الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب في العراق»

من ویکي‌وحدت
(الوحدة والتقريب)
(لا فرق)

مراجعة ١٠:٥٢، ٢٣ يناير ٢٠٢١

إنّ محاور هذا البحث الرئيسية هي : تعريف الوحدة الإسلامية ـ أركان وأُسس وعناصر الوحدة ـ مقوّمات الوحدة ومقوّمات صيانتها ـ تحدّيات وموانع الوحدة ـ الحلول العلمية والسياسية لوحدة الأُمّة الإسلامية ـ مبرّرات أمل تحقّق الوحدة .

* أمّا تعريفها : فقد عرّفها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية سماحة السيّد علي الخامنئي بأنّها : مفهوم أساس في الإسلام ، ومبدأ يشكّل واحدة من القواعد التي تقوم عليها فلسفة الإسلام الاجتماعية ونظرته العامّة إلى الكون والحياة .

وعرّفها الشيخ محمّد علي التسخيري الأمين العامّ للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بأنّها : التعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية على أساس المبادئ الإسلامية المشتركة الثابتة والأكيدة ، واتّخاذ موقف موحّد من أجل تحقيق الأهداف والمصالح العليا للأُمّة الإسلامية والموقف الموحّد تجاه أعدائها ، مع احترام التزامات كلّ مسلم تجاه مذهبه عقيدة وعملاً .

وعرّفها الأمين العامّ السابق للمجمع الشيخ محمّد واعظ زادة الخراساني بأنّها : وحدة كلمة الأُمّة تجاه قضاياها الأساسية وأهدافها المشتركة ، ووقوفها صفّاً واحداً أمام الاعداء ، وهي الغاية القصوى والغرض الأقصى .

وعرّفتها الدكتورة مريم بنت حسن آل خليفة جامعة رئيسة البحرين بأنّها : لمّ شمل المسلمين ، والتفافهم حول كلمة التوحيد ، ووحدة الكلمة التي تستتبع وحدة الصفّ ، وهي انصهار لكافّة الأعراف في قالب إسلامي يقوم على الشهادتين ، وهي مستوعبة لكافّة الطوائف والمذاهب وجامعة لها على كلمة واحدة بهدف حماية دينهم وأُسلوب حياتهم من أن يلطخهما القدر والأقدار .

وعرّفها الشيخ عبد الأمير قبلان نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان بأنّها : ما بدأت من الاعتراف بالآخر وجوداً وفكراً ، وما سعت لفعل تواصلي حواري ، ينمّي المشترك ، ويحدّد نقاط التغاير ، ويسعى نحو ترسيخ مستوى الفهم والاعتراف وفق أُصوله الموضوعية والعلمية ، وأهمّ وسائل المفهوم الحضاري للوحدة احترام التنوّع وقيم التسامح وحقوق الإنسان في المحيط الاجتماعي السائد .

وعرّفها الدكتور أحمد عمر هاشم عضو مجمع البحوث الإسلامية بمصر ورئيس جامعة الأزهر سابقاً بأنّها : اتّحاد الدول أو البلاد والأفراد في أُمور حياتهم ومعاشهم ومسيرتهم وغايتهم ، وبموجبها يصبح الجميع وحدة واحدة أو أُمّة واحدة .

وقريب من هذا التعريف تعريف الدكتور عبد العزيز الخيّاط وزير الأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية سابقاً .

وأخيراً عرّفها الشيخ تاج الدين الهلالي مفتي مسلمي أُستراليا بأنّها : تحقيق أمر الله تعالى بتوحيد الكلمة القائمة على كلمة التوحيد ، بأن يكون المسلمون جميعاً تحت راية خلافة أو حكومة ، تكون لهم قيادة إسلامية أو سيادة واحدة ، فلا تفصل بينهم حواجز ولا حدود مصطنعة .

هذا ، وللأُستاذ حيدر كامل حبّ الله اللبناني كلام لطيف في المقام أسماه بأزمة المفهوم ، ليس هنا محلّ ذكره .

كما أنّه توجد في بعض التعاريف السابقة بعض الإشكالات ، حيث إنّ بعضها يشير إلى أسباب المناداة بالوحدة الإسلامية والأهداف المرجوّة منها والوسائل المتاحة دونما أن يشير إلى تحديد مفهومها الاصطلاحي تحديداً دقيقاً ، وبقية الكلام في محلّه .

* وأمّا الأركان والأُسس والعناصر التي تقوم عليها الوحدة الإسلامية : فمنها :

1 ـ التمسّك بالأُصول الإسلامية الثابتة ذات القواسم المشتركة .

2 ـ القبول بالمسؤولية المشتركة والعمل ، وهذه القبولية لها شرطان : تعرّف الإسلام ولو على نحو الإجمال ، والعلم بما يجري على المسلمين والساحة الإسلامية .

3 ـ وحدة العبودية والأُلوهية .

4 ـ وحدة الولاية ، يقول تعالى : ( إِنّما وَليِّكُم الله وَرَسُولِهِ وَالَّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمونَ الصّلاةُ ويُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ) ( سورة المائدة : 55 ) ، فإنّ الولاء الحقّ لله وحده ولمن يأمر الله تعالى بولائه ، وهذا الولاء الثاني يأتي في امتداد الولاء الأوّل ، والولاء من مقولة التوحيد ، وتوحيد الولاء من مقوّمات وحدة الأُمّة .

5 ـ وحدة النسيج الاجتماعي للولاء ، فهذا الولاء يربط المؤمنين بعضهم ببعض في شبكة ولائية واحدة ، لا تنفصم ولا تتجزّأ ، وقد يصطلح عليه بالبعد الأُفقي للولاء ، وهو أيضاً من مقولة التوحيد ، قال تعالى : ( إنّ الّذينَ آمَنُوا وَهَاجَروا وَجَاهَدوا بِأَمْوالَهُم وَأَنْفُسِهِم فِي سَبِيلِ الله وَالَّذينَ آووا وَنَصَروا أُولئِكَ بَعْضَهُم أَوْلياء بَعض ) ( سورة الأنفال : 72 ) ، فالمؤمنون نسيج واحد على اختلاف لغاتهم وأوطانهم .

6 ـ وحدة الطاعة السياسية والإدارية لأولياء أُمور المسلمين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وهم أئمّة المسلمين ، ووحدة الطاعة تستبطن : وحدة القرار ، ووحدة النظام السياسي ، ووحدة الصفّ ، ووحدة الكلمة والموقف السياسي ، وهذه الوحدات من مقوّمات الوحدة الإسلامية .

7 ـ وحدة البراءة ، وهي الوجه الآخر لوحدة الولاء ، وهذه الوحدة واجبة ، كما يجدها مَن يطالع سورة « الكافرون » ، ويمكن تجسيد هذه الوحدة اليوم في توحيد موقف البراءة السياسي والاقتصادي والعسكري والإعلامي والثقافي ضدّ الكيانات الاستكبارية الظالمة التي تعلن العداء للإسلام والمسلمين .

8  ـ وحدة المسؤولية والرقابة الشاملة ، فبها تتجسّد وحدة الأُمّة في الاهتمام والتعاون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

9  ـ وحدة الحصانة والحرمة ، فإنّ كلّ مسلم حرام على مسلم آخر ماله ودمه وعرضه ، فهذه الوحدة تحصّن المسلمين جميعاً بعضهم من بعض .

كما أنّ من الأركان والأُسس الكفيلة بتحقيق الوحدة والتي تبتني عليها أواصر الأُخوّة . وهي : العقيدة ، والعمل والاتّباع ، والقيادة ، والهدف المشترك ، والخصال الحميدة المشتركة ، والوحدة الثقافية .

وتفصيل العناصر كالتالي :

الأوّل : وحدة العقيدة .

لا بدّ للأُمّة الواحدة أن تكون لها أُصول اعتقادية واحدة ، وهذه الأُصول لدى الأُمّة الإسلامية بإجماع كلّ علماء المذاهب : التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد . وإنكار واحد من هذه الأُصول أو عدم الإيمان به يخرج الفرد من دائرة الإسلام بإجماع العلماء وبنصّ القرآن والسنّة ، وإذا كانت ثمّة أُصول أُخرى فهي أُصول المذهب ، لا أُصول الدين ، كالإمامة لدى الشيعة والعدل لدى الشيعة والمعتزلة . والاعتقاد بهذه الأُصول الثلاثة كاف لإيجاد وحدة عقائدية بين أبناء الأُمّة الإسلامية .

وتوجد هنا ثلاث ملاحظات :

الملاحظة الأُولى : من المؤكّد أنّ المعرفة الإجمالية بأُصول الدين هذه والإيمان بها على حدّ المفهوم المشترك العامّ هو المقدار المطلوب ، وليست المفاهيم التفصيلية لهذه الأُصول . والعلماء قد تعمّقوا فيها وفرّعوها وأدخلوها في دراسات كلامية وفلسفية ، ولذلك حدثت مذاهب في الأُصول . لكن هذه التفاصيل المذهبية لا ارتباط لها في إيمان المسلم بأُصول دينه ، فهذه التفاصيل لا تتجاوز عادة جدران قاعات الدرس وبطون الكتب ، ولا تخرج عامّة الأُمّة المسلمة التي تنتمي اسمياً إلى هذا المذهب أو ذاك .

فعليه الملاك في دخول الفرد دائرة الإسلام وشرط تحقّق الوحدة الإسلامية الإيمان بهذه الأُصول على المستوى البسيط المفهوم لدى عامّة الناس ، لا بالفروع المعقّدة الكلامية والفلسفية التي نشأت في قرون متأخّرة بين الفلاسفة وعلماء الكلام . وبدون ذلك لا تتحقّق وحدة العقيدة ; لأنّ الجدل الكلامي خلال القرون المتوالية أدّى إلى مزيد من الاختلاف العلمي ، ولم يحقّق أيّ اتّفاق ، فالتفاصيل الكلامية ليست إذن ملاك اتّفاق المسلمين ، والاختلاف فيها لا يضرّ بوحدة العقيدة بين المسلمين .

الملاحظة الثانية : لا شكّ أنّ أيّ مذهب إسلامي ملتزم بالإيمان بهذه الأُصول ، وإنكار أيّ واحد منها يخرج المذهب من دائرة الإسلام ، ولا نعتقد أنّ بين المذاهب الإسلامية اليوم مذهباً ينكر صراحة أحد هذه الأُصول . نعم ، في بعض المذاهب النادرة غير المعروفة عقائد يلزمها إنكار واحد من هذه الأُصول ، لكنّ أتباع هذه المذاهب غير ملتزمين بهذه الملازمة ، ولا يعتقدون أنّ عقائد مذهبهم الخاصّة تستلزم إنكار أحد هذه الأُصول . فملاك الكفر والخروج من الإسلام هو الإنكار الصريح ، لا الإنكار بالملازمة ، والخلط بين العقيدة الصريحة والعقيدة الملازمة للعقيدة الصريحة من آفات المذاهب ومن عوامل تراشق التهم بينها .

الملاحظة الثالثة : المذاهب المستحدثة التي تنكر خاتمية محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وتدّعي وحياً جديداً وكتاباً جديداً ـ وإن ادّعت الإيمان بالإسلام وبأنّها من الفرق الإسلامية ـ  هي خارجة عن الإسلام قطعاً ; لأنّها لا تلتزم بنهج الإسلام ، بل لها نهج آخر ونبي آخر وكتاب آخر ، وكلّ ذلك يجعلها في جهة متعارضة مع الأُصول الإسلامية .

الثاني : وحدة العمل والاتّباع (وحدة الشريعة) .

يلزم اتّباع المنهج الإسلامي في الفروع بمقدار ما اتّفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية وفرضه الكتاب وأوجبته السنّة بوضوح ودون أيّ إبهام .

ولا يوجد مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة ينكر الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد . ونقل صاحب « دعائم الإسلام » بطرق مختلفة ما يقرّر أنّ هذه الأعمال من أُسس الإسلام . ولو أنكر فرد وجوب واحد من هذه الأعمال صراحة ( لا بالملازمة ) فإنّه يخرج من ربقة الإسلام . والحدّ اللازم لدخول الفرد في دائرة المسلمين ولتحقّق وحدة الأُمّة المسلمة هو الالتزام بالحدّ المتّفق عليه من هذه الفروع ، كأن يؤدّي الصلوات الخمس بعدد ركعاتها المنصوصة ، ويحجّ بأداء المتّفق عليه من المناسك ، أمّا شروط وآداب هذه الأعمال المختلفة عليها بين المذاهب فلا دخل لها في الحدّ اللازم المذكور ; لأنّها ناشئة من اختلاف اجتهاد المجتهدين ، والاختلاف فيها لا يضرّ بإسلام الفرد ولا بوحدة المسلمين .

الثالث : وحدة القيادة .

للقيادة في الإسلام مصداقان : أحدهما صامت وخالد ، والآخر حيّ ومتغيّر .

القيادة الصامتة هي بإجماع المسلمين كتاب الله وسنّة رسوله ، ولا يوجد بين المذاهب الإسلامية من ينكر قيادتهما ، وهما دعامتان هامّتان لوحدة المسلمين ، والقرآن يطلق على كتاب الله المنزّل اسم الإمام ، يقول : ( وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين ) ( سورة يس : 12 ) ، و : ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ  مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ) ( سورة الأحقاف : 12 ) ، والرسول (صلى الله عليه وآله)إمام الأئمّة ، إطاعته لا تنفكّ عن إطاعة الله سبحانه . وقيادة القرآن والسنّة بمعنى الهداية والإرشاد والتعليم والتربية .

ودين الفطرة إذ يؤكّد على ضرورة إجماع المسلمين على القرآن والسنّة يجيز الاختلاف فيهما في حدود خاصّة ، والاختلاف فيهما له مجالات :

الأوّل : اختلاف المجتهدين في مفهوم ومنطوق الكتاب والسنّة وفي حدود وشروط حجّيتهما ، وأمثال ذلك من البحوث المطروحة في المذاهب الكلامية والفقهية . وهذا الاختلاف لا يتعارض مع أصل اتّفاق المسلمين على حجّة الكتاب والسنّة .

الثاني : الاختلاف في الصدور ، ويرتبط بالسنّة فقط ; لأنّ صدور جميع الأحاديث المروية غير قطعي ، وربّ رواية صحّت في نظر عالم ولم تصحّ في رأي عالم آخر . ولا يصدق ذلك على الكتاب ; لتواتر جميع ألفاظه وآياته . نعم ، في القرآن اختلاف طفيف يرتبط بالناسخ والمنسوخ ودلالة الألفاظ ، ويشمل هذا الاختلاف السنّة أيضاً .

والاختلاف بين السنّة والشيعة في سنّة رسول الله إنّما هو اختلاف في المقدّمة الصغرى لا الكبرى على حدّ تعبير المنطقيّين ، فالفريقان متّفقان على حجيّة السنّة وأنّها واجبة الاتّباع كالقرآن ، والاختلاف في أنّ هذا القول من السنّة أم لا .

أمّا القيادة الحيّة المتحرّكة فتتمثّل أوّل ما تتمثّل في شخص القائد الأوّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فهو إضافة إلى إمامته الدينية قائد المجتمع الإسلامي وزعيمه السياسي ، وكلّ المسلمين يؤمنون بذلك ، وظهر الاختلاف بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال قوم من أهل السنّة : إنّ الإمامة بعد الرسول أمر سياسي لا ديني ، وقال أكثرهم : إنّها منصب ديني ، لكنّهم لم يجعلوها ضمن أُصول الإسلام . والشيعة على العكس من ذلك آمنوا أنّ القيادة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجب أن يتواصل فيها ما كان موجوداً في شخص القائد الأوّل من الجمع بين السمة الدينية والسياسية ، واعتبروا الإيمان بها أصلاً من أُصول المذهب ، فهي في رأيهم تتواصل عبر الأئمّة الاثني عشر ، ثمّ الفقهاء الذين تتوفّر فيهم شروط التقوى .

والقيادة في المفهوم الإسلامي تجمع بين السياسة والدين ، ومن أركان الدين ، ولها الدور الهامّ في استمرار الدعوة الإسلامية واستتباب حاكمية الدين وفي وحدة الأُمّة الإسلامية ، خاصّة لو عرفنا أنّ « الأُمّة » و« الإمامة » من جذر لغوي واحد .

الرابع : وحدة الهدف .

إنّ وحدة الهدف مثل وحدة العقيدة ووحدة العمل ووحدة القيادة تشكّل أصلاً إسلامياً هامّاً ، غير أنّها وردت في النصوص الإسلامية بلغة التوجيهات الأخلاقية ولغة الحثّ على اكتساب المكارم والفضائل ، لكنّها لغة فيها تأكيد على أهمّية الهدف وعلى عدم افتراق الهدف عن المسؤولية المشتركة ، يقول سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( سورة آل عمران : 110 ) ، فامتياز هذه الأُمّة وأهمّ خصائصها مسؤولية الدعوة والإيمان بالله ، ولأهمّية هذه المسؤولية قدّمها على الإيمان بالله سبحانه .

ويمكن تلخيص أهداف الإسلام والمسؤوليات المشتركة التي يحملها المسلمون لبلوغ هذه الأهداف فيما يلي :

1 ـ الفلاح والفوز في الدارين وكسب رضا الله سبحانه . وعبارة ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )تتكرّر في القرآن بعد كثير من الأوامر والتعاليم .

2 ـ استتباب حاكمية الدين في الأرض : ( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ  ) ( سورة البقرة : 193 ) ، ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ( سورة الفتح : 28 ) .

3 ـ استتباب حاكمية عباد الله الصالحين في الأرض : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( سورة الأنبياء : 105 ) ، ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( سورة القصص : 5 ) .

4 ـ السعي لإشاعة الخير والمعروف وإزالة المنكر والشرّ والفساد . وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنحو هذا الاتّجاه .

5 ـ إنقاذ المستضعفين والمحرومين : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ) ( سورة النساء : 75 ) .

6 ـ فتح مغاليق أسرار الخلقة ; للتعمّق في فهم عظمة الخالق ، وهذا الهدف يذكره القرآن لدى حديثه عن عظمة الكون وعجائب الطبيعة .

7 ـ إزالة الفتنة من الأرض : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ )( سورة البقرة : 193 ) .

8 ـ تنمية الإحساس بالمسؤولية المشتركة الإسلامية ، والاهتمام بأمر المسلمين ، والمواساة بينهم ، واتّحادهم مقابل الأعداء : « من أصبحّ ولم يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم » ، « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » ، « . . . وهم يد واحدة على مَن سواهم » ، وأمثالها من الروايات المشهورة تخلق هذه المشاعر الإنسانية .

9 ـ إحلال روح الأُخوّة الإسلامية بين المسلمين ، حتّى أنّ الفرد المسلم يتمنّى لغيره ما يتمنّاه لنفسه ، وأنّ المؤمنين بمثابة نفس واحدة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)( سورة الحجرات : 10 ) .

الخامس : الوحدة في الخصال ومكارم الأخلاق .

من الطبيعي أنّ المجموعة البشرية المشتركة في عقائدها وأعمالها وأهدافها وقيادتها تشترك أيضاً في الخصال والملكات النفسية . وكثير من النصوص تبيّن هذه الوحدة الأخلاقية والاشتراك الروحي بين المسلمين حين تتحدّث عن صفات المؤمنين مثل الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وعفّة البطن والفرج وأمثالها . ولا يمكن أن نتوقّع بلوغ المسلمين جميعاً مستوى واحداً في هذه الخصال ، كما أنّهم لا يرتفعون إلى مستوى واحد من العقيدة ، ولكن يوجد طابع مشترك يسود كلّ المسلمين في هذا الإطار .

السادس : الوحدة الثقافية .

الاشتراك في العناصر السابقة المذكورة يستتبعه اشتراك في ثقافة توحّد بين أبناء العالم الإسلامي ، فلو نظرنا إلى البلدان الإسلامية لرأينا ـ وذلك رغم اختلاف تقاليدها ولغاتها وعاداتها ورغم الهجوم الثقافي على ربوعها ـ سيادة ثقافة مشتركة بين أبنائها . وهذه الثقافة المشتركة تشكّل أكبر رصيد للتفاهم والتلاحم والتعاضد والإحساس بالأُخوّة والانتماء الواحد . من هنا يسعى أعداء الأُمّة إلى إزالة  هذا المشترك الهامّ بين المسلمين عن طريق المسخ والغزو . وفي الروايات الإسلامية حثّ على عدم تقليد الكفّار في الزيّ ومظاهر المعيشة : « من تشبّه بقوم فهو منهم » ; من أجل بقاء طابع الثقافة الإسلامية سائداً بين المسلمين .

* أمّا مقوّمات الوحدة : فهي الركائز الأساسية والقواعد الراسخة والأُصول الثابتة التي ترتكز عليها الوحدة الإسلامية . ولهذه المقوّمات أبعاد مختلفة يمكن توضيحها فيما يلي :

أوّلاً : البعد الديني .

يمثّل البعد الديني أهمّ عناصر وحدة الأُمّة الإسلامية ، فالدين هو الركيزة الأساسية التي تبتني عليها بقية العناصر ، فوحدة الأُمّة الإسلامية تمثّل بناء متكاملاً له أساس ثابت راسخ الأركان يحمل البناء كلّه ، ألا وهو الدين ، أو هي كالشجرة لها جذور ضاربة في الأرض وبدونها لا يكون للشجرة كيان ولا حتّى وجود ، ومن هذه الجذور تمتدّ الساق والفروع والأغصان .

ويتمثّل البعد الديني في العقيدة الواحدة بإله واحد ونبي واحد وكتاب واحد وعبادة واحدة . فالجميع يتّجهون في صلاتهم في مواعيد محدّدة إلى الله نحو قبلة واحدة أينما كانوا في أيّ مكان من العالم ، ويجمع بينهم الصيام في شهر معيّن ، ويجمع الحجّ بينهم من كلّ الأجناس والأقطار طائفين حول كعبة واحدة في حرم الله الآمن تنجذب إليها أفئدتهم من كلّ فجّ عميق : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات ) ( سورة الحجّ : 28 ) ، وهذا التجمّع الكبير في الحجّ يعدّ رمزاً حيّاً لوحدة الأُمّة الإسلامية كلّها ، فهؤلاء ممثّلوها من كلّ مكان يجمعهم هدف واحد ، ويربط بين قلوبهم رباط واحد ، يجعل منهم جميعاً أُخوة متحابين متآلفين بأمر الله .

ويعبّر القرآن الكريم عن هذا المعنى الإيماني بقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ( سورة آل عمران : 103 ) ، وهذه الوحدة الروحية من شأنها أن تقضي على كلّ ما يعكّر صفو الأُمّة أو يعمل على تقطيع أوصالها ، فمادام الربّ واحداً والدين واحداً فلا مجال للتناقض في أُمور الدين .

والاعتصام بحبل الله ليس مجرّد شعار يرفعه المسلمون ، وإنّما له متطلّبات لا يتحقّق بدونها ، ولا يقع عند الله موقع القبول إلاّ إذا تحقّقت وقام المعتصمون بتبعاتها على الوجه الذي رسمه الله في كتابه طريقاً لكمال الإنسانية ورقيها ، فهو يقضي بتنحية الشهوات والأهواء التي تثيرها العصبيات القبلية والعرقية والمذهبية ، ويقضي بالنظر السريع في تنقية العقائد والعبادات وسائر التعاليم الإلهية ممّا يشوبها ويكدّر صفوها من صور الشرك والابتداع الذي هيّأ لخصوم الإسلام أن يقولوا بتعدّدية الإسلام ويزعموا أنّ الإسلام ليس ديناً واحداً وإنّما هو أديان متعدّدة تختلف باختلاف الأقاليم والمذاهب : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً )( سورة الكهف : 5 ) .

ثانياً : البعد الإنساني .

ويتّضح البعد الإنساني لوحدة الأُمّة الإسلامية جلياً في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة ، فالله سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى وحدة الأصل الإنساني . فالناس جميعاً قد خلقهم الله من نفس واحدة : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْس وَاحِدَة )( سورة النساء : 1 ) ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكّد هذا المعنى أيضاً في قوله : « يا أيّها الناس ، ألا إنّ ربّكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر ، إلاّ بالتقوى » .

والإسلام لا يفصل هذا البعد الإنساني عن البعد الديني المشار إليه كما كانت تفعل ـ ولاتزال ـ بعض الآيديولوجيات والفلسفات في القديم والحديث التي تصل بالإنسان إلى حدّ التأليه وتجعله صاحب السلطان الأوحد في هذا الكون !

ويبيّن لنا القرآن الكريم أنّ الإنسان الذي ينكر أصله أو يجحد خالقه هو إنسان يعمل ضدّ طبيعته وفطرته التي فطره الله عليها . فالله سبحانه قد أخذ عليه ميثاقاً لا يجوز له أن يتجاهله أو يغفل عنه ; لأنّه مركوز في أصل فطرته . وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن  تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ )( سورة الأعراف : 172 ) . ومن بين القلائل من فلاسفة الغرب الذين أكّدوا هذا المعنى كان الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » الذي قال : « والحقّ أنّه لا ينبغي أن نعجب من أنّ الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة ـ أي : فكرة وجود الله ـ لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته » .

