الفرق بين المراجعتين لصفحة: «انتقاض العلّة»
Mohsenmadani (نقاش | مساهمات) |
Wikivahdat (نقاش | مساهمات) ط (استبدال النص - '=المصادر=↵{{الهوامش}}' ب'== الهوامش == {{الهوامش}}') |
||
سطر ١٧٠: | سطر ١٧٠: | ||
نقل إجماع أهل الجدل على أنّ العلل العقلية لاتقبل الانتقاض ولا التخصيص<ref> أنظر: التلخيص في أصول الفقه 3: 271، البحر المحيط 5: 268.</ref>، ونقل عن ابن فورك قوله: «العلل العقلية لايجوز تخصيصها بلا خلاف»<ref> أنظر: البحر المحيط 5: 268.</ref>. | نقل إجماع أهل الجدل على أنّ العلل العقلية لاتقبل الانتقاض ولا التخصيص<ref> أنظر: التلخيص في أصول الفقه 3: 271، البحر المحيط 5: 268.</ref>، ونقل عن ابن فورك قوله: «العلل العقلية لايجوز تخصيصها بلا خلاف»<ref> أنظر: البحر المحيط 5: 268.</ref>. | ||
= | == الهوامش == | ||
{{الهوامش}} | {{الهوامش}} | ||
{{الهوامش|2}} | {{الهوامش|2}} |
المراجعة الحالية بتاريخ ١٨:٣٣، ٥ أبريل ٢٠٢٣
انتقاض العلّة: وهو نقض الحکم بنفس العلّة التي ثبت بها الحکم، يعني وقع البحث في أنّ ورود النقض على العلّة هل يوجب بطلانها وانتقاضها أم لا؟ وقد وصل الاختلاف فيه إلى خمسة عشر قولاً. ويمثل له بما إذا استدلّ لبطلان صوم من لم يبيّت النية حتّى دخل النهار عليه، بأنّ صومه في أوّله لم يقترن بالنيّة فلايصحّ منه. فينتقض عليه بـ : الصوم المندوب، فإنّه يصحّ وإن لم يقترن بالنية في أوّله. فالعلّة في بطلان الصوم وهي عدم الاقتران بالنية في أوّله قد انتقضت في الصوم المندوب.
تعريف الانتقاض لغةً
الانتقاض: مأخوذ من النقض، وهو إفساد ما أُبرم من عقد أو بناء أو عهد، وهو ضد الإبرام، ويقال: انتقض الأمر بعد التئامه[١].
تعريف الانتقاض اصطلاحاً
وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما ادّعاه المعلل علّة[٢].
و«انتقاض العلّة» يقع في المقابل لاصطلاح «اطّراد العلّة» أو هو تخلّف الحكم مع وجود ما أدعي كونه علّة له[٣].
ويمثل له بما إذا استدلّ لبطلان صوم من لم يبيّت النية حتّى دخل النهار عليه، بأنّ صومه في أوّله لم يقترن بالنيّة فلايصحّ منه. فينتقض عليه بالصوم المندوب، فإنّه يصحّ وإن لم يقترن بالنية في أوّله[٤]. فالعلّة في بطلان الصوم وهي عدم الاقتران بالنية في أوّله قد انتقضت في الصوم المندوب.
والبحث في الانتقاض تارة يأتي بعنوان «النقض» وأخرى بعنوان «المناقضة»، وثالثة بعنوان «تخصيص العلّة».
وهو من المباحث المتعلّقة بـ : القياس الفقهي ويعود إلى مبحث «الاعتراض» تحديدا، فإنّ المستدلّ بالقياس على حكمٍ ما قد يواجه بالاعتراض بانتقاض العلّة التي ادّعى وجودها في الأصل.
الألفاظ ذات الصلة
1 ـ انكسار العلّة
وهو تخلّف الحكم عن معنى العلّة وهو الحكمة المقصودة من الحكم[٥].
ويمثل له بفتوى الأحناف بوجوب القصر على العاصي بسفره لوجود المشقّة فيه، التي هي حكمة ثبوت القصر عندهم لا العلّة. فينقض على تلك الحكمة بالحمّالين وأرباب الصنائع الشاقّة في الحضر، فإنّ حكمة القصر موجودة في حقّهم وهي المشقّة مع عدم ثبوت أحكام القصر في حقّهم[٦].
والفرق بين «انكسار العلّة» وبين «انتقاض العلّة» هو أنّ النقض يرد على نفس لفظ العّلة، بينما الكسر يرد على معنى العلّة والحكمة المقصودة منها[٧].
