محمد علي الهندي

محمّد علي الهندي: داعية ومصلح إسلامي شهير.
ولد محمّد علي في العقد السابع من القرن التاسع عشر، إذ لا تُعرف سنة مولده على التحديد، وكان أخوه الزعيم المجاهد شوكت علي قد سبق ميلاده بستّ سنوات، فنشأ في أُسرة مؤمنة تحافظ على تعاليم الإسلام محافظة دقيقة، بحيث كانت والدته قدوة المسلمات في بلدها،
وكانت تبسط يدها بالخير لكلّ من ترى لديه حاجةً للمعونة، فشغلت مكان السيادة في بيتها، وجعلت تُعنى بتربية ولديها تربية إسلامية، قُوامها حفظ كتاب اللَّه،
ونُبَذ من أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله، وبعد أن أتمّا الدراسة الأوّلية ذات التوجيه الديني التحقا معاً بجامعة (عليكرة)، فألمّا بنموذجين من الثقافة الإسلامية والعلوم الغربية، وقد درسا الإنجليزية دراسةً أهّلتهما إلى الالتحاق بأرقى الجامعات الإنجليزية في لندن.
وحين نال محمّد علي أرقى شهادات الجامعة رجع إلى الهند، وفي نفسه آمال واسعة أن ينهض بقومه نهضةً مستقلّةً، ولكنّه وجد المستعمر الإنجليزي يقف عقبةً أمام نهوض الهنود عامّة والمسلمين بنوع خاصّ؛ إذ رأى فيهم توثّباً للحرّية وتطلّعاً للاستقلال بعيداً عن سيطرة المحتلّ،
فأعلن محمّد علي الثورة على هذه النية المبيّتة، وخلع ما كان يرتديه من لباس الغرب، وعاد إلى زيّ مواطنيه حاثّاً كلّ هندي على ألّا يلبس إلّامن نتاج بلده الصناعي، وجعل ينتقل في شتّى البلاد الهندية ليبثّ دعوة الاستقلال، كما شغل نفسه بقضايا العالم الإسلامي جميعه،
فما كانت تُلم مأساة استعمارية بموطن إسلامي إلّاكان محمّد علي سريعاً للدعوة إلى معاونة المعتدى عليهم بالتبرّعات المالية، وحين تنكّر الغرب للخلافة الإسلامية وعاون دعاة العلمانية في سقوطها ألّف جمعيةً هندية سمّاها «جمعية الخلافة»، وأصدر المقالات الصارخة بفضيحة التآمر العلماني على أقوى رموز الإسلام، ولم يشأ أن يقتصر جهده النضالي على ساحة وطنه في الهند، بل عزم على الرحلة إلى أوروبّا؛
ليجهر بما يتأكّده من التآمر الصارخ على المسلمين.
يقول الأُستاذ عبد الحميد سعيد متحدّثاً عنه: «ثمّ سافر بعد ذلك على رأس وفدٍ من‏
إخوانه المسلمين إلى أوروبّا؛ للدفاع عن دولة الخلافة بلسانه وقلمه، فزار عواصم دول الحلفاء، وظهرت كفاءته رحمه الله في السياسة والخطابة حتّى اعترف خصومه بقوّة تأثيره، وكان موضع التجلّة والاحترام في كلّ مكان ذهب إليه، ولمّا عاد إلى مسقط رأسه ليواصل جهاده قُبض عليه مرّةً أُخرى، وأُلقي في غيابة السجن، ولم يفلّ ذلك من عزيمته، بل زادها مضاء وحميّة، فكنت تراه كالبركان الهائج يقذف بالحمم كلّما سمع بظلمٍ حلّ ببلدٍ إسلامي، فيحمل على الظالمين حملات صادقة بقلم من نار ولسان أرهف من الصارم البتّار، حتّى يثير العواطف، ويحرّك النفوس، فكم جمع من الأموال لإغاثة البائسين من أهل الأناضول ومنطقة الريف [بالمغرب‏]، وكم ناضل وجاهد عن بلاد الإسلام التي حلّت بها النكبات وانتابتها النوائب... ولا أنسى موقفه العظيم في قضية فلسطين والمسجد الأقصى، فقد سجّل له بذلك صحيفة بيضاء لا تمحى أبد الدهر».