وهذا الارتباط الوثيق بين كلّ من البعد الديني والبعد الإنساني في وحدة الأُمّة الإسلامية له دلالة هامّة ; إذ يعني أنّ هذه الأُمّة التي أراد الله لها أن تكون خير أُمّة أُخرجت للناس من شأنها أن تكون عنصر أمان واستقرار في هذا العالم ، فهي أُمّة ترتبط بخالقها بعلاقة العبودية له سبحانه ، وترتبط بغيرها من بني البشر بعلاقة الإنسانية التي لا تنسى عبوديتها لخالق الكون كلّه .

وهذه الصلة الوثيقة بالله إذا استقامت فإنّها كفيلة بتصحيح مسار الأُمّة الإسلامية في هذا الوجود ، وبذلك تتحقّق خيريتها ، إنّها أُمّة تسع الإنسان أينما كان وأنّى كان ، وتشمل برعايتها وأمنها كلّ من يعيش على أرضها .

ثالثاً : البعد الاجتماعي .

وإذا كانت الأُمّة الإسلامية ترتبط فيما بينها بروابط العقيدة والإنسانية فإنّ محصّلة هذين البعدين هي الأُخوّة التي هي أقوى من أُخوّة النسب . ومن هنا كان قول القرآن الكريم : (  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  ) ( سورة الحجرات : 10 ) . وعندما أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يؤسّس قواعد المجتمع الإسلامي في المدينة بعد الهجرة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فتآلفت قلوبهم بفضل الله ، وقد امتنّ الله على المؤمنين بهذا التآلف ، فقال : ( فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )  ( سورة آل عمران : 103 ) . وهذه الأُخوّة لها حقّها ، فهي تتضمّن بعداً عاطفياً يتمثّل في المشاركة الوجدانية ، فكلّ فرد من أفراد الأُمّة الإسلامية يشعر بآلام وآمال أُمّته ; لأنّه جزء منها يحسّ بإحساسها ويسعد لسعادتها ويتألّم لألمها . ومن هنا كان قول النبي (صلى الله عليه وآله) : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى » .

ولكن مجرّد المشاركة الوجدانية ـ وذلك مع أهمّيتها ـ لا تكفي ، ولا بدّ أن يترجم هذا الشعور الداخلي إلى عمل فعّال يكون من شأنه النهوض بالأُمّة وبأفرادها . ومن هنا كان مبدأ التكافل في الإسلام بمثابة ترجمة عملية لذلك الشعور الباطني لدى المسلم . وقد جعل الإسلام هذا المبدأ عبادة مفروضة يتعبّد بها المسلم ويتقرّب بها إلى ربّه ، وهي فريضة الزكاة .

وقد آن الأوان ليخرج المسلمون من دائرة المشاركة الوجدانية السلبية إلى المشاركة الإيجابية المؤثّرة ، وذلك بوضع الخطط المفصّلة لإقامة بنيان التكافل بين أبناء الأُمّة الإسلامية . وقد آن الأوان للأُمم الإسلامية أن تنصهر في بوتقة الوحدة الحقيقية للأُمّة الإسلامية بتحقيق مبدأ التكافل والخروج من سجن الفرديات المنعزلة والقوميات المنفصلة إلى محيط الجماعة الكبرى التي أرادها الله أن تكون خير أُمّة أُخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتؤمن بالله ، وتقيم التعاون فيما بينها على البرّ والتقوى ، لا على الإثم والعدوان .

رابعاً : البعد الجغرافي .

لقد جعل الله للأُمّة الإسلامية من وضعها الجغرافي الذي تتميّز به في هذا العالم وحدة طبيعية جامعة في رقعة مترامية الأطراف في كلّ من قارتي آسيا وأفريقيا ، فضلاً عن أنّها تمتدّ إلى بعض أجزاء من أوروبّا . ومن المعروف أنّ الإسلام قد انتشر في جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا بقوّته الذاتية دون أن يدخل إلى هذه البلاد جيش مسلم لفتحها .

ومن نعم الله على المسلمين أنّ هذه المناطق المترامية الأطراف الملتحمة الأجزاء ـ والتي تشكّل بلاد العالم الإسلامي ـ تشتمل على الكثير من المعادن والكنوز النفطية وغير النفطية التي لو أُحسن استغلالها لجعلت من العالم الإسلامي قوّة يحسب لها ألف حساب .

وفضلاً عن هذه الكنوز في باطن الأرض توجد هناك في العالم الإسلامي مناطق شاسعة يمكن استصلاحها بمجهودات قليلة وزراعتها بشتّى المحاصيل لتكون سلّة غذاء للعالم الإسلامي كلّه . وبذلك يتحقّق للمسلمين الاكتفاء الذاتي في غذائهم ، الأمر الذي يساعدهم على استقلاليتهم في إرادتهم وفي قراراتهم ، فمن المعروف أنّ من لا يملك غذاءه لا يملك قراره .

وهذه الوحدة الجغرافية من شأنها أن تمحو بين أقطار العالم الإسلامي تلك الحواجز الإقليمية المصطنعة في قضايا الاقتصاد والإنتاج .

خامساً : البعد الحضاري .

الإسلام ليس دين طقوس تعبّدية جامدة ، إنّه دين للحياة بكلّ أبعادها . والأُمّة الإسلامية أُمّة أراد الله لها أن تكون صاحبة رسالة دينية وحضارية في هذا العالم ، ومن هنا كان وصفها بأنّها خير أُمّة أُخرجت للناس .

وقد رسم القرآن الكريم للإنسان الإطار العامّ في كلّ أُموره الدينية والدنيوية ، واستخلف الله الإنسان في الأرض ، وكلّفه بعمارتها وصنع الحضارة فيها ، ووعد المؤمنين العاملين بالتمكين لهم في الأرض ، وكتب لهم العزّة والنصر . وتحقيق ذلك كلّه أمر منوط بالإنسان وبتأييد من الله تعالى .

وقد أدرك المسلمون الأوائل ذلك كلّه ، وعملوا على تحقيقه ، وقد تحقّق لهم بالفعل ما أرادوا وما أراده الله منهم . وبذلك أقاموا صرحاً شامخاً لحضارة عريقة كانت من أطول الحضارات عمراً في التاريخ . وقد اشترك علماء الأُمّة الإسلامية من كلّ جنس ولون في إقامة هذا الصرح الحضاري بدافع من الإسلام الذي رفع من شأن العلم والعلماء واعتبر مداد العلماء مساوياً لدماء الشهداء أو أفضل ، وجعل العلماء أخشى الناس لله تعالى .

وسارت جهود علماء المسلمين في مجالات العلوم الدينية والدنيوية جنباً إلى جنب في تكامل رائع ، فقد أدركوا أنّ الحضارة تعني تقدّماً مادّياً وروحياً وأخلاقياً ، وبذلك قدّموا للإنسانية خدمة كبرى في الوقت الذي كان فيه العالم غير الإسلامي لايزال يعيش في جهالة جهلاء . وترك لنا الأسلاف تراثاً ضخماً يعدّ أغنى تراث في العالم يعبّر عن وحدة جهود علماء الأُمّة الإسلامية بصورة رائعة ، ويشترك المسلمون اليوم في كلّ مكان في العالم الإسلامي في الاعتزاز بهذا التراث .

وقد آن الأوان للأُمّة الإسلامية أن تتوحّد جهودها مرّة أُخرى في سبيل النهوض بالأُمّة والارتقاء بها حضارياً بما يؤكّد شخصيتها المتميّزة ويحافظ على ذاتيتها مسترشدة في ذلك بتعاليم الإسلام الشاملة وبالجوانب الإيجابية المشرقة في تراثنا .

فلا يليق بالأُمّة الإسلامية أن تظلّ في عالمنا المعاصر قابعة في مقاعد المتفرّجين الذين لا يشاركون في صنع الحضارة ، ويكتفون بدور المستهلك لما تنتجه الحضارة التي يصنعها غيرنا ، في الوقت الذي لا تعرف البشرية فيه ديناً آخر غير الإسلام يشتمل على كلّ المقوّمات والأُسس التي تحقّق للبشرية أفضل المستويات الحضارية مادّياً وروحياً وأخلاقياً .

والرسالة الدينية الحضارية المنوطة بالأُمّة الإسلامية لا يمكن تأديتها والقيام بحقّها إلاّ إذا توحّدت جهود الأُمّة دينياً وفكرياً وحضارياً . وواجبها يفرض عليها في هذا الصدد أن تقدّم للعالم هذه الرسالة الدينية الحضارية في صورة أُنموذج متحقّق في عالم الواقع ، فليس بالأقوال تؤدّى الرسالات الكبرى ، ولكن بترجمة الأقوال إلى برامج عمل . ومن هنا جاء اللوم والمقت في القرآن الكريم للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ )( سورة الصفّ : 2 ـ3 ) .

سادساً : البعد المصيري .

وإذا كانت الأُمّة الإسلامية ترتبط فيما بينها برباط ديني واحد وتجمعها وحدة جغرافية طبيعية ولها رسالة نورانية حضارية في هذا الوجود ; فإنّ ذلك يعني أنّ لها غايات واحدة وأهدافاً مشتركة ، ويعني في النهاية أنّ لها مصيراً واحداً .

ومن أجل حماية هذا المصير الواحد وصوناً للمبادئ السامية والمثل العليا التي تقوم بها ومن أجلها الأُمّة الإسلامية فلا بدّ من إعداد القوّة اللازمة لدرء الأخطار التي تحيط بها ، سواء كانت هذه الأخطار قائمة بالفعل أو محتملة الوقوع ، أي : سواء كانت منظورة أم غير منظورة ، فالقوّة في كلا الحالين ضرورية . وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّة وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ) ( سورة الأنفال : 60 ) .

والهدف الذي من أجله يدعو القرآن الكريم إلى هذا الاستعداد الحربي بكلّ ما أُوتينا من قوّة لا يرمي إلى التخريب والتدمير أو الاستعباد والاستعمار أو سلب الآخرين أموالهم وأوطانهم وأمنهم ، وإنّما يرمي إلى دفع شرّ الأعداء وردعهم وتخليص المستضعفين من أيدي الظالمين المعتدين ، وإفساح الطريق أمام دعوة الخير الذي يريده الله لعباده . وقيام هذه القوّة يعدّ من أقوى وسائل السلم الذي أمر الله به ، فهي قوّة تحمي السلم والأمان والاستقرار .

ومثل هذه القوّة لا تتأتّى إلاّ بوحدة الأُمّة الإسلامية ، فهذه الوحدة هي السدّ المنيع والحصن الحصين في وجه كلّ الأطماع التي تستهدف إضعاف الأُمّة الإسلامية وإثارة الفتن والخصومات بين أبنائها .

وعلى الأُمّة الإسلامية صاحبة المصير المشترك أن تعيد النظر في قائمة الأولويات للقضايا والهموم التي تحيط بها في عالمنا المعاصر ، فتشغل نفسها لا بالقضايا الهامشية ، بل بالقضايا المصيرية ، وعلى رأسها قضية التخلّف التي تمثّل الهمّ الأكبر للأُمّة الإسلامية اليوم . والتخلّف المعني هنا تخلّف متعدّد الجوانب يشمل المجالات الروحية والمادّية والأخلاقية والعلمية والحضارية بصفة عامّة ، وتلك قضية مصيرية لا يجوز التهاون فيها أو التفريط في معالجتها بما تستحقّه من اهتمام وعناية .

هذا ، ويمكن تقرير مقومّات الوحدة الإسلامية بهذه الصورة أيضاً :

1 ـ وجود الأرض .

فالأرض مستقرّ الإسلام ، وهي الدار التي يأوي إليها المؤمنون ، وعليها تقوم دولة الإسلام ، ومنها تنطلق دعوته : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ )( سورة الحشر : 9 ) .

ولا بدّ أن تكون هذه الأرض خاضعة لحكم الإسلام وسيطرة أهله ; مصداقاً لقوله عزّ وجلّ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُـمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً )( سورة النور : 55 ) ، ويقول النبي (صلى الله عليه وآله) : « بشّر هذه الأُمّة بالسناء والرفعة بالدين والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » .

وأن تكون آمنة منيعة محمية الحدود والثغور ، كما أمر بذلك ربّ العباد ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا )( سورة آل عمران : 200 ) ، ويقول النبي (صلى الله عليه وآله) : « رباط يوم خير من صيام شهر أو قيامه » . إنّ الأرض الموصوفة بهذه الصفات هي درع الإيمان ، وبيضة الإسلام ، ومهجر المستضعفين من المؤمنين ، وملجأ الخائفين ، ومأوى الفارّين بدينهم من الفتن .

2 ـ تقرير الأُخوّة بين أفراد الأُمّة الإسلامية .

فقد جعل الإسلام الأُخوّة آصرة تربط بين المسلمين ، ونسباً يدخل فيه كلّ مسلم ، ورابطة متينة تجمع بين صغيرهم وكبيرهم وقويهم وضعيفهم ومحسنهم ومسيئهم .

والأُخوّة في الإسلام ليست كلمة مرسلة لا مدلول لها أو شعاراً أجوف لا معنى من ورائه ، بل هي حقيقة راسخة في الحياة الإسلامية وخليقة قائمة بين المسلمين ، لها آثارها في واقعهم ولها مظاهرها في سلوكهم ومختلف أحوالهم ; لأنّها لازمة للإيمان ومنبثقة عنه ، ومن ثمّ فهي تابعة له في الوجود والعدم وفي الظهور والخفاء .

وقد جعل الإسلام آثار الأُخوّة الإسلامية أُموراً ثلاثة :

أوّلها : وجوب الحبّ المتبادل بين المسلمين ، كما يقرّره قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً ) ( سورة مريم : 96 ). ويقول النبي (صلى الله عليه وآله) : « والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا . أو لا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ افشوا السلام بينكم » . ولكي ينتشر الحبّ بين أفراد الأُمّة الإسلامية ويتداولونه بينهم أمر النبي (صلى الله عليه وآله)كلّ مسلم ، فقال : « إذا أحبّ الرجل أخاه ، فليخبره أنّه يحبّه » .

ثانيها : وضع نظام الحقوق بين أبناء الإسلام ، فقد شرّع الإسلام نظام الحقوق بين المسلمين وجعل العمل به أمراً لازماً للأُخوّة في الدين ، وجعله مظهراً لقوّة اليقين وصدق الإيمان ، وهي حقوق شملت كلّ جوانب الحياة وأحوال المسلمين كافّة ، ما ظهر منها وما بطن ، وما خفي منها وما انتشر .

ثالثها : وضع نظام التكافل والتآزر بين الأُخوة في الله ، وهو من لوازم الأُخوّة وشعبها ، كما يفيده قول النبي (صلى الله عليه وآله) : « المؤمن أخو المؤمن ، يكفّ عنه ضيعته ، ويحوطه من ورائه » . والتكافل في نظام الإسلام يجب أن يقوم بين المسلمين في مختلف صور المعاش وشتّى مرافق الحياة ، ومن ثمّ كان التكافل في الإسلام شاملاً لكلّ مظاهر الحياة وأنواع السلوك .

3 ـ تشريع القيادة الواحدة للأُمّة المسلمة .

بمعنى جعلها كتلة واحدة غير قابلة للتقطيع أو التشرذم ، والتأكيد على السمع والطاعة لولاة الأمر ما أطاعوا الله وأقاموا شريعته .

وحفاظاً على وحدة الأُمّة من التصدّع والشقاق وحماية لجماعتها من شرّ الفتنة والزلازل ، جعل الإسلام العلاقة بين الراعي والرعية مبنية على المودّة والرحمة والرعاية الصالحة والاحترام المتبادل بين الطرفين .

4ـ اعتصام أهل الإسلام بالكتاب والسنّة .

بمعنى اجتماعهم عليهما واتّفاقهم على العمل بهما مصداقاً لقول الله عزّ وجلّ : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ( سورة آل عمران : 103 ) ، وقوله سبحانه : ( وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )( سورة الأنعام : 153 ) .

والاستمساك بالكتاب والسنّة والتزام أحكامها سلوكاً وخلقاً وعقيدة ممّا يستلزمه الإيمان الصادق واليقين الراسخ ، وممّا يجمع المؤمنين على مرجع واحد ، يرجعون إلى توجيهه في أُمور دينهم ودنياهم ، ويحكّمونه فيما شجر بينهم ، فلا يجدون في صدورهم حرجاً من قضائه ، ويسلّمون لحكمه تسليماً تامّاً ; لكونهم يعلمون أنّه القول الفصل والمرجع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبذلك تتألّف قلوبهم على الحقّ ويجتمعون على اتّباع سبيله .

5 ـ تشريع القبلة الواحدة .

أي : تشريع القبلة الواحدة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ; إذ يجب على كلّ مسلم حيثما كان من الأرض أن يستقبل المسجد الحرام ، كما أمره بذلك ربّ العباد ، فقال : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )( سورة البقرة : 144 ) .

إنّ شعور المسلم بكونه يستقبل القبلة التي يستقبلها إخوته المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها يجعله ينجذب تلقائياً إلى أهل ملّته ، ويعدّ نفسه فرداً من أفراد الأُمّة الإسلامية وعضواً من أعضاء جسدها ، وإن كان لا يعرف منها أحداً ولا يعرفه منهم أحد على سبيل المثال .

6 ـ تقرير المساواة بين أفراد الأُمّة .

وذلك باعتبارهم جميعاً بمنزلة واحدة من الحقّ والعدل والاحترام ، فلا يعلو بعضهم على بعض بمال أو جاه أو منصب أو نسب ، ولا يفخر أحد منهم على أحد بقبيلة أو شعب أو عشيرة ، فاختلاف الناس في أوطانهم وأعمالهم ومناصبهم لا يعدّ في الإسلام مدعاة للتفاخر والتفاضل والتعالي ، ولا يعتبر معياراً صادقاً للتمييز بين الناس وتقديم بعضهم على بعض ، كما بيّن ذلك سبحانه وتعالى بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )( سورة الحجرات : 13 ) .

7 ـ الإحساس بالمسؤولية المشتركة والمتبادلة ، والاتّصاف بالسماحة الإسلامية .

أمّا مقوّمات صيانة الوحدة : فهي القواعد والأُسس والركائز الأساسية المقرّرة لصيانة وحماية الوحدة الإسلامية من التصدّع والانهيار . ومن تلك القواعد :

1 ـ وجوب قيام مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي ، والحكمة من قيام هذه المهمّة إرصاد المنكر وأهله في المجتمع ; لردعهم والأخذ على أيديهم حتّى لا تشيع الفاحشة في المجتمع ويتّسع الخرق على الراقع ، وحينئذ ينقسم المجتمع إلى فريقين : فريق يميل إلى الخير ويستقيم عليه ، وفريق زائغ عن الحقّ يقترف المنكرات وينشرها بين الناس ، وتلك بوادر الفرقة وبذور الشقاق والتمزّق ، ومن أجل ذلك قال عزّ وجلّ : ( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ  إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ  وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ  تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِمَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ( سورة آل عمران : 104 ـ 105 ) ، فقد جمع سبحانه بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين النهي عن التمزّق والاختلاف ، وذلك لأنّ الاختلاف والتفرّق نتيجة حتمية لتعطيل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

2 ـ الأمر بالتحاكم إلى الكتاب والسنّة عند التنازع والاختلاف ، وردّ الأمر إلى الله ورسوله وأُولي الأمر عند تعدّد الآراء حوله وتعذّر الاتّفاق فيه على كلمة سواء ، يقول عزّ وجلّ : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( سورة النساء : 59 ) ، ويقول سبحانه : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ( سورة الشورى : 10 ) . ذلك أنّ التنازع والاختلاف إنّما هو نتيجة لتعدّد الآراء وتباين الاتّجاهات ، وفي هذه الحال لا يتمّ التغلّب على مثل هذا الخلاف والسيطرة عليه إلاّ بردّه إلى مرجع يتّفق المختلفون على وجاهته والإذعان لحكمه . ومن ثمّ كان الأمر بردّ التنازع إلى الله ورسوله هو التوجيه الرشيد والنصح السديد الذي يفصل النزاع قبل تفاقمه ويفضّ الخلاف قبل انتشاره واتّساع رقعته .

ولا يتحقّق الردّ إلى الكتاب والسنّة ولا يكون مفعوله نافذاً في حلّ النزاع إلاّ بالقبول المذعن لما صدر عنهما من حكم والرضا به والتسليم بكونه قولاً فصلاً وحكماً عادلاً ، مصداقاً لقوله سبحانه : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( سورة النساء : 65 ) ، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً)( سورة الأحزاب : 36 ) .

3 ـ الأمر بالإصلاح بين المتخاصمين والتوفيق بين المتشاجرين حتّى لا تطول بينهم العداوة والشحناء ، ولا ينقلب ما بينهم من الودّ والاُخوّة إلى غلّ وبغضاء ، وذلك قول الله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( سورة الأنفال : 1 ) ، وقوله سبحانه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ( سورة الحجرات : 10 ) .

هذه هي القواعد التي وضعها الإسلام لحماية وحدة الأُمّة وصيانتها من التصدّع والتشقّق ، وهي خليقة بتحقيق هذه الحماية لو طبّقت تطبيقاً سليماً ، وأُخذت بجدّ وإخلاص .

* أمّا تحدّيات وموانع الوحدة : فهي المشاكل التي تواجه الأُمّة الإسلامية في مسيرتها الوحدوية . . والتي منها :

أوّلاً : النعرة الطائفية .

ينبغي أن يُميّز بين الانتماء المذهبي والنعرة الطائفية ، فالانتماء المذهبي تعبير مشروع عن ارتباط المسلم بمذهب فقهي معيّن يعتقد هو ببراءة ذمّته حين يعمل بموجبه ، فيما تكون النعرة الطائفية حالة من العصبية تنطلق من تعصّب مقيت يولّد كراهية لأبناء الطوائف الأُخرى ، وفي الوقت الذدي يعزّز الانتماء المذهبي روح الأُخوّة الإسلامية بين كافّة أبناء المذاهب الإسلامية تكون النعرة الطائفية على عكس ذلك ; إذ تطرح نمطية الاحتراب وثقافة التشاتم بين أبناء الأُمّة الإسلامية ، حتّى أنّها قد تصل ـ أي : النعرة الطائفية ـ إلى أسوأ مدياتها في استباحة دماء المسلمين من أبناء الطوائف الأُخرى ! وقد تفرز هذه رموزاً طائفية وخطاباً طائفياً وفقهاً طائفياً يعطي للنعرة الطائفية مبرّراً شرعياً ويعبّئ أبناء الطائفة بالاتّجاه المضاد .

ثانياً : التسييس الطائفي .

المقصود به النظرة إلى الأفكار والمفاهيم إلى كلّ مذهب من المذاهب من منظور سياسي وليس من منظور معرفي محدّد . وتسييس الحالة الطائفية يحول دون التعرّف الإيجابي بين أبناء المذاهب ، وهو ما لا ينسجم مع المفاهيم القرآنية التي أرادت لكلّ المختلفين من أبناء الشعوب والقبائل التعارف فيما بينهم ، ومن موقع التعارف يجري بينهم الحوار والتعامل .

ثالثاً : العقدة الماضوية .

إنّ قراءة التاريخ قراءة متأنّية تعبر بجيلنا الحاضر إلى الأجيال الماضية لاستلهام التجارب والاستفادة من العبر أمر مطلوب إلى حدّ كبير ، غير أنّ تحويل التاريخ إلى عقدة ماضوية تؤثّر على الحاضر تأثيراً سليباً يجعله حاجزاً يحول دون التعامل بين أبناء الأُمّة الإسلامية فهو أمر مختلف .  من هنا كان علينا أن نقرأ التاريخ قراءة مستقبلية ، بمعنى : أنّنا نستفيد من نجاحاتنا في التاريخ ونجاحات الآخرين ; لدفع عجلة التعاون في مجال الوحدة نحو الأمام ، كما أنّنا نستفيد من أخطائنا التاريخية ، لتلافي تكرارها وعدم تحوّلها إلى عقبات في الطريق .

رابعاً : الانكفاء الذاتي .

ما تتميّز به بعض الفرق الإسلامية في التاريخ من انكفاء ذاتي أضفى عليها نمطية باطنية في الأداء ، وجعلها تعيش حصاراً داخلياً ربّما يولّد في لا شعورها وشعورها كراهية عارمة تجاه الآخرين . كما أنّها أصبحت ـ والحالة هذه ـ تعاني من عقدة الاضطهاد بسبب عزلتها عنهم . والانكفاء الذاتي هذا تتسبّب فيه عدّة عوامل ، منها ما ينطلق من الظرف الاجتماعي الضاغط على مجموعة ما أو طائفة معيّنة ، ومنها ما ينطلق من ذات المجموعة أو أبناء الطائفة ، ومن أجل التخلّص من هذه الظاهرة السلبية لا بدّ أن تتوفّر أجواء الصحّة الاجتماعية الكافية التي تحترم كلّ معتقدات ومتبنّيات أبناء الطوائف الأُخرى ، كما لا بدّ لذات الطائفة أن تتمتّع بالثقة الكافية والتخلّص من الشعور بعقدة الاضطهاد وتطوير خطابها للتعامل مع الوسط الاجتماعي الذي تتحرّك فيه .

