حول الإصلاح الإسلامي

من ویکي‌وحدت

نتناول قي هذه المقالة موضوعاً حيوياً ومهمّاً ، يعدّ الحجر الأساس في أغلب الدعوات الوحدوية والتقريبية والتجديدية .

السعي للإصلاح الإسلامي

مفهوم الإصلاح

الإصلاح ( ‏Reform‏ ) لغة : ضدّ الإفساد ، وهو من الصلاح المقابل للفساد وللسيّئة (1‏).

(1‏) راجع : المصباح المنير ص345 ،القاموس المحيط ج1 ،ص243 .

وفي القرآن ‏الكريم : ( خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) ( سورة التوبة : 102 ) ، ( وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ ‏إِصْلاَحِهَا ) ( سورة الأعراف : 56 ) .

فالإصلاح هو : التغيير إلى الأفضل ، والحركات الإصلاحية ‏هي : الدعوات التي تحرّك قطاعات من البشر لإصلاح ما فسد في الميادين الاجتماعية المختلفة ، ‏انتقالاً بالحياة إلى درجة أرقى في سلّم التطوّر الإنساني .‏

والإصلاح : تعديل أو تطوير غير جذري في العلاقات الاجتماعية دون المساس بأُسسها .

‏والإصلاح الإسلامي : إحدى الوجوه المرادة في تقويم الاعوجاج وإقامة الأود الحاصل في الكيان ‏الإسلامي نتيجة الظروف المحيطة به والتحدّيات التي تواجهه . ولا يخفى أنّ ذلك يحتاج إلى سعي ‏حثيث وبذل للجهود ، فضريبة الإصلاح هي الاضطهاد ، على حدّ تعبير الأُستاذ عبد الوهاب حمّودة ‏المصري .‏

ولا يفرّق بين الإصلاح وبين مصطلح الثورة في مستوى التغيير وشموله ، وإنّما من حيث ‏الأُسلوب في التغيير وزمن التغيير ، فكلاهما إسلامي ، يعني التغيير الشامل والعميق ، لكنّ الثورة ‏تسلك سبل العنف غالباً والسرعة في التغيير ، في حين تتمّ التغييرات الإصلاحية بالتدريج ، وكثيراً ما ‏تعطي الثورة الأولوية لتغيير الواقع ، في حين تبدأ مناهج الإصلاح عادةً بتغيير الإنسان وإعادة صياغة ‏نفسه وفق الدعوة الإصلاحية ، وبعد ذلك ينهض هذا الإنسان بتغيير الواقع وإقامة النموذج الإصلاحي ‏الجديد .‏

ولذلك وصفت رسالات الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ) بأنّها دعوات إصلاح ، فيقول رسول الله ‏شعيب (عليه السلام) : ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) ( سورة هود : 88 ) .‏

ومن هنا يتبيّن أنّ المصلح هو : المزيل للفساد والعداوة ، والآتي بما هو صالح ونافع ، والمسالم ‏والمصافي ، والمستقيم المؤدّي لواجباته .

وهذا هو ديدن المصلحين في الأُمّة الإسلامية ، إلاّ أنّه قلّ أن ‏تجد مصلحاً أو مرشداً إلاّ لقيته قد ضاق من الاضطهاد ألواناً ، وأصاب من العنت والشقاء ضروباً ، ‏وليست هذه السنّة ـ أي : سنّة الاضطهاد والشقاء ـ وقفاً على رسل الله وأنبيائه ، بل هي مطّردة في ‏جميع المجاهدين لإصلاح البشرية، الذين يحاربون المفسدين للنظم الاجتماعية الصحيحة ، ويكافحون ‏شرور الطغيان ، ويعملون على هدم صروح البغي والتفرقة والعدوان في أيّ عصر كانوا وإلى أيّ أُمّة ‏انتسبوا .‏

يقول الدكتور محمّد عمارة : « والناظر في تاريخ المجتمعات الإنسانية يرى سلسلة من التدافع بين ‏دعوات الإصلاح وحركاته وبين الفساد والإفساد في تلك المجتمعات ، وعلى سبيل المثال: نجد الحركة ‏الإصلاحية التي قادها جمال الدين الأفغاني منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر بدءاً من مصر ‏ وشمولاً لكلّ العالم الإسلامي تمثّل إحياءً وتجديداً للفكر الإسلامي بالعودة إلى منابعه الجوهرية: القرآن ‏الكريم ، والسنّة النبوية الصحيحة ، ومناهج السلف الصالح » .‏

أهداف الحركات الإصلاحية

قد عبّر الإمام محمّد عبده عن أهداف الحركة الإصلاحية ، فقال : « إنّها ثلاثة :‏

الأوّل : تحرير الفكر من قيد التقليد ، وفهم الدين على طريقة سلف الأُمّة قبل ظهور الخلاف ، ‏والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأُولى ، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي ‏وضعها الله لتتمّ حكمة الله في حفظ نظام العالم الإسلامي .‏

الثاني : إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير .‏

الثالث : التمييز بين ما للحكومة من حقّ الطاعة على الشعب وما للشعب من حقّ العدالة على ‏الحكومة » .‏

وهكذا مثّلت هذه الحركة الإصلاحية منهاجاً وسطاً بين أهل الجمود والتقليد وبين المتغرّبين ‏المنبهرين بالنموذج الحضاري الغربي ، وكانت دعوتها الإصلاحية شاملة لميادين الفكر الديني واللغة ‏العربية وعلومها وآدابها وعلاقات الحاكمين بالمحكومين .‏

ولقد تحوّلت فكرية هذه الدعوة الإصلاحية إلى روح سارية في الكثير من الدعوات والحركات ‏والمشاريع الفكرية للعديد من العلماء والمفكّرين على امتداد العقود التي تلت وعلى امتداد أقاليم عالم ‏الإسلام » (‏2‏) .