ولم ينسَ الدكتور عبد الحميد سعيد أن يشيد بموقفه من عدم التعاون مع الإنجليز في حرب الأتراك، فسجّل ذلك حين قال في خطابه التأبيني: «قامت الحرب العامّة، تلك الحرب الطاحنة الضروس، ودخلت الهند فيها مكرهة، فكان الفقيد رحمه الله هو الذي قام بين إخوانه الهنود يستنكر تلك الحرب، ويُنادي بعدم الاشتراك فيها، حتّى لا يقف المسلمون في صفٍّ واحد مع أعداء الخلافة، ولم يعبأ بتهديد ولا وعيد، ولا بما يُحيط به من خطر داهم في تلك الساعة الرهيبة، واستمرّ في دعوته بشجاعةٍ كانت مضرب الأمثال، حتّى قُبض عليه، وأُلقي في السجن إلى أن وضعت الحرب أوزارها».
وما كاد الهندي يتحرّر من السجن حتّى دعا إلى تأليف «جمعية الخلافة» مبيّناً أعداءها المتربّصين بها من الأتراك أنفسهم كيلا ينخدع المسلمون بأراجيف المموّهين... وكانت كلماته تُترجم إلى العربية والتركية والفارسية، وتوزّع في شتّى ربوع العالم الإسلامي لتحدث دويّها البعيد.
وإذا كان صاحب هذا الرأي الحرّ لم يعبأ بالحاكم البريطاني في بلده، فإنّه كان أشدّ حمية وأعلى صوتاً في إنجلترا نفسها حين سافر إلى لندن ليبحث قضية المسلمين على‏
صفحات جرائدها، ثمّ على المنبر العامّ في حديقة (هايد بارك)، فواجه الشعب الإنجليزي بصراحته المعهودة،
واستمع إلى الأسئلة المعترضة، وأجاب عليها في ثقة واطمئنان؛ لأنّه يدافع عن قضايا آمن بها إلى درجة اليقين، ومعه لكلّ مسألة برهان لا يُفلّ.
سأله سائل بحديقة (هايد بارك) عن كراهة المسلمين للتجديد- وهو باب التقدّم الحضاري- فردّ في إقناع: بأنّ التجديد الذي يُريده الاستعمار هو أن يهدم كلّ تراث ديني صالح للبقاء، وأن يُفنى المسلمون في الغرب، فلا يظهر لهم كيان مستقلّ في عقائدهم ومعايشهم وأحوالهم الاجتماعية! وهذا ما يلفظه الهنود جميعاً... أمّا التجديد الحضاري الذي يدفع إلى الحياة الصالحة فمن أوّل ما نبّه الإسلام إليه ودعا له، وما ارتفعت مدنيّة الإسلام في عهودها الزاهرة إلّابمواصلة التجديد، فعلى إنجلترا أن تبني ولا تهدم، أمّا إذا أرادت الهدم للعقيدة والكيان والمثل العليا بدعوى التجديد فهي مخطئةٌ حين تظنّ أنّ المسلمين لا يفطنون إلى كيدها الصريح.
وحين طالبه بعض المستمعين أن يترك زيّه التقليدي الذي يرتديه صاح قائلًا: «إنّه من صنع بلادي، وبأيدي أبناء بلادي. وهذا بعض مظاهر الاستقلال الصحيح،
ومن العار أن يتزيّا [رجل‏] بزيّ أُمّة تحتلّ بلده وتنهب خيرها وتظنّ أنّ اتّباعها في مسائل الملبس والمطعم والمسكن مصدر رفعةٍ للمتبوع، وهو يرى أظافرها ناشبةً في عنقه وماله في جيبها، وأبناءها يأكلون ويشربون من عرق مواطنيه! إنّ كل زخرف كاذب يُوحي به الملبس والمطعم نضعه تحت أقدامنا؛ لأنّنا نواجه الحقائق ولا نُعنى بالزخارف والتهاويل».