خامساً : عقدة الإقصاء والتسيّد الطائفي .

حاول بعض السلاطين أن يقصي أبناء المذاهب الأُخرى ممّن لا ينتمون إلى مذهبه ، وقد أدّت هذه النعرة إلى وقوع ضحايا كثيرة ، وألحقت الظلم بأبناء المذاهب الأُخرى . إنّ مثل هذه السياسات والممارسات وإن حقّقت نتائج شخصية لواضيعها ، ولكنّها لا شكّ مضرّة في مصلحة الأُمّة ، وإنّها لا محالة زائلة في حسابات الأُمّة وعلى مدى عمرها الذي يتجاوز عمر واضعيها .

سادساً : وجود المذاهب الكلامية والفقهية .

إنّ المسلمين ينقسمون في المذاهب الكلامية إلى طوائف ، كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والشيعة . والشيعة تنقسم بدورها إلى زيدية وإسماعيلية واثني عشرية ، فكيف يمكن توحيد الكلمة مع سيادة هذه المناهج الكلامية عليهم ؟ !

والحقّ أنّ هذه المذاهب تتراءى في بادئ النظر سدّاً منيعاً بوجه الوحدة ، ولكن بالنظر إلى أواصر الوحدة تبدو وكأنّها موانع ضعيفة لا تصدّ المسلمين عن التمسّك بأهداب الوحدة على كافّة الأصعدة .

أمّا المناهج الكلامية فجوهر الاختلاف فيها يرجع إلى مسائل كلامية لا عقائدية ، مثلاً : أنّ الأشاعرة والمعتزلة يختلفون في المسائل التالية : هل صفاته تعالى عين ذاته أو زائدة عليها؟ هل القرآن الكريم قديم أو حادث؟ هل أفعال العباد مخلوقة لله أو للعباد؟ هل يمكن رؤية الله في الآخرة أو هي ممتنعة ؟ إلى غير ذلك من أمثال هذه المسائل ، ومع تثمين جهود الطائفتين فالاختلاف فيها اختلاف في مسائل عقلية لا يناط بها الإسلام ولا الكفر ، فالمطلوب من المسلم اعتقاده بكونه سبحانه عالماً وقادراً ، وأمّا كيفية العلم والقدرة بالزيادة أو العينية فليس من صميم الإسلام ، فلكلّ مجتهد دليله ومذهبه ، كذلك القرآن هو معجزة النبي (صلى الله عليه وآله) وكتابه سبحانه ، فليس الحدوث والقدم من صميم العقيدة ، وقس على ذلك ما تلوناه عليك من المسائل .

وأمّا المناهج الفقهية فالمشهور هي المذاهب الأربعة مضافاً إلى الزيدية والجعفرية ، فهذه المذاهب الستّة مذاهب فقهية ، والاختلاف يرجع إلى الاختلاف في فهم الآية والرواية ، فلو اختلفوا فإنّما يختلفون في فهم الكتاب والسنّة ، وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على اهتمامهم بهما وإمعانهم في فهمهما ، والاختلاف أمر طبيعي ، خصوصاً بعد مضي أربعة عشر قرناً من عصر الإسلام .

ولكن اختلافهم في المناهج الفقهية لا يمسّ بصميم الفقه الإسلامي ، فهل هناك مَن يرى صلاة الفجر ثلاث ركعات أو يرى صلاة الظهر والعصر غير أربع ركعات ؟ ! وليس الاختلاف وليد اليوم ، بل بدأ الاختلاف بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)في أبسط المسائل الفقهية ، كعدد التكبيرات على الميّت ، إلى أعمقها ، فالاختلاف الموروث إنّما هو اختلاف في فهم النصوص لا في رفض النصوص وردّها .

ولا شكّ أنّ الشيعة ترى جواز الجمع بين الصلاتين مع القول بأنّ التفريق هو الأفضل ، والسنّة تخصّ جواز الجمع بالسفر ومواقف خاصّة ، ولكلّ دليله ، وقس على ذلك سائر الاختلافات الفقهية ، حتّى الاختلاف في متعة النكاح ، فذهب جمهور السنّة إلى النسخ والشيعة إلى بقاء الجواز ، فالاختلاف فيها كالاختلاف في سائر المسائل الناشئة من الاختلاف في النسخ وعدمه .

سابعاً : وجود الاختلافات القومية .

يتشكّل المسلمون من قوميات متعدّدة من عرب وعجم وترك وبربر إلى غير ذلك من الشعوب والقبائل ، ولكن هذا الاختلاف اختلاف تكويني لا يصلح لأن يكون مانعاً عن وحدة الكلمة ، وقد عالج سبحانه هذا النوع من الاخلاف قائلاً : (  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )( سورة الحجرات : 13 ) .

فالاختلاف في اللون واللسان والدم والوطن وإن كانت عوامل توحّد طائفة كبيرة ، لكنّها عوامل عرضية لا تمتّ إلى جوهر الإنسان بصلة ، وأمّا الإيمان بالأُصول الثلاثة فهو عامل باطني ذاتي أقوى من جميع العناصر المتقدّمة .

فالمسلم الشرقي إذا تعارف مع المسلم الغربي مع ما بينهما من الهوّة السحيقة يتآخيان ; لما بينهما من وحدة المبدأ والمعاد والقيادة والهدف ; وأمّا الأُخوان من أُمّ وأب واحد إذا كان أحدهما إلهياً والآخر مادّياً فإنّهما يتناكران .

ثامناً : الجهل بمعتقدات الطوائف .

الحقيقة أنّ جهل كلّ طائفة بمعتقدات الطائفة الأُخرى يعدّ من أهمّ الموانع التي تشكّل حاجزاً منيعاً عن الوحدة ، وهذا ليس بالأمر المستسهل ، وإليك هذا المثال : إنّ الشيعة اقتداءً بالنبي وأئمّة أهل البيت لا يسجدون في الصلاة إلاّ على الأرض أو ما ينبت منها ، بشرط أن لا يكون مأكولاً ولا ملبوساً ، فبما أنّ السجود على الأرض في المنازل وحتّى المساجد المفروشة غير ميسّرة ، لذا يتّخذون أقراصاً من التربة يسجدون عليها ، فعند ذلك نرى أنّ بعض إخواننا من السنّة يرمون الشيعة بالسجود للحجر والتراب كسجود عبّاد الوثن له ! مع أنّهم لا يفرّقون بين المسجود عليه والمسجود له ، فالتراب هو المسجود عليه ، وأمّا السجود له فهو الله سبحانه .

وعلى ذلك فلو وقف فقهاء المذاهب على ما لدى الطوائف الأُخرى من الفقه والأُصول والاستدلال والاجتهاد لما عاب أحدهم الآخر ، وإنّما الخلاف في كيفية الاستدلال وحقيقة البرهان لا في الأخذ بالبرهان .

تاسعاً : الجهل بمصطلحات الطرف الآخر .

إنّ لكلّ طائفة مصطلحات خاصّة في العقيدة والشريعة ، يجب أن تؤخذ مفاهيمها من كتب تلك الطائفة ، وليس من الصحيح تفسيره اعتباطاً . ومثال ذلك اصطلاح التقية ، فالتقية من المفاهيم الإسلامية ، وهي سلاح الضعيف أمام القوي ، فإذا خاف المسلم على ماله وعرضه ودمه من أيّ إنسان سواء أكان كافراً أو مسلماً وأراد شخص قوي سلب حرّياته ، فلا محيص له إلاّ كتمان عقيدته ، وقد أمر به سبحانه وقال : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )( سورة النحل : 106 ) ، وقد نزلت في حقّ عمّار بن ياسر ، حيث أظهر الكفر وأخفى الإيمان ، وجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله)باكياً ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « لا شيء عليك » ، فنزلت الآية ، ولكن اصطلاح التقية يفسّر عند بعض المخالفين بالنفاق ، مع أنّ بين التقية والنفاق بوناً شاسعاً ، فالتقية إظهار الكفر وإبطان الإيمان ، والنفاق على العكس ، وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر .

* أمّا الحلول العلمية لوحدة الأُمّة الإسلامية : فمنها :

1 ـ الأخذ بالقواسم المشتركة بين المذاهب الإسلامية فقط ، والإعراض بالكامل عن القضايا الخلافية .

2 ـ اتّباع المنهج السلفي « الأصيل » للعودة إلى ماكان عليه الصحابة والتابعون ، والإعراض عن المذاهب المستحدثة بعدهم .

3ـ ترجيح أحد المذاهب الموجودة واختياره ، والإعراض عن المذاهب الباقية .

4 ـ دمج المذاهب وإقرار المصالحة فيما بينها .

5 ـ القبول بالمذاهب جميعاً وتخيير المسلمين في الأخذ بأيّ منها .

6 ـ نظرية ابن أبي الحديد المعتزلي الداعية إلى الالتفاف حول الإمام علي (عليه السلام)والاقتداء بمواقفه في إقرار خلافة من تقدّمه .

7 ـ نظرية السيّد أمير علي الهندي القائل بأنّ واقعة غدير خمّ تعني ترشيح الإمام علي (عليه السلام) للخلافة ، وليس تنصيبه خليفة .

8 ـ نظرية الصوفية القائلة بحصر الولاية المعنوية ـ وليس الخلافة السياسية أو المرجعية العملية ـ في علي وأولاده (عليهم السلام) .

9 ـ نظرية العلاّمة محمّد صالح المازندراني القائلة بالتفريق بين الإمامة والخلافة ، والقبول بالمرجعية العلمية للإمام علي (عليه السلام) وخلافة الخلفاء .

10 ـ نظرية السيّد البروجردي القائلة بالتأكيد على المرجعية العلمية لأهل البيت (عليهم السلام) ، والسكوت عن قضية حقّ علي وأولاده (عليهم السلام) بالخلافة باعتبارها قضية تأريخية ترتبط بالماضي ، ولا ضرورة لها الآن ، وقد استند في ذلك إلى مقتضيات المصلحة العامّة ورعاية الأهمّ فالأهمّ والأخذ بنظر الاعتبار الأولويات الراهنة والاحتياجات الضرورية للمسلمين في العصر الحاضر .

11 ـ القيام ببعض المشاريع التي من شأنها التقريب بين المذاهب الإسلامية ، كتجربة دار التقريب في القاهرة سابقاً ، وتجربة المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية حالياً .

هذا ، ولا يخفى أنّ بعض المشاريع فيها محلّ للتأمّل بلا شكّ .

وأمّا الحلول السياسية لوحدة الأُمّة الإسلامية فـ :

( منها ): مشروع إقامة معاهدات واتّفاقات التعاون ، وهو حلّ سياسي لغرض تحقيق الوحدة الإسلامية . لكن إذا كان المقصود من هذا المشروع إقامة حكم فدرالي واحد مثل اتّحاد الجمهوريات السوفيتية السابق أو الولايات المتّحدة الأمريكية ، فهو يكون شبيهاً للغاية بمشروع الحكومة الإسلامية الموحّدة ; لأنّه يستلزم إقامة حكومة مركزية موحّدة تخضع لها جمهوريات حكم ذاتي محلّية ، ويبدو أنّه لا يختلف في هذه الحالة عن مشروع الحكومة الإسلامية الموحّدة سوى بالاسم وبعض الصلاحيات المحلّية .

أمّا إذا كان المقصود أن يقيم كلّ بلد إسلامي جمهورية مستقلّة مع حفظ خصوصيته القومية ولُغته وعَلَمه الوطني وعملته النقدية الوطنية ، ولكن تكون بين هذه الجمهوريات الإسلامية المستقلّة علاقات تضامن وتعاون فيما بينها في مجال السياسة الخارجية والاقتصادية والصناعية والعسكرية ، فهو في هذه الحالة مشروع آخر تنبغي دراسته وتدوين ضوابط هذا التعاون ، وهو مشروع عملي يمكن تحقيقه بلا شكّ ، فهو ليس خيالياً وأُمنية محضة مثلما هو حال المشروع سالف الذكر .

ولكن ينبغي وضع خطط عملية لتنظيم التعاون المطلوب في مجالات السياسة الخارجية والاقتصادية والحفاظ على الثقافة المشتركة والحضارة الإسلامية والقوميات واللغات والمذاهب الإسلامية .

ويبدو أنّ هذا هو الهدف الأساس لمؤسّسي منظّمة المؤتمر الإسلامي ، ولكنّه لم يتحقّق عملياً سوى في حالات خاصّة ونادرة .

وعلى أيّ حال فهذا المشروع جدير بالدراسة ، ومن اللازم تشكيل لجان من مندوبي البلدان الإسلامية يتمتّعون بخبرات جيدّة في الشؤون السياسية والاقتصادية والدينية ; لكي تتولّى مهمّة وضع البيان التأسيسي الكامل والنهائي .

وبالطبع فإنّ جوهر هذا المشروع يعارض هوية العديد من الحكومات التي تدّعي الإسلام وتعهّداتها للمنظّمات الدولية والدول الكبرى ، وهذا بالتحديد هو سرّ الإخفاق لمنظّمة المؤتمر الإسلامي .

إنّ الكثير من حكّام هذه البلدان وقسماً من شعوبها يعارضون لدوافع مختلفة قومية ومذهبية هذا المشروع ، ويقولون : إنّ آباءنا سعوا لتأسيس دولة مستقلّة لنا ذات نظام خاصّ ومذهب معيّن وقومية خاصّة ، وعلينا أن نقتفي آثارهم ونتّبع طريقهم .

إذا أرادت حركات الصحوة الإسلامية في البلدان الإسلامية الحصول على ثمار مفيدة للإسلام والمسلمين ، فعليها أن تقيم فيما بينها حالةً من التعاون والتنسيق والالتفاف حول الأُصول المشتركة التي تتّفق عليها جميعاً ، وفي غير هذه الحالة ستقع في تناحر داخلي فيما بينها ، حتّى إذا انتصرت ; وذلك بسبب التناقضات الموجودة داخلها ، هذا فيما لو غضضنا النظر عن مؤامرات الاستكبار والصهاينة الذين يسعون لاستغلال هذه الاختلافات المذهبية والاجتهادية بأشبع صورة ممكنة .

و( منها ) : مشروع إقامة معاهدات واتّفاقات التعاون ، وهو حلّ سياسي آخر لتحقيق الوحدة الإسلامية ، ومعلوم أنّ هذا المشروع يجري تنفيذه عملياً بين بعض البلدان الإسلامية مثل : إيران وتركيا والباكستان وبلدان أُخرى انضمّت إليها فيما بعد ضمن إطار منظّمة « أُكو » .

ومن سبل تطبيقه المعاهدات المختلفة في المجالات الدفاعية والاقتصادية والثقافية المشتركة بين مجموعة من البلدان ، وهذه سنّة معروفة منذ أقدم العصور .

وحقيقة الأمر هي أنّ معاهدة التعاون بين المسلمين في مختلف الأبعاد الثقافية والدفاعية والاقتصادية هي من صلب الإسلام ، فالآية الكريمة : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (سورة المائدة : 2 ) ، والحديث الشريف : « من أصبح لا يهتمّ بأُمور السملمين فليس بمسلم » ، وأمثالهما ، توجب على المسلمين التعاون والتنسيق في جميع القضايا الإسلامية العامّة والاهتمام بأُمور المسلمين ، وهذا واجب إسلامي عامّ وحتمي على كلّ مسلم حتّى لو لم يكن ثمّة معاهدة أو اتّفاقية مدوّنة بشأنه .

وهنا ينبغي الالتفات إلى عدّة أُمور :

أوّلاً :  مثل هذه المعاهدات يمكن أن تكون شاملة لجميع المجالات الدفاعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ، كما يمكن أن تنحصر في بعض هذه المجالات .

ثانياً : يمكن عقد هذه المعاهدات الشاملة أو المحدودة بين جميع البلدان الإسلامية أو بين عدد منها ، وتوجد مشاكل وعقبات تختصّ بكلّ نوع ، أهمّها مشكلة تبعية الكثير من هذه البلدان للدول الكبرى كأمريكا وإنجلترا ! وهذه التبعية تمنع عقد مثل هذه المعاهدات بين المسلمين ، حتّى إذا دخلت هذه البلدان التابعة في مثل هذه المعاهدات فإنّ تحرّكها يتوجّه إلى التشكيك العملي في أصل جدوى تلك المعاهدات أو الكشف عن أسرار البلدان الإسلامية واطّلاع القوى الكبرى عليها ، الأمر الذي يجعل هذه القوى تمسك بخيوط توجيه العمل بهذه المعاهدات ، فيكون ضررها على المسلمين أكثر من نفعها ، وبالتالي تحوّلها إلى صورة لا محتوى لها أو تدمّرها بالكامل .

ثالثاً : يجب ـ وكما هو واضح ـ أن يبادر المسلمون بأنفسهم بعيداً عن تدخّل الدول غير الإسلامية إلى عقد معاهدات فيما بينهم ; ليتخلّصوا من شرورهم . ولكن وجود أصابع الاستكبار في البلدان الإسلامية يسبّب الآثار السيّئة المشار إليها سابقاً ، فيكفي دخول حكومة واحدة أو أكثر من الحكومات العميلة في هذه المعاهدات لتحويلها إلى وسيلة لخدمة المصالح الاستكبارية . فأيّ سبيل نسلكه وأيّ حلّ نفكّر فيه لتحقيق الوحدة السياسية بين المسلمين ينبغي أن يكون شرطه الأوّل عدم التبعية للقوى الكبرى ، وهذا الشرط مفقود ، كما هو مشهود لمن يلاحظ أوضاع حكومات البلدان الإسلامية .

رابعاً : أنّ ما يُقال من أنّ على المسلمين أن يعقدوا بصورة مستقلّة المعاهدات المطلوبة بعيداً عن تدخّل الأجانب ، لا يمنع البلدان الإسلامية من الدخول في المعاهدات الدولية مثل منظّمة الأُمم المتّحدة ومجلس الأمن والمعاهدات الثقافية والصحّية وأمثالها ، ولكن شريطة أن لا تصدّها هذه المعاهدات عن التعاون فيما بينها في سبيل تحقيق المصالح الإسلامية العامّة .

و( منها ) :  مشروع الحكومة الإسلامية الموحّدة ، وهو حلّ سياسي آخر لتحقيق الوحدة الإسلامية بين أبناء الأُمّة ، غير أنّ محلّه عالم الخيال ! ويمكن ذكره كأُمنية لا يمكن تجسيدها في الواقع العملي أبداً ، بل يكفي مجرّد عرضه على الأُمّة الإسلامية كمشروع مقترح ، وهو يدعو جميع الشعوب والبلدان الإسلامية إلى الاندماج في دولة إسلامية كبرى يجب أن تقيم مؤسّسات واسعة موحّدة ، وتدمج جميع الأجهزة السياسية والقضائية والمالية والعسكرية للبلدان الإسلامية ، وتوحيد اللغة الرسمية في لغة واحدة أو اثنتين ، وتشكيل علم واحد وعملة مشتركة .

ويدعو لهذا المشروع عادة الذين ينظرون إلى ملحمة انتصار الإسلام في أيّامه الأُولى ، ويؤكّدون أنّها لا تختصّ بزمن خاصّ ، بل تمثّل قدوة دينية مقدّسة ومثالاً للحكومة الإسلامية ، دون أن ينتبهوا إلى المشاكل العملية التي تواجهها هذه الدعوة على الصعيد العملي .

صحيح أنّ العالم الإسلامي حظي بحكومة موحّدة ومركزية قويّة في عهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وما بعده ، وأنّ حركات الخروج عليه لم تنجح في إقامة حكومات انفصالية ، وأنّ الحال استمرّ على هذا المنوال في بدايات العصر العبّاسي رغم وقوع العديد من ثورات العلويّين والخوارج وحركات التمرّد المحلّية ، ولكن هذا الوضع تغيّر بعد ذلك ، ففي النصف الثاني من القرن الهجري الثاني أُقيمت حكومتان مستقلّتان في المغرب الإسلامي من قبل فريقين متخاصمين : الأُولى أسّسها في مراكش العلويّون الأدارسة على يد إدريس بن عبدالله بن الحسن المثنّى بن الحسن بن علي المتوفّى سنة 177 هـ ، والثانية في ليبيا وتونس ، وقد أسّسها عبدالرحمان بن رستم المتوفّى سنة 171 هـ ، وهو على مذهب الخوارج ، وقد استمرّ الحكم بيد آله مدّة طويلة في مقابل حكومة الأدارسة العلوية .

كما أُقيمت حكومات انفصالية في شرق العالم الإسلامي تحدّثت عنها كتب التاريخ ، مثل دولة الصفّاريّين وغيرها .

وقبل ذلك أسّس عبدالرحمان الداخل المتوفّى سنة 172 هـ الدولة الأُموية في الأندلس في عهد الخليفة العبّاسي المنصور الدوانيقي ، وأخرج الأندلس من سلطة العبّاسيّين إلى الأبد .

وفي أواسط العصر العبّاسي وأواخره أُقيمت عدّة حكومات مستقلّة في الشرق الإسلامي نفسه ، وإن كانت في الظاهر تقرّ بالولاء للخليفة العبّاسي ، وتعاقبت على حكم بلدانه ، حتّى جاء المغول الذين أسقطوا الخلافة العبّاسية ، وتقاسمت العالم الإسلامي حكومات مستقلّة أقامها العديد من الأُسر المختلفة ، واستمرّ الوضع على هذا المنوال إلى اليوم رغم أنّ القرن الهجري العاشر شهد وجود ثلاث دول قويّة حكمت البلدان الإسلامية المهمّة ، وهذه الدول هي :

1 ـ الخلافة العثمانية التي سيطرت على مناطق كثيرة من العالم الإسلامي من سنة 1516 م حتّى عام 1924 م ، شملت أواسط أفريقية من الغرب إلى العراق من الشرق إضافة إلى جميع البلدان العربية ، وكانت تتبنّى المذهب الحنفي من بين المذاهب السنّية .

2 ـ الدولة الصفوية التي حكمت إيران ومناطق تمتدّ من حدود الدولة العثمانية إلى قسم مهمّ من البلدان الواقعة شمال إيران وشرقها ، وكانت تتبنّى المذهب الشيعي الاثني عشري ، واستمرّ عهدها من سنة 1602 م إلى سنة 1736 م .

3 ـ الأُمبراطورية التيمورية العظيمة في شبه القارّة الهندية .

وقد شهدت كلّ من هذه الدول الثلاث تغييرات عديدة ، وتقاسمت الأراضي التي كانت تحكمها حكومات محلّية صغيرة ، ثمّ خضعت للاستعباد الشرقي أو الغربي ، كما هو مذكور في كتب التاريخ .

والعديد من المسلمين ـ وخاصّة من أهل السنّة ـ أخذوا يفكّرون بضرورة عودة الدولة الإسلامية القويّة والموحّدة ، وقد ظهر هذا التيّار في أواخر العهد العثماني وقبيل الحرب العالمية الأُولى داعياً إلى تجديد حياة الخلافة الإسلامية الموحّدة ، وأُسّست نهضة الخلافة في شبه القارّة الهندية ومصر كما هو معروف ، ومازال بعض المسلمين الثوريّين في مصر وغيرها يحلمون بتحقيق هذه الأُمنية .

ويذكر هنا أنّ السيّد جمال الدين الأسد آبادي الشهير بالأفغاني كان يحمل هذه الفكرة أيضاً ، وإن كان من غير المعروف على نحو الدقّة الهدف الحقيقي للسيّد من دعوته الوحدوية لزعماء البلدان الإسلامية ، وخاصّة الخليفة العثماني السلطان عبدالحميد والملك القاجاري الإيراني ناصر الدين شاه . والمقدار الثابت أنّ السيّد اهتمّ بدعوة المسلمين إلى اليقظة والوحدة السياسية طوال عمره ، وخاصّة في أواخر حياته عندما كان يدعو إلى الاتّحاد الإسلامي وهو يعيش في إسطنبول ، لكنّه لم يحقّق هدفه رغم كلّ المساعي التي بذلها ، ومن المهمّ هنا معرفة ما إذا كان قد أعدّ لتحقيق هذا الهدف أم لا .

ولكن هذا المشروع مثالي محض ، وليس عملياً ; لأسباب عديدة ، أهمّها :

أوّلاً : أنّ أيّاً من حكومات التجزئة الحاكمة في البلدان الإسلامية حالياً وذات الاتّجاهات المتباينة غير مستعدّة للتخلّي عن سلطتها ، وهذا واقع معروف لا يحتاج إلى توضيح .