(‏2‏) موسوعة الحضارة الإسلامية ص416-417 .

فلسفة تاريخ الإصلاح في الإسلام

من الحقائق التاريخية أنّ تاريخ الإصلاح والتجديد متّصل في الإسلام ، والمُتقصّي لهذا ‏التاريخ لا يرى ثغرة ولا ثُلمة في جهود الإصلاح والتجديد ، ولا فترة لم يظهر فيها من يُعارض التيّار ‏المنحرف، ويُكافح الفساد الشامل ، ويرفع صوت الحقّ ، ويتحدّى القوى الظالمة أو عناصر الفساد ، ‏ويفتح نوافذ جديدة في التفكير .‏

والدارس لهذا التاريخ والمتتبّع لحوادثه وشخصياته لا يعرف عهداً قصيراً ساد الظلام فيه على ‏العالم الإسلامي ، وخَبت مصابيح الإصلاح ، وخفتت أصوات الحقّ ، ومات الضمير الإسلامي ، وتبلّد ‏الشعور ، وأضرب الفكر الإسلامي عن العمل .‏

إنّ هذه الثغرات قد نشعر بها في دراستنا العابرة للتاريخ الإسلامي وفي نظرتنا العجلى في كتبه، ‏إنّ مردّها إلى منهج التأليف الذي اتّخذه المؤرّخون للإسلام قديماً وحديثاً ودرجت عليه الأجيال . .

إنّ ‏النقص ـ ومعذرتي إلى المؤلّفين الذين أدين لهم في معلوماتي ومحاضراتي ويدين لهم كلّ مؤلّف ‏ودارس ـ في التأليف وليس في التاريخ ، أو بكلمة أُخرى : إنّ المسؤولية تقع على المؤرّخين ‏والمؤلّفين ، لا على المُجدّدين والمصلحين الذين ظهروا حيناً بعد حين ، وحفظوا على الإسلام جدّته ‏وشبابه ، وقضوا على كثير من الفتن والبدع والمؤامرات والتحريفات ، حتّى أصبحت مطمورة في ‏ركام الماضي ، لا يهتدي إليها أحد في هذا العصر إلاّ بعد بحث وعناء ، وكثير من أفراد هذا الجيل لم ‏يسمعوا بأسمائها ولا يعرفون حقيقتها إلاّ بشقّ الأنفس واجتهاد العقل والعين!‏ وقد كان بعض هذه المذاهب وبعض هذه الحركات تتمتّع بحماية البلاط ، وتستند إلى الملك ‏والسلطان والمال والجاه ، وقد كانت في عصرها صاحبة حَوْل وطَوْل ، ولكنّها طُويت بفضل جهود ‏هؤلاء المصلحين المخلصين في صحائف الماضي ، وأصبحت موضوع علماء الآثار ، لا محلّ لها إلاّ ‏في المتاحف والصحائف!‏

إنّ هذا النقص في التأليف الذي صرّحت به مع الاعتذار جعل كثيراً من الناس يعتقدون أنّ تاريخ ‏الإصلاح والكفاح في الإسلام متقطّع يحتوي على ثغرات واسعة وفترات طويلة ، لا ترى فيها إلاّ ‏المندفعين مع التيّار المستسلمين للفساد ، وأقزاماً في العقل والتفكير والعلم والإنتاج ، لقد كان يظهر ‏‏« عملاق » أو نابغة أو عبقري بعد عصر طويل ، وقد تخلو قرون ومئات سنين عن عظيم يستحقّ أن ‏يسمّى عملاقاً أو عبقرياً أو مجدّداً في العلم والدين .‏

إنّ هذه العقيدة الخاطئة التي لم تَقُم إلاّ على الدراسة القاصرة المستعجلة للتاريخ ، وعلى منهاج ‏التأليف الذي اتّخذه مع الأسف أكثر المؤرّخين ، وهو تأليف التاريخ الذي يدور حول الملوك ‏وحاشيتهم ، وحول الحوادث التي لها اتّصال بالسياسة والحكم ، قد تنتهي ببعض الشباب المتحمّسين ‏وببعض رجال الدعوة إلى سوء الظنّ بالإسلام وضعف إنتاجه ، إنّها نتيجة خطرة تُضعِف الثقة ‏بالإسلام ، وتُضعف العاطفة والإرادة للكفاح في هذا العصر ، فإنّ القوّة الباطنة التي تدفع إلى الكفاح ‏والعمل للدعوة لا تنبع إلاّ من الثقة بالماضي وبأنّ هنالك رصيداً من الجهاد والإخلاص وسنداً من ‏الكفاح والنجاح .‏

والذنب ليس على المؤرّخين فقط ، إنّ الذنب على من يقتصر على كتب التاريخ « الرسمي » ‏والمصطلح، ولا يتعدّى هذه الكتب إلى الكتب التي لا تحمل اسم التاريخ ولا توجد في ركن التاريخ في ‏مكتبة ، ولكنّها مادّة واسعة للتاريخ ، ومصدر قيّم من مصادر التاريخ ، هي : كتب الأدب ، وكتب ‏الدين ، والكتب التي دوّن فيها بعض العظماء اعترافاتهم وسجّلوا حوادث حياتهم وتجاربهم ، والكتب ‏التي حفظ فيها بعض التلاميذ وأصحاب الشيوخ كلمات شيوخهم أو مواعظهم أو ما دار في مجلسهم من ‏حديث أو حوار ، ومجاميع الرسائل والخطب التي تدلّ على روح أصحابها وفكرتهم ، أو الكتب التي ‏أُلّفت في الحسبة وفي انتقاد المجتمع وإنكار البدع والمنكرات .‏