وحين يُسأل عن الدين الإسلامي وأنّ قوانينه لم تعد تصلح للقرن العشرين على حدّ زعمهم يصيح بالسائلين: «أنتم لم تدرسوا قوانين الإسلام، وإنّ الإسلام دعا إلى الحرّية والإخاء والمساواة، وأوروبّا جميعها غارقة في الظلمات، وكلّ ما جاءت به الثورات الأوروبّية منذ قرن أو قرنين جاء الإسلام بخيره وتجافى عن شرّه،
وقد انتصر الإسلام في حروبه بسماحته وعدالته، ولذلك اعتنقته البلاد النائية عن طواعية واختيار، والقانون الإنجليزي مثلًا يمنع البغي والسطو والنهب، فهل منع إنجلترا من استعمار الشرق واغتصاب‏
ذخائره، أم أنّها سطور تُكتب ولا تجد التنفيذ في غير أوروبّا وحدها؟!».
وحين يُسأل عن اهتمامه ببلاد الإسلام، حيث يتحدّث عن مآسي الاستعمار في مصر وتونس وسورية والمغرب وليبيا، ولا يقصر حديثه عن بلده مع أنّنا نعيش في عصر القوميات، يتساءل محمّد علي: «ما الذي دفع أوروبّا إلى الحرب الطاحنة غير القوميات؟! إنّ الذي يجعل دولته وحدها كلّ شي‏ء في العالم، ويطلب لها السيادة والسيطرة، يقذف بها قريباً أو بعيداً إلى حرب تأتي عليها، وقد تنتصر ولكنّها تفقد ملايين الأرواح؛ لأنّ القومية- كما لاحت بوادرها في أوروبّا جميعها- مصدر أنانية وأثرة وتربّص بالصغار كي يفنوا في نطاق الكبار، أمّا الإنسانية التي فرضها الإسلام فتجعل المساواة الحقيقية مبدأ للجميع،
وقد أوجدتم عصبة الأُمم بدعوى أنّها تحكم بين المتنازعين وتدفع بالحقّ إلى صاحبه، ولكنّها لم تفعل شيئاً من ذلك، بل مالأت المستعمرين واضطهدت الأبرياء، والقومية اليوم تطلّ برأسها في ألمانيا وإيطاليا، وستنمو وتستشري حين توقد حرباً مقبلة».
هذا ما قاله محمّد علي سنة 1928 م، وقد صدقت فراسته، فما حانت سنة 1939 م حتّى شبّت الحرب العالمية الثانية، شبّتها ألمانيا تحت ستار «ألمانيا فوق الجميع»، وإيطاليا تحت سيادة الحكم الفاشي، وانقلب العالم كلّه إلى مجزرة رهيبة؛ لأنّ الذي لم يتأثّر بالقتال قد تأثّر بالقحط والمرض والغلاء.
يقول الدكتور محمّد رجب البيّومي: «لقد بثّ مولانا محمّد علي آراءه الناقدة من أعلى منابر أوروبّا، وجال بالعالم الإسلامي ليعلن هذه الآراء بين المسلمين داعياً إلى الوحدة الحقيقية التي تجعل بني الإسلام عضواً واحداً، والتي تدفع كلّ دولة إسلامية إلى التعاون مع شقيقتها تعاون الأصابع في اليد الواحدة، ولأمرٍ أراده اللَّه اندفعت بعض الأقلام إلى توهين مذهبه؛ لأنّ عشّاق أوروبّا قد سكروا بخمرها، فأخذوا يدعون إلى الانفصال، ويحبّذون كلّ حركة تُنادي بفصل الإسلام عن القيادة، ولكنّ مبادئ محمّد علي قد وجدت في كلّ متّجهٍ من يستمع إليها؛ لأنّه لا يتحدّث عن نفسه، بل يتحدّث عن دستورٍ قائم سجّله القرآن في محكم آياته، وهو إذا عبّر عن هذه المبادئ في خطبه السائرة فإنّما يُعَبِّر عن‏
مشاعر واضحة يحسّها دارسو الإسلام، ويسجّلونها في كتبهم وأحاديثهم، ولن يُغلَب رأيٌ يستقي تعاليمه من نبع القرآن؛ لأنّ كتاب اللَّه غالب لا مغلوب، وهذا ما تضيق به بعض الصدور!».