ثانياً : حتّى لو قبلت الحكومات بذلك ، فإنّ بعث المشاعر القومية خلال القرن الأخير بين الشعوب الإسلامية تقليداً للغرب ونتيجة للجهود الاستكبارية المكثّفة والمستمرّة إلى اليوم ، أوجد حالة مضادّة لهذا المشروع ، ونحن نعلم بأنّ الاستكبار الغربي نجد في إثارة المشاعر القومية بين الشعوب الإسلامية ذات الانتماءات القومية المتعدّدة أفضل وسيلة لتمزيقها واستغلالها لتحقيق مطامعه والسيطرة عليها ، وهو أمر لا يمكنه تحقيقه إذا اتّحدت هذه الشعوب على أساس الإيمان بالإسلام والمشتركات الدينية .

ثالثاً : حتّى لو نسّقت الشعوب الإسلامية تحرّكها واستعدّت لإقامة دولة إسلامية موحّدة وخضعت حكوماتها غير الإسلامية لمطاليبها ـ وهذه أُمنية فرضية بعيدة الحصول ـ فهل يمكن تصوّر أنّ الاستكبار الغربي سيسمح بذلك ، وهو الذي فرض سلطته سنين طويلة بل قروناً متمادية على العديد من بقاع العالم الإسلامي مستغلاًّ تفرّقها ؟ !

و( منها ) : مشروع المجلس القيادي الموحّد ، وهو حلّ سياسي آخر لتحقيق الوحدة الإسلامية ، وقد ورد الحديث به أوّل مرّة في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ، وتناول مصداقين له :

الأوّل : هو الذي ينتخبه مجلس خبراء القيادة الإسلامية عندما لا يبرز أحد الفقهاء بخصوصية قيادية مميّزة ، فينتخب الخبراء عدداً من الذين يتحلّون بشروط القيادة ; لكي يتولّوا قيادة الأُمّة بصورة جماعية وعلى أساس مبدأ الشورى ، ولكن الدستور لم يحدّد ضوابط طريقة عمل هذا المجلس ، وقد تمّ حذفه عند إعادة النظر في الدستور وإجراء الإصلاحات الدستورية ، وذلك في ضوء التجارب غير الناجحة لعمل المجالس المماثلة مثل المجلس القضائي وغيره ، ولعلّ الحذف جاء لأسباب أُخرى ، ولكن عنوان مجلس القيادة بقي في الفصل الثامن من الدستور ، والمقصود منه هو النوع الثاني .

والثاني : هو الذي يتمّ تشكيله عند وفاة القائد أو استقالته أو عزله ; لكي يتولّى القيام بمهمّات القائد إلى حين انتخاب خبراء مجلس القيادة لقائد آخر ، ويتشكّل هذا المجلس من رئيس الجمهورية ورئيس القوّة القضائية وأحد فقهاء مجلس صيانة الدستور الذي ينتخبه مجمع تشخيص مصلحة النظام . وهذا المجلس هو في الحقيقة خليفة مؤقّت للقائد ، ولا يختلف عنه بشيء يستدعي المزيد من البحث .

أمّا إذا كان المجلس القيادي دائماً ويرتبط بجميع البلدان الإسلامية ، فإنّ ذلك سيفتح الطريق لها جميعاً للمشاركة في انتخاب الأعضاء ، فينتخب كلّ منها عضواً قيادياً من بين علمائه ومذهبه ، أي : أنّ تشكّل مجلساً قيادياً من القادة المنتخبين من قبل الشعوب أو الحكومات في البلدان الإسلامية ; لكي يتولّى القيام بمهمّات القيادة .

ولكن هل هذا المشروع عملي ؟ ثمّ ألا يؤدّي إلى الاصطدام بمسؤوليات القائد الحازم والشجاع للجمهورية الإسلامية ؟

إنّ دائرة عمل هذا المجلس القيادي تشمل المصالح المرتبطة بعموم العالم الإسلامي ، وليس الشؤون الداخلية لبلد معيّن ، وعليه فإنّ حكم قائد الثورة الإسلامية الإيرانية ـ وطبقاً لمسؤولياته وصلاحياته ـ نافذٌ في الشؤون الداخلية للبلد . أمّا فيما يرتبط بالقضايا المرتبطة بالعالم الإسلامي كافّة فإنّ رأيه سيكون مدعوماً برأي القادة الآخرين ، وحكم المجلس القيادي هو النافذ بشأن هذه القضايا .

وهذا المشروع ربّما كان أكثر المشاريع الأُخرى نجاحاً في الجانب العملي لتحقيق الوحدة السياسية للعالم الإسلامي . وبالطبع ينبغي هنا أن تكون طريقة انتخاب القادة وأعضاء هذا المجلس والشروط التي ينبغي توفّرها فيهم منسجمةً مع الشروط الواردة في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية .

وثمّة صورة أُخرى يمكن فرضها كمصداق للمجلس القيادي ، وهي : أن تنتخب البلدان الإسلامية أعضاء مجلس قيادي استشاري يستعين قائد الثورة الإسلامية الإيرانية بآراء أعضائه فيما يرتبط بالقضايا الإسلامية العامّة ، أي : أنّ دور المجلس هو استشاري ، أمّا حقّ اتّخاذ القرار فهو بيد قائد الثورة .

و( منها ): مشروع وحدة القائد ، وهو حلّ سياسي آخر لتحقيق الوحدة الإسلامية . ولهذا المشروع أنصار أقوياء في الجمهورية الإسلامية ، ويُستفاد من طيّات كلام الإمام الخميني والإمام الخامنئي وعدد من قادة الثورة تأكيدهم على هذا النمط من الوحدة الإسلامية .

الداعون لوحدة القيادة ـ وذلك من بين دعاة الوحدة الإسلامية الذين لديهم اتّصالات بطريقة أو بأُخرى بالمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ـ ليسوا قلّة ، وبعضهم من أعضاء المجلس الأعلى للمجمع ، ويؤكّد العديد من المفكّرين الإسلاميّين ـ وذلك من أمثال الدكتور كليم صدّيقي (رحمه الله)رئيس مؤسّسة البحوث الإسلامية في لندن والأُستاذ إبراهيم زكزكي زعيم حزب الوحدة الإسلامية في نيجيريا والأُستاذ محمّد هادي آونك الزعيم الثوري الماليزي وغيرهم ـ وحدة القيادة الإسلامية ، ويصرّون عليها في مقالاتهم أو الكلمات التي يلقونها في مؤتمرات الوحدة الإسلامية التي يقيمها المجمع العالمي للتقريب كلّ عام في أُسبوع الوحدة .

وهذا المشروع أكثر واقعية بملاحظة خصوصيات الأوضاع الحالية للعالم الإسلامي ، كما أنّه أقرب إلى طبيعة السنن التي كانت تحكم العلاقات بين السنّة والشيعة في العصر الإسلامي الأوّل ، أي : سنّة الإمامة وسنّة الخلافة . يضاف إلى ذلك أنّ التجربة الناجحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية بيّنت بوضوح ملموس الآثار المباركة لوحدة القيادة في حلّ المشاكل الداخلية للدولة الإسلامية وسائر المجتمعات الإسلامية قدر الإمكان ، حتّى أصبح نظام وحدة القيادة الثورية في إيران منار أمل للكثير من التيّارات والحركات الإسلامية ، وأصبحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية « أُم القرى » بالنسبة للعالم الإسلامي . يضاف لذلك أنّ عناصر هذا المشروع متوفّرة في الواقع خلافاً للمشاريع الأُخرى ، وغاية الأمر أنّ تنفيذه يحتاج إلى تحديد الخطط العملية لتوحيد القيادة الإسلامية للعالم الإسلامي وجميع الشعوب الإسلامية ، وهو يشتمل على بعدين عامٍّ وتفصيلي ، أو تحديد القضية الكبرى والصغرى ، أي : أنّنا نقول تارةً : إنّ توحيد القيادة الإسلامية هو طريق الوحدة الإسلامية ، وتارةً أُخرى نقول إضافة إلى هذا الحكم الكلّي العامّ : إنّ اتّباع قيادة إيران الإسلامية أفضل طريق للوحدة الإسلامية .

ويمكن تأييد القول الأوّل بدليلين ، هما :

1 ـ إنّ هذا المشروع ينسجم مع أُصول كلا الفريقين ; إذ تؤكّد كتبهما الكلامية وحدة الإمام والخليفة في كلّ عصر ، فالشيعة الإمامية يؤمنون بأنّ الإمام معصوم ومنصوب من قبل الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ويعتبرون أنّ من ضروريات المذهب وجود إمام في كلّ عصر . أمّا الشيعة الزيدية فلا يؤمنون بوجوب العصمة فيه والنصّ عليه ، ويشترطون فيه الشجاعة والعلم والعدالة والانتماء النسبي للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)والقيام بالسيف ، وثمّة خلاف بينهم في جواز تعدّد الأئمّة في عصر واحد إذا توفّرت فيهم هذه الشروط ، وكان للزيدية في بعض العصور أكثر من إمام واحد في الوقت نفسه . أمّا في مذهب الخوارج وخاصّة « الإباضية » فإنّ وحدة الإمام والقيادة عندهم أصل ثابت ، وهم يؤمنون بنوعين من الأئمّة : الأوّل : إمام الدعوة ، ويمكن أن يكون أكثر من واحد في العصر الواحد . أمّا الثاني فهو :  إمام القيام ، وهذا يجب أن يكون واحداً لا أكثر في كلّ عصر .

فوحدة القيادة أمر ثابت لدى أغلب الفرق الإسلامية ، وخاصّة في عهود الإسلام الأُولى ، وهذه العقيدة مازالت راسخة في أذهان معظم الإسلاميّين الثوريّين .

2 ـ إنّ شرط نجاح كلّ نهضة سياسية هو وجود القيادة الموحّدة صاحبة الكلمة الفصل ، وهذا هو سرّ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في حين أنّ تعدّد القيادات هو السبب الرئيسي لإخفاق الحركات الإسلامية في بلدان المسلمين الأُخرى .

أمّا القول الثاني فيمكن ترجيحه على النحو التالي : بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) حدّدت في دستور الجمهورية الإسلامية شروط وضوابط خاصّة بانتخاب القائد ، تنسجم تقريباً مع الشروط والضوابط التي تعتقد أغلب الفرق الإسلامية بلزوم توفّرها في الإمام أو الخليفة أو ولي الأمر ، كما توخّيت الدقّة الكاملة في تحديد ضوابط طريقة انتخابه ومسؤولياته وصلاحياته . وممّا لا شكّ فيه أنّه لا يوجد في العالم الإسلامي لا في الماضي ولا في العصر الحاضر مثل هذه الأُصول القانونية المدوّنة بشأن ولي أمر المسلمين ، خاصّة بعد إعادة النظر فيها وإصلاحها استناداً إلى معطيات تجربتها في الواقع العملي .

وبعبارة أُخرى : فإنّ نظام القيادة الإسلامية تمّ تطبيقه في إيران عمليّاً ، ولا نظير له في البدان الأُخرى ، كما أنّ من المستبعد إيجاد مثل هذا النظام خاصّة مع ملاحظة الأوضاع السائدة فيها .

يضاف إلى ذلك أنّ الجميع شاهدوا خلال الأعوام الأخيرة أنّ إيران الإسلامية كانت من بين الدول القليلة التي التزمت الموقف الرسالي الإسلامي من قضايا العالم الإسلامي ، وعرِّضت بسبب ذلك لمختلف الأخطار والهجمات المعادية ، وهذه الظاهرة هي ثمرة لاستقلالها السياسي والثقافي وعدم ارتباطها بالقوى الدولية السلطوية ، في حين أنّ معظم حكومات البلدان الإسلامية ترتبط بصورة أو بأُخرى بهذه القوى ، ولا تستطيع الوقوف بصلابة وصراحة بوجه أعداء الإسلام .

فمادام الآخرون لا يحظون بمثل هذه القيادة السياسية الدينية القوية والمخلصة والصريحة فإنّ عليهم كحدّ أدنى أن يقتدوا بقائد الثورة الإيرانية بشأن مواقفه من القضايا المهمّة التي ترتبط بالمسلمين كافّة ويدعموا مواقفه لكي يعلن بصراحة المواقف التي لا يستطيعون هم التصريح بها ، فيتحدّث ويتحرّك عنهم جميعاً . وهذا يخفّف مسؤوليتهم وواجبهم ، ويزيد من خطورة مسؤولية وواجبات قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الذي ينهض بهذه المسؤولية الجسيمة شريطة أن تقف إلى جانبه حكومات البلدان الإسلامية الأُخرى وتدعم مواقفه .

وواضح أنّ هذا الأمر لا يمسّ استقلال أيٍّ منها ، فهي تحتفظ بحرّيتها واستقلالها في جميع شؤونها السياسية والاقتصادية والدينية والوطنية ، دون أن يتدخّل أحد فيها ، ولكن بحكم انتمائها الإسلامي عليها أن تقف في صفّ واحد : ( صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )( سورة الصفّ : 4 ) ، في ظلّ القيادة الإسلامية ، وتدعمها عند اللزوم دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .

* أمّا مبرّرات أمل تحقّق الوحدة : فهي الأسباب والحقائق الداعية إلى وجود الأمل بتحقّق وحدة الأُمّة . . وأهمّ ما يبرّر هذا الأمل ما يلي :

أوّلاً : وجود المتابعة والمواصلة من قبيل الشخصيات التي حملت مشعل الوحدة وعدم الانسحاب من الميدان رغم الجراحات التي تعرّض لها هؤلاء ويتعرّض لها عادة كلّ من يتصدّى لهذا الأمر المهمّ ، من الجهات الصديقة ومن الجهات المضادّة والمعادية للإسلام .

ثانياً : وجود مراكز مؤسّسات متمخّضة لخدمة الأهداف الوحدوية بين أبناء الأُمّة الإسلامية ، ممّا يجعل قضايا الوحدة أكثر جدّية وذات أبعاد فعلية ومستقبلية ، ويدفع بعجلة الوحدة إلى أمام ، ويخرجها من دائرة الحلم إلى ميدان الواقع .

ثالثاً : الظروف السياسية المحلّية والإقليمية والدولية التي تزداد جراحة يوماً بعد آخر ، والتي عجّلت في وعي الأُمّة وساهمت في تنضيج الذهنية الإسلامية وطموحات الرسالة ، وهذه الظروف وإن كانت في ظاهرها تشكّل عنصر ضغط لتذويب إرادة الأُمّة وتفتيت قدرتها ، إلاّ أنّ لكلّ فعل ردّ فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتّجاه ويقع وإيّاه على خطّ فعل واحد ، كما هو مقتضى القانون الثاني من قوانين « إسحاق نيوتن » . هذا على صعيد الموادّ الجامدة غير الواعية وغير العاقلة ، وأمّا على صعيد الأُمم والشعوب ـ وكما يستفاد ذلك من دراسة التاريخ بل والواقع المعاش ـ فإنّ ردّ الفعل قد يكون أضعافاً مضاعفة ، وقد يفوق حدّ التصوّر أحياناً  وجود الطاقة الإيمانية التي لا يمكن أن تخضع للحسابات المختبرية الصامتة . وعلى أيّة حال فإنّ الأُمّة الإسلامية باتت اليوم أكثر من أيّ وقت مضى تحسّ بضرورة الوحدة ونبذ الخلافات جانباً ، ولا بدّ من التصدّي لأعداء الأُمّة الذين يريدون ابتلاعها ومصادرة شخصيتها وإلغاء هويتها .

رابعاً : انفتاح نافذة الحوار الإيجابي الذي يحلّ كثيراً من الإشكاليات ويرفض العديد من حالات الغموض وسوء الظنّ .

خامساً : التنظير للمشروع الوحدوي في أبعاد مختلفة ، كالبعد التفسيري ، والبعد الفقهي ، والبعد الأُصولي ، والبعد العقائدي والكلامي ، والبعد التاريخي ، والبعد السياسي ، وتأسيس مناهج نظرية وعملية ، وتقعيد الفكر الوحدوي من خلال أُطروحات عميقة ودقيقة مبنية على أساس الواقع الموجود ، لا على أساس واقع متخيّل ومتصوّر ، وعلى أساس فهم الآخر ودرك محيطه .

وقد يعدّ هذا أهمّ ركيزة تحمل البشائر ، وتجعلنا نحسب للأهداف الوحدوية حساباً ، وتقلب تصوّراتنا إلى تصديقات .

هذا كلّه ما يتعلّق بالبحث الثالث .

وأمّا ما يتعلّق بالبحث الرابع ـ وهو التقريب بين المذاهب الإسلامية ـ فأقول :

إنّ محاور هذا البحث الرئيسية هي : تعريف التقريب ـ آليات التقريب ـ أُسس التقريب وقواعده ـ عوائق وموانع التقريب وشبهاته ـ سبل ووسائل وعوامل نجاح التقريب ـ مجالات التقارب ـ أهداف التقريب ـ ضرورة التقريب وسبل مواجهة موانعه .

* أمّا تعريف التقريب : فالتقريب لغةً : ضدّ التباعد ونقيضه ، كما جاءت هذه اللفظة بمعنى التفاعل والامتلاء والإسراع ونحوها .

أمّا اصطلاحاً : فقد تعدّدت التعاريف المختارة لهذا الاصطلاح المهمّ جدّاً ، وأغلبها تصبّ في مصبّ واحد ، كما يلمسه القارئ حين يطّلع على التعاريف التي صيغت لهذا المصطلح . .

فقد عرّفه الشيخ محمّد علي التسخيري الأمين العامّ للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بأنّه : التقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية بغية تعرّف بعضهم على البعض الآخر على طريق تحقيق التآلف والأُخوّة الدينية على أساس المبادئ الإسلامية المشتركة الثابتة والأكيدة .

كما عرّفه أيضاً سماحة الشيخ التسخيري بأنّه : التمسّك بالمبادئ والأُصول الإسلامية المسلّم بها ، والتعاون في المساحات المشتركة بين المذاهب ، والسعي الحثيث لكشف هذه الميادين المتّفق عليها وتوسيعها ، ورجوع كلّ فرد إلى مذهبه الخاصّ في الأُمور التي تختلف فيها المذاهب ، وما أقلّها ! وتعذير الواحد منّا الآخر فيما نختلف فيه من اجتهادات ، وتنمية الآداب والأخلاق التقريبية ، كالتآلف وحسن الظنّ والرقي بمستوى التفاهم والإحساس بالأُخوّة والتكافل .

وعرّفه الشيخ محمّد واعظ زادة الخراساني الأمين العامّ السابق للمجمع بأنّه : بذل الجهود العلمية في سبيل إزالة الفوارق التي باعدت بين المذاهب الإسلامية وأئمّتها وأتباعها ، وتحسين العلاقة بين الأئمّة وعلماء المذاهب ، وتكوين الجوّ الهادئ ، والتعارف بينهم على أساس المشتركات بين المذاهب .

كما عرّفه الشيخ جعفر السبحاني أحد مراجع التقليد في قم بأنّه : التقريب بين قادة المذاهب وأتباعها برسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الإسلامية في مجالي العقيدة والشريعة ، وترك بعض الخلافات الجانبية .

وعرّفه الأُستاذ زكي الميلاد مدير تحرير مجلّة « الكلمة » التي تصدر في قم بأنّه : تقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية التي تلتقي على الأُصول العامّة والثابتة في مجالات الفقه والأُصول والكلام وعلوم القرآن والحديث ، وإزالة سوء الفهم المتبادل ، والعمل على ما هو متّفق عليه ، وتجنّب ما هو مختلف فيه في إطار العلاقات العامّة .

وعرّفته الدكتورة مريم بنت حسن آل خليفة رئيسة جامعة البحرين بأنّه : الفعل الدالّ على عدم التباعد ، أو هو : كلّ الأفكار والأفعال والاجتهادات المؤدّية إلى التقارب بين المذاهب الإسلامية ، وذلك من أجل تحقيق هدف أساسي ، وهو الوصول إلى الأمن النفسي وتدعيم الثقة وتعزيز التعاون على البرّ والتقوى ، أو هو : الإقرار بالاختلاف مع الإقرار بضرورة عدم التباعد والتناحر ، والعمل على إزالة كلّ ما يشكّل طعناً للآخر .

كما عرّفه الدكتور عبدالسلام العبادي رئيس مجلس أُمناء جامعة آل البيت في الأردن بأنّه : إبراز الجوامع المشتركة ، واحترام الفروق في إطار التأكيد على وحدة الأُمّة .

وعرّفه الشيخ الدكتور علاء الدين زعتري الأُستاذ بجامعة دمشق بأنّه : اتّحاد المسلمين على أُصول الإسلام ، وتعذير البعض للبعض الآخر في فهم النصوص مادامت تحتمل ذلك ، والدعوة إلى التعاون على البرّ والتقوى لإصلاح أحوال المسلمين ، فهو وسيلة لجمع الشمل ورأب الصدع وتبادل حسن الظنّ ومنح التقدير للآخر صيانةً لوحدة الأُمّة الإسلامية .

كما عرّفه الشيخ تاج الدين الهلالي المفتي العامّ لقارّة أُستراليا بأنّه : انفتاح علمي واستقراء فقهي للتعرّف على أدلّة أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة للوقوف على حجّتهم فيما اختلف فيه من أحكام فقهية ، والغاية منه اتّساع المدارك والأفهام ، ومعرفة أكثر من طريق وبرهان ودليل يصل إلى الغاية التعبّدية لتطبيق النصوص الشرعية .

كما عرّفه الدكتور محمّد الدسوقي المصري أُستاذ الشريعة الإسلامية في الجامعة القطرية بأنّه : محاولة لكسر شوكة التعصّب ، وجمع كلمة الأُمّة على أُصول عقيدتها والمبادئ الأساسية لدينها .

وأخيراً عرّفه الدكتور أحمد عبدالرحيم السائح المصري الأُستاذ في جامعة قطر والأزهر وأُمّ القرى بأنّه : اتّحاد أهل الإسلام على الأُصول الإسلامية التي لا يكون المسلم مسلماً إلاّ بها ، وأن ينظر الجميع فيما وراء ذلك نظرة من لا يبغي الغلب بل يبغي الحقّ والمعرفة الصحيحة ، والتركيز على النقاط المشتركة ، كوحدة الغاية ووحدة المنهج ووحدة القيادة ووحدة العقيدة .

ولا يخفى أنّ بعض هذه التعاريف ليس دقيقاً ، كتعريف التقريب بالتقريب ، أو تعريف التقريب بذكر هدفه دون ماهيته . ولسنا هنا في مقام مناقشة هذه التعاريف وأيّها الأقرب إلى واقع الحال وإلى الحقيقة ، فهذا له محلّ آخر .

* أمّا آليات التقريب : فهي الوسائل المتاحة للوصول إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وتضمّ :

1 ـ الاعتراف بالمذاهب الإسلامية ، وبصحّة التعبّد بها ، وترك الهجوم من أتباع بعضها على بعضها الآخر .

2 ـ تطبيق مبدأ التسامح المذهبي ، وغرس مفهومه بين الأتباع .

3 ـ التوقّف عن محاولات الإقصاء والإبعاد المذهبي ، ومحاولات الحلول محلّ الذي أُقصي وأُبعد .

4 ـ الأخذ بمبدأ المقارنة في الدراسات الإسلامية ، حتّى يتيسّر لجميع المسلمين الاطّلاع على آراء وأحكام المذاهب الإسلامية المختلفة ، والابتعاد عن المناظرات التي تعضد هذا وتقلّل من ذاك .

5 ـ تشجيع مبدأ البحث العلمي الحرّ بعيداً عن الاضطهاد الفكري والإرهاب الثقافي ، ونشر البحوث العلمية في كلّ أقطار المسلمين وبمختلف لغاتهم ; كي يتسنّى لكلّ المسلمين الاطّلاع على نتائج هذه الأبحاث .

* أمّا أُسس التقريب وقواعده : فهي الأُصول والركائز التي يعتمد عليها التقريب بين المذاهب الإسلامية . . والتي يمكن إجمالها فيما يلي من أُمور :

الأمر الأوّل : أنّ الأُمّة الإسلامية بجميع مذاهبها وأقوامها وشعوبها أُمّة واحدة ، وأنّ الوحدة هي ركن من أركان الإسلام . وما أجمل ما قاله الإمام كاشف الغطاء داعية الوحدة الإسلامية : « بني الإسلام على كلمتين : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة »! وأنّ المسلمين ما وصلوا ولن يصلوا إلى تحقيق أهداف الإسلام السامية إلاّ بالوحدة ، وأنّ عزّ المسلمين ومجدهم رهين وحدتهم ، وليس بعد اختلافهم وتنازعهم إلاّ ضعف الشوكة وحلول الوهن بهم .