فلو اتّسعت الدراسة وشملت هذه المصادر المهجورة ، وتخصّص لهذا الموضوع باحث واسع ‏الفكر ، صبور على المطالعة ، دقيق في الملاحظة ، استطاع أن يُنتج تاريخاً متّصلاً شاملاً للإصلاح ‏والتجديد والتفكير الجديد في الإسلام ، يدلّ على أنّ الإصلاح والكفاح مرافقان لهذه الأُمّة لا يتخلّفان ‏عنها .‏

ويجب على هذا الدارس ألاّ يقتصر على بعض النقول ، وألاّ يقتضب العبارات المنقولة عن كتب ‏هذه الشخصيات العظيمة ، ولا يضُنّ بالألفاظ والكلمات ، وألاّ يمرّ بها وبمؤلّفاتها ومنتجاتها مرّاً سريعاً ‏في دراسته التاريخية ، بل يجب أن يعيش في كتبها ومؤلّفاتها وأفكارها مدّة ، ويتذّوق أدبها وفكرتها ، ‏ويتنسّم طِيبها ، ويحاول أن ينتقل من جوّه إلى جوّ هؤلاء الرجال ، ومن عصره إلى عصرهم، حتّى ‏يعرفهم على حقيقتهم ، ويُصورّهم في حقيقتهم ، ويُشعر القارئ أنّه انتقل إلى عصرهم ، وعرفهم ‏معرفة شخصية ، وعاش معهم مدّة من الزمان .‏

ثمّ الخطيئة الثانية التي يرتكبها يعض المتحمّسين والمؤلّفين في هذا العصر أنّهم يكوّنون في ‏ذهنهم صورة خاصّة للمجدّد أو المصلح ، ثمّ يلتمسونها في تاريخ الإسلام ومجموع صور الأعلام ، فإذا ‏لم يجدوا هذه الصورة الحبيبة في التاريخ الإسلامي أو في عصر من العصور تذمّروا وأنكروا ، وكثير ‏منهم عندهم مقاييس خاصّة ، وهي مقاييس عصرية يقيسون بها « العظيم » أو « الداعي » أو ‏‏« المصلح » أو « المفكّر » في كلّ زمن وفي كلّ بيئة ، فإذا لم تنطبق هذه المقاييس ـ والتي هي ‏مقاييس العصر ـ على رجل مهما كان عظيماً ، ومهما كان قديماً ، ومهما كانت خدمته للإسلام ‏عظيمة، ومهما كان مخلصاً ، ومهما نجح في مهمّته التي تكفّلها أو أُسندت إليه ، أسقطوه أو بخسوه ‏حقّه ، ولم يعدّوه من المصلحين !‏

وبعضهم يلتزم مقياساً واحداً كمقياس الإبداع في الأفكار مثلاً ، أو فتح باب الاجتهاد مثلاً ، أو ‏الكفاح لإقامة الحكم الإسلامي ، أو معارضة الدولة القائمة في عصره مثلاً ، فإذا لم يُحقّق هذه الشريطة ‏لم يكن رجل عصره ، ولم يستحقّ أن يدخل في صفّ المصلحين !‏

إنّ هذه المقاييس والمعايير لها قيمة عظيمة ، وأنا لا أُنكر أهمّيتها ومكانتها في الإصلاح ، ولكن ‏الذي أُريد أن أقول : إنّ الزمان والبيئة عاملان هامّان في حياة الرجال ، فلكلّ عصر مشاكل ومسائل ‏وملابسات وعوائق ، قد تحدّد نطاق العمل ، وقد تفرض منهجاً دون منهج وأُسلوباً دون أُسلوب، ‏والغاية واحدة .‏

فلا يجوز لنا أن ننقل رجلاً من عصره ، ونُطبّق عليه مقاييس هذا العصر ، ثمّ نحكم عليه بالفشل ‏والإخفاق أو الضعف والعجز ، ونسلبه محاسن نفسه ، ونحرمه من كلّ مأثرة وكلّ عظمة ; لأنّه لم ‏يحقّق شرطاً من شروطنا ، ولم يكن « المثل الكامل » في الإصلاح المنشود والتجديد المطلوب .‏

إنّ هذا التراث الذي وصل إلى أيدينا اليوم ، ولست أسمّيه التراث بالمعنى الذي يريده الغربيّون ‏من كلمة ( ‏Legacy‏ ) ; لأنّ الإسلام دين حيّ خالد ، ولكن أُسمّيه بمعنى الثروة التي انتقلت إلينا من ‏أسلافنا : تراث العلم الواسع ، والعقيدة المحفوظة ، والإيمان القوي ، والسُنّة الخالصة ، والأخلاق ‏المستقيمة ، وثروة الفقه والتشريع الزاخرة ، والأدب الإسلامي الرائع ، مجموعة فيها نصيب ، لكلّ ‏مَن ساهم فيها بإقامة حكم على منهاج الرشد ، ومحاربة الجاهلية والمادّية ، وبالعودة إلى الله وإلى دار ‏السلام ، وإحياء ما دُرِس من الخصائص الإسلامية ، وبثّ الروح الإيمانية في هذه الأُمّة . .‏

ولكلّ مَن أوجد الثقة بالدين ومصادره وتعبيراته ، وردّ هجمات الفلسفات الأجنبية . .‏