2 ـ تخصيص العلّة
وهو تخلف الحكم عن العلة في محلّ من محالها لقيام مانع[٨].
لا يفرق غير الأحناف بين «النقض» وبين «تخصيص العّلة» فالتخصيص يعدُّ نقضا للعلّة، بينما الأحناف يفرّقون بينهما، فالتخصيص عندهم هو انتفاء الحكم في محلّ النقض لمانع منع العلّة من اطّرادها فيه، مع بقاء العلّة، على حكمها في غير مورد النقض، بينما النقض هو انتفاء الحكم في محلّ النقض لا لمانع منع العلّة، بل لأجل إظهار خلل فيما يُدّعى علّيته[٩]. ولذلك تجدهم يفصلون بالبحث بين عنوان «المناقضة» وعنوان «تخصيص العلّة» ويبحثون في كلٍّ منهما على حدّة.
وقد استدلّ أبو زيد الدبوسي[١٠] على أنّ النقض يخالف التخصيص باللغة والشريعة و الإجماع وطريقة الفقهاء.
الأقوال في انتقاض العلّة
يعدُّ البحث في «انتقاض العلّة» من أعقد مباحث القياس الفقهي حتّى قال فيه السبكي: «إنّه من عظائم المشكلات أصولاً وجدلاً»[١١]، وذكر فيه الغزالي أ نّه يحتوي على معظم الغموض[١٢].
وهو من الموضوعات التي تتكرر في الفقه كثيرا.
ووقع البحث في أنّ ورود النقض على العلّة هل يوجب بطلانها وانتقاضها أم لا؟ وقد وصل الاختلاف فيه إلى خمسة عشر قولاً [١٣]. نذكر أهمّها:
القول الأوّل: الانتقاض والبطلان مطلقا
وهو مذهب المتكلّمين[١٤]، واختيار أبي إسحاق الإسفراييني[١٥]، وأبي بكر الباقلاني[١٦]، وأبي الحسين البصري[١٧]، وأبي الوليد الباجي[١٨]، وأبي إسحاق الشيرازي[١٩]، وأبي المظفر السمعاني[٢٠]، والرازي[٢١]، وابن عبدالشكور[٢٢]، وينسب إلى الشافعي[٢٣].
ويمكن أن يُستدلّ لهذا القول بعدّة أدلّة:
الأوّل: أنّ وجود العلّة بدون الحكم إمّا أن يكون لمانع أو لا لمانع، فإن كان لا لمانع لكان ذلك دليل بطلان تلك العلّة؛ لأ نّها وجدت بدون أن يوجد الحكم مع عدم وجود مانع يمنع من وجوده. وإن كان لمانع منع وجود الحكم فهو أيضا باطل باعتبار أنّ علل الشارع أمارات دالّة على أحكامه فكانت بمنزلة ما لو نصّ الشارع على الحكم، فإذا وجد النصّ امتنع عدم الحكم معه[٢٤].
الثاني: أنّ ورود النقض على العلّة وتخصيصها عزل لدليل العلّة عن دلالته وإبطال للعلّة من أن تكون علّة على كلّ حال[٢٥].
الثالث: أنّ لازم القول بجواز انتقاض العلّة وتخصيصها عدم كون العلل أمارات وطرق على الأحكام الشرعية[٢٦].
الرابع: أنّ لازم القول بجواز ورود النقض والتخصيص على العلل الشرعية يؤدّي إلى تصويب المجتهدين؛ لأ نّه يمكن لكلّ مجتهد بعد الاعتراض عليه بانتقاض علّته أن يدّعي أنّ ما علل به مخصّص بما نُقض عليه به[٢٧].
الخامس: أنّ طريق معرفة العلل الشرعية المستنبطة هو جريانها في معلولاتها، فلو حكم بانتقاضها في بعض معلولاتها انتفى دليل صحّتها[٢٨].
السادس: أنّ اقتضاء العلّة للحكم إمّا أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لايعتبر، فإن اُعتبر في اقتضائها انتفاء المعارض، فإنّه سوف لا تكون العلّة علّة إلاّ بالتحقّق من انتفائه، وهذا معناه أنّ الحاصل قبل انتفاء المعارض هو جزء العلّة لا تمامها، وإن لم يعتبر فلا يكون المعارض قادحا في ثبوت الحكم[٢٩].
