سالم بو حاجب

من ویکي‌وحدت
سالم بو حاجب.jpeg
الاسم سالم بو حاجب‏
الاسم الکامل سالم بن عمر بو حاجب البنيلي
تاريخ الولادة 1827م/1243ق
محل الولادة بنیل (تونس)
تاريخ الوفاة 1924م/1342ق
المهنة عالم دین، قاضی، مفتی
الأساتید محمد بن ملوكة، محمد بن عاشور، محمد الخضار، محمد بلخوجة،محمد النيفر
الآثار فإنّ له شروح كثيرة مثل شرحه على ألفية بن عاصم الأصولية وتقارير على البخاري وشرح لصحيح مسلم على أساس كتاب صحيح مسلم للإمام المازري
المذهب سنی

سالم بن عمر بو حاجب البنيلي: شخصية تونسية معروفة، ومصلح إسلامي مشارك في العلوم.

الولادة

ولد سنة 1827 م (1243 ه) في قرية بنيل الساحلية قرب (المنستير) في تونس.

الدراسات والنشاطات

وطوى المراحل الدراسية، وتولّى التدريس في جامع الزيتونة ثمّ الفتيا سنة 1323 ه، ثمّ عيّن كبيراً لأهل الشورى المالكية.

بعض من آرائه

يقول في كتابه «الخطب المنبرية» حول تربية الأبناء: «الحمد للَّه‏ الذي أسّس مصالح العباد على وسائل التواصل، وربط عمران الأرض بسلاسل التناسل، فركّب في الطبيعة ما يحمل على اتّصال الذكر بالأُنثى، وميّز ما يُثني عليه من طُرقه وما يُنثى؛ إذ مِن حِكَم حفظ الأنساب تحقيقُ الوصلة بين الأجنّة والأصلاب، وخلوص المعادن الإنسانية وإن كان أصلها من تراب، والمعدن إذا اتّحد سهل الالتحام، كما يُشاهد من تراحم ذوي الأرحام؛ إذ الفرع الحقيقي ينجذب بالطبع إلى أصله، فيقوّم به كما يتقوّم الجنس بفصله، وكما يتدعّم ذباب السيف بنصله، فسبحانه من قادر حكيم، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأرشده أن يسلم فيما يجب لأصله وفرعه النهج القويم».
وقضت الخطبة تُحدِّث في مثل هذا الأُسلوب عن حقوق الأبناء على الآباء، وحقوق الآباء على الأبناء، ومن آرائه في هذا الصدد:
«ويجب أن يُمنع الولد في أوّل الأمر من خلطة الناس؛ لأنّها مجلبةٌ لكلّ شرّ وبأس، ثمّ إذا عرف الخير والشرّ، وصار بحيث لا يشتبه عليه الفاجر بالبرّ، ولا تروج عليه الخدائع والمكر، يؤذن له في مخالطة ذوي الرشد والحياء، ويتباعد عمّن فوقه من الأغنياء، ومن تحته من الأغبياء، ولا بأس أن يُدرّب على تنمية المال، والتوصّل لاكتسابه من طرق الحلال، ويذمّ التداين؛ إذ يجلب بين الأجنّة العداوات والتضاغن، ولأن تصبر عليك نفسك‏
التي بين جنبيك أهون وأحقّ من صبر الناس عليك... وممّا يذمّ للصبي صرف الهمّة لتحسين اللباس والطعام، والتقدّم على من هو أسنّ منه في الكلام. وكان من تربية لقمان لابنه: يا بني، إن كنت تشكّ أن تموت فاجتهد ألّا تنام، وإن كنت تشكّ أن تستيقظ فاجتهد ألّا تستيقظ بعد المنام. يعني: كما أنّك تنام فلا بدّ أن تموت، وكما أنّك تستيقظ من نومك فلا بدّ أن تُبعث، ومثل هذا وإن كان من قياس التمثيل الذي لا يُفيد القطع بالدليل، لكنّه يغرس في النفوس عقيدة فطرية، تجري مَجرى الجِبِلّيّات الجبرية».
يقول الدكتور البيّومي معلِّقاً: «هذا بعض ما كتبه سالم في كتابه الوحيد الذي نشره مطبوعاً، ولعلّه لم يطبعه إلّاليؤدّي رسالة المنبر في عصر لم يكن فيه خطيب منبري يجري على سنَنٍ صحيح؛ إذ كانت موضوعات الخطب كلّها تحذير من النار ووصف لهول القبر وعذاب جهنّم، وتصوير للأساطير الإسرائيلية، ودعوة للزهد والانصراف عن الحياة، وهي غفلةٌ لا أدري كيف وقع فيها هؤلاء الخطباء! ولم يكن الأمر كذلك في تونس وحدها بل في كلّ بقاع العالم العربي حين فُهم الدين على غير وجهه الصحيح، فاضطرّ سالم إلى أن يُنبّه الناس إلى العمل الصالح في الحياة، وإلى أنّ الإسلام دين الكرامة والفخر والنهوض، وله من الفضائل ما يجب أن يتردّد دون انقطاع، وله من رعاية الإنسان ابناً وأباً وجدّاً ما يضمن تعاون الأُسرة التي هي بارتفاعها أداةٌ لرفعة الأُمّة! في هذه المعاني جالت خطب سالم، وقد أسلفنا أنموذجاً منها يتحدّث عن رعاية الآباء للأبناء.
وفي المصلحين قومٌ لم يجعلوا القلم أداة إصلاحهم، بل انطلقوا إلى الإصلاح العلمي في الدروس وفي المجتمعات الخاصّة والعامّة، نعرف منهم نماذج لم تكتُبْ كثيراً، ولكنّها فعلت كثيراً، نعرف منهم في هذا العصر جمال الدين الأفغاني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ونعرف منهم حسن البنّا الذي سيقول التاريخ- أو قاله-: إنّه أبعد أثراً في نضاله الفسيح الممتدّ من جمال الأفغاني، ونعرف منهم أخيراً سالم أبا حاجب الذي ترك ذكره في قومه وعلمه في صدور تلاميذه، فدأبوا يذكرونه بالفضل، ويُكرّرون مواقفه، ويتحدّثون عن جهاده السياسي جوار الحديث عن مجده العلمي.