ولكلّ مَن دافع عن الفكرة الأصيلة ، وعصم هذه الأُمّة من فتنة هدّدت الإسلام . .‏

ولكلّ مَن حفظ على هذه الأُمّة دينها ومصادره ، وقام بتدوين جديد للحديث والفقه ، أو فتح باب ‏الاجتهاد ومنح هذه الأُمّة ثروة واسعة في التشريع وقانوناً مُنظّماً للحياة والمجتمع . .‏

ولكلّ مَن حاسب المجتمع في عصره ، وأنكر انحرافه عن مُثل الإسلام ونظمه ، ودعاه إلى ‏الإسلام الصحيح . .‏

ولمَن سلك سبيل الإقناع العلمي في العصر الذي كثُرت فيه الشكوك واضطربت العقائد ، ووضع ‏لعصره كلاماً جديداً . .‏

ولكلّ مَن خلف الأنبياء في الدعوة والتذكير والإنذار والتبشير ، وحرّك الإيمان في النفوس ، وقام ‏في وجه المادّية الجارفة في عصره ، فحدّ من تأثيرها ، وأنقذ خلقاً كثيراً من الاندفاع والغرق فيه . .‏

ولكلّ مَن حفظ هذه الأُمّة وقوّتها السياسية من الانهيار ، ومن أن تكون فريسةً للغارات الأجنبية . .‏ ولمَن أخضع بدعوته الحكيمة الرفيعة عدوّاً لم تعمل فيه السيوف ولم تقاومه الجنود وحطّم العالم ‏الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ، فسخّره أصحاب الدعوة بقوّتهم الروحية وإيمانهم القوي للإسلام ، ‏وجعلوه من أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله) . .‏

ولمَن أخضع بأدبه القوي وشعره البليغ عقولاً لم تُخضعها المباحث العلمية والفلسفات الدينية ، إلى ‏غير ذلك ، ولكلّ فضلٌ .‏

وما التاريخ إلاّ تأدية الأمانات إلى أهلها ، والحكم بالعدل ، والاعتراف بالفضل ، وقد قام كلّ واحد ‏منهم بدوره ، وساهم بقسطه ; القسط المطلوب منه ، وكلّ كان مرابطاً على ثغر من ثغور الإسلام ، ‏وكلّ كان سهماً مصيباً في كنانة الإسلام . . ولولا هذه الجهود المخلصة ، ولولا هذه الأقساط التي قد لا ‏تُرى إلاّ بمكبّرة التاريخ ، لما وصلت إلينا هذه المجموعة التي نعتزّ بها ونستند إليها ، ونقتبس منها ‏النور سليمة موفورة نتباهى بها على الأُمم والديانات (‏3‏) .‏

(‏3‏) رجال الفكر والدعوة في الإسلام ج1 ،ص52-58 .

كلام أحد المصلحين الإسلاميّين حول الإصلاح وفلسفته

من ألطف وأطرف ما رأيته في كلمات القوم حول الإصلاح الإسلامي ما جاء في كتاب ‏‏« البيّنات » لصاحبه الشيخ عبد القادر المغربي ، وأنا أنقله هنا على طوله للسبب المتقدّم المذكور ‏آنفاً .

يقول : « حصل الانقلاب العجيب في الدولة العثمانية ، وأخذت تتهيّأ لحدوث مثله كلّ من ‏الحكومتين الأفغانية والمراكشية ، فالانقلاب فيهما واقع ما له من دافع ، إن لم يكن الآن فبعد الآن !‏ وإنّ حدوث هذه الانقلابات في البلاد الإسلامية مؤذن بتنظيم أُمور حكوماتها الإدارية والسياسية ، ‏وتحسين حالة شعوبها الأدبية والاجتماعية ، وترقية شؤونها الصناعية والاقتصادية ; إذ أنّ من طبيعة ‏الانقلابات الدستورية أن يحدث على أثرها ما ذكرنا من التنظيم والتحسين والترقية . أمّا الإصلاح ‏الديني في تلك البلاد فليس أثراً طبيعياً لأمثال هذه الانقلابات ، وإنّما هو أثر لإرادة رجال الدين ، فإن ‏أرادوه وسعوا إليه سعيه حصل الإصلاح ، فصانوا به دينهم وقوميتهم وعرف الله والتاريخ لهم سعيهم ‏ومنزلتهم ، وإن لم يريدوه وجمدوا استغنى العمران الحديث عنهم ، وربّما عدّ نفسه مستغنياً عن ‏تعاليمهم الدينية أيضاً ، فتكون تبعة ذلك عليهم ، وعاره لاحقاً بهم !‏

نعم ، إن لم يُرد رجال الدين العناية بأمر الإصلاح الإسلامي فلا يحسبوا أنّهم بذلك يعوّقون حركة ‏الانقلاب العامّ في أُمم الإسلام ، أو يعوّقون نهوض هذه الأُمم وعروجها في معارج الحضارة ‏والعمران . كلاّ ; إذ أنّ القوّة المادّية أصبحت اليوم بيد رجال السياسة ، وفي طاقة هؤلاء أن يذلّلوا بها ‏كلّ صعوبة تعترض سيرهم مهما كان نوعها !‏