السابع: أنّ الوصف الذي يدعى كونه علّة وجد مع الأصل، وكذلك وجد في صورة النقض بدون الحكم، ووجوده في الأصل لايدلّ على كونه علّة، ووجوده في النقض يدلّ على عدم العلّية، فالوصف الحاصل في الفرع يدور أمره بين أن يلحق بحكم الأصل أو يلحق بحكم النقض، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر، فلم يثبت كونه علّة[٣٠].
الثامن: أنّ العلل الشرعية كالعلل العقلية، فكما لايجوز نقض وتخصيص العلل العقلية، كذلك لايجوز ذلك في العلل الشرعية[٣١].
القول الثاني: عدم الانتقاض مطلقا
وهم القائلون بجواز تخصيص العلّة، فيدّعون بأنّ العلّة تكون علّة حتّى مع تخصيصها أو ورود النقض عليها، غاية الأمر أ نّها غير مطّردة في مورد النقض وتكون مخصَّصة به.
وهو اختيار الجصاص[٣٢]، وأبي زيد الدبوسي[٣٣]، ونسب إلى أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد[٣٤]. وقال عنه القرافي بأ نّه المذهب المشهور[٣٥]، لكن ذكر أبو الوليد الباجي خلاف ذلك بقوله: «ولم أر أحدا من أصحابنا أقرّ به ونصره»[٣٦].
ويمكن أن يُستدلّ لهذا القول بعدّة أدلّة:
الأوّل: قياس العلّة على العموم اللفظي، فكما أنّ التخصيص لايقدح في عموم اللفظ بالنسبة إلى أفراده، كذلك لايقدح في عموم العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها[٣٧].
الثاني: إجماع العقلاء على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض الصور لقيام دليل أقوى منه، فيعمل بمقتضى الدليل في جميع الصور سوى التي قام الدليل الآخر الأقوى على عدم سريان الدليل الأوّل فيها، فدليل العلّة يعمل بمقتضاه إلاّ إذا قام دليل أقوى منه يمنع من سريانه في بعض الصور فيكون مخصصا ومنقوضا في تلك الصورة فقط.
وإذا ثبت حسن ذلك عند العقلاء، فمن باب أولى يكون حسنا عند الشارع لقوله(ص): «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن[٣٨]»[٣٩].
الثالث: أنّ العلل الشرعية أمارات فوجودها في بعض الصور مع عدم وجود حكمها لايخرجها عن كونها أمارة؛ لأ نّه ليس من شرط الأمارة أن تكون دالّة على ما تدلّ عليه دائما، فإنّ الغيم أمارة المطر في الشتاء، وعدم المطر في بعض الأحيان مع وجود الغيم لايخرجه عن كونه أمارة[٤٠].
الرابع: أنّ الوصف المناسب الذي اُدعي كونه علّة يوجب الظنّ بثبوت الحكم حتّى بعد التخصيص والانتقاض، والظنّ بالحكم كافٍ في ثبوته[٤١].
الخامس: ذهاب بعض الصحابة إلى تخصيص العلّة، كما روي عن ابن مسعود أنّه كان يقول: «هذا حكم معدول به عن القياس»، وكذلك عن ابن عبّاس مثله[٤٢].
السادس: أنّ العلل الشرعية أمارات، و الأمارات تتحدد بحدود جاعلها، فمن الممكن أن تكون الأمارة حجّة في موضع ولا تكون حجّة في موضع آخر[٤٣].
القول الثالث: تفصيل الجويني
وفيه عدّة أمور:
الأمر الأوّل: ما إذا كانت العلّة مستنبطة. فهنا توجد عدّة صور[٤٤]:
الصورة الأولى: ما إذا كان النقض موجبا لانقداح فرق بين مورد التعليل وبين مورد النقض.
الصورة الثانية: ما إذا لم يكن الحكم في مورد التعليل مجمعا عليه ولا ثابتا بدليل قطعي.
الصورة الثالثة: ما إذا كان الحكم في مورد التعليل مجمعا عليه، لكن وجد في صورة النقض معنى يعارض علّة الحكم المجمع عليه ويمنع من اطّرادها.
فهنا في كلّ هذه الصور يكون النقض قادحا.
الأمر الثاني: ما إذا كانت العلّة منصوصة. فهنا توجد عدّة صور أيضا[٤٥].
الصورة الأولى: ما إذا كان النصّ على العلّة ليس نصّا في العلّية بل ظاهرا فيها.
فهنا الإيراد على العلّة بالانتقاض يكشف عن أنّ ما كان ظاهرا في العلّية ليس بعلّة.