إكثاره في ذكر الأحاديث

لقد كان الأُستاذ محمّد الخضر حسين في مصر كثير الحديث عن أُستاذه سالم، فهو يعطّر مجالسه بذكره، كما يشير إلى مواقفه في مقالاته... ومن حديث الخضر وحديث السيّد محمّد رشيد رضا عنه في «المنار» عرفت مصر سالم أبا حاجب معرفة أنزلته منزلة الاعتزاز... أذكر أنّ الخضر كتب مقالًا عن الحركة العلمية في تونس، مقالًا مستفيضاً، ختمه بالحديث عن ثلاثة من علماء الزيتونة تلقّى عليهم العلم في الجامع الأعظم، هم: سالم أبو حاجب، وعمر بن الشيخ، ومحمّد النجار... فقال عن الأوّل: وأُستاذنا أبو حاجب حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأنّي دخلت في مجال أفسح للنظر وأدعى للفكر؛ إذ لم يكن الأُستاذ ممّا يقتصر في مناقشته على عبارات المؤلّفين، بل كان يتجاوزها إلى نقد الآراء نفسها، ويتجاوز النقد إلى الوقوف على أسرار المباحث دينية كانت أم عربية، ولا يترك في درس الكتب الشرعية أن يعقد الصلة بين أُصول الإسلام والمدنية الحاضرة....».
وأقوى ما ساعد على امتداد فضل الشيخ أنّه اتّصل بحركة الإصلاح الديني في العالم العربي؛ إذ صادق الشيخ محمّد عبده واحتفل به احتفالًا رائعاً حين زار تونس مرّتين، وكانا في مجلسهما الخاصّ يتذاكران فضل جمال الدين الأفغاني ويُعلنان ما يعرفان عن جهاده الموقظ الباعث، وفي المجلس العامّ بين العلماء كان الشيخ عبده يعرض حالة مصر العلمية وما قام به من الاقتراحات الإصلاحية في التعليم الأزهري، فيرى الشيخ سالم يُعلن أنّ الزيتونة في حاجةٍ إلى تنفيذ هذه الاقتراحات؛ لأنّ التعليم الديني في العالم الإسلامي في حاجة إلى وثبة طافرة... وقد مات الشيخ محمّد عبده دون أن يشهد ثمار غرسه، أمّا الشيخ سالم فقد امتدّ به الزمن حتّى رأى الخطوات المتتابعة في إصلاح التعليم الزيتوني، وحتّى رأى نفراً من تلاميذه أُشربوا روح الإصلاح، وعملوا على تحقيق تعاليمه، ومنهم من وصل إلى مشيخة الإسلام، فصار أداة تنفيذ عملي مستنير.