زار محمّد علي أكثر ديار الإسلام موجّهاً مرشداً عارضاً تجاربه الخاصّة بالدعوة إلى جمع الشمل وتوحيد الكلمة في العالم الإسلامي، وبعمق نظرته وواسع إلمامه بالوضع السياسي في أوروبّا أدرك ما يُبيّته المستعمرون لفلسطين من شرّ ماحق؛
إذ يعملون جاهدين على احتلال الصهيونية لهذه الأرض التي باركها اللَّه في كتابه، وقد كان على صلة وثيقة بزعماء فلسطين وفي مقدّمتهم الحاجّ محمّد أمين الحسيني، حيث تبادلا الرأي فيما يعتري العرب من مشكلات.
وفي إحدى زيارات محمّد علي للقدس صمّم الإنجليز على منعه من الزيارة، وأصدروا الأمر باحتجازه إذا عبر الحدود قادماً من بيروت،
وعلم بذلك الحاجّ أمين، فأوفد سكرتيره الأُستاذ (عجّاج نويهض) للقاء الرجل في بيروت، وإطلاعه على كلّ ما يتعلّق بالمأساة الفلسطينية، وما يدبّره الحاجّ أمين من خطط، مع إبداء الرأي في كلّ ما يسمع، مع النصيحة بعدم الزيارة؛ كيلا يتعرّض لاعتقال ظالم يدبّره المغرضون... وفي هذا اللقاء أوضح محمّد علي وجهة نظره في كلّ ما قدّمه الحاجّ أمين من أفكار، وكتب خطاباً مسهباً يوضّح بعض الغوامض التي تحتاج إلى توجيه، ثمّ رجع ثانية الى الهند معتقداً أنّه أدّى دوره في حدود المستطاع.
وفي زورته التالية لحادثة امتناعه الجبري عن زيارة فلسطين إلى مصر، أقامت له جمعية الشبّان المسلمين حفلًا تكريمياً، ألقى به كلمة سياسية تضمّنت أفكاره في الاتّحاد الإسلامي،
ودعت إلى مقاطعة الإنجليز في كلّ وطن إسلامي، موضّحاً أنّهم جرثومة الشرّ في العالم الإسلامي. ودارت أسئلة جمّة عن مشكلات المسلمين في بلادهم القريبة والبعيدة، فأجاب محمّد علي بما كان موضع الارتياح، وقد لفت الحاضرين إلى ملبسه الشرقي المتواضع، وقال: إنّه من صنع بلاده، وإنّ إخوانه الهنود قد حاكوا مذهبه في مقاطعة
كلّ ما هو إنجليزي، وقد نادى بهذه الفكرة قبل أن يؤيّدها زعيم الهنادكة (غاندي)، فأصابت الشلل في كثير من المحلّات الممتلئة ببضائع الإنجليز، واضطرّ أصحابها إلى أن يتّجهوا إلى ما يُنتجه الهنود في مصانعهم المتواضعة، وحسبهم أن يعتمدوا على أنفسهم في متطلّبات الحياة.
وقد وجّه بعض الصحفيّين أسئلةً خاصّة بحياة محمّد علي ونشأته الأُولى وطرق ثقافته ومَدعاة اتّجاهه إلى قيادة المسلمين في موطنه،
فاعتذر عن إيضاح كلّ ما يتعلّق بشخصه، وقال: إنّه لم يزد عن كونه فرداً يدين بالإسلام ويعمل على انتشار مثله الرفيعة!
وقد كتب الأُستاذ الخطيب فصلًا موجّهاً عن الزعيم المجاهد أشار فيه إلى مصدر العظمة الأصلية في سيرة هذا المجاهد، فأرجعها إلى عاملين... أحدهما: أُسلوب تعليمه ولون ثقافته، وثانيهما: كيفية استفادته ممّا تعلّم وتصرّفه فيما وعى من الثقافة... أمّا عن العامل الأوّل فقد ذكر الأُستاذ الخطيب: «أنّ للتعليم الإسلامي المعاصر لونين، أحدهما وُضع لأُمّتنا في غير زماننا،
والثاني وُضع لأُمّتنا في زماننا، وفي كلّ من الثقافتين موضع ضعف يحول بين أصحابه وبين أن يقودوا هذه الأُمّة إلى الخير؛ لأنّ أحدهما يتحدّث بلسان زمنٍ مضى فلا يفقه أهل هذا الزمان ما يخاطبهم به، والثاني يرطن لأُمّته بلسان أُمم غريبة عنهم فلا تعبأ بما تسمعه منه، وأيّ مصلح رأيتَ الأُمّة سائرة وراءه مؤتمّة به فلا بدّ أن يكون من الذين طعّموا التعليم القومي باللبان العصري، أو عرّبوا التعليم العصري بالذوق القومي. واستعرض إذا شئت ثقافة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمّد عبده والسيّد أحمد خان وسعد زغلول وسائر رجال النهضة الإسلامية تجدهم ممّن ثقّفوا بثقافة الإسلام وفهموا روح العصر، فاستعانوا بما فيها من خيرٍ للوصول إلى الخير، ونالوا بعض النجاح على مقدار عنايتهم بالتوفيق بين الثقافتين.