الأمر الثاني : أنّ الأُصول الأساسية للإسلام لا خلاف فيها بين المسلمين ، فكلّهم يعتقدون بتوحيد الربّ تعالى ، وبنبوّة نبيّنا محمّد والأنبياء قبله ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ، وبالمعاد ، والجنّة والنار ، وبالصلاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنّ كتابهم واحد ، وقبلتهم واحدة ، إلى غير ذلك من أركان العقيدة والعمل . ولا يخفى أنّ هذه الأُصول المتّفق عليها والمشتركة بين المذاهب الإسلامية هي بالذات ملاك الأُخوّة الإسلامية ومعيار وحدة الأُمّة ، دون غيرها من المسائل المختلف فيها والآراء الخاصّة بكلّ مذهب ، والتي تدخل في معايير المذاهب نفسها دون أصل الإسلام .

الأمر الثالث : أنّ دعوة الناس إلى وحدة الأُمّة لا يُعنى بها رفض المذاهب كلّها أو بعضها ، كما لايراد بها إدغام المذاهب والمساومة عليها ، وذلك بأخذ شيء من كلّ مذهب ورفض شيء بحيث تكون الحصيلة صفقة مرضية لأتباع المذاهب ، كما لا يُعنى بها تبديل مذهب أو إحداث مذهب جديد في الإسلام ، كما لا يُعنى به الاكتفاء بالمشتركات ورفض موارد الاختلاف والإعراض عنها تماماً . نعم ، لا يراد بالوحدة والتقريب شيئاً من هذه الوجوه المتصوّرة التي ربّما يوجد لكلِّ منها أنصار بين المسلمين الذين يدعون إلى وحدة الأُمّة ، بل يراد التأكيد والركون إلى المشتركات في حقل العقيدة والشريعة باعتبارها الأُصول الأساسية للإسلام ، وكونها معياراً للأُخوّة الإسلامية ووحدة الأُمّة . هذا مع الاحتفاظ بالمذاهب والاحترام المتقابل بين أتباعها فيما وراء هذه الأُصول من المسائل الجانبية الفرعية التي يسوغ الخلاف فيها في إطار الدليل والبرهان ، والتي تعتبر غير ضرورية ، ويكون باب الحوار والاجتهاد فيها مفتوحاً . إنّ الاختلاف في مثل هذه المسائل مقبول ولا ضير فيه ، بل لا مناص منه ، فلكلّ ذي رأي رأيه : ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ... )( سورة هود : 118 ـ 119 ) ، أي : للرحمة ، أو للاختلافات على الخلاف ، حسب تعبير الإمام كاشف الغطاء في إحدى مقالاته .

الأمر الرابع : قد تبيّن ممّا سبق أنّ المراد بالمذاهب الإسلامية هي المذاهب التي تؤمن بتلك الأُصول الأساسية العقائدية والعلمية التي يلتزم أتباعها بالعمل بها بحيث يمكن أن يدخلوا في إطار الأُمّة الإسلامية ويُعَدّوا مسلمين ، والذين ينكرون أصلاً من تلك الأُصول فنحن لا ندعوهم إلاّ إلى الأخذ بما أخذ به إخوانهم المسلمون ليدخلوا في زمرة الأُمّة الإسلامية .

الأمر الخامس : لا بدّ من تعيين المشتركات والأُصول الأساسية للإسلام ـ  وإن كانت معلومةً إجمالاً  ـ  من قبل نُخبة من علماء المذاهب الإسلامية في مؤتمر عامّ ، وفي لجان تخصّصية مهمّتها تشخيص الأُصول المتّفق عليها ; لتكون معياراً للحكم على من لا يلتزم بها ، أو بشيء منها بأنّه خارج عن الأُمّة أو أنّه غير مسلم .

الأمر السادس : مادام لم يوضّح ويحدّد هذا المعيار ( الكفر والإيمان ) فليس لأحد رمي الآخرين بالكفر ، كما أنّه لايجوز المسارعة في الحكم به على أهل القبلة وعلى كلّ مَن التزم بالأُصول الإسلامية المتّفق عليها ، وحتّى لو شُكّ في التزامه بها ، بل ويجب الاجتناب بشكل قاطع عن تشكيل محكمة من قبلنا لتقسيم الجنّة والنار بين المسلمين ، ولكن وجب أن نوكل هذا الأمر إلى الله تعالى ، فإنّه الحكم العدل بين عباده : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )( سورة النحل : 124 ) .

الأمر السابع : المسائل الخلافية يجب أن تُبيّن على يد علماء المذاهب واعتماداً على المصادر المعتبرة عندهم ، ولا يجوز الاستناد إلى الإشاعات والأقوال غير المسندة ، أو إلى ما يروّجه أعداء كلّ مذهب جهلاً وكذباً ضدّ الآخرين ، ولا الاستناد إلى أقوال وأفعال الجهّال من أتباع كلّ مذهب ممّا يرفضه علماء ذلك المذهب والخبراء بأسراره .

الأمر الثامن : ينبغي اتّخاذ منطوق أقوال المذاهب ملاكاً للحكم عليها ، ولا ينظر إلى مستلزمات تلك الأقوال ممّا يرفضها أصحاب المذاهب .

الأمر التاسع : أن لا نجعل المسائل الخلافية الجانبية في نفس درجة أهمّية المسائل الأُصولية المتّفق عليها ، ممّا قد يؤدّي إلى سيطرة الفروع على الأُصول في زحمة الاختلافات الفرعية ، بل يجب نسيانها مؤقّتاً إذا زاحمت المسائل الأساسية ; لئلاّ تصرفُنا عن الاهتمام بتلك الأُصول غافلين عنها ومشتغلين عن الأهمّ بغيره .

الأمر العاشر : السعي لفتح باب الاجتهاد في كلّ المذاهب الإسلامية ، وفي كلّ الأبعاد ، أي : بالنسبة إلى المسائل الخلافية غير الضرورية ; لكي تكون أبواب البحث فيها مفتوحةً على أساس الالتزام بالحقّ والاحتجاج بالدليل ، وتكون القلوب مفتوحةً ومستعدّةً لقبول ما انتهى إليه البحث حسب الدليل ، مع رعاية جانب الإنصاف وأدب الجدال بالتي هي أحسن ، ومع النظر إلى تلك المسائل الخلافية من منظار التقريب والتحبيب سعياً إلى الوفاق مهما أمكن ، لا من منظار الخلاف والخصام  سعياً إلى الشقاق .

هذه الأُسس كلّها من إفادات الشيخ محمّد واعظ زادة الخراساني . أمّا الشيخ أحمد كفتارو المفتي الأسبق للديار السورية فقد أجمل أُسس التقريب في أُسس فكرية وأُخرى أخلاقية . .

أمّا الأُسس الفكرية فهي كالتالي :

1 ـ  إبقاء الاجتهادات في إطارها الفكري .

2 ـ  اتّباع المنهج الوسط وترك التطرّف .

3 ـ  التركيز على المحكمات دون المتشابهات .

4 ـ  ضرورة الاطّلاع على الرأي الآخر .

5 ـ  الانشغال بهموم الأُمّة الكبرى .

والأُسس الأخلاقية كالتالي :

1 ـ  الإخلاص والتجرّد من الأهواء .

2 ـ  التحرّر من التعصّب .

3 ـ  إحسان الظنّ بالآخرين .

4 ـ  ترك الطعن والتجريح .

5 ـ  الحوار بالتي هي أحسن .

هذا ، ويمكن أن يضاف لما تقدّم من أُسس : الانفتاح في فهم الإسلام ضمن إطار الاجتهاد الصحيح والقائم على أساس الكتاب والسنّة ، والابتعاد عن الحسّاسيات التاريخية قدر الإمكان ، والانفتاح على الإسلام بروح عالية لا تقيم وزناً لفوارق اللون والجنس واللغة والمذهب .

كما يمكن تصنيف قواعد التقريب بين المذاهب فيما يلي :

1 ـ حسن الفهم ، أي : حسن التعرّف على حقيقة موقف الطرف الآخر ، وذلك بأخذ هذا الموقف من مصادره الموثّقة ، أو من العلماء الثقات المعروفين ، لا من أفواه العامّة ، ولا من الشائعات ، ولا من واقع الناس ، فكثيراً ما يكون الواقع غير موافق للشرع الحنيف .

2 ـ حسن الظنّ بين الطرفين ، ذلك أنّ الإسلام يقيم العلاقة بين أبنائه على حسن الظنّ ، بمعنى : أن يحمل حال غيره على أحسن المحامل وإن كان يحتمل معنى آخر وتصوّراً معيّناً .

3 ـ التركيز على نقاط الاتّفاق ، لا على نقاط التمايز والاختلاف ، سيّما مع وفرة وكثرة نقاط الاتّفاق .

4 ـ التحاور في المختلف فيه ، وهذا ما ركّز عليه الكثير من دعاة الإصلاح والتقريب ، كمحمّد رشيد رضا وحسن البنّا ، فكلّ مختلف فيه قابل للحوار إذا كان الحوار جادّاً

ومخلصاً في طلب الحقيقة بعيداً عن التعصّب والانغلاق .

5 ـ تجنّب الاستفزاز من أحد الطرفين للآخر ، فالحوار المنشود يقتضي أن يتوخّى كلّ من الطرفين في خطاب الآخر تجنّب العبارات المثيرة والكلمات المحدثة للتوتّر في الأعصاب وللإيغار في الصدور ، واختيار الكلمات التي تقرّب ولا تباعد وتجمع ولا تفرّق .

6 ـ البعد عن شطط الغلاة والمتطرّفين من كلا الفريقين الذين يثيرون الفتن في حديثهم وكتاباتهم ، والقرب من المعتدلين من أهل البصيرة والحكمة الذين ينظرون إلى الأُمور بهدوء وعقلانية ووسطية ومن جميع الزوايا ، لا من زاوية واحدة .

7 ـ المصارحة بالحكمة ، فينبغي أن يصارح بعضنا الآخر بالمشاكل القائمة والمسائل المعلّقة والعوائق المانعة ، ومحاولة التغلّب عليها بالحكمة والتدرّج والتعاون المفروض شرعاً بين المسلمين بعضهم مع بعض .

8 ـ الحذر من دسائس الأعداء وكيدهم الذين لا يريدون الخير للأُمّة الإسلامية ، بل دأبهم على تفريق الجمع وتشتيت الشمل وتمزيق الصفوف .

9 ـ ضرورة التلاحم في وقت الشدّة والعسرة والمحنة ، والوقوف صفّاً واحداً حال ذلك .

* أمّا عوائق التقريب وموانعه وشبهاته : فهناك شبهات أُثيرت حول جدوى التقريب بين المذاهب الإسلامية . . والتي منها :

1 ـ إنّ الاختلاف بين المذاهب الإسلامية إنّما هو في الأُصول .

2 ـ إنّ الاختلاف بين المذاهب الإسلامية إنّما هو في اختلاف المصادر .

3 ـ اتّهام كلّ طرف الآخر بالابتداع .

4 ـ اتّهام كلّ طرف الآخر بالشرك عبر تبيين لوازم العقيدة .

5 ـ اتّهام كلّ طرف الآخر بالنفاق والتآمر .

6 ـ تصوّر أنّ القبول بالحوار ينمّ عن شكّ في المذهب أو قبول ضمني بآراء الآخرين .

7 ـ تصوّر أنّ التقريب يستهدف التذويب وحمل الناس على مذهب واحد ، وهو أمر باطل ، فالتقريب باطل .

8 ـ تصوّر أنّ التقريب يسهّل الأمر للانتقال من مذهب لآخر ، وبالتالي تخريب المعادلة بين المذاهب .

9 ـ تصوّر أنّ التقريب غطاء للتسلّل إلى المذهب الآخر وتبليغ التعاليم المنافية له والتشكيك فيه .

10 ـ تصوّر أنّ التقريب حركة ذات مصلحة سياسية بعيدة عن جوهر الدين .

غير أنّه توجد ـ وذلك كما قال سماحة الشيخ التسخيري ـ الحقائق التالية :

أوّلاً : أنّنا لاحظنا مسألة اهتمام القرآن بالحوار حتّى مع المشركين وأهل الكتاب ، فكيف نتصوّر منعه للتفاهم بين المسلمين ؟ !

ثانياً : أنّ هناك بحثاً قرآنياً وحديثياً واسعاً حول ( المداراة ) كصفة رائعة للمسلم يتعامل بها مع الآخرين ، ولا مجال للتفصيل هنا .

ثالثاً : أنّ الأئمّة كانوا يعيشيون معاً ، ويدرس بعضهم على بعض ، حتّى ليتباهى بعضهم بفترة دراسته هذه ، كما لم يكونوا ليحتكروا العلم بالحقيقة ، في حين نجد بعض أتباعهم يبتعدون حتّى عن التفاهم .

رابعاً : لقد شهدنا حركة تقريبية في الأزهر الشريف في الخميسينات شارك فيها الأعلام والعلماء ، ومنهم : الشيخ المراغي ، والشيخ مصطفى عبدالرزّاق ، والشيخ عبدالمجيد سليم ، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء ، والسيّد شرف الدين الموسوي ، والسيّد البروجردي ، والسيّد هبة الدين الشهرستاني ، والشيخ محمّد تقي القمّي . وهم علماء كبار سنّة وشيعة ، قاموا بحمل لواء التقريب ، فهل خفيت عليهم هذه الشبهات وبعضها يتّصل بالأُصول ؟ ! وقد استبشر المرحوم الشيخ محمّد محمّد المدني بخطوة رائعة اتّخذها الأزهر بتدريس المذهب الشيعي الإمامي والزيدي في أكبر كلّية من كلّياته ، وأُخرى اتّخذتها إيران ( آنذاك ) بإدخال فقه السنّة في كلّية المعقول والمنقول .

خامساً : قد شهدت حركة التقريب تقدّماً واسعاً وقبولاً عامّاً اليوم . وأروع مثال على ذلك قيام أكبر مجمع فقهي ـ هو مجمع الفقه الإسلامي بجدّة ـ بإيجاد شعبة متخصّصة باسم « شعبة التقريب بين المذاهب الإسلامية » ، وحصول روح توافقية عامّة حرّة في اجتماعاته العامّة ، ممّا يكشف عن وحدة المنابع والرؤى وانفتاح للعالم الإسلامي بعضه على بعض . وقد أُسس في الجمهورية الإسلامية الإيرانية « المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية » ، وهو يضمّ في مجلسه الأعلى علماء من المذاهب الإسلامية المتنوّعة ، وقد قام هذا المجمع بدوره بتأسيس « جامعة المذاهب الإسلامية » . هذا ، وقد اعتمدت « الإيسيسكو » ( المنظّمة العالمية الإسلامية للتربية والعلوم ) التقريب هدفاً ، وعقدت له مؤتمرات في شتّى أنحاء العالم . كما قامت المراكز العلمية الدينية في البلدان الإسلامية كالمغرب ومصر والجزائر والأردن وسورية ولبنان وإيران وباكستان والسودان وماليزيا وأندونيسيا وغيرها بعقد الندوات والمؤتمرات العالمية لتركيز هذه الحقيقة .

سادساً : أنّنا يجب أن نحدّد ماذا نعني بالأُصول ; حتّى يتّضح لنا ماذا نقصد من قولنا عدم وجود الاختلاف فيها ، وإذا لخّصنا البحوث المفصّلة حول الحدود التي تفصل بين الإسلام واللاإسلام استناداً للآيات الكريمة والروايات الشريفة فإنّها جميعاً تركّز على الحدود التالية : الإيمان بالتوحيد الإلهي إجمالاً ، والإيمان بنبوّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولزوم طاعته في كلّ ما يصدر عنه ، والإيمان بالقرآن الكريم والعمل بكلّ أوامره ونواهيه وقبول كلّ تصورّاته وتعاليمه ، والإيمان بالمعاد إجمالاً ، والإيمان بتشريع الإسلام لمجموعة من الأحكام التي تنظّم السلوك الفردي والاجتماعي ولزوم تنفيذها . ولا نجد أيّ خلاف على هذه الأُصول مطلقاً . نعم ، هناك خلافات حول التفصيلات ، مثلاً : في الصفات الإلهية وعلاقتها بالذات ، وفي المسائل العقائدية الفرعية كالجبر والاختيار والقضاء والقدر والشفاعة وغير ذلك ، وفي إثبات بعض الروايات وردّها سنداً أو دلالةً ويترتّب عليه اختلافات أُخرى ، وفي مسائل الخلافة والإمامة ، وفي بعض الأحكام التشريعية ، وغير ذلك . إلاّ أنّهم متّفقون جميعاً على أنّه إذا ثبت شيء بالقرآن الكريم أو السنّة الشريفة فإنّه يجب الإذعان له دونما تردّد . وينبغي التنبيه على أنّ البعض يحاول إلجاء الطرف المخالف للخروج من الحدود الإسلامية من خلال ذكر لوازم قوله مثلاً بهذا الرأي . وهذا الأُسلوب مرفوض في هذا المجال مادام الطرف الآخر لا يعتقد بهذا اللزوم ; إذ لو كان يعترف به كان عليه التراجع بعد أن نفترض إيمانه بالأُصول المذكورة . فلا يمكن أن نخرج فرداً عن الإسلام لأنّ من لوازم قوله في نظرنا نفي الأُصول الأُولى ، وبهذا تُحلّ مسألة الاتّهام بالابتداع والشرك .

سابعاً : من الواضح أنّ مصادر التشريع لدى كلّ المسلمين هي الكتاب والسنّة ، ولا يتنافى هذا مع الاختلاف مثلاً في علاقة الكتاب بالسنّة ، وهل لها أن تخصّص العامّ الكتابي مثلاً أم لا ، ولا مع الاختلاف أحياناً في الطرق الموصلة إلى السنّة ، ولا مع الاختلاف مثلاً في دلالة التقرير النبوي ، ولا مع الاختلاف في وجه صدور الأمر النبوي وهل هو باعتباره حاكماً أو باعتباره رسولاً .

ثامناً : أنّ منطق الاتّهام والتشكيك نحن منهيّون عنه .

تاسعاً : أنّ حركة التقريب كما هو واضح لا تستهدف التذويب مطلقاً ، وهي تؤمن بأنّ المذاهب كلّها ثروة لهذه الأُمّة والحضارة ، كما تؤمن بأنّ فكرة المذهب الواحد خيال محض .

ومن موانع التقريب :

أوّلاً : العامل الخارجي .

فمن الواضح تماماً أنّ أعداء هذه الأُمّة يخلقون كلّ الظروف التي تؤدّي لتمزيق هذه الأُمّة ، ويقفون في وجه كلّ ما يعمل لتوحيدها . وقد لاحظنا أنّ الاستعمار الغربي عمل خلال فترة احتلاله للعالم الإسلامي ، وخصوصاً في الفترة التي احتلّ فيها العالم الإسلامي كلّه تقريباً ، وقضى على آخر دولة إسلامية شمولية في الربع الأوّل من القرن الميلادي العشرين ، لاحظنا أنّه اعتمد سياسة ثلاثية تستهدف :

1 ـ إبقاء الأُمّة على تخلّفها العلمي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وغير ذلك .

2 ـ إشاعة الحالة العلمانية الغربية على الروح الإسلامية في العالم الإسلامي ، إلى جانب تحريك النزعات القومية والعنصرية . ولكن سرعان ما فشل مشروعه ، ممّا دعا بعض الكتّاب المعاصرين لتسميته بـ « النصر سريع الزوال للعلمانية (1920 ـ 1970 م » .

3 ـ تمزيق العالم الإسلامي إلى دول وشعوب متفرّقة ، وتحريك النعرات المذهبية الجغرافية والقومية والعنصرية حتّى التاريخية . كلّ ذلك خوفاً من هاجس الوحدة الإسلامية الذي يجري الحديث عنه والتخوّف منه باستمرار من قبل القادة والمفكّرين والكتّاب الغربيّين ، ويتمّ التنظير لصراع دائم مع العالم الإسلامي على أساسه .

وها نحن نشهد دور اليد الأجنبية الممتدّة لتحرّك النزاعات الطائفية في باكستان والعراق وأفغانستان ولبنان وسائر البلاد التي يتعايش فيها أتباع المذاهب ، وربّما استخدمت وسائل الإعلام والأقلام والألسنة المأجورة لتحقيق الهدف .

ثانياً : المصالح الشخصية لبعض الزعماء والحكّام .

وهو أمر شهدناه في عصور الظلام الماضية ، ونشهده اليوم أيضاً ، حيث يستغلّ البعض نفوذه ليثير العامّة ، بل ربّما بعض المنتسبين لأهل العلم لتحريك الإحَن والنزاعات الطائفية .

يقول أحد الكتّاب المؤرّخين واصفاً بعض حروب الطوائف بتحريك من السلطات الحاكمة : « وكانت لا تمرّ سنة دون عنف بين ما وصف بفرق السنّة وفرق الشيعة في سائر أرجاء المنطقة العربية الإسلامية ، فقد تولّى الترك بأنفسهم عام 249 هـ  عمليات القمع الطائفي ضدّ الشيعة . . . وكان أكثر الضحايا من منطقة ( الشاكرية ) ببغداد ، وبنتيجتها هوجم السجن المركزي وأُحرق أحد الجسرين الواصلين بين جانبي الكرخ والرصافة » .

ويستمرّ في الحديث عن دور حكومات الطوائف في تحريك الفتن في مصر ، وعن الاقتتال الطائفي بعد قيام حركة الزنج في سواد جنوب العراق ، وامتداد النزاع إلى المدينة المنوّرة وإلى طبرستان ، وتواصلت إلى شمال أفريقيا ، وهكذا .

ثالثاً : التكفير .

وتعدّ هذه الظاهرة من أهمّ العقبات بوجه التقريب ، ورغم أنّ الإسلام وضّح تماماً الحدود الفاصلة بين الكفر والإيمان وحدّدها بدقّة ، فإنّ هذه الحالة الغريبة حدثت بقوّة .

وقد ربّى القرآن العظيم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأتباعه على التعامل العقلاني والحوار المنطقي والقبول بالتعدّدية الاجتهادية إذا كانت على أُسس شرعية منضبطة ، إلاّ أنّ هذه الظاهرة حدثت في ظلّ ظروف عصبية في مطلع الأمر كما في قضية الخوارج . وزاد الجهل والتعصّب الطين بلّة حيث يدخل في عملية الفتوى من ليس أهلاً لها ، فيفتي بغير ما أنزل الله . وهذا ما شهدناه بكلّ وضوح في الحركات التكفيرية في عصرنا ، ممّا أدّى إلى سفك الدماء البريئة على نطاق واسع باسم الدفاع عن الدين والأُمّة ! وهما من هذه الحالة براء .

رابعاً : التشكيك في نوايا الداخلين في الحوار .

فإنّه لا يحقّق الجوّ الهادئ المطلوب ، ويدفع لنوع من التهرّب أو المماطلة أو تلمّس العثرات ، ممّا يمنع من تحقّق النتيجة المطلوبة . وهذا ما شهدنا نظيره في عمليات الحوار بين أتباع الأديان نتيجة ما يحمله كلّ طرف من تراكمات ذهنية عن الآخر ، فالطرف المسيحي مثلاً يحمل أحقاده الصليبية وإيحاءات المستشرقين بما يسمّونه بـ ( الهرطقة الإسلامية ) ، وما يدور في نفسه من هواجس الصحوة الإسلامية التي تنافس مشروعه في السيطرة ، في حين يحمل الطرف الإسلامي سوابق ذهنية كبيرة عن خدمة التبشير المسيحي للاستعمار على مدى قرون .

ولكن العمل الجادّ والتوجّه للتعليمات الإسلامية الهادية والداعية لحسن الظنّ في الأخ المسلم يمنع من أن يلعب هذا العامل دوره في المنع من التقريب ، خصوصاً إذا تمّ على مستوى العلماء العاملين الذين خبر بعضهم بعضاً في مجالات العلم والإخلاص والعمل في سبيل الأُمّة بمجموها .

خامساً : التهويل والتضخيم واستحضار الماضي والتهجّم على المقدّسات وعدم احترام الآخر .

وكلّ واحد من هذه الأُمور يمكن أن يشكّل بنفسه مانعاً من تحقّق الحوار المطلوب ، وبالتالي الوصول إلى التقريب . وقد وجدنا النصوص الإسلامية تتظافر في المنع من هذه الأُمور .

سادساً : اختلاف مناهج الاستدلال وطرق الاستنباط .

فإنّه يمنع من التقارب في النتائج ، وعليه ينبغي السعي إلى ما يأتي :

أ ـ الفراغ من المفروضات المسبقة قبل بدء عملية الحوار .

ب ـ  الاتّفاق على منهج واحد للاستنباط ، وليس هذا الاتّفاق أمراً صعباً .

ج ـ تحقيق محلّ الحوار بدقّة ; لئلاّ ينظر كلّ طرف إلى قضية ومفهوم لا ينظر إليه الطرف الآخر .

سابعاً : اعتبار القول الشاذّ علامةً على المذهب كلّه ، وأخذ تصوّرات المذهب من أقوال خصومه .

ثامناً : دخول من ليس أهلاً في عملية الحوار ، واتّباع الأساليب الملتوية للظفر بالآخر .

تاسعاً : عدم التصارح بين المسلمين .

فمن المشاكل الأساسية أنّنا غالباً لا نتصارح فيما بيننا عندما نختلف ، بحيث لا يُظهر أحدنا ما يجول في عقله وقلبه للآخر .