الصورة الثانية: ما إذا كان النصّ على العلّة نصّا لايقبل التأويل، فهنا يدور الأمر بين ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ما إذا كانت هذه العلّة المنصوصة بنصّ قطعي عامّة لكلّ الصور.
فهنا لايتصوّر ورود التخصيص عليها؛ لأ نّه خلاف الاطّراد المعهود في هكذا علل.
الحالة الثانية: ما إذا كانت هذه العلّة المنصوصة بنصّ قطعي، نُص على كونها علّة ونُص على عدم كونها علّة في بعض الصور، أي: نُص على علّيتها وعلى تخصيصها في آن واحد.
فهذا لا مانع منه في كلام الشارع ولايعدُّ نقضا.
الحالة الثالثة: ما إذا كانت هذه العلّة المنصوصة بنصّ قطعي لم يصرح فيها الشارع لا بالتعميم ولا بالتخصيص.
فهنا لا يمنع أن يكون ما يرد عليها من النقوض مخصِّصا لها.
القول الرابع: تفصيل الغزالي
وفيه عدّة أمور[٤٦]:
الأمر الأوّل: ما إذا كان الانتفاء في مورد النقض لا لخلل في العلّة، بل لمعارضة علّة مضادة، مثل ما إذا قيل: ملك الجارية علّة في ملك الولّد المتولد منها، فينقض عليه بولد المغرور كما لو تزوّج رجلٌ امرأةً تدّعي أ نّها حرّة، فظهرت بعد ذلك أ نّها أمة، فهنا ولد الجارية الغارّة ينعقد حرّا مع وجود العلّة في رقيته وهي ملك الأم.
فهنا انتقاض الحكم لا لأجل خلل في علّته، بل لأجل معارضة تلك العلّة بعلّة أخرى وهي اعتقاد حرّية المرأة، فلايعدُّ النقض المذكور قادحا.
الأمر الثاني: ما إذا كان انتفاء الحكم لا لخلل في العلّة، بل لانعدام محلّها أو شرطها، كما لو علل القطع في السرقة بكون السرقة علّة له. فينقض ذلك بسرقة مادون النصاب حيث وجد ما اُدعي كونه علّة وهو السرقة فانتفى الحكم وهو القطع.
فهذا في الحقيقة لايعدُّ نقضا؛ لأنّ المستدلّ لا يكون ملتفتا إلى مثل هذه الحالة عند الاستدلال بهكذا علل.
الأمر الثالث: ما إذا كان إنتفاء الحكم لأجل إظهار خلل في العلّة يمنع من اطّرادها. فهذا يتصوّر على أنحاء متعددة:
النحو الأوّل: ما إذا كان الانتفاء واردا مورد الاستثناء في القياس.
فهذا لايعدُّ نقضا بل يخصص العلّة إلى غير مورده، ولا فرق في ذلك بين ما إذا كانت العلّة مقطوعة أو مظنونة.
ويمثل له بمسألة المصرّاة حيث أوجبوا على المشتري دفع صاع من تمر إلى البائع بعد انفساخ البيع عوض ما استعمله من لبن، فإيجاب صاع من تمر يخالف إيجاب المثل بعلة تماثل الأجزاء في كلّ مثلي.
النحو الثاني: ما إذا لم يكن الانتفاء واردا مورد الاستثناء. وهذا يتصوّر على حالات عدّة:
الحالة الأولى: ما إذا كان النقض واردا على العلة المنصوصة.
فهنا النقض سوف يكون قادحا؛ لأ نّه يكشف عن أنّ ما ذكر في دليل العلّة إنّما هو بعض العلّة لا تمامها، مثل ما إذا علل نقض الطهارة بكلّ ما يخرج من جسم الانسان استنادا إلى قوله(ص): «الوضوء ممّا خرج»[٤٧]، فتنقض هذه العلة بالخارج بالحجامة، فإنّه لاينقض الوضوء مع صدق الخارج عليه. فتبين أنّ «الخارج» هو جزء العلّة ولابدّ من إضافة قيد له يتمم العلّة وهو: «الخروج من الموضع المعتاد».
الحالة الثانية: ما إذا كان النقض واردا على العلة المظنونة.
فهنا إن اتّضح للمجتهد جواب عن النقض سوف يكون ما اُدعي كونه علّة جزء علّة لا تمامها.
وإن لم يتّضح للمجتهد جواب عن النقض، فهنا يدور أمره بين أن يحمل هذا النقض على الانتقاض أو على التخصيص. والمسألة تتبع اجتهاد المجتهد.