ولقد اجتمعنا بمولانا الزعيم محمّد علي، فرأيناه في الذروة العليا من الثقافة الإسلامية مع فهمه روح عصره أجود فهم وأصدقه، فقد تلقّى ثقافته بجامعة عليكرة،
وأُسلوبها يوجد في نفوس من أراد اللَّه له الخير مناعة تحول بينه وبين خرافات الشرق ومغريات الغرب. أمّا العنصر الثاني فهو كيفية استعمال مولانا محمّد علي معارفه؛
لأنّ الناس عندنا يتعلّمون ليتوظّفوا فيتناولوا من خزانة الحكومة كلّ شهر ثمن علمهم،
ثمّ ينصرفون إلى أُمورهم الخاصّة فيعيشون في عزلةٍ عن أُمّتهم، أمّا محمّد علي فقد حرص على تقويم آرائه وتكوين عقيدةٍ صحيحةٍ له في الحياة، حتّى اذا اطمأنّ إلى الخطّة التي رأى أن يدعو أُمّته إليها كتب نفسه عند ربّه جندياً لنصرة الإسلام، وإنعاش الخلافة، وتحرير الأوطان، وإعداد الأُمّة ليوم الخلاص، وفي سبيل ذلك استعمل معارفه، وكان يعلم أنّه سيصطدم بقوى معارضة، فوطّن النفس على الجهاد وتوكّل على ربّه، وصار يعمل لا لأجل ثمنٍ يقبضه، بل ليمتّع نفسه بلذّة النجاح، وليرضي ضميره بأنّه لم يألُ في السعي جهداً».
ويقول الدكتور محمّد رجب البيّومي معلّقاً: «لقد أصاب الأُستاذ الخطيب في تحديد مسيرة مولاي محمّد علي بدءاً وغايةً، وهي غاية فهمتها الصفوة من أبناء الأُمّة الإسلامية في كلّ أقطار الحنيفة، فأنزلت الرجل الكبير من نفوسها أجمل منزل... وقد وضح أثر ذلك حين طار النبأ الأليم بوفاته في لندن، وعمل أخوه [شوكت علي‏] على نقل جثّته إلى الهند، إذ رأى سماحة السيّد محمّد أمين الحسيني أن يقوم بعمل تكريمي فذّ للراحل العظيم، فأمر بدفنه في المسجد الأقصى تكريماً إلى جهاده، وأبرق لأخيه بإنجلترا كي يعدّل مسار الجثّة من بمباي إلى القدس، ولاقى الاقتراح صدىً عظيماً في العالم الإسلامي جميعه.
ونحن نشير هنا إلى خطوات تنفيذه؛ ليعرف الجيل الراهن أنّ الجيل الماضي كان أشدّ منه حميةً وغيرةً على زعماء الإسلام من المخلصين المستبسلين؛ إذ ما كادت الباخرة تنتقل بالفقيد من لندن إلى بور سعيد حتّى هُرع آلاف المصريّين إلى توديع الراحل حكومةً وشعباً، فاستقبل الرفات الطاهر محافظ القنال مندوباً عن جلالة الملك فؤاد، وأرسل رئيس الوزراء مصطفى النحّاس زعيم الأُمّة المصرية من يمثّله في هذا الاستقبال، وكذلك أرسل الأمير عمر طوش مندوباً يعبّر عن شعوره،
وقامت الحكومة المصرية بتوجيه رئيسها الزعيم الجليل بنفقات المشهد من ساعة وصوله إلى أن حملت الراحل قاطرة القنطرة متّجهة إلى فلسطين، وبعد أن صُلّي على الجنازة في مسجد بور سعيد سار النعش في موكب فخم تحفّ به الجنود، ويتقدّمه العلماء ومندوبو الجمعيات والهيئات ورجال القضاء والمحامون‏
والأطبّاء وأعيان المجلس البلدي والكتّاب والأُدباء والمواطنون من ذوي الحيثيات، حتّى ازدحمت شوارع بور سعيد بمن وفد إليها من كافّة أنحاء القطر المصري، وفي المساء دعا سعادة محافظ القنال (مندوب جلالة الملك) آل الفقيد وممثّلي الهيئات والجمعيات إلى مائدة الإفطار (إذ كان الموسم موسم الصيام في رمضان)، فكانت هذه المأدبة أكبر مظهر للأُخوّة الإسلامية ذات الأصل الوثيق.