فالذي يحكم الواقع الإسلامي في كثير من لقاءاته سواء أكانت على المستوى الرسمي أو العلمائي أو في الدوائر الثقافية هو أُسلوب المجاملة ، بحيث يؤكّد للآخر على التزام الإسلام كقاعدة مشتركة وعلى أهمّية التنوّع في داخل الفكر الإسلامي والفقه والتشريع وفي بعض مفردات العقيدة وفهم القرآن ، ويتمّ التأكيد على أهمّية الوحدة بين المسلمين وأنّها سبيل لقوّتهم ، ولكن في الوقت نفسه تبقى لكلّ فئة أحكامها المسبقة عن الآخر ، والتي غالباً ما يلفّها الغموض أو التشويه ، لذا لا تأتي اللقاءات إلاّ بمجاملات يطلقها الحريصون على الوحدة ، أو بشواهد إضافية تكرّس للمتعصّبين مواقفهم الحادّة والرافضة للمذهب الآخر ، والتي تأخذ في نهاية المطاف عنوان التكفير .

عاشراً : الذهنيات القلقة والخائفة من التواصل .

لعلّ من أبرز العوائق وجود الذهنية التي تعتبر التواصل والدعوة إلى الوحدة مدخلاً إلى تمييع المذهب أو النهج الفكري الذي ينتمي إليه أصحاب هذه الذهنيات ، فغالباً ما يتمّ الاصطدام بخطّ الوحدة تجنّباً لما يرونه من مخاطر تتمثّل في أُمور ، أبرزها :

أ ـ التنازل عن بعض مفردات المذهب وحتّى بعض العناصر الأساسية ، ففي بعض الحسابات أنّ الوصول إلى أيّة وحدة بين طرفين مختلفين أو أيّ تواصل مع الآخر يقتضي تقديم التنازل من كلّ طرف ، والذي تختلف نسبته بحسب موقع كلّ طرف ، فالضعيف لا بدّ من أن يقدّم تنازلاً أكثر من القوي ، والأقل عدداً لا بدّ من أن يقدّم تنازلاً لغير الحريص .

ب ـ اعتبار التنازل في أيّ جانب ـ حتّى لو كان بسيطاً ـ يحمل التنكّر والإساءة لكلّ جراحات التاريخ وآلامه ، حين كان كلّ طرف يقدّم التضحيات على مذبح تأكيد مذهبه وحفظه وإبقائه حيّاً ومعافى .

ج ـ المصاعب الكبرى التي تعترض الوحدويّين من كلّ مذهب في ضبط قواعدهم ، وخصوصاً في ظلّ قيام التقسيميّين بتشكيك القاعدة بأنّه بإخلاص الرموز الوحدوية أم بخطوات الوحدة التي تهدّد المذهب بحسب زعمهم ، ما يهدّد بكسب هذه القواعد لمصلحة التقسيميّين الذين تتوافر لديهم كلّ الإمكانات والقدرات ، الأمر الذي يؤدّي فعلاً إلى التنافس في ميادين التعصّب والفرقة .

حادي عشر : وجود عوائق فكرية وأخلاقية .

ففضلاً عن مخاطر هذه الذهنية التي يجب أن تواجه بحكمة وموضوعية ، فإنّ ثمّة أفهاماً وممارسات لا تقلّ خطراً عنها ، منها :

1 ـ الابتعاد عن الأساليب الإسلامية في التعامل عند الاختلاف ، بحيث لا نجد الأخلاقية الإسلامية حاكمة في مقاربة الاختلاف الفكري أو المذهبي .

وهذه الأخلاقية تتمثّل بالالتزام بمجموعة من القيم ، منها :

أ ـ التأسيس للقواعد المشتركة قبل التحرّك لمعالجة قضايا الاختلاف .

ب ـ الجدال بالتي هي أحسن .

ج ـ الحمل على الأحسن في فهم الآخر ، والعذر عند الاختلاف ، وعدم الحكم على أساس النيّة السيّئة أو تعميم الاختلاف ، ناهيك بالتدقيق في النقل وفهم الآخر من مصادره الأصيلة لا ممّا تسمع عنه .

د ـ التحرّك من موقع المصلحة الإسلامية العليا عند التعاطي مع المستجدّات الخلافية .

هـ ـ عدم اعتماد أساليب السباب والشتائم واللعن كأساس في الحوار أو التعامل عند الاختلاف ، لا بل التأكيد على حرمة ذلك ، وتفهّم رأي الآخر وفق قاعدة أنّ الأمر الواضح عندك ليس بالضرورة واضحاً عند الآخرين وبالصورة نفسها ; لأنّ الزاوية التي تنظر منها إلى القضايا قد تختلف عن الزاوية التي ينظر منها الآخر .

2 ـ التهيّب من التعامل الجدّي مع المفردات التي تثير جدلاً بين المسلمين وتؤكّد اختلافهم ، من قبيل : النظر إلى الإمامة والخلافة ومدى حدودها ، والنظرة إلى الخلفاء والصحابة ، التكفير ، السنّة النبوية ، أحاديث الأئمّة ، وغيرها .

3 ـ التغافل عن الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الوحدة ، واعتبار أنّها تنحصر فقط في الدائرة الواحدة ضمن المذهب الواحد ، أو أنّ لها بعداً أخلاقياً توجيهياً لا يأخذ طابع الإلزام ، ولا يشكّل عنواناً أساسياً للذهنية الإسلامية ، وبذلك نبعد الإسلام عن أن يشكّل القاعدة الأساس للرؤية والسلوك ، وننفي أنّ المذاهب تمثّل وجهات نظر في فهم الإسلام .

4 ـ فهم بعض الآيات والأحاديث التي تعتبر الاختلاف حالة طبيعية إنسانية من قبيل الآية الكريمة : ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ ) (سورة هود : 118 ـ 119 ) ، وفهمها بما يكرّس الاختلاف والانقسام ، وهو ما لا تقصده الآية الكريمة ، والسبب أنّ عقل المسلم وصدره لايزال عاجزاً عن تقبّل الاختلاف الذي يفسح في المجال لتعدّد الآراء وغنى الأفكار وتنوّع الرؤى .

5 ـ عدم الجدّية في الأخذ بالوحدة الإسلامية ، وحملها كشعار لا يحمل أيّ مضمون ، لا سيّما إذا جرت مقاربتها إمّا من حيث هي وسيلة ليتنصّل من خلالها البعض من الاتّهام بالمذهبية واتّهام الطرف الآخر بها ، أو ستاراً يخفي السعي للنفاذ إلى المجتمع الآخر ، أو ديكوراً للفئات السياسية كي تبدو منفتحة في حضورها وغير منغلقة على ذاتها أو منحرفة في دائرتها المذهبية .

ثاني عشر : عدم المعرفة .

فحينما لا يعرف الفرد المسلم الوجوب الشرعي لمشروع التقريب وضرورات الوحدة ، ويجهل الأهمّية الحضارية لحضور أُمّته على الصعيد الدولي مرفوعة الرأس والراية ، وحينما لا يشعر بخطورة التحدّيات الميحطة به وبقضاياه الإسلامية والمصيرية ، فإنّه لا يتحرّك نحو العمل بمقتضيات المشروع التقريبي ومقوّمات الوحدة ، بل قد يتورّط في هدم ذلك من حيث يشعر أو لا يشعر .

ثالث عشر : غياب التربية الصالحة .

فلا يكفي العلم وحده لإزالة موانع التقريب والوحدة ما لم تعضده نزاهة التزكية وباطن الخشية من الله الملك الحقّ المبين ، فالذي يزوي عن نفسه التهذيب المعنوي يهوي إلى مستنقع الكراهية ، ويمارس العدوانية ، ولا ينفعه علمه ، بل والعلم في هذه الحالة يسهّل طريقه في الصدّ عن التقريب والوحدة .

رابع عشر : علماء السوء .

حيث يلعب هؤلاء بفتاواهم والأفكار المصلحية التي يتبنّونها لعبةً أساسيةً في تشتيت الجهود وبعثرة الطاقات وعدم السماح للمشاريع الوحدوية أن تسلك في الأُمّة بسلام وقوّة ونجاح .

خامس عشر : العصبية والنزعة الأُحادية .

فهي غريزة يمتلكها كلّ فرد ، كباقي الغرائز التي تميل بصاحبها على جهة السقوط ما لم تعتدل بكوابح الورع ونبل القيم ، فمن لم يخرج من سيطرة هذه الغريزة بحبّ الخير للآخرين فسوف يتحوّل إلى سكّينة في خاصرة الفعّاليات الإصلاحية أو يُصبح كالرمح في صدر المساعي التقريبية بين المسلمين .

سادس عشر : حبّ الدنيا والمصالح الماليّة .

فحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، مقولة صادقة بتأييد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والتجربة المشهودة على الأرض خير شاهد . ويلعب المال في خطيئات الدنيا لعبته الخطيرة لما تحتكره الأيادي وتوظّفه لمصالحها الذاتية ، ثمّ من أجل الحفاظ عليها والتوسّع فيها يخضع أصحابها لكلّ مخطّط شيطاني ومشروع تمزيقي ، فقد يدخلون في تحالفات مع الدول الكبرى أو الصغرى أو مَن يجدون لديه المصلحة المالية والتنمية التجارية لثرواتهم ، فتمنعهم هذه المصالح من قبول أيّ مشروع تقريبي في الأُمّة يرونه هادماً لتلك المصالح .

سابع عشر : شلل الإرادات .

فإنّ الضربات تتراكم  على إرادات المصلحين بهدف إحداث شرخ في عزائمهم وخور وخواء في قراراتهم وشلل في قواهم ، حتّى لا يجدو أمامهم سبيلاً للتقدّم وطريقاً للإنقاذ جرّاء الغبار الذي يرتفع في وجوههم بنفس الأسباب المذكورة . فما أكثر الإرادات التي قد تلاشت والهمم التي قد اندثرت والجهود التي قد تهدّمت نتيجة الجهل والأنانية والعصبية والمؤامرات الخلفية .

* أمّا سبل التقريب : فهي طرق إقرار ثقافة التقريب والوحدة بين الأوساط العامّة . . ويتمّ ذلك من خلال :

1 ـ نشر ثقافة الوحدة بين أهل الذكر من العلماء والحكّام ، وذلك بعقد المؤتمرات في كلّ عامّ أو عامين ; ليجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من جميع الأقطار الإسلامية ; ليتعارفوا أوّلاً ، وليتداولوا في شؤون الإسلام ثانياً ، وأوجب من هذا عقد المؤتمرات والمعاهدات بين قادة الشعوب الإسلامية ; ليكونوا يداً واحدة ، أو كيدين لجسد واحد تدفعان عنه الأخطار المحدقة به من كلّ جانب .

2 ـ التصدّي لهؤلاء الذين يقفون في سبيل الوحدة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم في كلّ بلد إسلامي وإن كان ظهورهم على أشكال وألوان مختلفة ، غير أنّ لهم طابعاً واحداً مشتركاً، أو فكراً واحداً مميّزاً ، أو أمراً واحداً جامعاً ، ذلك أنّهم في فهمهم للدين يتّبعون أفكار غير المسلمين ، وهي أفكار مفرّقة غير جامعة، لا تريد المسلمين قوّة في الأرض دافعة أو مانعة ، ولا أُمّة واحدة جامعة ، بل يريدونهم أوزاعاً متفرّقين لا حول لهم ولا قوّة . إنّ أوّل طرائق الوحدة يتمثّل في محاور هؤلاء الذين يقفون بآرائهم محاجزين للوحدة ، وأن نحول بينهم وبين أن تكون مقاليد الحكم في أيديهم .

3 ـ التعرّف على المذاهب من مصادرها ، ولذلك كان من الخطوات العملية للتقريب بين المذاهب الفقهية والوحدة الإسلامية هو نشر المؤلّفات الأصيلة لرجالات المذاهب وعلمائها ، وتداولها بين كلّ المهتمّين بالتقريب بين أتباع المذاهب ، وتحقيق الوحدة ; لأنّ الأفكار المرسلة والتي تنتشر بين جماهير الأُمّة هي التي تساعد على التمزّق والتفرّق ، وتقف حجر عثرة في طريق الوحدة، ومن ثمّ كان من الضرورة العلمية وأيضاً من الضرورة لوحدة الأُمّة أن تعرف أحكام المذاهب من مصادرها المعتبرة لا من أقوال خصومها .

4 ـ الإمساك عن المطاعن ، ولهذا ينبغي أن تتوقّف حملة الأقلام عن إثارة المشاعر برمي أتباع بعض المذاهب بالفظائع معوّلين في ذلك على بعض الآراء الشاذّة والروايات المدخولة والأفكار المسمومة ; لأنّ الذين يُهاجَمون ويُنتَقدون سيلجأون إلى الدفاع عن أنفسهم ، فتثور الأحقاد ، وتستمرّ الحفائظ ، وتكون أكبر خدمة للأعداء الذين يتربّصون بالأُمّة الدوائر ، فعلى كلّ علماء الأُمّة أن يوصدوا باب المجادلات المذهبية وما يثير الحفائظ والعصبية ، فهي من أعظم المحرّمات في هذه الظروف التي أحاط بالأُمّة فيها الأعداء من الداخل والخارج .

5 ـ التفريق بين العقيدة التي يجب الإيمان بها وبين المعارف الفكرية التي تختلف فيها الآراء دون أن تمسّ العقيدة ، فبهذا التفريق تجتمع الأُمّة على ما اتّفقت عليه ، ويعذر بعضها بعضاً فيما اختلفت فيه ، ويومئذ يعود المسلمون كما كانوا أُمّة واحدة ، دينها الإسلام ، وكتابها القرآن ، ورسولها محمّد (صلى الله عليه وآله) ، تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتقبل الكلام فيما وراء ذلك على أنّه آراء يدلي كلّ بما يراه منها ، دون أن تسيء إلى وحدة المسلمين ، أو أن تكون عاملاً من عوامل فرقتهم وضعفهم .

6 ـ أن يقوم العلماء ورجال الفكر بوضع القواعد الأساسية والمبادئ السليمة التي تمكّن من قيام وحدة سياسية واقتصادية لشعوب ودول الأُمّة الإسلامية .

7 ـ أن تقوم مبادئ ( الوحدة الإسلامية ) المقترحة على أساس من المبادئ الإسلامية لتنسحب هذه المبادئ بصبغتها الإسلامية على الوحدة الإسلامية ، فتجدّد كلّ مساراتها واتّجاهاتها .

8 ـ أن تتاح الفرصة لتهيئة المجتمعات الإسلامية نفسياً وفكرياً لهذه الوحدة ; حتّى يتوفّر المناخ الملائم ، فتصبح الوحدة مطلباً عامّاً تعمل الشعوب الإسلامية على تحقيقه .

9 ـ يصاحب ذلك قيام الإعلام صحافة إذاعة تلفازاً وما جرى مجرى هذا في الإعداد لهذه الوحدة الإسلامية .

10 ـ أن يكون لهذه الوحدة ( جامعة ) أو مؤسّسة أو ما شابه ذلك ، يلتقي تحت اسمها المسؤولون عن مجتمعات الأُمّة الإسلامية .

11 ـ أن تكون هذه الوحدة شاملة لكلّ المتطلّبات لتحقيق آمال الشعوب الإسلامية التي التقت في وحدتها العقدية والتشريعية والخلقية والفكرية .

12 ـ أن تقوم سوق إسلامية مشتركة على غرار السوق الأُوروبّية ، خاصّة أنّ عوامل قيام هذه السوق متوفّرة وإمكاناتها متاحة .

13 ـ أن تكون هناك مؤسّسات إسلامية مختلفة تُنشَأ هنا وهناك ، تعمل على التخطيط الدقيق لتحقيق التكامل بين المجتمعات الإسلامية .

14 ـ لا بدّ أن يكون هناك إخلاص كامل لهذه الوحدة الإسلامية التي تتخطّى وتتجاوز الإقليمية والعنصرية ، والأحزاب السياسية ، والأواصر اللغوية والقومية .

15 ـ أن تبذل الجهود المخلصة لإزالة المعوّقات التي تقف أمام وحدة المسلمين ، وتجعل خطوات الوحدة تتعثّر .

16 ـ أن تكون هناك قرارات سياسية ممّن يملكون القرار ; لتنطلق المؤسّسات الإسلامية وتعمل على ترسيخ مبادئ الوحدة الإسلامية وقيامها .

ومن عوامل نجاح التقريب :

1 ـ جعل القرآن الكريم دستور الأُمّة ، واعتباره العنصر الرئيس في أُسس أيّ لقاء ، وجعله الحاكم في القضايا بين المسلمين .

2 ـ إقامة التقريب بين المذاهب على أساس علمي رصين بعيداً عن العواطف أور ردّات الفعل الآنية ; لأنّ ما يقوم على أُسس علمية يبقى ويستمرّ ، وما يقوم على الظروف الزمانية يفنى ويضمحل .

3 ـ جعل التقريب قائماً على أساس التعاون الجماعي والاجتماعي بعيداً عن السياسات المتقلّبة ، أو الانحياز إلى نظام سياسي معيّن هنا أو هناك ، فالأنظمة السياسية لا تدوم ، والعمل الجماعي يدوم .

4 ـ حسن النيّة وسلامة الطوية ، وذلك بتبنّي المقاصد لتحقيق الأهداف .

5 ـ الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب ، والحديث دائماً عن نقاط التلاقي ، وبخاصّة مع العامّة ، وتوجيههم إلى أهمية الوحدة الإسلامية كما أرادها القرآن الكريم : ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) ( سورة الحجّ : 78 ) ، وإشاعة ثقافة التقريب ، وتضافر الجهود لذلك ، وترك الجدل والمناظرات الفكرية والعقدية والفقهية للمختصّين في المستويات العليا .

6 ـ التأكيد على أنّ الاختلاف بين المذاهب الإسلامية هو اختلاف خطأ وصواب ، وليس اختلاف كفر وإيمان .

7 ـ عدم تضخيم مسائل الخلاف وتحويلها إلى منازعات تشاحنية وخصومات تنافرية ، تنسي مقوّمات الوحدة وعوامل الوفاق ، مع أنّ نقاط التلاقي والاتّفاق أكثر بكثير من نقاط الخصام والتفرّق .

8 ـ عدم الانشغال بمناظرات جانبية وجدالات داخلية ، فالأهمّ هو الدعوة إلى الإسلام بعرض جوهره النقي وصفائه الروحي ، وبيان رسالته الواضحة ، وإبراز جمال الدين وشموله لكلّ مجالات الحياة ، وأنّه يُصلح الإنسان والزمان والمكان .

فرسالة الإسلام جاءت لتجعل حياة الإنسان سعيدة ، وقد وضّح الإسلام سبل النجاة والأمن والاطمئنان للبشر جميعاً ، وللعيش فيما بينهم بسلام ومحبّة وإخاء ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ( سورة الأنبياء : 107 ) ، وأهمّ العالمين المسلمون فيما بينهم ليكونوا رحماء برحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

9 ـ التخلّص من عقدة كمال الصحّة المطلقة ، وعقدة الوصاية على الدين ، فما تحمله حقّ وصواب يحتمل الخطأ ، وما أحمله حقّ وصواب يحتمل الخطأ ، قال تعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَل مُبِين ) ( سورة سبأ : 24 ) ، وإذا كان هذا في الحوار مع غير المسلمين فهو مع المسلمين من باب أولى .

فالمجتهد مهما بلغ لا يستطيع الجزم بأنّ اجتهاده هو الحقّ المطلق ، وأنّ اجتهاد غيره هو الخطأ المتيقّن ; فذلك لا يعلمه إلاّ الله ورسوله ، ولا سبيل إلى ذلك العلم بعد انقطاع الوحي .

10 ـ تجنّب التعصّب المذموم ومحاربته ، فإنّه يعمي ويصمّ القلوب والعقول والبصائر ، ومنهج القرآن النهي عن التعصّب المقيت ، ويدعو إلى التسامح الديني ، ومن باب أولى التسامح المذهبي ، ويدعو إلى التآخي البشري ، فكيف بالتآخي الإيماني ؟ !

11 ـ الابتعاد عن مواجهة المسلم للمسلم بأشدّ الكلمات ، وأغلظ العبارات ، وأقسى الأساليب وتجنّب التجريح والتنقيص ، وإحصاء الأخطاء والعثرات لدرجة قد تصل إلى الإهانة ، فمثل هذا يولِّد مزيداً من الأحقاد والكراهية والبغضاء ، وما أروع منهج القرآن : ( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) ( سورة آل عمران : 159 ) !

فما أجمل اللقاء إذا كان بألطف الكلام وأرهف العبارات ! وما أحسن الحوار إذا كان بأقوى الحجّة وأصدق الدليل !

12 ـ تقدير الرأي والرأي الآخر واحترامهما ; لضرورتهما وأهمّيتهما عند الحوار وحين تبادل الرأي .

13 ـ أن يكون الحوار الفكري قائماً على تبادل المعرفة ، وقبول الحجّة المنطقية المدعمة بالدليل الشرعي الصحيح دون جمود أو تعصّب .

14 ـ أن يكون الجدال بالتي هي أحسن ، فلا يتعدّى الإقناع بالدليل إلى إثارة الفرقة والخصام ، ومحاولة التفريق بين المسلمين ; ليضعف أمرهم ، ويتمكّن أعداؤهم منهم ، فمنهج القرآن مع غير المسلمين رفق ولين ، فهو مع المسلمين من باب أولى ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ  أَحْسَنُ )( سورة النحل : 125 ) .

15 ـ مراعاة الشعور والعواطف ، واحترام تباين الآراء واختلاف الأفهام ، فمثل هذا يولِّد المحبّة والصفاء ، قال تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ( سورة فصّلت : 34 )، وحينها يتحوّل العدوّ إلى صديق ، والمبغض إلى محبٍّ ، والبعيد إلى قريب .

16 ـ عدم إثارة الطرف الآخر ، فالإثارة تولّد الانفعال وتقطع الحبائل المقرّبة ، فهذا منهج القرآن مع غير المسلمين : ( وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم ) (سورة الأنعام : 108 ) ، فالمسلم ليس بالسبّاب ولا اللعّان ولا الفحّاش ولا البذيء ، فالكلمة الطيّبة أصل التلاقي ، والحوار الهادئ أساس التفاهم .

17 ـ التجرّد عن الأحكام المسبقة المبنية على الظنّ لدى أطراف التقريب ، فالعمل لا بدّ أن يكون قائماً على اليقين ، وليس على الوهم والظنّ والشكّ .

فقد كان أهل السنّة يتصوّرون الشيعة من الغلاة والرافضة ، مع أنّ الشيعة تكفِّر الغلاة وتعدّهم من النجاسات . وعند العامّة من أهل السنّة حكم مسبق أنّ الشيعة يعبدون الأحجار ، وذلك بسجودهم على أقراص خاصّة ، والحقّ أنّ السجود على جنس الأرض هو فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كما وصف ذلك الصحابة . وعند بعض العامّة من الشيعة أنّ أهل السنّة يبغضون آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ، ولا يُظهرون مناقبهم وأخلاقهم ، وواقع الحال أنّ محبّة آل البيت لا ينكرها مسلم ، بدليل تسمية أبنائهم ، تبرّكاً بأسماء آل البيت ، ويكاد لا يخلو بيت من اسم أحد أفراده باسم أحد آل البيت ، ، كعلي وفاطمة والحسن والحسين ورقية وزينب ، وما من قصيدة تمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ ذكرت مناقب آل بيته الكرام .

إنّنا مطالبون بالتعارف والتعاون ; لتحقيق المصالح المشتركة لشعوب الأُمّة الإسلامية ، ونشر القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة بين شعوب الأرض قاطبة .

أمّا وسائل التقريب فهي : السبل الكفيلة بترتيب الأثر الملموس والنتائج المطلوبة لدفع عجلة التقريب بين المذاهب الإسلامية نحو الأمام .

ومن جملة هذه الوسائل والسبل اتّخاذ الإجراءات العاجلة والجادّة لتنفيذ عملية إجراء البحوث العلمية والموضوعية عن واقع كلّ مذهب من المذاهب الإسلامية ، واستخراج حقائقه العقدية ومواقفه الفقهية من مصادر المذهب نفسه ومراجعه ، لا ممّا كتب عنه الآخرون ; لأنّ كلّ مذهب من المذاهب له خصوصياته التي لا تعرف إلاّ من مصادره المعتمدة لديه ، سواء كانت عقدية أو أُصولية أو من الفروع ، أو حتّى في حقل تفسير التاريخ وفهمه ، لاعتبار أنّ ما كان قد كتب أو روي عن بعض المذاهب من خارج بنيتها الحقيقية قد اختلط بنفثات نسبت إلى هذا المذهب أو ذاك اتّهامات ، أقلّ ما يقال عنها : إنّها ليست معترفاً بها في هذا المذهب ولا يقرّها ، أو ليست صحيحة عنده .