ولكن رجال الدين يرتابون في أن يكون الإسلام محتاجاً إلى إصلاح ، وكثيرون منهم يرون أنّ ‏الكلام في إصلاحه لغو وباطل ; إذ أنّ الدين الإسلامي لم يكن بالفاسد في يوم من الأيّام حتّى نفكّر في ‏إصلاحه أو نبحث عن طريقة لأجل إصلاحه . . ثمّ يقولون لمريدي الإصلاح : إذا أردتم عمل شيء من ‏هذا القبيل فدونكم إصلاح المسلمين من حيث تعليمهم طرق المعاش وتدريبهم على الأساليب الحديثة ‏في الصناعة والتجارة والزراعة وفنون الاختراع ، أمّا أن تعمدوا إلى الدين الإسلامي نفسه فتقدّموا ‏وتؤخّروا فيه بزعم إصلاحه فإنّه منكر ولا نرضى به ونبذل جهدنا وأرواحنا في مقاومته ومعارضة ‏تنفيذه .‏

وهذه هي نقطة الخلاف التي يشتدّ عندها تقلّص الشفاه ، ويكثر في النزاع عليها صرير الأسنان .‏

وأوّل مَن تكلّم في وجوب الإصلاح الديني الإسلامي ، أو يقال : أوّل مَن جهر به وأكثر من القول ‏والعمل للوصول إليه هو المرحوم السيّد جمال الدين الأفغاني . ولقد سألته مرّة عن أيّة الطرق نسلك للمّ ‏الشعث وانتشال أُمّتنا الإسلامية من هوّة انحطاطها ، فقال : لا بدّ في الوصول إلى هذا الغرض من ‏‏« حركة دينية » ، قلت : بماذا ؟ قال : حركة دينية ، قلت : وما تعني بالحركة الدينية ؟ ففسّرها لي ‏تفسيراً ينطبق على ما نسمّيه اليوم الإصلاح الديني تارةً ، والإصلاح الإسلامي تارةً أُخرى ، ثمّ قال ‏جمال الدين : « إنّه كما استفادت أُمم الأُوربا ( كذا كان يلفظها بالألف واللام ) بحركة « لوثيروس » ‏الدينية وإصلاحه تعاليم الديانة المسيحية ، كذلك نحن معشر المسلمين يجب علينا أن نستفيد من ‏‏« حركة دينية » نقوم بها ، ويكون من أثرها إصلاح تعاليمنا وتحسين حالة اجتماعنا » ، ثم قال (رحمه ‏الله) : « وليس المراد بإصلاح تعاليمنا أن نجدّد في الدين تعليماً أو نحدث فيه حدثاً لم يأتِ به نبيّنا ‏محمّد (صلى الله عليه وآله) ، أو نحذف منه تعليماً أو حكماً أتى به ونصّ عليه ، وإنّما المراد أن نرجع في ‏بساطة عقائدنا وسهولة تعاليمنا إلى ما كان عليه الحال في الصدر الأوّل ، فنتوسّع ما شئنا في أُمور ‏الدنيا ومقوّمات عمرانها ، أمّا أُمور الدين فنقف عند حدوده ونصوصه وقفة عواجز ، ثمّ نسعى إلى ‏تعلّمه وتفهّمه من أقرب الطرق وأسهلها ، فلا يقضي أحدنا عمره في تعلّم الدين تعلّماً يُقصينا عنه ‏ويحول بيننا وبين العمل به والاهتداء بهديه » .‏

وبهذا الكلام أوضح جمال الدين ما أراده بقوله : « حركة دينية » و« إصلاح ديني » ، فالإصلاح ‏الذي أراده إذاً إصلاح علمي تعليمي محض لا شائبة فيه للحركات الثوروية والمشاغبات الفسادية ، ولا ‏مسحة عليه من المروق والإلحاد .‏

ولكن هل نرى الأشياخ من رجال ديننا يعجبهم قول جمال الدين ويرضيهم تفسيره للحركة الدينية ‏بما ذكر ؟ وهل هم يعترفون بأنّ الدين الإسلامي يلزمه إصلاح ؟

الوصول إلى إقناع الكثيرين منهم عسير جدّاً ، ومهما أحلتهم على النظر في الكون وتقلّباته ‏واستشهدت بالحوادث التي تجري أمامهم كابروا وجادلوا وقالوا : إنّ علّتنا ليست في تعاليم ديننا ، وإنّما ‏هي في سوء حالة حكوماتنا وفساد أخلاق الآحاد منّا ، وهذا الفساد وذاك السوء ناشئان عن تركنا العمل ‏بديننا ، فالعلّة إذن ليست في الدين وإنّما هي في ترك العمل به .‏ هذا قولهم ، وهو في الحقيقة قولنا وقول جمال الدين نفسه ، وقد وقعوا عليه من دون أن يشعروا ‏به .‏

نقول لهم : إنّنا تركنا العمل بديننا وشغلنا عنه بالتعاليم والآراء والتقاليد الدخيلة ، فنحن نريد أن ‏نصلح الدين ، أي : أن نميّز تلك التقاليد والآراء عنه ، ونقتصر على محض نصوصه الصحيحة ، ‏ونتّخذ طرائق سهلة في تعلّمها وتفهّمها ; كي نتمكّن من العمل به ، فنكون بذلك قد أصلحنا ديننا كما ‏قلنا ، وعملنا به كما قلتم أنتم ، فلا خلاف بيننا ولا شقاق ، وإنّما هو التعارف والوفاق .‏

إنّ الإيمان الحقيقي وعمل الصالحات لا يكون من أثره في الأُمم إلاّ السيادة والعزّة والغلبة ، فإذا ‏فقدنا المسبّب عرفنا أنّ السبب مفقود وغير محقّق الوجود .‏

أراك ـ يا أخي ـ قد حميت واشتدّ غيظك عليَّ وقلت في نفسك : إنّي من المفسدين ، أو لا فمن ‏المتطرّفين المتهوّرين ! اصبر قليلاً ولا تعجل . .‏

