 42.
  17. . أنظر: الذريعة 1: 361 ـ 374، العدة في أصول الفقه الطوسي 2: 450 ـ 464، المستصفى 1: 286 ـ 290، المحصول (الرازي) 1: 477 ـ 498، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 30 ـ 44.
  18. . المستصفى 1 : 288 ـ 290 ، وأنظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 42 ـ 44.
  19. . الكافي 1: 212، كتاب الحجّة، باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه‏ الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم‏السلام، ح 8.
  20. . الفوائد المدنية: 244 ـ 245 و 336 ـ 337.
  21. . نهاية الأفكار 4 ق 2: 152، حقائق الاصول 1: 536 ـ 537، أجود التقريرات 3: 393، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 219 ـ 220.
  22. . أنظر: مقالات الاصول 1: 505 ـ 506.