ويمثّل له: بمسألة وجوب تبييت النية للصوم الواجب وتعليل ذلك بكون النية لا تنعطف على ما مضى، وأنّ صوم جميع النهار واجب ولايتجزّأ. فينقض هذا التعليل بالصوم الندبي، فإنّه يصحّ من دون تبييت نية.
ففي هكذا مورد المجتهد إمّا أن يتبين له أنّ صوم الندب مستثنى من التعليل المذكور باعتبار أنّ الشارع يتسامح في النفل بما لايتسامح في الواجب فلايكون النقض المذكور قادحا. وإمّا أن يتبيّن له عدم الفرق بين الصوم الواجب والصوم الندبي، فيكون النقض المذكور قادحا.
القول الخامس: تفصيل الآمدي
ما ذكره الآمدي[٤٨]، وقريب منه ابن الحاجب[٤٩]، وفيه عدّة أمور:
الأمر الأوّل: ما إذا كانت العلّة قطعية.
فهنا لايتصوّر ورود النقض عليها؛ لأ نّه ينافي قطعيتها.
الأمر الثاني: ما إذا كانت العلة ظنّية. فهنا توجد صورتان:
الصورة الأولى: ما إذا كان تخلّف الحكم بطريق الاستثناء. ويمثّل له بمسألة الصاع من تمر في الدابة المصرّاة، وكذلك مسألة بيع الرطب بالتمر في مسألة العرايا مع وجود علّة الربا فيها. فهنا تخلف الحكم لايدلّ على الانتقاض، فلايدلّ على بطلان العلّة؛ لأنّ الاستثناء لايمنع من اطّرادها في غير المورد. وهذا كما يجري في العلّة المنصوصة يجري في المستنبطة أيضا.
الصورة الثانية: ما إذا كان تخلف الحكم لا بطريق الاستثناء. فهنا توجد حالتان:
الحالة الأولى: ما إذا كانت العلّة منصوصة.
فهنا لا مانع من حمل دليل العلّية على أ نّه في مقام بيان بعض العلّة لا تمامها، كالدليل الدالّ على أنّ «الوضوء ممّا خرج» فإنّه ينتقض بالخارج بالحجامة، فإنّه لايوجب الوضوء، فيحمل الدليل المذكور على أ نّه في مقام بيان بعض العلّة لا تمامها وهو «الخروج من الموضع المعتاد».
الحالة الثانية: ما إذا كانت العلّة مستنبطة.
فهنا إن كان تخلّف الحكم لمانع أو فقدان شرط كما في تعليل إيجاب القصاص على القاتل بكونه قتلاً عمدا عدوانا، فينقض بقتل الأب ولده والسيّد عبده، فإنّه عمدا عدوانا ولايوجب القصاص. فمثل هذا الانتقاض لايدلّ على بطلان العلّة؛ وذلك لوجود مانع منع من اطّراد العلّة في صورة النقض وهو الأبوة والسيادة، فيحكم بعدم بطلان دليل العلّية، جمعا بينه وبين دليل النقض، والجمع بين الأدلّة أولى من طرحها.
وإن كان تخلفه لا لمانع ولا لفقدان شرط فالنقض المذكور قادح في العلّية.
القول السادس: أنّ النقض لايقدح إذا كان تخلف الحكم لمانع
وهو ما اختاره البيضاوي[٥٠]، ونسب إلى الصفي الهندي[٥١] من أنّ النقض لايقدح إذا كان تخلف الحكم لمانع منع منه سواء في ذلك العلّة المنصوصة أو المستنبطة. وإن كان التخلّف لا لمانع فهو قادح سواء في ذلك العلّة المنصوصة أو المستنبطة.
واستدل لهذا القول بدليلين[٥٢]:
الأوّل: قياس النقض على التخصيص في الألفاظ، فكما أ نّه في التخصيص يجمع بين دليل العام ودليل المخصِّص، كذلك في النقض يجمع بين دليل العلّة ودليل النقض.
الثاني: إن تخلف الحكم عن علّته إذا كان لمانع فإنّ ظنّ علية الوصف باقٍ والعمل به واجب، بخلاف ما إذا كان التخلّف لا لمانع فإن ظنّ العلّية ينتفي.
القول السابع: التفصيل بين العلل المطردة وبين العلل المؤثرة
فإن النقض ممكن أن يرد على العلل الطردية ولايمكن أن يرد على العلل المؤثرة.
وهو اختيار السرخسي [٥٣] والبزدوي [٥٤] والنسفي [٥٥] والبخاري[٥٦].