أنا لم أشكّ في إسلام كلّ فرد من المسلمين ، أي : لم أقل بالشكّ في إسلام جميعهم ، وإنّما الشك في ‏إسلام مجموعهم ، فيقال : إنّ الهيئة العامة للإسلام فقدت مسحتها وتجرّدت عن صبغتها ، بدليل فقد ‏أثرها الطبيعي بشهادة القرآن ، وذلك الأثر هو العزّة والغلبة والاستخلاف في الأرض والإرث لها. ‏وإنّ في المسلمين أفراداً كثيرين كمل إسلامهم وصحّ يقينهم ، وقد ظهر أثر ذلك في أخلاقهم وأعمالهم ‏وسائر ضروب معاملاتهم ، وهؤلاء ناجون وفي الجنان منعمون إن شاء الله تعالى . . لكنّ إسلام هؤلاء ‏الأفراد لا يكفي في تحصيل الأثر العامّ الذي ينبغي أن تكتسبه الأُمّة بمجموعها ، من العزّة وإرث ‏الأرض والاستخلاف فيها . فهل حسّنت ظنّك بي الآن يا أخي ، وعرفت الفرق بين إسلام الأفراد ‏وإسلام المجموع وأنّ أحدهما لا يستلزم الآخر ، وأنّ لكلّ منهما أثراً خاصّاً به ؟ !‏ فتحصّل معنا : أنّ المسلمين في أيّ زمن كانوا وعلى أيّة حالة أصبحوا يكثر بينهم وجود أفراد ‏كاملي الإسلام ناجين ، كما يكثر وجود آخرين مقصّرين وعن أعمالهم بين يدي الله محاسبين .‏

أمّا الأُمّة الإسلامية بمجموعها وبقطع النظر عن أفرادها فقد يأتي عليها دور أو تدخل في طور ‏تكون فيه بمعزل عن . . عن أيّ شيء ! لا أقدر أن أقول : بمعزل عن الإسلام ، ولكن أقول : بمعزل ‏عن أن تكون قد استوفت آثار الإسلام وجوائزه السماوية التي وعدها الله المسلمين في الآيات المختلفة ‏والنصوص المتعدّدة . .‏

ثمّ إذا وصلت الأُمّة بمجموعها إلى هذا الدور أو الطور ألا تكون مسؤولة يوم القيامة بين يدي ‏خالقها عن هذا التقصير ومناقشتها الحساب فيه ؟ !‏

أو لا تُسأل ولا تُحاسب اعتباراً بأنّ مجموع الأُمّة شخص معنوي ، لا قالب له حسّي ، وإنّما يكون ‏تقصيرها ذنباً عقابه فيه ، أي : يكون مجرّد تقصيرها في الدار الدنيا عقاباً لها من حيث إنّها تعيش ‏محتقرة بين الشعوب ، حقّها ضائع وعزّها مسلوب ، وهذا القدر كاف في عذابها وتحميلها مسؤولية ‏ذنبها ؟!‏

وقد يخطر في البال أنّ الأُمّة بمجموعها ممثّلة في هيئة حكومتها ، فهيئة الحكومة والأفراد الذين ‏تتألّف منهم هذه الهيئة ـ وهم ولاة الأُمور ـ يكونون مسؤولين يوم القيامة عن تقصير الأُمّة في كسب ‏العزّة والغلبة ووسائل الاستخلاف في الأرض وسائر آثار الإسلام ومميّزاته الطبيعية .‏

ولكن هذا الاعتبار صحيح في الحكومات المستبدّة التي تكون الأُمّة خاضعة لها ، وتكون نسبتها ‏إليها نسبة العبد إلى السيّد ، أمّا في الحكومات الدستورية الحرّة فلا تكون الأُمّة للحكومة ، وإنّما على ‏العكس الحكومة تكون للأُمّة ، والأُمّة إذ ذاك تصبح هي السيّدة وهي المسؤولة عن تقصيرها في عدم ‏استيفاء آثار الإسلام المذكورة .‏

وحينئذ نرجع للإشكال الأوّل ونقول : هل يتصوّر أن تكون الأُمّة بمجموعها مسؤولة يوم القيامة ‏سؤالاً تعاقب عليه ، أو أنّ ذنبها عقابه فيه وعذابها في الدار الدنيا تستوفيه ؟

وقد يقولون : إن كان لا بدّ من هذا الإصلاح فينبغي أن يكون المطالبون به هم الحكّام والرؤساء ‏والعظماء والأغنياء ، أمّا علماء الدين فمعظهم قد شغلهم أمر دنياهم عن النظر في أمره ، وإن فرغوا ‏له فليس معهم مال ليساعدهم ولا لهم عصبية تعضدهم .‏

بمثل هذا الكلام يحاول العلماء زحزحة عبء العمل عن عواتقهم وإلقاءه على عاتق غيرهم .‏

ومن الغريب أن يوجد قوم من الشبّان المتحمّسين يذهبون إلى أنّ الإصلاح الإسلامي لا يتأتّى ‏للمصلحين ما لم يقوموا بتأليف جمعيات ثوروية تسعى في قلب هيئة المجتمع الإسلامي رأساً على ‏عقب ثمّ يعودون فينشِئونه خلقاً جديداً . ومن لطف الله أن كان هذا الرأي مقصوراً على ذوي الأمزجة ‏العصبية والطباع الشاذّة ، وهم قليلون في شبّاننا المتنوّرين .‏