ميزاته

وكان من أبرز صفاته العلمية أن يُحاول بالتي هي أحسن، وأن يغضّ النظر عن تطاول الكبار ممّن يزعمون لأنفسهم المعرفة في كلّ شي‏ء، فقد كان العلّامة اللغوي الشهير محمّد
ابن محمود بن التلاميذ الشنقيطي
وقع في جدل حادّ حول صحّة عبارة الإمام مالك القائلة:
«وعليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلّاهي» مع بعض علماء المدينة، ورأى هؤلاء أن يستأنسوا برأي الشيخ سالم أبي حاجب عالم تونس الأشهر، فوقف إلى جانبهم، حين قرر أنّ الحقّ في جانبهم وأنّ الإمام مالك وإن كان إماماً في الفقه فليس من أرباب السليقة العربية.
يقول الدكتور البيّومي معلّقاً: «وكلام أبي حاجب حقٌ؛ لأنّ علماء اللغة قد أجمعوا على أنّ عهد السليقة العربية قد انتهى بانتهاء الدولة الأُموية، وأصبح بشّار بن برد ومن جاء بعده لا يحتجّ بشعرهم، ومالك رضى الله عنه قد عاش إلى عهد الرشيد، فليس إذن ممّن يُحتجّ بقوله اللغوي، ولكن الشنقيطي حمل حملةً شعواء على الشيخ، فبعد أن وصفه بالشيخ الجليل والأُستاذ النبيل تورّط في وصفه بالجهالة والغفلة إلى ما ينحو هذا النحو... وإعراب (هي) مفعولًا به هو موضع الخطأ؛ لأنّ ضمير المفعول به ضمير نصب لا رفع، ولكن الشنقيطي يُفسّر فعل (يجد) بمعنى يغني، فتكون فاعلًا! وإذاً فلكلّ وجهه، وليس من شأن المخالف أن يُسفّه مخالفه إذا اعتمد على سندٍ نحوي، ولكن هكذا فعل ابن التلاميذ!».
ومن الجدير بالذكر أنّ المترجم انتقل وهو في الثامنة من عمره إلى تونس، وكان بها عمّه إبراهيم، وهو أُستاذ فاضل يقوم بتعليم أولاد الوزير القائم لهذا المعهد، فرعاه بعنايته، ودَفع به إلى طلب العلم في كُتّاب (باب منارة) بتونس، فكان ذلك تمهيداً لالتحاقه بالزيتونة حين كانت تسعدُ بعلماء أعلام مثل شيخي الإسلام محمّد بن الخوجة، وإبراهيم الرياحي، ومحمّد بن معاوية، ومصطفى بيرم، وغيرهم... ومع ابتعاد الزيتونة نسبياً عن علوم اللغة فإنّ الطالب الناشئ وجد من نفسه كَلفاً بمعرفة الألفاظ الغريبة، ولم تكن في «القاموس المحيط» إذ ذاك غير نسخة في قصر الوزير، وكانت من الرعاية الخاصّة بحيث لا يسمح لأحد باستعارتها، ولكن سالم بوساطة عمّه قد اهتدى إليها وأكبّ عليها حفظاً واستظهاراً، فكان تضلّعه في معرفة الغريب ميزة تُحسب له بين الشيوخ والتلاميذ معاً، وكذلك أخذ تدريس كتاب «المطوّل» للسعد التفتازاني في علوم البلاغة، وهو كتابٌ لا يشرئبّ له غير
تلاميذ المرحلة العالية؛ لأنّه من العمق والغوص والاستطراد والتعقيد أحياناً بحيث لا يصبر عليه غير الشيوخ! أمّا الذي أذكى في نفسه حبّ الأدب الخالص إذكاءً ترتفع حرارته كثيراً فهو أديب العصر محمود قابادو، حيث وثّق صلته به، وكان محمود قابادو مؤسّس نهضة أدبية رائعة في البلاد، وقد دعا إلى تعلّم اللغات الأوروبّية، ودراسة العلوم الحديثة، فأُعجب الأُستاذ بتلميذه، وتطارحا الشعر على صفحات الجرائد، وعظمت ثقة الشيخ سالم بنفسه، فكان يحضر مجالس الشيوخ بالزيتونة، ويسمع ويعارض، ومنهم من ضاق به ذرعاً، ومن لمح فيه بوادر اليقظة الفكرية فاستدناه وقرّبه، ومنهم الشيخ محمّد بيرم الذي قدّمه إلى رجال الدولة وكبار الساسة، فعقد صلته بالجنرالات خير الدين وحسين ورستم، وهم ذوو الأمر في البلاد والقائمون على الإصلاح الإداري.