وفي فجر الجمعة خرج سكّان فلسطين من حدود مصر حتّى بيت المقدس لتحية رفات الزعيم في مسيرة القطار، فكانت كلّ بلدة تُقابل القطار بالتهليل والتكبير رغم شدّة البرد قبل انبثاق الفجر، وحين وصل القطار إلى منطقة (اللد) تجمّعت الجماهير من كلّ صوب، واصطفّ طلّاب المدارس وطالباتها في موكب مؤثّر توديعاً للراحل، واستمرّت المدن الفلسطينية تقابل القطار بأبهى مظاهر التكريم،
حتّى وصل إلى القدس، فكان في الاستقبال جميع أهل الحيثيات مع قناصل الدول ورؤساء الدين المسيحي، وابتدأ سير موكب الجنازة من المحطّة إلى المسجد الأقصى في الساعة العاشرة في موكب قدّره المراقبون بمئتي ألف نسمة، وبلغ النعش المسجد الأقصى، فازدحم على رحابته بآلاف المصلّين،
وقد قُدّر عددهم بمئة ألف حول المسجد وداخله، وبعد انتهاء الصلاة أُقيمت حفلة تأبين كبرى، خطب فيها السيّد أمين الحسيني، وتلاه أحمد زكي باشا وعبد الحميد سعيد، ثمّ ألقى الأُستاذ عبد الوهاب النجّار وكيل جمعية الشبّان المصريّين قصيدة خالدة لأمير الشعراء أحمد شوقي تحدّث فيها عن مآثر محمّد علي، وختمها بأبيات رائعة قال فيها:
قل للزعيم محمّد نزل الأسى‏
بالنيل واستولى على بطحائه‏
فمشى إليك بجفنه وبدمعه‏
وإلى أخيك بقلبه وعزائه‏
اجتزتَه فحواك في أطرافه‏
ولو انتظرت حواك في أحشائه‏
[ولقد تعوّد أن تمرّ بأرضه‏
مرّ الغمام بظلّه وبمائه‏]


نم في جوار اللَّه ما بك غربةٌ
في ظلّ بيت أنت من أبنائه‏
[الفتح وهو قضية قدسية
يا طالما ناضلت دون لوائه‏]
أفتى بدفنك عند سيّدة القرى‏
مفتِ أراد اللَّه في إفتائه‏
بلد بنوه الأكرمون قصورهم‏
وقبورهم وقفٌ على نزلائه‏
قد عشتَ تنصره وتمنح أهله‏
عوناً فكيف تكون من غربائه‏


وهكذا كان ختام الحياة الخالدة للراحل العزيز شهادةً بفضله واعترافاً بنضاله، شهادةً لم يدفع إليها ملق كاذب أو رياء خادع، بل نطقت بها القلوب قبل الألسنة، وجلجلت بها الأرواح قبل الأشباح».

ملف:Molana-Muhammad-Ali.jpg
محمد علی الهندی
الاسم محمّد علي الهندي‏
الاسم الکامل محمّد علي جوهر
تاريخ الولادة 1878م/1295ق
محل الولادة هند
تاريخ الوفاة 1931م/1349ق
المهنة رهبر سیاسی ،مصلح اجتماعی، مولف، خطیب
الأساتید
الآثار باللغة الإنجليزية: محمد رسول الله، وحياة محمد ورسالته.
المذهب سنی

المراجع

(انظر ترجمته في: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين 5: 294- 307).