وهذا ما جعلني أرتاب في السيّد جمال الدين مذ قال لي : لا بدّ في الوصول إلى الإصلاح من ‏‏« حركة دينية » ، فحسبته من أُولئك النفر القائلين بلزوم تأليف الجمعيات الثوروية ، حتّى فسّر لي ‏الحركة الدينية بالإصلاح الإسلامي الذي أبنّا رأينا فيه وشرحنا قوادمه وخوافيه .‏ إصلاحنا المنشود ليس بدعاً من كلّ إصلاح ديني أو اجتماعي قامت به جماعات البشر وحصل في ‏أزمنة التاريخ القديم والحديث .‏

هذه الإصلاحات إنّما يقوم بها أُولئك الذين لم تلههم مناصب الجاه ولا مظاهر العظمة عن النظر ‏في ما حلّ بقومهم من البؤس والشقاء والبحث عن أسبابه ووسائل النجاة منه .‏

أمثال هؤلاء هم المرجوون للبحث في الإصلاح ، لا أُولئك الرؤساء والعظماء الذين لا يشعرون ‏بالحاجة إليه ، وقد يأنفون من الاشتغال به ، بل ربّما قاوموه أشدّ مقاومة ; لأنّه قلّما يخلو من تحطيم ‏امتيازاتهم وزحزحتهم عن مستوى عظمتهم !‏

ومحصّل القول : إنّ أيّ نوع من الإصلاح لا يتمّ إلاّ بسعي الذين يعنيهم أمره ، وإصلاحنا ‏الإسلامي إنّما يعني علماء الدين ، فهم المكلّفون به ، المخاطبون شرعاً بالعمل على تحصيله ، وليس ‏العمل منهم سوى الدعوة إليه بخطبهم وكتاباتهم وتآليفهم ، حتّى إذا اقتنع بذلك جمهور الأُمّة ومعظم ‏أفرادها هبّوا هبّة واحدة ، فاكتتبوا لمدارس يشيّدونها ، ونشرات يوزّعونها ، ومؤتمرات يعقدونها ، ‏ومن كلّ ما فيه تحصيل هذا الإصلاح وتحقيق أمره (‏4‏).‏

(‏4‏) البيّنات ج1 ،ص2-8 .

أركان وأصول الإصلاح

عماد الإصلاح بوجه عامّ أو أصل الأُصول في الإصلاح إنّما هو التربية والتعليم الإسلاميّان ، أو ‏يقال : هو المدرسة الإسلامية . . هذا هو أصل الأُصول .‏

أمّا بقية الأُصول والأركان فنأتي على ذكرها هنا موجزة بصفة فهرست يجمعها وكفاف يضمّ ‏شتيتها :‏

‏1 ـ أن نعلّم طلاّب العلوم الدينية تعليماً يؤهّلهم للاجتهاد ، ما دمنا على يقين أنّه لا يوجد اليوم في ‏المسلمين من هو أهل للاجتهاد .‏

‏2 ـ أن نصلح المكتبة الإسلامية ، فنختار الكتب المفيدة منها ، ونهمل ما لا يفيد ، ونتّخذ طرائق ‏في التأليف سهلة تقرّب العلم وتختصر الزمان .‏

‏3 ـ أن لا ندع أحداً يعدّ نفسه من رجال الدين ، ويتزيّا بزي أهله ، ويتصدّى للفتيا والإرشاد ، ما لم ‏نتحقّق أهليته ، بواسطة جمعية مكلّفة بذلك .‏

‏4 ـ إذا أراد الله وعاد إلينا الاجتهاد فلا يكون اجتهادنا ( فردياً ) ، وإنّما يكون ( إجماعياً ) ، فيجتمع ‏المجتهدون ، ويقرّرون الحكم بالأكثرية .‏

‏5 ـ أن ننظر إلى جميع المذاهب على السواء ، فلا نفرّق بين الأئمّة ، ولا نلتزم أقوال إمام بعينه، ‏وإنّما يأخذ أهل كلّ عصر من مذهب كلّ إمام ما يناسب مصلحتهم .‏

‏6 ـ أن يكون مدار الأحكام الشرعية والمعاملات القضائية المصلحة ، فهي المحكّمة في كلّ ‏محكمة والمسؤولة في كلّ مسألة .‏

‏7 ـ أن لا نحدث في الدين حَدَثاً ، ولا نبتدع شيئاً كبيراً بداعي أنّ له في السنّة أصلاً صغيراً ، وإنّما ‏نقف عند حدّ ما ورد عن الشارع وثبت في السنّة بقدره .‏

‏8 ـ أن نميّز العقائد الدينية عن التقاليد التي مرجعها النقل الآحادي أو الرأي الاجتهادي أو مجرّد ‏الشيوع بين الأشياخ ، فلا نكلّف أنفسنا عقائد لم يكلّفنا إيّاها الشارع الرحيم ، ولا نكفّر مؤمناً إلاّ إذا أنكر ‏عقيدةً ثابتةً ، لا تقليداً مروياً . ‏ ‏9 ـ أن لا نعتمد في تصحيح الحديث على صحّة روايته وسنده فحسب ، بل ننظر في متن الحديث ‏ومدلوله ومضمونه ، فإن وافق أُصول الدين وآي القرآن قُبِل ، وإلاّ ردّ مهما كان من أمر سنده ‏وروايته .‏

‏10 ـ أن لا يجري قياس واستنباط في العقائد والعبادات والشعائر ، بل نعتمد فيها ظاهرة النصّ ، ‏وإنّما القياس يكون في المعاملات الفقهية وكلّ ما يتعلّق به القضاء ويختلف باختلاف الزمان والمكان ، ‏ويسمّى اليوم ( الحقوق المدنية ) .‏