وانطلاقاً من أنّ عملية التقريب بين المذاهب لا بدّ أن يراعى فيها المصداقية والموضوعية ، فإنّ مثل تلك الصفات والحقائق لا يمكن أن تؤخذ أو تستقى إلاّ من لسان أصحاب المذهب نفسه ، أو من مصادره المعتمدة عند أهله وأتباعه ، لا من أقوال خارجية ، فربّما صاحبتها أباطيل ، ودسّت فيها دسائس ، أو زوّرت عنها أقاويل دون ثوابت ، حتّى انطوت على الشكّ فيها بصورة عامّة .

ويراعى عند تنفيذ بحوث التقريب وإجرائها ما يلي :

أ ـ التمييز بين الرأي السائد والرأي الشاذّ داخل كلّ مذهب ، وعلى الباحث الذي يسند رأياً إلى مذهب معيّن أن يأخذ بعين الاعتبار الرأي الشاذّ ، كما أنّ عليه أن ينسب الآراء الشاذّة إلى أصحابها فقط ، وليس إلى المذهب ذاته ، باعتبار أنّ المذاهب هي القواعد والأفكار ، وليست الأفراد .

ولتحقيق هذا الأمر فإنّ استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية تدعو المنظّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ، وبالتعاون مع مفكّري المذاهب الإسلامية وعلمائها وفقهائها ، إلى إعداد دراسة بحثية علمية لاعتمادها مرجعاً إسلامياً أساساً لكلّ دراسة تتمّ عن أيّ مذهب من المذاهب الإسلامية ، على أن تتاح لهم الاستعانة بميادين تنفيذ هذه الاستراتيجية .

ب ـ تقدير الرأي والرأي الآخر واحترامهما ; لضرورتهما وأهمّيتهما عند الحوار ، وحين تبادل الرأي ، على أن يسود الحوار العلمي المجرّد كلّ مواقف عمليات التقريب وإن أدّت إلى الاختلاف ، فالاختلاف طبيعي ، وليس بمستنكر في إطار قواعد الاختلاف وآدابه . كما أنّ الدفاع عن الرأي والاستدلال على صحّته حقّ لكلّ عالم ، والردّ المدعم بالدليل العلمي حقّ أيضاً ، وإذا كانت المسألة من المسلّمات في القضايا الجدلية والمنطقية فهي في القضايا والمسائل الفرعية ومجالات الأحكام الاجتهادية من باب الأولى والأحرى .

ج ـ الاتّفاق على المرجع المبدئي والثابت للتحكيم بين الآراء المتحاورة ، وهو الكتاب والسنّة النبويّة الصحيحة ، كما هو مرجع كلّ المذاهب ، والمسلمون متّفقون نظرياً على المرجعية الواحدة ، لكنّهم مع التأثّر بالمغريات المادّية والوجاهة الدنيوية والدوافع الخارجية لا يلتزمون أحياناً بما تدعو إليه تلك المرجعية ، ومرجع التقريب على كلّ الأحوال هو الكتاب الكريم والسنّة النبويّة الصحيحة التي ثبتت حجّيتها لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم .

د ـ الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب ; لأنّها الأهمّ والأكثر من نقاط الخلاف ، ولكونها العامل الجامع المشترك بين متعدّد المذاهب ، ويتحقّق هذا الأمر الأساس من خلال ميادين التأليف والنشر ، والبحث العلمي ، والاستعانة بكلّ وسائل الاتّصال المقروءة والمسموعة والمرئية .

هـ ـ إذا تغلّب الاختلاف على الأفكار والآراء فلا يجوز أن ينعكس كلّياً أو جزئياً على مواقف المسلمين من القضايا العالمية الكبرى ، فالاختلافات الفكرية والفقهية تبيّن بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّها كنز اشتهر به الفقه الإسلامي ، ولها تاريخ طويل ، كما أنّها من سنن الله تعالى في خلقه ، نتج وينتج عنها تفاعل الحركة العلمية وتنوّع قواعد التشريع ، كما نجم عنها النموّ والغنى العلمي والفقهي الذي يباهي به التراث الإسلامي على المستوى الدولي ، لذلك لا عيب ولا خطر في الاختلافات الفقهية والفكرية ، وإنّما الخطر في استثمارها في فصم عُرى الإسلام ومخالفة ما جاء به التشريع السماوي ، والأخطر من ذلك على الأُمّة والوحدة الإسلامية هو الاختلاف في مصادر الإسلام الأساس ; لأنّ هذا النوع من الاختلاف ليس إلاّ الهوان والخسران ، كما يعني وبلا جدل الضعف والتمزّق وهيمنة الأعداء . لذلك فمن أهمّ أُسس التقريب وخطواته العملية الإسراع بتوحيد هويّة الأُمّة الإسلامية ، بتأكيد وحدة مصادرها ومرجعياتها ، والحفاظ على أمنها السياسي والاجتماعي والثقافي والعملي والاقتصادي ; حتّى لا يقوى الاختلاف ويزداد التمزّق ، فيسقط حقّ المسلم في حياة العزّة والمجد الذي هو نعمة من نعم الله على عباده المسلمين .

وبالنظر بموضوعية إلى القضايا الإسلامية ذات الأولويات الكبرى ، والتركيز عليها دون الدخول في جزئياتها ; حتّى لا يستفرغ الجهد في الهوامش والجزئيات ، ومن أهمّها بل ومن أولوياتها الكبرى مسألة التفريق بين المسلمين ، وضراوة التنكيل بشعوبهم ، وخطورة العمل على إخراجهم عن دينهم بأعمال التنصير والتهويد والتجهيل واستغلال حاجاتهم المادّية في هذا العمل الخطير .

وباعتبار التقريب عملية متواصلة فلا بدّ من استمرارية الحوار المتأنّي والمتعمّق في مسائل التقريب وقضاياه .

ويمكن أن تشمل الخطط التنفيذية إقامة ندوات تخصّصية ، وإحياء حلقات دروس الفقه المقارن ، وتنظيم اجتماعات رجالات الفكر وعلماء الشريعة وفقهاء الإسلام والمؤرّخين وذوي الاهتمام من فقهاء مختلف أنحاء العالم الإسلامي .

ولتطبيق هذه الوسيلة يجب أن تعدّ خطط عمل تطبيقية تُعنى بها الجهات المعنية داخل كلّ تجمّع إسلامي ، سواء منها ما كان على مستوى البلد الواحد ، أو ما هو على مستوى الجاليات والأقلّيات القاطنة خارج بلدان العالم الإسلامي ، بحيث تشمل تلك الخطط والبرامج والأنشطة التعاونية برامج ثقافية التقريب ، يصحبها حملات توعية إعلامية ، وحوارات فكرية فقهية تناقش فيها وبعمق وموضوعية مسائل التقريب وقضايا توحيد الرأي ، شاملة لمجمل قضايا الاختلافات الفقهية والفكرية ، ويتمّ تنفيذها وفق خطّة زمنية محكمة ، بحيث يبدأ تداوله على المستوى الدولي الإسلامي في إطار أنشطة المنظّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ، ومن ثمّ يتمّ انتقالها وتداولها على المستوى الإقليمي ، تليها أنشطة في المجال نفسه ، تنفّذ على المستوى المحلّي ، تخطيطاً وتنفيذاً ، ومتابعةً وتقويماً ، على أن يسبق ذلك إنشاء هيئة أو مجلس أو جمعية في البلدان الإسلامية وفي مراكز تجمّعات المسلمين ، بحيث تتحدّد مهامّها ومسؤولياتها حول قضايا التقريب ، على أن تكون تابعة للمنظّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة هيكلياً وتنظيمياً ، وتحت مسؤولياتها وإشرافها ، على غرار الأمانة العامّة لاتّحاد جامعات العالم الإسلامي ، على أن تُعنى بإعداد لوائحها وتحدّد مهامّها ومسؤولياتها وبرامج عملها وخططها بنفسها وبعد تكوينها ، ولها أن تستمدّ خبرتها ونشاطها وأوّليات برامجها وأنشطتها من خلال مقترحات رجالات الفكر والفقه الإسلامي وكتّابه وعلمائه ، بالتعاون والتنسيق مع الدول الأعضاء والهيئات المماثلة القائمة حالياً على الساحة الإسلامية .

ولها أن تستعين بالمهامّ الإجرائية التالية :

1 ـ إعداد برامج العمل التقريبي وأنشطته ، واقتراح خطط التنفيذ على مختلف الصعد والمناطق والموضوعات .

2 ـ دراسة جهود التقريب ، والعمل على تعميمها على مختلف الدول الأعضاء والهيئات المعنية .

3 ـ التواصل مع المعنيّين بالتقريب أفراداً وجماعات حول كلّ الأُمور والمسائل التي تعنّ للمسلمين في ميادين التقريب ومجالاته ، والعمل على إعلام الدول والهيئات المعنية بها للتعاون والتشاور في ذلك .

4 ـ القيام بمهامّ الإعلام والتعريف والمتابعة الدائمة للجهود الدولية والإقليمية والمحلّية المبذولة في مجالات التقريب .

5 ـ اقتراح موضوعات البحوث الإسلامية ذات البعد الهادف الموصل إلى وحدة العالم الإسلامي علماً وعملاً ، وفق أهداف التقريب ، وبما يخدم ويحقّق مقاصد الدين الإسلامي في ترسيخ وحدته وتأصيل مبادئه ، ووحدة بنيته ، مع مراعاة الشمولية والتوسّع والتحديث فيما يصلح أمر المسلمين كافّة في حياتهم الدينية والدنيوية ، وبما يمكّنهم من مسايرة الركب الحضاري العلمي والتقدّم التكنولوجي ، ويعيدهم إلى مكانتهم التي أرادها الله لأُمّته ، بحيث تتحقّق لها صفة الأُمّة الواحدة التي ينطبق عليها وصف الرسول (صلى الله عليه وآله) : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى » .

هذا ، وتوجد إجراءات عملية في إطار تنفيذ استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية ، تبرز أهمّيتها من خلال اتّخاذ إجراءات متكاملة متماسكة على مختلف المستويات الوطنية والإقليمية والدولية ، ويأتي في مقدّمتها ما يلي :

1 ـ وضع سياسة وطنية تستهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية ، تتضمّن خططاً عملية من شأنها أن تساعد المعنيّين على إبراز حقيقة الاختلافات الفقهية من منظور إسلامي باعتباره ظاهرة فكرية نابعة من منطلقات غير منافية للتشريع الإسلامي ، لها جذور إسلامية صحيحة مبرّرة ، وبالذات منها ما كان في المسائل والقضايا الاجتهادية المستنبطة من الأدلّة الظنّية .

2 ـ إدماج مادّة ( ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية ) في كلّ مناهج المراحل التعليمية ، وبصور أخصّ فى المعاهد والمدارس والجامعات الدينية ذات الطابع المتخصّص في العلوم الشرعية ، ووفق أُسس تربوية ، والتركيز عليها في كلّ مسارات العملية التعليمية ، والعناية بها كمادّة تطبيقية صفّية ولا صفّية أساس يحصل الطالب عند تفوّقه فيها على تقدير أعلى في علامات النجاح التعليمي .

3 ـ تكثيف المحاضرات الدورية عن التقريب وثقافته السلوكية في مختلف المراكز المعنية بالقضايا الثقافية ، وفي المعاهد والمؤسّسات التعليمية ، مع التركيز بشكل أكثر عمقاً على الوحدة الإسلامية ، وشرح أسباب الاختلافات الفكرية والفقهية بين المذاهب ، والعمل على تبسيط مبرّراتها وتوضيح مقاصدها .

4 ـ استغلال المناسبات الوطنية والتجمّعات الشبابية المتكرّرة لتناول مسائل التقريب ، والعمل بشتّى السبل والوسائل على نشر ثقافته ، والتعريف بأنّ اختلافات المذاهب لا تعني التباين والتضادّ والتفرّق ، وإنّما هي اختلافات اجتهادية ظنّية ، تدور حول أحكام فروع مسائل وقضايا الفقه الإسلامي ، وأنّها لا تمّت إلى جوهر الإسلام وثوابته .

5 ـ الربط بين أُصول الدعوة الإسلامية ومحتوى اختلاف المذاهب والفتاوى الإسلامية وتعدّدها ، والدعوة إلى ضرورة انسجام فتاوى العصر مع جوهر الإسلام ، وإسنادها إلى مصادر التشريع ، لا إلى أقوال ليس لها مرجع من الدين ، خصوصاً حول قضايا الساعة الملحّة الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية .

6 ـ دعوة الكلّيات والجامعات الإسلامية لتطوير مناهجها ومقرّراتها ، وفتح آفاق معرفية جديدة تتمثّل في توسيع الدراسات الإسلامية العليا وتطويرها في إطار التقريب ، وتشجيعها على فتح باب الاجتهادات الفقهية وفق أُسسه المعروفة في علم أُصول الفقه ، بحيث يتسنّى لها تخريج المجتهدين والعلماء المبرّزين المتعمّقين في الشؤون والقضايا الإسلامية ، ومساعدتها على تطوير البحث العلمي المتخصّص وتعميقه ، وخصوصاً في جوانب الدراسة التي تخدم وتحقّق أهداف التقريب بين المذاهب ، مع إيلاء مناهج ثقافة التقريب أهمّية خاصّة في الدراسات الدينية والجامعية وبحوث الدراسات العليا ورسائل الماجستير وأُطروحات الدكتوراه ، وفي جميع إصداراتها .

7 ـ إيلاء دور الأئمّة وخطباء المساجد والوعّاظ ورجال الدعوة الإسلامية والصحافيّين والإعلاميّين اهتماماً خاصّاً ، والعمل على تشجيعهم على حمل رسالة التقريب ، وتوحيد رؤيتهم الإسلامية نحو المذاهب ، ودعوتهم للحدّ من تناول المسائل الخلافية وإثارة النقاش حولها ، إلاّ بما يجعل منها منطلقاً للغنى الفكري والتوسّع المعرفي ، وبما يخدم مقاصد التشريع ، ويؤكّد الوحدة الإسلامية .

* أمّا مجالات التقارب : فهي المحاور التي يدور التقارب حولها . . والتي :

( منها ) : محور العقائد ، فللمذاهب الإسلامية كافّة رؤية مشتركة واحدة تقريباً حول الأُصول العقائدية والأركان الإسلامية ، والخلاف في فروعها لا يخلّ بأصل الإسلام والأُخوّة الإسلامية .

و( منها ) : محور الفقه وقواعده ، فوفقاً لوجهة نظر محقّقي فقهاء المذاهب ، فإنّ الأبواب الفقهية تتضمّن نسبة عالية من النقاط المشتركة ، والاختلاف في بعض المسائل الفقهية أمر طبيعي مردّه إلى فهم الفقهاء واجتهاداتهم .

و( منها ) : محور الأخلاق والثقافة الإسلامية ، فليس للمذاهب الإسلامية خلاف في الأُصول الأخلاقية والثقافة الإسلامية على الصعيد الفردي والجماعي ، والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو أُسوة الأخلاق لدى كافّة المسلمين .

و( منها ) :محور التاريخ ، فلا ريب في أنّ المسلمين يتّفقون على وحدة المسيرة التاريخية في مفاصلها الرئيسة ، والاختلافات التفصيلية والفرعية يمكن طرحها في جوّ هادئ ، فيتمّ الوصول إلى موارد كثيرة للاتّفاق .

وعلى أىّ حال ، يجب أن لا تترك الخلافات آثارها السلبية على المسيرة الحاضرة للأُمّة الإسلامية .

* أمّا أهداف التقريب : فهي الثمار المرجوّة من ظاهرة التقريب بين المذاهب الإسلامية . ومن تلك الثمار :

1ـ الممانعة من الاضمحلال الداخلي .

منذ بداية البعثة النبوية ظهر الحقد والعداء ضدّ هذا الدين الجديد بأنماط مختلفة ; فالمشركون لم يخفوا حقدهم وغضبهم نتيجة نسخ دينهم السالف ، والاستهزاء به لما يحمل من أفكار خرافية ، وإلاّ لم تكن بينهم وبين صاحب الرسالة وأتباعه أيّة نزاعات شخصية من قبل ، فكانوا على استعداد للمصالحة والاتّفاق بكلّ ما يرغب صاحب الدعوة الجديدة في ثروة أو مكانة اجتماعية شريطة التخلّي عن دعوته الجديدة ودينه . فسعى المشركون للإطاحة بهذا الدين العظيم والوقوف أمامه بكلّ ما أُوتوا من قوّة وثروات ومناصب ، واستخدموا كلّ السبل المؤدّية إلى تحقيق غرضهم الواهي من التطميع والتهديد والتعذيب والحصار الاقتصادي والحرب النفسية والهجوم العسكري ، ولكن لم يوفّقوا في ذلك .

فالحرب النفسية والداخلية تعتبر أسهل وأسرع طريق يوصل إلى الهدف ، لكن القيادة الواعية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعقد المؤاخاة بين المسلمين سدّت كلّ الطرق الممكنة الاستغلال بواسطة طغاة قريش لإيقاع العداء بين أبناء الأُمّة الإسلامية ، وآخت بين الأنصار والمهاجرين ، والأسود والأبيض ، والحرّ والعبد .

فسياسة زرع الفرقة بين المسلمين بأدنى شبهة وحيلة كانت متّبعة دائماً من قبل أعداء الاسلام ; لذا فقد كانوا يرصدون كلّ تحرّكات النبي (صلى الله عليه وآله)  وعائلته وعلاقاته مع الآخرين وإعطائه المناصب وتقسيمه للغنائم وقرارات السلم والحرب ، وكلّ حركة من الرسول (صلى الله عليه وآله)كانت مرصودة كي تستغلّ لصالح الأعداء وبثّ الفرقة بين المسلمين ، وتحريك عواطفهم ، وإعادة الخلافات القبلية القديمة من جديد .

فقد أنقذ النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) سفينة الإسلام من كلّ العواصف التي واجهتها ، وقادها إلى ساحل النجاة بكلّ أمان ، ودافع عن حكومته الإسلامية الفتية بكلّ حكمة ودراية أمام كلّ الأخطار حتّى في آخر لحظات حياته .

فهل من العقل أن يظنّ الإنسان أنّ بارتحال النبي (صلى الله عليه وآله) وسيّد الموحّدين ترحل كلّ المؤامرات والتهديدات ضدّ العالم الإسلامي ، وأنّ الأعداء قد ندموا على ما فعلوا وتخلّوا عن عدائهم لصالح الإسلام ، وتركوا المآذن ينطلق منها ذكر اسم الله ورسوله ، واتّخذوا نهج الحوار الإيجابي نحو المسلمين ؟ ! بل لا بدّ من معرفة أنّ يوم ارتحال الرسول (صلى الله عليه وآله) هو يوم استعادة الأعداء قواهم لزرع النفاق والفرقة في أوساط المجتمع الإسلامي ، والإطاحة بهذه الحكومة الإسلامية الفتية .

لقد تصدّى الإمام علي (عليه السلام) إمام التقريب لكلّ المؤامرات التي دعت إلى سقوط ما بناه النبي (صلى الله عليه وآله) بصلابة وكياسة قلّ نظيرها .

إنّ خطر الإسلام على الاستكبار العالمي لا يقلّ عن خطر الإسلام في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) ضدّ المشركين . فالعالم الإسلامي بما يمتلك من الثروات ومصادر القوّة وعدد النفوس مهدّد من قبل القوى العظمى ; لمعرفتهم بمنهجية الإسلام المعارضة للظلم والاضطهاد والداعية للعدل والوسطية . فالطريق الوحيد هو التماسك والوحدة واتّباع السبل المؤدّية إلى عدم النزاع والسقوط من الداخل ، والتقريب يحقّق الهدف المنشود لمواجهة التفرقة ومؤامرات أعداء الاسلام القديمة والجديدة .

2ـ الحفاظ على كيان المسلمين .

مع أنّ عدد نفوس المسلمين يبلغ ربع العالم ويتجاوز المليار إنسان ، لكنّهم مع الأسف غير قادرين على حماية فلسطين في مواجهة قلّة قليلة من الصهاينة ، وهذا يدلّل على ضعف المسلمين نتيجة الاختلافات الواهية ، وابتعادهم عن أُسس العزّة والعظمة ، فهل استطاع المسلمون أن يرصدوا الطعن والردّ المتقابل على منابر المسلمين وفي كتبهم وبياناتهم ؟ ! وكم أثمرت هذه الجهود لتحقيق عظمة الاسلام وشوكته ؟ ! فهل توجد أوضح من هذه القضية بأنّ التفرّق والتشتّت وانفصال أعضاء الجمع الواحد يعطي الفرصة المناسبة للعدوّ لإسقاط شوكتهم والسيطرة على جمعهم ؟ وهل من الجائز أن يتعاطف المسلمون مع أعدائهم في ضرب شوكة المسلمين ، وتمزيق الجسد الواحد ، وتفكيك المجتمع الإسلامي الموحّد ؟ !

إنّ التقريب يحافظ على عظمة المسلمين ووحدتهم ، ويوجد الرهبة في القلوب المريضة التي تفكّر في التعرّض والعداء للإسلام . فالمجتمع الذي يحمل شعار الإسلام وعنوانه الذي يغطّي الفجوات لا يمكن للعدوّ أن يرسخ فيه ويشقّ الصفّ ويتّخذ من الانشقاق مأمناً لتوجيه ضرباته المتتالية .

3ـ بتر الأطماع .

لو تصفّحنا كتاب تاريخ الإسلام المليء بالحوادث لشاهدنا آثار أنياب الذئاب الضارية التي افترست جسد أتباع الدولة المحمّدية ، يقول الإمام محمّد الحسين آل كاشف الغطاء : « وقد عرف اليوم الأبكم والأصمّ من المسلمين أنّ لكلّ قطر من الأقطار الإسلامية حوتاً من حيتان الغرب وإفعى من أفاعي الاستعمار فاغراً فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه ، أفلا يكفي هذا جامعاً للمسلمين ومؤجّجاً لنار الغيرة والحماس في عزائمهم ؟ ! أفلا تكون شدّة هذه الآلام وآلام تلك الشدّة باعثة لهم على الاتّحاد وإماتة ما بينهم من الأضغان والأحقاد ؟ ! وقد قيل : عند الشدائد تذهب الأحقاد » .

فالوطن الإسلامي يزخر بالثروات الطبيعية المتنوّعة ، وكان ـ ولازال ـ هدفاً لأطماع القوى المستعمرة . فالشرق الأوسط يحتوي على الكثير من مصادر الطاقة والمصادر الجوفية ، وكثير من البقاع الأفريقية بما تحمل من ثروات طبيعية هي جزء من الجسد الإسلامي ، وهناك الكثير من المسلمين في بلاد الغرب ، فالوحدة هي العامل الأساس للوقوف أمام أطماع عصابات السطو الدولية المسلّحة التي تدخل البلاد الإسلامية باسم الدفاع عن الأمن وحقوق الإنسان ، وتسلب المسلمين أمنهم وحقوقهم .

فالاتّحاد عنصر مهمّ ومؤثّر في فضح المؤامرات وإطفاء نارها وإبطال مفعولها . أليس من العجب انتصار المسلمين الأوائل بالعدد والعدّة القليلة على أكبر إمبراطوريتين آنذاك بما لهما من قدرات وإمكانات ؟ ! واليوم تنتهك حرمات المسلمين وتغصب ثرواتهم وأراضيهم الواحدة تلو الأُخرى ، وهم على عدد وعدّة كثيرة !

4ـ تحقّق هدف الرسالة المحمّدية .

ممّا لا ينبغي الشكّ فيه أنّ حبّ المسلمين لنبي الإسلام يفوق حبّهم لأولادهم وأعراضهم وكلّ شيء لديهم ، فهو أبو الأُمّة ونبي الرحمة وصاحب الخلق العظيم . فالاختلاف في العائلة أو القبيلة الواحدة يؤذي كبيرها ، ويلقي غبار الأسى على قلبه ، أما حان وقت الاتّحاد والتكاتف لإفراح قلب رسول الرحمة ، والذي سعى جاهداً لإعلاء كلمة الله وعزّ المجتمع الإسلامي ؟ ! فالنبي (صلى الله عليه وآله) لا يرضى لنا العداوة والشقاق ، فهما من عمل الشيطان :( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ) (سورة المائدة : 91 ) ، فالشيطان هو المنتصر عن طريق الشقاق والنفاق والنزاع والعداوة ، والذي أمرنا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) كراراً هو الاتّفاق : ( واعْتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقوا ) ( سورة آل عمران : 103 ) ، ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) ( سورة الأنفال : 46 ) ، ( وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِمَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ  لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( سورة آل عمران : 105 ) .

فليس من الإنصاف أن نقابل بالاختلاف جهود النبي (صلى الله عليه وآله) على مدى 23 سنة خدمة للأُمّة وتوحيدها ، بل العكس هو الصحيح ، بأن نتجنّب الخلافات والنزاعات المقيتة ونعيد البسمة لشفاه النبي ، والاتّحاد هو أقلّ الواجب على كلّ مسلم في المجتمع الإسلامي . يقول الدكتور محمّد الدسوقي : « الوحدة الإسلامية بحكم الفقه واجب شرعي ، وليس مجرّد عمل ترغيبي تبرّعي ، فهو عمل واجب على كلّ مسلم معتقد بوحدانية الله ونبوّة خاتم الأنبياء » .