القول الثامن: أنّ النقض يقدح في العلل المستنبطة ولايقدح في المنصوصة
حكاه الجويني عن معظم الأصوليين[٥٧]، واستقربه الحلّي[٥٨]، ونسب اختياره إلى القرطبي[٥٩].
أمّا وجه كون النقض قادحا في العلل المستنبطة؛ فلأنّ علّة الحكم إن اعتبر فيها انتفاء المعارض لم يكن ما ذكر تمام العلّة بل جزؤها، وإن لم يعتبر فيها انتفاء المعارض فلايكون المعارض قادحا.
أمّا وجه كون النقض ليس بقادح في العلل المنصوصة؛ فلأ نّها كالعام فيجوز تخصيصها في مورد النقض، ولا يجوز تخصيص العلّة المستنبطة[٦٠].
القول التاسع: أنّ النقض يقدح في العلل المنصوصة ولايقدح في المستنبطة
ذكره الزركشي ونقل حكاية ابن رحال له[٦١].
القول العاشر: أنّ النقض يقدح في العلل المنصوصة ولايقدح في العلل المستنبطة
أي لايقدح في العلل المستنبطة إذا كان لمانع أو انتفاء شرط، ذكره ابن الحاجب[٦٢].
القول الحادي عشر: أنّ النقض قادح في علل الوجوب والحل دون علل الحظر
نقل حكاية القاضي له عن بعض المعتزلة[٦٣].
القول الثاني عشر: التفصيل بین وجود المانع وعدمه
أنّ علّية الوصف إذا ثبتت بمسلك المناسبة أو الدوران وكان تخلف الحكم في صورة النقض لوجود مانع لم يكن النقض قادحا، وإن كان التخلّف لا لمانع فالنقض قادح. ذكره الرازي ونسبه إلى الأكثر[٦٤].
دفاعيات عن النقض
إذا توجّه الاعتراض بالنقض على القياس المُستدلّ به، فيمكن للمستدلّ أن يدفع النقض بعدّة دفوعٍ:
الدفاع الأوّل: منع وجود العلّة في صورة النقض
كما لو استدلّ الحنفي على وجوب قتل المسلم بالذمّي بأنّه قتل عمدا عدوانا فيجب القصاص به.
فينقض عليه: بقتل المسلم المعاهدَ، فإنّه قتل عمدا عدوانا، ومع ذلك لايجب القصاص به.
فإنّه بامكان المستدلّ منع وجود العلّة في صورة النقض والقول بعدم كون قتل المسلم المعاهد من القتل العمد العدوان فلايوجب القصاص لانتفاء العلّة فيه[٦٥].
ثُمّ إنّه وقع الكلام هل للمعترض الاستدلال على وجود العلّة في صورة النقض بعد منع المستدلّ من وجودها في صورة النقض؟ أقوال عديدة فيذلك:
القول الأوّل: عدم جواز ذلك، وهو اختيار الرازي [٦٦] وابن قدامة [٦٧] والحلّي [٦٨] والبيضاوي[٦٩].
لأنّ المعترض باستدلاله على وجود العلّة في صورة النقض سوف يكون مستدلاًّ، والمستدلّ معترضا؛ لأ نّه يمنع وجود العلّة فيها[٧٠].
القول الثاني: جواز ذلك،
لأنّ المعترض في مقام الاعتراض على كون الوصف المذكور في الدليل علّة، فله إثبات العلّة في صورة النقض[٧١].
القول الثالث: التفصيل بين ما إذا لم يكن للمعترض طريق في إثبات اعتراضه سوى الاستدلال على اثبات العلّة في صورة النقض فيجوز، وبين ما إذا كان له طريق آخر فلايجوز. وهو اختيار الآمدي[٧٢].
الدفاع الثاني: منع وجود الحكم في صورة النقض
كما لو استدلّ الشافعي في مسألة الثيِّب الصغيرة بكونها ثيبا، فلايجوز إجبارها كالثيّب البالغ.
فيعترض عليه: بأ نّه منقوض بالثيِّب المجنونة فإنّها ثيّب، ومع ذلك يجوز إجبارها.
فإنّه يمكن للمستدلّ أن يمنع الحكم في صورة النقض، ويقول: بعدم تسليم جواز إجبار الثيّب المجنونة[٧٣].
ووقع الكلام هنا أيضا في أنّه هل للمعترض إثبات الحكم في صورة النقض بعد منع المستدلّ له، والكلام فيه كالكلام في الوجه الأوّل.