‏11 ـ أن نرفع من شأن العمل قليلاً ، فلا نزعم أنّ المسلم ينجو بمجرّد أقوال يردّدها ، أو تقاليد ‏يُبطنها ، أو حركات يأتي بها ، بل إنّ المسلم : من سلم المسلمون من لسانه ويده بالفعل ، وعمل ‏الأعمال التي حثّ عليها الإسلام ، وتخلّق بالأخلاق التي أمر بها ، وإلاّ كان الدين دعاوي فارغة وألفاظاً ‏مهملة ، أو يقال : كان الدين عبثاً والوحي سدى .‏

‏12 ـ أن نرفع أيضاً من شأن الأسباب قليلاً ، ونعتبرها مظاهر لإرادة الله تعالى وقدرته ، فلا ‏نهملها إلى حدّ أن نقول : إنّ السمّ لا دخل له في موت من تناوله فمات به ، وإنّ هذا المتناول لو لم ‏يتناوله لمات حتماً ! فإنّ هذا القول يؤدّي إلى تعطيل الحدود والشكّ في حكمة المعبود .‏

‏13 ـ أن يترك الفقهاء كثيراً من النظريات والمسائل إلى أرباب الاختصاص في علومها ، فلا ‏يكون الفقيه طبيباً ومهندساً وكيمياوياً وقائد حرب . . الخ ، وإنّما يبحث فيما يعلم ، ويدع ما لا يعلم لمن ‏يعلم من الأخصّائيّين المسلمين » (‏5‏) .‏

(‏5) البيّنات ج1 ،ص13-17.


مميّزات المشاريع الإصلاحية للمجدّدين

هذا ، ولا بدّ في المقام من وقفة قصيرة جدّاً مع موضوع « التجديد » :‏

فالتجديد كان قائماً على مرّ التاريخ الإسلامي ، خاصّة في عصر الحركة الحضارية نرى ذلك ‏التجديد في الفقه والأُصول والتفسير والحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية . الاجتهاد وشيوع حديث ‏ظهور المجدّدين على رأس كلّ قرن من مظاهر هذا التجديد المستمرّ .‏

وكان من المفروض في عصر الركود الحضاري أن لا تظهر في العالم الإسلامي مشاريع ‏تجديدية ، غير أنّ الإسلام بما فيه من طاقات ذاتية يأبى على أتباعه الخضوع للوضع القائم ، ويثير ‏فيهم الهمّة للإصلاح والتجديد .‏

من هنا نرى قائمة المجدّدين في عصرنا غنية بالأسماء والمشاريع النظرية والعلمية .‏

وقد قدّم بعض هؤلاء المجدّدين مشاريع لعملهم ، يمكن تلخيصها فيما يلي :‏

‏1 ـ نقد ورفض الجمود والتقليد ، سواء أكان هذا التقليد للسلف وجموداً على تراثهم ، أم تقليد ‏الغرب والجمود على الثقافة الحداثية للتغريب .‏

‏2 ـ التجديد الذي يؤدّي إلى تحرير الفكر من القيود ، وفهم الدين على طريقة سلف الأُمّة قبل ‏ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارف الدين إلى ينابيعها الأُولى ، واعتبار الدين من ضمن ‏موازين العقل البشري ، وإصلاح أساليب اللغة العربية ، والتمييز بين ما للحكومة من حقّ الطاعة ‏على الشعب ، وما للشعب من حقّ العدالة على الحكومة .‏

‏3 ـ الإصلاح بالإسلام ، لا بالمشاريع الغريبة على البيئة الإسلامية .‏

‏4 ـ الوسطية الإسلامية التي برِئت من الغلو والإغراق في المادّية أو في الروحانية .‏

‏5 ـ العقلانية المؤمنة التي تجمع بين العقل والنقل .‏

‏6 ـ الوعي بسنن الله الكونية التي تحكم عوالم المخلوقات ، وجعل هذه السنن علماً من العلوم ‏المدوّنة .‏

‏7 ـ الدولة في الإسلام مدنية ـ إسلامية ، لا كهنوتية ولا علمانية

‏8 ـ الشورى ، أي : مشاركة الأُمّة في صنع القرارات .‏

‏9 ـ العدالة الاجتماعية التي تحقّق التكافل الاجتماعي بين الأُمّة كلّها .‏

‏10 ـ إنصاف المرأة لتشارك الرجل في القيام بفرائض وتكاليف العمل العامّ (‏6‏).‏

(‏6) نقل عن د.محمّد عمارة في المعجم الوسيط للساعدي ج1 ،ص93 .

وراجع لجميع ما تقدّم موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح ج1 ،ص13-26 .


المصدر

1.البيّنات .

تأليف: عبد القادر مصطفى المغربي(ت 1956 م)\نشر :المطبعة السلفية ومكتبتها-القاهرة\1344ه .

2.رجال الفكر والدعوة في الإسلام .

تأليف: أبي الحسن الندوي (ت 1420ه)\نشر : دار ابن كثير-دمشق وبيروت\الطبعة الثانية-1425ه .

3.القاموس المحيط .

تأليف : محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت817ه)\نشر : دار الجيل-بيروت .

4.المصباح المنير .

تأليف : أحمد بن محمّد الفيومي (ت 770ه)\نشر : دار الفكر-بيروت .

5.المعجم الوسيط فيما يخصّ الوحدة والتقريب .

تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\ الطبعة الأولى-1431ه .

6.موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح .

تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\ الطبعة الأولى-1431ه .

7.موسوعة الحضارة الإسلامية .

تأليف : مجموعة من الباحثين\نشر : المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-القاهرة\1426ه .