كان خير الدين التونسي أبرز مصلح تونسي ظهر في القرن التاسع عشر، وحين وضع قواعد الإصلاح الإداري والسياسي وانتقل بها من حيّز الاقتراح إلى حيّز التنفيذ، خاف أن يجد من شيوخ الزيتونة معارضة قوية، ولهؤلاء صوت مسموع في الأُمّة، ولا بدّ أن يَحوز رضاهم التامّ كي تمتنع الثوائر في الداخل، وَحسبُه ما يلقى في الخارج من اعتراضات، ولا بدّ لإقناع الشيوخ من منطقٍ ديني يؤمنون بنصوصه ويعتقدون قواعده، وتلك مهمّة سالم أبي حاجب، حيث انبرى يكتب في الصحف عن سعة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان بما تتضمّن من قواعد عامّة تندرج تحتها جزئيات كثيرة، كما أوضح أبواب الأُصول، مثل: سدّ الذرائع، والعرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان. وضَربَ لكلّ من هذه الأُمور أمثلة من الواقع العلمي، متحدّثاً عن الشورى وتطوّر نظامها بحيث لا تُخالف الجوهر المراد عن مشروعيتها، كما أمدّه التاريخ الإسلامي بأمثلة تتّفق مع ما يُراد من الإصلاح الداخلي من التنظيمات الإدارية والتشريعات الضرائبية.
وقد فُوجئ بعض العلماء بهذه الآراء، فعكفوا على كُتبهم يحاولون الردّ عليها، ولكنّهم لم يجدوا القدرة الأُسلوبية على بسط ما يريدون؛ لأنّ البيان لا قيمة له إذا لم يؤيّده منطق صائب، أو دليل ملزم من كتاب أو سنّة، لذلك سكت من سكت عن ألم، وأحسّ الشيخ أنّ‏
شبيبة الزيتونة من الطلّاب هم معقد الرجاء، فجعل يعقد المجالس العلمية معهم ليخرج بهم عن دائرة المقرّرات العلمية إلى فضاء الإصلاح الإداري الذي يسير فيه خير الدين على هدى وبصيرة، كما أخذ يقرأ عليهم فصولًا من كتاب «أقوم المسالك» الذي نشره خير الدين ليعلن رأيه العلمي في إنهاض الشعوب الإسلامية بعامّة، والشعب التونسي بخاصّة... وبعض الناس يقول: إنّ الشيخ سالم هو الذي كتب فصوله، وهذا بعيد بعيد على حدّ تعبير الدكتور محمّد رجب البيّومي؛ لأنّ عون الشيخ قد وقف عند تهيئة النصوص الشرعية الدالّة على الإصلاح والآمرة به، وليس هذا بالشي‏ء اليسير، فكتب الفقه حينئذٍ كانت بعيدة كلّ البعد عمّا يتّجه إليه المصلحون؛ لأنّها اختيرت من المؤلّفات المتأخّرة التي اكتفت بشرح المتن وكتابة الحاشية، وحَرفت الهمم إلى فَهْم عبارات المؤلّف والتعبّد بما قال، حتّى إذا وُجد خطأٌ واضحٌ فلا بدّ من احتيال تصحيح له، وقد كثر الطرق على وجوب الإصلاح حتّى أصبح من المقرّر أنّ الشريعة لا تتعارض مع الإصلاح، وأنّ التنظيمات ضرورية للوطن التونسي ليلحق بدول أوروبّا المتحضّرة.
كما اتّسع مجال سالم في الكتابة، حتّى شهد له أحمد فارس الشدياق حين قرأ فصولًا من بيانه النقدي، إذ كان حكماً بين الشدياق وخصومه، فأبان عن مقدرة لغوية فائقة، ساعده عليها استظهاره للقاموس في عهد الصبا الأوّل، وقد بلغ من إعجاب أحمد فارس بالشيخ أنّه قال لخير الدين: «إنّ سالم أبا حاجب ليس في المنزلة التي يستأهلها، وإنّ النهضة لن تبلغ مرتقاها دون أن يكون من أكبر دعاتها البارزين»، وهذا ما قاله أُستاذه الشاعر المصلح محمود قابادو، وما أكّده محمّد بيرم وأحمد كريم، وكان خير الدين يرى ذلك، ويخشى أن يثب بصاحبه إلى ما فوق مستوى أساتذته، فتثور عليه الثوائر، ولكنّه أمام إجماع هؤلاء الكبار دفع به إلى رياسة المجلس البلدي، ثمّ اختاره عضواً بارزاً في لجانٍ عدّة، وجدّ من الملابسات ما أوجب عزل خير الدين، فانقطعت حركة الإصلاح إلى حين، وحاول الشيخ سالم أن يُسالم من خلفوه من الجنرالات، ولكنّه كان يحفظ أمامهم مقام خير الدين ويردّ غيبته، وتلك شجاعة خلقية كريمة؛ لأنّ أكثر الوصوليّين قد أخذوا ينبزون‏