الدفاع الثالث: أن يكون النقض واردا على أصل المستدلّ فقط
كما لو استدلّ الشافعي في مسألة بيع الرطب بالتمر بأ نّه بيع للجنس الربوي متفاضلاً فلايصحّ.
فينقض عليه الحنفي: ببيع العرايا وهي بيع الرطب في النخل بتمر في الأرض أو بيع العنب في الشجر بزبيب، فإنّه يصحّ عند الشافعي وإن كان متفاضلاً [٧٤].
ويمكن للمستدلّ أن يجيب على النقض المذكور بأنّ ما وقع به النقض إنّما هو من قبيل الاستثناء عن القياس، والمستثنى لايقاس عليه ولايناقض به[٧٥].
الدفاع الرابع: أن يكون النقض واردا على أصل المعترض فقط
كما لو ذكر الشافعي عدم جواز مقاربة الحائض التي انقطع عنها الدم ولم تغتسل بعد.
فينقض عليه الحنفي بجواز الصوم لها فيجوز مقاربتها.
فإنّه يمكن للشافعي أن يمنع النقض المذكور، ويقول: بعدم الملازمة بين الصوم وبين المقاربة، كما في التي انقطع عنها الدم دون العشر، فإنّه يجوز صومها ولايجوز مقاربتها[٧٦].
ورود الاستثناء على العلل
ذهب جماعة[٧٧] إلى أنّ النقض الوارد على سبيل الاستثناء لايقدح في العلل سواء كانت تلك العلل معلومة أو مظنونة.
ومثّل للمعلومة بالقول بأنّ من لم يقدم على جناية لايؤخذ بضمانها، واستثني من ذلك ثبوت الدية على العاقلة، فإنّ هذا الاستثناء لايصحّ النقض به على العلّة المذكورة.
ومُثّل للمظنونة بتعليل حرمة الربا في المال الربوي بكونه طعاما، واستثني من ذلك مسألة العرايا، فإنّه لايصحّ النقض بها على العلّة المذكورة لورودها على سبيل الاستثناء.
وذهب الرازي[٧٨] إلى أنّ كون النقض إنّما يصحّ اعتباره استثناءً إذا ثبت تحقّق الإجماع عليه كمسألة «العرايا» فإنّها مستثناة على جميع المذاهب التي عللت حرمة الربا في بيع التمر بالرطب بالطعم أو القوت أو المال أو الكيل، فإنّها مستثناة على كافة التعليلات.
والوجه في عدم كون ذلك نقضا هو أنّ الإجماع لما انعقد على كون العلّة في حرمة المال الربوي لاتخرج عن أحد العلل المذكورة فهذا معناه أنّ النقض لايصادم الإجماع المذكور فلايكون قادحا فيما علل به حرمة المال الربوي.
ولعلّ هذا هو مراد الأحناف [٧٩] من ذهابهم إلى عدم كون النقض قادحا في العلل المؤثرة؛ لأ نّه لما ثبت تأثيرها بالإجماع فلايكون النقض عليها قادحا؛ لأنّه يصادم الاجماع فلابدّ من حملها على سبيل الاستثناء.
انتقاض العلل العقلية
نقل إجماع أهل الجدل على أنّ العلل العقلية لاتقبل الانتقاض ولا التخصيص[٨٠]، ونقل عن ابن فورك قوله: «العلل العقلية لايجوز تخصيصها بلا خلاف»[٨١].
الهوامش
- ↑ . لسان العرب 4: 4003 مادة «نقض».
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 2: 102.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3ـ4: 338.
- ↑ . أنظر: البحر المحيط 5: 261.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3ـ4: 203، تجريد الأصول: 120.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 203.
- ↑ . أنظر: المعتمد 2: 283 ـ 284، شرح اللمع 2: 892، المحصول 2: 374، المنخول: 410، البحر المحيط 5: 279.
- ↑ . فتح الغفّار 3: 38.
- ↑ . أنظر: كشف الأسرار البخاري 4: 57، فتح الغفّار 3: 38.
- ↑ . تقويم الأدلّة: 312 ـ 313.
- ↑ . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 85.
- ↑ . شفاء الغليل: 462.
- ↑ . أنظر: إرشاد الفحول 2: 196 ـ 198.
- ↑ . أنظر: المصدر السابق: 196.
- ↑ . أنظر: شفاء الغليل: 471.
- ↑ . أنظر: البحر المحيط 5: 262.
- ↑ . المعتمد 2: 284.
- ↑ . أحكام الفصول: 654.