5ـ السعي لتضييق الخلاف بين المدارس الاجتهادية .

6ـ إثبات أنّ الخلاف ليس جوهرياً ، بل هو خلاف اجتهادات .

7ـ التعريف بحقيقة التقريب ; كي يصبح أكثر عملية .

8ـ التنويه بأنّ المساحة الخلافية لا ينفرد بها مذهب واحد .

9ـ تحقيق التأليف والانسجام بين قلوب أتباع المدارس .

10ـ التأكيد على أنّ المساحة المشتركة أكبر بكثير من المساحة المختلف فيها .

11ـ الوقوف علمياً على أساس الاختلاف لمعرفة الكوامن وليسهل إخماد البراكين .

12ـ انصهار مصالح الجماعة الكبيرة في مصالح الجماعات الصغيرة واتّحادها ، وهذا لا يلغي إحساس الانتماء أو يكون على حسابه بل يصبّ في صالحه تماماً .

* أمّا ضرورة التقريب : فهي الحاجة الماسّة إلى التقريب والداعية إليه . . ويمكن إجمال أهمّية وأسباب ضرورة نجاح الجهود التقريبية فيما يلي :

1 ـ إنّ الأُمّة الإسلامية قد وصلت إلى حاله مؤلمة من الضعف والهوان بسبب التمزّق والاختلاف الذي يؤدّي إلى الشقاق والنزاع الذي نهى عنه الإسلام وحذّر منه ، وتحتاج إلى التجمّع والتوحّد تحت راية الإسلام .

2 ـ إنّ التقريب بين المذاهب والابتعاد عن التصّب المذهبي يرجع في الأساس إلى أنّ هذه المذاهب ليست من أصل الدين ولم توجد ليعتنقها الناس أو لكي كون ملزمة لهم ، بل وجدت على أنّها آراء لأصحابها فيما عرض عليهم أو تعرّضوا له من المسائل والمبادئ ، تتمثّل فيها أفكارهم وأنظارهم ، ويتبيّن منها حكمهم على الأشياء أو حكم الله في نظرهم . فالله سبحانه وتعالى لم يأمر المسلمين بالتمذهب بمذهب بعينه ، بل أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول وأُولي الأمر بقوله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)( سورة النساء : 59 ) .

3 ـ إنّ وجود المذاهب المتمايزة بأسمائها وأتباعها الذين ينتسبون لها ولا يرون الحقّ إلاّ فيما ذهبت إليه ليس ضرورة حتمية لوجود الخلاف ، بدليل أنّ الخلاف موجود فعلاً في إطار المذهب الواحد دون أن ينقسم المذهب إلى مذاهب متعدّدة تنتسب إلى أصحاب هذا الخلاف . من ذلك مثلاً ما نراه في مذهب أبي حنيفة ، حيث نرى اختلافاً كثيراً بينه وبين أصحابه أبي يوسف ومحمّد وزفر واختلافاً بين بعضهم مع بعض في كثير من المسائل دون أن ينقسم هذا المذهب إلى مذهب لأبي حنيفة ومذهب لأبي يوسف ومذهب لمحمّد وهكذا .

4 ـ إنّه من المهمّ جدّاً لدراسة المذاهب الفقهية دراسة دقيقة عميقة محيطة بجميع نواحيها واتّجاهاتها وموازنة بعضها ببعض وترجيح بعضها على البعض أن نرجع هذه المذاهب إلى أُصولها ونتبيّن إن كان بينها اختلافاً في الأُصول والمبادئ أم ليس بينها اختلاف في الأُصول والمبادئ ، فلا يكون هناك محلّ للإبقاء على التعصّب والتنافر .

5 ـ إنّ بيان مواقع الاتّفاق ومحاولة التقريب بين المذاهب في الأصل تشترك في الأُصول والمبادئ والأدلّة التي تستقي منها الأحكام الشرعية ، له أهمّيته العظمى وأثره القوي في جواز التلفيق بين الآراء من المذاهب المختلفة والخروج منها برأي موحّد مؤلّف من رأيين أو أكثر أو عدم جواز ذلك ; لأنّ أُصول الآراء إذا كانت مختلفة متعارضة لم يكن من المقبول التلفيق بينها بأخذ رأي في مسألة من المسائل يعتبر مزيجاً من جملة آراء تتعارض أُصولها بعضها مع بعض ; لأن كلّ أصل اعتمدت عليه في ناحية يستلزم بطلان ما أخذت به في الناحية الأُخرى  من المسألة ; إذ لا يصحّ أن ترى الشيء الواحد في وقت واحد صحيحاً باطلاً ، فذلك لا يقبله عقل ولا يسوّغه نظر ، أمّا عند اتّحاد الأصل فليس ثمّة ما يمنع من ذلك .

6 ـ إنّنا كأُمّة إسلامية واحدة نحتاج إلى تطبيق آداب الخلاف فيما بيننا مبتعدين عن منهج التكفير أو التسفيه الذي يعطي لأعداء الإسلام الذخيرة الحيّة التي يضربون بها مبادئ الإسلام التي تقوم على احترام الآخر وعلى الحجّة والبرهان وحسن الظنّ بالمخالف وتغليب جانب الأُخوّة في الله على كلّ اعتبار عملاً بمبدأ « الوقاية خير من العلاج » . ولنتذكّر أنّ الأُمم التي حلّقت عالياً في آفاق التقدّم هي الأُمم التي أقرّت التعدّدية واحترمت الخلاف وقبلت بالرأي الآخر في كلّ المجالات ، وإذا كانت التعدّدية في إطار الوحدة أصلاً في بناء الأُمّة الإسلامية فنحن بحاجة ملحّة إلى العودة لهذا الأصل .

وأمّا سبل مواجهة التقريب : فهي طرق مجابهة العوائق والعقبات التي تعترض حركة التقريب ، وذلك بوضع سياسات وبرامج استراتيجية ومرحلية مفيدة . ويمكن تلخيص ذلك بالنقاط التالية :

1 ـ إنّ من واجب كلّ الأطراف الإسلامية الحريصة على الوحدة ، والتي تعي بقوّة وشفّافية معالم خطر الحروب المذهبية التي يصنعها ساسة الغرب بفعل سياساتهم اليومية وتواطؤ فئات من كلّ الاتّجاهات والمذاهب ـ وذلك سواء عن وعي أم غير وعي ـ مع هذه السياسات ، إنّ من واجب هذه الأطراف أن تكشف بوضوح لكلّ القوى الرسمية والسياسية والشعبية النتائج التدميرية للفتنة المذهبية ، وأنّ تتحرّك بقوّة نحو كلّ القوى المعنية بالشأن الإسلامي ; لعمل كلّ ما من شأنه أن يلجم الفتنة ويمنع تداعياتها التي لن ينجو منها أحد ، وحثّها على الأقلّ لعدم التوسّل بالعنوان المذهبي لخدمة سياسات ومصالح لا تخدم مصالح الوطن والأُمّة . أمّا حالة التكفير فلا بدّ من إدانتها وفضحها بكلّ صراحة ، ومن الإقلاع عن التغطية عليها لحسابات ضيّقة ; لأنّ حسابات الأُمّة في وجودها ومصيرها وسلمها ومستقبلها أكبر من أيّة حسابات أُخرى ، هذا عدا عن أيّة صورة مسيئة وخطيرة قدّمها منطق التكفير للإسلام في العالم .

2 ـ التحرّك بشكل خاصّ نحو الهيئات العلمائية والمرجعيات الدينية ، وإقناعها بإصدار مواقف واضحة من أُولئك الذين يهشّمون الوحدة بين المسلمين ويضربون التفاعل في ما بينهم خوفاً منهم أو من الشارع العامّ ، بما يكرّس سيطرة المتطرّفين على الأرض ، بذريعة حماية المذهب من الفريق المقابل . وفي هذا الإطار لا بدّ لجميع الشخصيات العلمائية الكبرى وللمرجعيات الدينية من كلّ المذاهب أن تتّخذ مواقف فاعلة وفي قت واحد من الأعمال والممارسات العصبوية والفئوية ، حتّى لا يعتبر البعض أنّ إصداره لوحده الموقف أو الفتوى قد يشكّل قوّة للآخر المختلف معه ، وبذلك تتمّ مواجهة الشارع العاطفي والملتهب مذهبياً والذي بات يحمل « منطقاً » يمنع العقلاء من أنّ يتحرّكوا بحرّية . إنّ رفع الصوت بجرأة من كلّ العلماء لتصويب حركة الشارع وتوجيهه بالاتّجاه الصحيح بدلاً من الخضوع لمنطقه هو أمر ضروري وواجب ديني وأخلاقي وعلى كلّ المستويات ، وبذلك أيضاً تستكمل المساعي الوحدوية .

3 ـ تحريك عناصر التقارب على مستوى المواقع الفاعلة في الأُمّة ، بحيث لا تقتصر على المواقع العليا ، وذلك لإيجاد واقع التقارب في برامج الحوزات الدينية ، والمؤسّسات الإسلامية العلمية ، وفي التوجيه في المساجد والتجمّعات العامّة ، سواء أكانت أحزاباً أم جمعيات أم لجاناً ، وكم هو ضروري في هذا المجال إيجاد مواقع عمل مشتركة تساهم في انصهار المسلمين وتفاعلهم ، من أجل أن يتجسّد هذا التفاعل في التجمّعات الطلاّبية أو العمّالية وفي النوادي الفكرية والثقافية ، وفي مواجهة الظلم اللاحق بقضايا المسلمين الأساسية وبشخصياتهم وبرموزهم ، فلا يقف كلّ في موقعه ويتحرّك من دون تنسيق مع الآخر ، ولا شكّ في أنّ التحرّك المشترك تجاه القضايا الإسلامية في إرساء مشاعره وحدوية وتعاطف بين المسلمين ، لا سيّما إزاء قضايا تتّصل بالقدس والإساءات المتكرّرة للرسول (صلى الله عليه وآله)والنيل من الإسلام كدين ، وبذلك تتهيّأ عقول المسلمين ونفوسهم لتنظيم خلافاتهم الأُخرى والتقارب في ما بينهم .

4 ـ تفعيل المواقع الأساسية التي تتيح للمسلمين تعزيز ارتباطهم ، من قبيل : فريضة الحجّ ، والتجمّعات العلمائية الموجودة ، والمؤتمرات والندوات الوحدوية ، والمنظّمات الإسلامية الوحدوية ، مثل منظّمة المؤتمر الإسلامي ومؤسّسات التقريب ، والتأكيد على المناخ التفاعلي بين كبار العلماء والمفكّرين وقادة الرأي ، بحيث يتلاقون في إطار صحّي وبشكل دوري لتدارس قضاياهم الفقهية والفكرية والتاريخية والعقيدية بعيداً عن أجواء التوتّر والانفعال .

5 ـ السعي الحثيث للشخصيات التي تحمل الهمّ الوحدوي للإطلالة الدائمة على المؤسّسات الإعلامية ، ولا سيّما الفضائية ; لوضع الأُمور في نصابها ، وذلك على حساب المؤجّجين للفتنة .

6 ـ اعتماد تربية إسلامية فاعلة تعمل على توجيه المجتمع بكلّ مواقعه على تقبّل الآخر ، واحترام الاختلاف الموجود فيه ، واعتباره مصدر غنى لا مصدر أزمة ومشكلة ، وفي هذا الإطار كم هو مهمّ إشاعة العناوين التوحيدية واعتماد كتاب ديني وحدوي يؤكّد الآراء المشتركة ويعرض الخلافات بحكمة وموضوعية .

7 ـ وضع ظاهرة التحوّل في الانتماء المذهبي عند بعض الأشخاص في حدودها ، وهي حالة حدثت قديماً وراهناً في الاتّجاهين ، وهي ظاهرة غير خطرة عندما تتمّ بوسائلها المشروعة وفي ظروف صحّية ، أي : حين لا تنطلق من خطّة مدروسة تسيء إلى وحدة المسلمين وقوّتهم .

8 ـ النظر في جدّية إلى النتائج الوخيمة لتأجيج الخلاف المذهبي ،  والذي يبدو أنّه سيتحوّل إلى ذريعة لنفي الدين واستبداله بالعلمانية كحلّ لقضايا المجتمع ! ولإبعاد الدين عن الساحة العامّة ، وإسقاط موقع الإسلام ودوره في صنع المستقبل .

9 ـ نشر المعرفة وتعميم العلم ، فلقد أعطى الإسلام لطلب العلم غاية الأهمّية : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( سورة الزمر : 9 ) ، وكفى أنّ الآية الأُولى التي أوحى الله بها على رسوله الأمين محمّد (صلى الله عليه وآله) قد أمرته بالقراءة . . كونها مفتاح العلم والمعرفة ، وهي مبدأ كلّ حركة إيجابية ، وأردفتها بالقلم حيث الوسيلة لتقييد العلم وتطويره ونشره وتخليده : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( سورة العلق : 1 ـ 5 ) .

والإسلام لم يحصر نوعية العلم في مجال الدين فقط ، بل أطلق مجالاته في رحاب المجالات كلّها ما عدا علوم الإفساد والتدمير .

فالعلم في الإسلام داعيةُ خير ونضج وثبات للشخصية الموزونة ، وعكسه الجهل ، حيث يجعل صاحبه مُختلّ الموازين ومذبذب المواقف وجسراً إلى الشرّ والرذيلة ، لذلك حاربه الإسلام وحذّر المسلمين منه .

فينبغي توسيع دائرة الفعل الثقافي وترشيد المسلمين إلى قيمة الوعي والمطالعة وتوفير كافّة مستلزمات القراءة والتعلّم ، بدءاً من البصائر القرآنية وعلوم النبي وأهل البيت ، مروراً بما ورد عن كبار الصحابة المنتجبين والعلماء الصالحين ، وانتهاءً بكلّ أبواب العلوم الإنسانية وما تحتاجه البشرية في تقويم مسيرتها الحضارية .

10 ـ التربية الصالحة ، فهي ليست علماً ومعلومات وتعليماً ونظريات فحسب ، بل هي فنّ تفعيل العلم وتطبيق المعلومات وإيصال التعليم إلى مستوى الإنتاج والأثر المتحرّك ، ولا يتحرّك الخير والمحبّة والتآلف والسلم الأهلي كمشروع على أرض الواقع ما لم تُزرَع في النفس البشرية حوافز إيمانية ودوافع إسنادية من الداخل . .  وهذا ما تُناط به التربية المعنوية وتتكفّله التزكية الروحية وأهمّية الخلوة الفكرية حتّى يتحلّق صاحبها إلى آفاق الكون وفي أعماق الأنفس ، فيكتشف كم للتعاون على البِرّ والتقوى من ضرورة وسعة مصاديق في الحياة !

والإنسان ينمو نحو العظمة بنموّه النفسي والروحي والمعنوي ; إذ على قدر التزكية والنزاهة وملكة التقوى وقوّة النفس سيتّخذ قراراته الإيجابية بشجاعة ومثابرة ، ويتجاوز العقبات أمام التقريب والوحدة ، ويقوم بتضحية الجزء في سبيل مصلحة الكلّ حسب مدارج الأهمّ ثمّ المهمّ وقواعد التوافق العامّ .

ولا يتأتّى اتّخاذ مثل هذه القراءات الصعبة والكبيرة إلاّ بخلفية روحية مركزها النفس المطمئنة .

ولعلّ من أهمّ زوايا التربية في سياق التقريب بين الناس تلك المتّصلة منها بالعواطف الإنسانية، ومركزها النفس المشبّعة بقيم الحبّ للخير على وجه الإطلاق حتّى يُحصَر البغض في موارد قليلة وعلى ضبط أخلاقي موزون، فلا يُوجّه  ضدّ كلّ مَن طرأ خلاف معه في الرأي أو العقيدة المبنية على دليل .

إنّ هذه النفس هي التي توجّه صاحبها نحو الاعتدال في الموقف من الآخر ، ولا تتصادم بدوافع مرضية كما هي السائدة في أكثر الخلافات بين المسلمين .

وبذلك يجب تثبيت هذه الناحية التربوية ( أي : تنمية العواطف ) أساساً لبناء الشخصية الوحدوية ذات المرونة الصادقة ; إذ لن يقف صاحبها حائلاً دون الوحدة بين المؤمنين ومانعاً للتقريب بين المسلمين ، بل لن يقف ضدّ أيّ مشروع تعارفي تعاوني مع الإنسان الآخر لتعميق أواصر المحبّة الإنسانية ومدّ جسور لقاء الحضارات بين الشعوب .

11 ـ وجود الحكّام الصالحين ، فباعتبار أنّ تأثيرات السلطة الحاكمة على وضع العباد وأوضاع البلاد قويّة ومباشرة وأثرها على الصلاح أو الفساد أمرٌ محسوم بلا نقاش ، ترى الإسلام قد أولى اهتماماً كبيراً بمسألة الحكم والحاكم والحكومة .

فما هو نوع الحكم ؟ هل حكم الله أو حكم الجاهلية ؟ ! ومن يكون الحاكم ، هل بصفات خليفة الله أو بصفات الجاهليّين ؟ ! وكيف يجب أن تكون الحكومة ، هل بسياسات مستقلّة أو بتبعية وذيلية ؟ !

الإجابة على هذه الأسئلة هي التي تحدّد مسار التقريب والوحدة أو مغارات التفريق والفتنة .

ويستمدّ بحث الولاية والإمامة والخلافة أهمّيته من أهمّية الإجابة على هذه الأسئلة المتقدّمة . وبالتالي فإنّ الإمامة الإبراهيمية تُمهّد للوحدة الإسلامية وتُمسك بزمام الأُمّة على طريق التعاون والتناصح والتعاضد لتحقيق العبادة التوحيدية لله الواحد الأحد

الفرد الصمد .

وفي دراسة موضوعية تعتمد منهجيّة الحياد والإنصاف يمكن استنتاج النتيجة التالية : إنّ الحاكم بمقدار صلاحه وحكمته وعدله يبني صرح الوحدة ويشيّد بنيان الأُخوّة ، وهو بمقدار فساده وحُمقه وظلمه يهدم ويفرّق ويزرع بذور العداوة والبغضاء بين الناس .

12 ـ وجود العلماء الربّانيّين ، فليس من شكٍّ أنّ العالَم الربّاني يقوم بدور أساسي في توحيد الكلمة بناءً على كلمة التوحيد : ( لا إله إلاّ الله ) . . تلك هي رسالته الأُولى والأخيرة مادام يجلس في موقع الوراثة لدور الأنبياء وخاتمهم سيّد المرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله) .

والربّانية أدقّ صفة للعالم الذي يربّي الناس بأخلاق الربّ الغفور الرزّاق لكلّ العباد . فكونه عالماً يسير على نهج الأنبياء والرسل يُحمّله مسؤولية التقريب بين وجهات النظر لتسبيل الوحدة بين عباد الله ، بمعنى تسهيل التعاون على البرّ والتقوى بينهم وتعطيل التعاون على الإثم والعدوان .

والعالم الربّاني هو الذي يُلزم نفسه بمواقف الإصلاح بين الآخرين ويُجنّبها عن الصِدام بهم ، ويرى ممارسة هذه الأخلاقية الاجتماعية واجباً شرعياً وليس خياراً استحبابيّاً يمكنه الاستغناء عنه متى شاء وأراد .

وبناءً عليه إذا كان الإصلاح والتقريب صدقة يُحبّها الله تعالى لعموم الأُمّة ، فإنّها لخصوص العلماء الربّانيّين تعلو إلى درجة المسؤولية التي لا تتجزّأ عن بقيّة مسؤولياتهم الشرعية .

فالعالم قد وضع نفسه في موقع لا مفرّ له من إيفاء دور التقريب والسعي في سبيل الوحدة وكسب القوّة للأُمّة على شتّى الميادين ، فكلّ فكرة وكلّ كلمة وكلّ خطوة يكون مسؤولاً عنها يوم القيامة إنْ لم تتّجه نحو بناء الوحدة القائمة على أُسس المحبّة والأُخوّة والتسامح والتلاحم لحمل أمانة الإسلام العظيمة كما حملها النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرون والصحابة الأوفياء والتابعون لهم على مرّ العصور .

13 ـ التمتّع بالروح الجماعية ، فهي البدلة عن النزعة الأحادية التي نبذها الإسلام لينمّي في الإنسان روح العمل الجماعي ; لأنّه دين أُمّة ، وليس دين فرد أو جماعة وأُسرة .

إنّ نظرة فاحصة على المنظومة الفكرية والأحكام الشرعية للإسلام تُثبت القيمة العالية للمشاريع الجماعية . . فالخطاب القرآني خطاب الجمع ، والدعوة إلى الحقّ موجّهة إلى الجماعة ، وحتّى العبادات تختزن الأهداف الجمعية ، فمن صلاة الجماعة وفضلها على صلاة الفرادى ، إلى مناسك الحجّ وفعاليّات هذا المؤتمر الجماهيري السنوي العامّ ، إلى أجر الآداب الاجتماعية وثواب التزاور والتهادي والتعاون بين الناس ، إلى بركات السير في الأرض والسفر للتعارف بين الشعوب والقبائل ، كلّ ذلك تمهيداً للأنشطة الجماعية المشتركة ، مضافاً إلى تأكيد الإسلام على نشر السلام بين الأنام ممّا يستلزم بناء الذات على أُسس القبول بالآخر والتعاطي معه بروح جماعية وحُبّ الخير للإنسان إلى درجة الإيثار .

14 ـ تعزيز عملية الإنفاق ، فهي سبيل البرّ والأُخوّة ، ولن تنال أُمّة برّاً في حياتها ما لم ينفق أغنياؤها وأثرياؤها ممّا رزقهم الله في سبيل وحدتها وقوّتها ورفعتها ودوام عزّها وبقاء مجدها وكرامة أجيالها وتماسكها على خطّ الأُخوّة ، حيث الأبناء يتأثّرون بمواقف آبائهم بطريقة وبأُخرى خيراً أو شرّاً .

ولا أحد ينكر أنّ المال يشكّل قوّةً أساسية في تشييد المشاريع الكبرى على طريق التقريب والوحدة لأجزاء المجتمع وتقدّم الأُمم ، وعلى نفس القياس يُشكّل المال خطراً على التقريب والوحدة وسبباً لتخلّف الأُمّم . . والاتّجاهان كلاهما تصنعهما ثقافة البرّ وإرادة الأُخوّة أو ثقافة الفسق وإرادة العداوة .

15 ـ مقاومة الأطماع الأجنبية ، وهي ليست بالأمر الهيّن ، ولكنّها أمرٌ ممكن . ويتمّ ذلك بالعودة إلى شروط الإمكان من حيث البناء الفكري والتنوير الثقافي ، وتكثيف الأعمالية العلمية والدراساتية ، ونشر مراكز الأبحاث والمعرفة ، وتأسيس المكتبات العامّة للمطالعة . وكذلك من حيث الدروس التربوية المركّزة أخلاقياً لتقويم السلوك الفردي والأُسري والاجتماعي . وكذلك من حيث التعاقد في المشتركات وتكريس مفاهيم العطاء والإيثار والحبّ للغير كما الحبّ للنفس . وأيضاً من حيث توظيف الإمكانات الحكومية واهتمام العلماء بتحقيق الأهداف السامية للأُمّة الإسلامية .

عند هذه الشروط تستعيد الوحدة روحها ومصداقيتها ، حتّى يستسلم الاستعمار ويقرّ للأُمّة حقوقها ، فيعلن الخروج من الباب على أن لا يعود من الشبّاك !

فليست الأطماع الاقتصادية ، ولا الإملاءات السياسية ، ولا التواجد العسكري للدول الاستعمارية الكبرى في بلادنا اليوم وبشكلها السافر ، إلاّ لأنّنا نفتقد شروط الاستقلال والحرّية ومعاني الأُخوّة وما تحتاجه الوحدة من مسلتزمات حقيقية خارجة عن نطاق المجاملات والشعارات([1]) .


([1]) للاستزادة من معلومات محاور البحثين الثالث والرابع راجع كتابنا « المعجم الوسيط » 1 : 19 ، 63 ـ 64 ، 76 ـ 79 ، 83 ـ 84 ، 112 ـ 116 ، 154 ـ 155 ، 172 ـ 174 ، 279 ـ 281 ، 284 ـ 290 ، 304 ـ 307 ، 332 ـ 333 ، 405 ـ 410 ، 438 ـ 441 ، و2 : 10 ـ 11 ، 36 ـ 37 ، 39 ، 177 ـ 178 ، 180 ـ 182 ، 191 ـ 194 ، 198 ـ 203 ، 229 ـ 240 ، 290 ـ 299 ، 396 ـ 398 ، 409 ـ 415 ، وغيرها من الصفحات .