المصلح الكبير تقرّباً لغرمائه من ذوي النفوذ، وهو ما تحاشاه عالم فاضل له مثل أخلاق الشيخ سالم.
ومن أظهر المؤثّرات القوية في حياة الشيخ سالم وفي اتّجاهه الإصلاحي ما قام به من الرحلات إلى أوروبّا، حيث مكثَ ستّ سنوات في إيطاليا، ولم يعتزل الناس في مدينة الفنون الراقية، ولكنّه بادر فتعلّم اللغة الإيطالية، وتنقّل في العواصم الأوروبّية، ومن بينها باريس التي قابل فيها أعظم دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، وتجاوبت الألسنة معلنةً ما تكنّ الضمائر من شوقٍ للنهوض العاجل بالأُمّة الإسلامية، ولعلّ من آثار الشيخ النافعة في رحلاته ردوده المتتابعة على ما يثيره أعداء الأُمّة الإسلامية من أراجيف حول جمود الإسلام وتقهقره وأنّه السبب الأوّل في تأخّر المسلمين، وهي شبهات قاومها جمال الدين ومحمّد عبده في باريس، وردّد محتواها سالم أبو حاجب في روما... ومن أظهر ما أفاض فيه الشيخ دفاعه عن الإسلام فيما يعتبره الأوروبّيون مأخذاً جوهرياً مثل الطلاق، والرقّ، واهتضام حقوق المرأة في زعمهم، وهي شبهات تتكرّر بمناسبة ودون مناسبة، ويقوم أمثال سالم أبي حاجب بالردّ عليها في قوّة وإقناع، ولكنّها بعد أن تجد هذا الدفاع الصامد تُذاع من جديد على أيدي أشباه المبشّرين من المستشرقين؛ لأنّ الهدف ليس هو تجلية الحقائق، ولكنّه الافتراء على الإسلام بتكرار ما بان بطلانه واتّضح عواره، وما زلنا إلى اليوم بعد قرابة قرنٍ ونصف نجد شبهات الأمس تتردّد في كتب اليوم، وكأنّها حقّ قام عليه الدليل!
وقد عاد الشيخ سالم بعد ستّة أعوام إلى عرينه بتونس ليتولّى مناصب علمية بارزة، وأهمّها رتبة التدريس، وهي أعظم درجةٍ تربوية في المعهد الديني العريق، وصاحبها يصير من أكبر العلماء دون منازع، وقد أثبت الشيخ أصالته العلمية في دروسه المتتابعة، تلك التي لم تقتصر على طلّاب الزيتونة، بل حضرها رجال السياسة والصحافة والقضاء، وكأنّه بهذه الدروس يحذو حذو الإمام محمّد عبده في دروس التفسير التي كان يلقيها بالرواق العبّاسي بالجامع الأزهر مرّتين كلّ أُسبوع، حيث كان الحضور من غير الأزهريّين أكثر وأوفى، وبهذا الصيال الفكريّ المشافه كوّن الرجلان العظيمان صفوة من خيرة التلاميذ في مصر وفي‏
تونس، ومنهم من وصل إلى المناصب العليا في الإدارة والسياسة والقضاء، ولذلك من الآثار القوية في نهضة البلاد ما لا ينكره إلّاجحود عنيد.
وكان من حظّ الزيتونة أنّ الشيخ قضى‏ في رحابها خمسة وستّين عاماً مدرّساً وأُستاذاً، وهي مدّة لم تتح لغيره، وقد ساعدت على إعداد أفواج كثيرة من الطلّاب صاروا علماء من بعده، منهم من سار على نهجه، ومنهم من جاوزه في تلقّي علوم إدارية وقانونية أهّلته ليكون رجل إدارة وولاية ينتفع به في شتّى‏ مرافق الحياة العالية.