- ↑ . شرح اللمع 2: 882.
- ↑ . قواطع الأدلّة 4: 373.
- ↑ . المحصول 2: 361.
- ↑ . مسلّم الثبوت 2: 342.
- ↑ . أنظر: البحر المحيط 5: 262.
- ↑ . أنظر: المعتمد 2: 289 ـ 290، كشف الأسرار البخاري 4: 58 ـ 59.
- ↑ . أنظر: كشف الأسرار البخاري 4: 58.
- ↑ . أنظر: المعتمد 2: 284، الإحكام الآمدي 3ـ4: 199، كشف الأسرار (البخاري) 4: 58.
- ↑ . أنظر: كشف الأسرار البخاري 4: 59.
- ↑ . أنظر: المعتمد 2: 285، الإحكام الآمدي 3ـ4: 200.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 361، الإحكام الآمدي 3ـ4: 199.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 364، الإحكام الآمدي 3ـ4: 199.
- ↑ . أنظر: المعتمد 2: 286، المنخول: 405، الإحكام الآمدي 3ـ4: 200.
- ↑ . الفصول في الأصول 4: 165، 255.
- ↑ . تقويم الأدلّة: 312 ـ 313.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 194.
- ↑ . شرح تنقيح الفصول: 400.
- ↑ . إحكام الفصول: 654.
- ↑ . أنظر: إحكام الفصول: 655، البرهان في أصول الفقه 2: 103، المنخول: 406، المحصول 2: 366، التلويح إلى كشف حقائق التنقيح 2: 195، البحر المحيط 5: 262.
- ↑ . مسند أحمد 1: 626 ح 3589 مسند عبداللّه بن مسعود.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 367.
- ↑ . أنظر: المصدر السابق، الإحكام الآمدي 3ـ4: 200.
- ↑ . أنظر: المحصول 2: 367.
- ↑ . أنظر: المصدر السابق: 368، الإحكام الآمدي 3ـ4: 200.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 201، كشف الأسرار (البخاري) 4: 58.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 2: 105 ـ 107، وأنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 87، البحر المحيط 5: 264 ـ 265.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 2: 111 ـ 112 وأنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 87، البحر المحيط 5: 264 ـ 265.
- ↑ . شفاء الغليل: 458 ـ 518. وأنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 88 ـ 90، البحر المحيط 5: 265 ـ 267.
- ↑ . السنن الكبرى البيهقي 1: 116 ـ 117 كتاب الطهارة، باب الوضوء من الدم يخرج من أحد السبيلين وغير ذلك.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3ـ4: 194 ـ 196.
- ↑ . منتهى الوصول: 171 ـ 172.
- ↑ . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 85 ـ 86.
- ↑ . أنظر: إرشاد الفحول 2: 196 ـ 197.
- ↑ . أنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 91.
- ↑ . أصول السرخسي 2: 233.
- ↑ . أصول البزدوي 4: 75.
- ↑ . كشف الأسرار 2: 330 ـ 331.
- ↑ . كشف الأسرار 4: 75 ـ 83.
- ↑ . البرهان في أصول الفقه 2: 102.
- ↑ . تهذيب الوصول: 259.
- ↑ . أنظر: البحر المحيط 5: 262.
- ↑ . تهذيب الوصول: 259.
- ↑ . البحر المحيط 5: 263.
- ↑ . منتهى الوصول: 171.
- ↑ . أنظر: إرشاد الفحول 2: 197.
- ↑ . المحصول 2: 361.
- ↑ . أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 503.
- ↑ . المحصول 2: 370.
- ↑ . شرح مختصر الروضة 3: 503.
- ↑ . تهذيب الوصول: 259.
- ↑ . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 104.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 338، شرح مختصر الروضة 3: 503.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 338.
- ↑ . الإحكام 3ـ4: 338.
- ↑ . المصدر السابق: 339.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 339.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . أنظر: البحر المحيط 5: 267 ـ 268.
- ↑ . أنظر: البرهان في أصول الفقه 2: 107، المحصول 2: 374، الابهاج في شرح المنهاج 3: 94 ـ 95.
- ↑ . المحصول 2: 374.
- ↑ أنظر: تقويم الأدلّة: 349، أصول السرخسي 2: 233، كشف الأسرار النسفي 2: 330 ـ 331، كشف الأسرار (البخاري) 4: 76.
- ↑ أنظر: التلخيص في أصول الفقه 3: 271، البحر المحيط 5: 268.
- ↑ أنظر: البحر المحيط 5: 268.