وقد شرح الشيخ لطلّابه كتاب «صبح الأعشى» للقلقشندي، كما شرح كتاب «المزهر» للسيوطي لأوّل مرّة بالزيتونة، وحين أرجف قوم بأنّه يتجافى كتب العلم الأصلية لصعوبتها عمد إلى «المطوّل في البلاغة» للسعد التفتازاني فشرحه في سنوات عدّة، كما شرح كتاب «المغني»، وهما عمدة البلاغة والنحو، فبرز في شرحهما أتمّ تبريز... وقد نافس الشيخ عمر ابن الشيخ في شرح كتاب عضد الدين الإيجي فلم يقصّر عنه، على أنّه رأى أن يتّجه بالتعليم إلى مدى أفسح من الزيتونة، فساعد خير الدين في إنشاء «الصادقية» على نمط «دار العلوم» بمصر، فمع اهتمام الصادقية بعلوم اللغة والتشريع أضافت العلوم الحديثة إلى مقرّراتها، فكانت خطوة تالية للزيتونة، وطبيعيٌّ أن يغضب بعض الجامدين لإنشاء الصادقية ويعدّونها مزاحمة للزيتونة لا مكمِّلة لها، وهذا ما نبّه إلى خطره الشيخ سالم، فدعا شيوخ الزيتونة النابهين للتدريس بالصادقية ليروا كيف يحتفل المعهد الجديد بتراث الإسلام الخالد كما تحتفل الزيتونة.
وقد نجحت الصادقية في تكوين جيل علمي ناهض، فأدّى ذلك إلى تطوير الزيتونة في مناهجها وطرق تدريسها، فاشتملت بها المناهج لأوّل مرّة على الرياضيات والطبيعيات، كما نظّمت أعمال الامتحان، ومراقبة الحضور والانصراف بالنسبة للأساتذة والطلّاب، وتلك إحدى ميزات التنافس العلمي بين المعاهد المختلفة، حيث يأخذ كلّ معهد من غيره أحسن ما لديه!
وتابع الشيخ إصلاحه التعليمي، فسعى إلى إنشاء «الخلدونية» مع جماعةٍ من محبّي‏
التقدّم الفكري، فافتتح هذا المعهد الجليل في حفلٍ مشهود حضره النابهون من رجال الثقافة والسياسة، وكان أوّل درس به هو درس الشيخ سالم أبي حاجب، حيث ألقى محاضرة ضافية بدأها بالآية الكريمة: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (سورة البقرة: 31)، مبيّناً فضل التعليم وسبق أوروبّا إلى النشاط الفكري حتّى سادت الكون، وموضّحاً أنّ العلوم الحديثة سلسلة في حلقات متّصلة بدأها العرب في عصورهم الزاهرة، فليست وافدة من الغرب، ولكنّها ملك الإنسانية جميعاً في المشرق والمغرب.
ولم تكن الريح رخاء بالنسبة لإنشاء «الخلدونية»، بل وجدت المعارض، وهذه سنّة الحياة في تطوّرها البطي‏ء والسريع، ولكنّ الأُمور استقرّت من بعد، حين خلصت النفوس، وابتعدت الأهواء. وأكبر ما وُجّه إلى الشيخ سالم من نقد أنّه أقرب إلى علوم الغرب منه إلى كتب التراث، وهي فرية تدحضها دروسه العلمية المشار إليها من قبل، والحقّ أن يقال: إنّه عمل على أن يصل الشرق بالغرب، إذ لا يستطيع الشرق أن يُواجه الاحتلال الاستعماري إلّا بسلاح العلم، وإذا كانت هذه المسألة من البدهيات اليوم فقد كانت في عهد الشيخ من الغرائب العويصة التي يُلتمس لها أدقّ الحلول على حدّ تعبير الدكتور البيّومي.

الوفاة

وفي سنة 1924 م لقي الأُستاذ سالم ربّه بعد كفاح دائب وجهد جاهد، وكان معتزلًا لعدّة سنوات يزوره طلّابه من الأساتذة الكبار بعيداً عن حلقات الدرس التي لم يستطع النهوض بها في شيخوخته المباركة، وقد تردّد منعاه في العالم الإسلامي جميعه، ففاضت الصحف مؤبّنة راثية، وأُقيمت حفلات التقدير في أكثر من مكان، وهكذا تكون عقبى العاملين.

المراجع

(انظر ترجمته في: شجرة النور الزكية: 426- 428، الأعلام الشرقية 1: 309- 310، الأعلام للزركلي 3: 71، معجم المؤلّفين 4: 203، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين 5: 144- 156، موسوعة طبقات الفقهاء 14: 266- 267، نثر الجواهر والدرر 1: 458- 460).